هل يكون معلمًا؟

سألني أبٌ: هل أُدخل ابني كلية الآداب ليكون معلمًا، أو كلية الحقوق ليكون محاميًا أو قاضيًا؟ وأضاف إلى ذلك: إن ابني يرغب أن يكون معلمًا وأنا أكره له ذلك؛ لأن التدريس عمل مضن لا يدر مالًا ولا يفيد جاهًا.

نعم — أيها الأب — إذا أردت وأراد ابنك المال والجاه فإياه وإيا التعليم وإيا الأدب والفن وما إلى ذلك، فإنها ليست طريق المال ولا الجاه، ومن قصدها للمال والجاه خاب ظنه وضل سعيه.

إنما يصلح للتعليم قوم قنعوا من دنياهم بأن يعيشوا على ضروريات الحياة، وفي حدود ضيقة من الرزق.

ليس يصلح للتعليم من طلب بتعليمه الغنى والجاه، وليس يصلح كذلك من سدت في وجوهه طرق الكسب الأخرى، ثم رأى أن باب التعليم وحده هو المفتوح أمامه فدخله مرغمًا، إنما يصلح للتعليم من كان يرى — بحكم طبيعته ومزاجه — أن لذة التعليم تفوق كل لذة، وأنه سعيد باحترافه التعليم، وأن ما يجده من لذة في حرفته يعوض ما يجده من ضيق في رزقه وضآلة في جاهه، وإلا كانت حرفة التعليم عذابًا، وكل درس يؤديه ألمًا يمتد بامتداد الدرس، وكل فترة من الزمن بين درسين أنينًا من الدرس الماضي وإشفاقًا من الدرس القادم، وكل ساعات فراغه شكوى من الزمان أن رماه بحرفة التعليم، وسبًّا للقدر أن بلاه بهذا البلاء المبين.

إن الحرفة الحقة الناجحة — أيها الأب — هي التي خلق لها صاحبها، لا التي أكره عليها صاحبها، ففي الأولى هي لذة وشوق، ونمو شخصية، وتفتح ملكات، والنجاح في الحرفة وبلوغ الذروة فيها هو القصد الأول، والمال والجاه إذا أتيا أتيا عرضًا لا قصدًا، وإذا لم يأتيا فلا بأس، فقد سعد في أثناء عمله وسعد في نجاحه ببلوغ غايته أو القرب منها، وفي الثانية ألم، وهي سخط، وهي فشل، وهي طلب للمال والجاه من غير وسائله الطبيعية وطرقه المشروعة، فسائل ابنك قبل أن تسائلني، واختبره قبل أن تختبرني: هل يجد لذة في تفتح الزهرة وإثمار الشجرة أكثر مما يجد من حفنة من المال في يده يعددها ويقلبها ويلعب بها؟

إن كانت الأولى فشجع ابنك على أن يكون معلمًا، وإن كانت الأخرى فوجهه إلى أي عمل غير التعليم، ولا تقع فيما يقع فيه الناس، إذ يستفتون شهوتهم في المنصب والجاه، ولا يستفتون ملكات أبنائهم وطبيعتهم واستعدادهم، ويختارون لأبنائهم من العمل ما يتفق والمنصب والجاه، ولا يتفق والطبائع والاستعداد، فيبوءون بالفشل الذي يبوء به من حاول أن يجعل من النحاس ذهبًا، ومن الحديد نحاسًا، فلا المنصب نالوه، ولا ما هم أهل له أدركوه، ووقفوا وسط السلم، لا فوق ولا تحت، أو علقوا في الهواء، لا في السماء ولا في الأرض.

•••

كل ذي صناعة منتج أو مبدع أو خالق، فالنجار والحداد والمَثَّال ونحوهم يبدعون من المواد الخام صورًا لم تكن، وقد يبلغون في الإنتاج حدًّا يستخرج الإعجاب والعجب، ولكنهم مهما بلغوا لا يصلوا إلى إبداع المعلم، وسمو صناعته، وسحر فنه.

ماذا يصنع المعلم؟

إنه يجلو أفكار الناشئين والشباب، ويوقظ مشاعرهم، ويحيي عقولهم، ويرقي إدراكهم، إنه يسلحهم بالحق أمام الباطل، وبالفضيلة ليقتلوا الرذيلة، وبالعلم ليفتكوا بالجهل، إنه يملأ النفوس الخامدة حياة، والعقول النائمة يقظة، والمشاعر الضعيفة قوة، إنه يشعل المصباح المنطفئ، ويضيء الطريق المظلم، وينبت الأرض الموات، ويثمر الشجر العقيم، إن المعلمين عدة الأمة في سرائها وضرائها، وشدتها ورخائها، لا تنتصر في حرب إلا بقوتهم، ولا تنهزم إلا لضعفهم، ولا يزهر العلم فيها إلا بهم، ولا ترقى مصانعها ومتاجرها إلا برقيهم، هم منشئو الجيل، وباعثو الحياة، ودعاة الانتباه، وقادة الزمن، هم عنوان الأمة، ومظهر ضعفها أو قوتها، في عقلها وقلبها وخلقها؛ لأنهم يصنعون القوالب التي تصب فيها أبناؤها وبناتها، ويشكلونها بالأشكال التي يتصورونها ويضعونها.

المعلم يملك نفوسًا وعقولًا ومشاعرَ بعدد من يعلمهم، ومن يصل نفعه إليهم، وغيره يملك مالًا وضياعًا وعقارًا، فإن كان ابنك — أيها الأب — ممن يفضل ملك النفوس والعقول على ملك المال والعقار فاجعله معلمًا، وإلا فليكن تاجرًا أو محاميًا أو مهندسًا أو ما شئت، غير أن يكون معلمًا، المعلم يتاجر، ولكنه يتاجر في الأرواح والعقول والمشاعر، ويكسب ويخسر، ولكنه يكسب نفوسًا تتعلق به وقلوبًا تتجمع حوله، أو يخسر عقولًا أتلفها ونفوسًا أفسدها، فإن كان ابنك ممن له غرام بالنفوس والقلوب يكسبها فليكن معلمًا، وإلا فخير له أن يتاجر في الذهب والفضة أو ما يدر الذهب والفضة، أما إن هو تاجر بالنفوس وأراد الذهب فبشره بالخسارة التي يمنى بها رجل الدين إذا أراد الدنيا، ورجل العلم إذا خدم بعلمه السياسة.

التعليم — أيها الأب — نوع من الرهبنة، انقطع صاحبه لخدمة العلم كما انقطع الراهب لخدمه الدين، أو إن شئت فقل: إن الراهب يعبد ربه من طريق تبتله واعتكافه، والمعلم يعبده من طريق علمه وتعليمه، كلاهما زهد في الدنيا إلا بقدر، وانقطع عن الناس إلا ما يمس عمله، وكلاهما ركز لذته وسعادته فيما نصب له نفسه، فإن رأيت راهبًا ينحرف ببصره إلى زخرف الدنيا وزينتها فهو راهب فسد، وإن رأيت معلمًا يجعل غرضه الأول المال والجاه وعرض الدنيا فهو — كذلك — معلم فسد.

•••

كم في الدنيا من أناس أشقياء أكبر شقائهم ناشئ من أنهم يعملون فيما لم يخلقوا له، هذا مهارته في يده يعمل بعقله، وهذا مهارته في عقله يعمل بيده، وهذا مهارته في قلبه يعمل بيده أو عقله، وهذا ماليٌّ يعمل عالمًا، وهذا عالم يعمل ماليًّا وهكذا، ومن هذا القبيل صنف من المعلمين لم يخلقوا للتعليم وإنما خلقوا للمال، فأجسامهم في التعليم، وطموحهم للمال، فلما لم يصلوا إلى المال — وذلك طبيعي — عذبوا عذابًا شديدًا، وضاقت نفوسهم، واضطربت عقولهم، وفشلوا في التعليم والمال معًا، نسوا أن التعليم عمل روحي لا يصلح له إلا من تجرد للروح وشئونها، وقلبوه إلى عمل آلي فحرموا لذة الروح، ولم ينجحوا في العمل الآلي، وكانت حجرة التعليم سجنًا، وعلاقتهم بالمتعلمين علاقة السجان بالمسجونين، فلم ينجحوا في التعليم الذي قيدوا أنفسهم به، ولا في المال الذي طمحوا إليه، وكان من الخير أن يريحوا أنفسهم من التعليم، ويريحوا التعليم من أنفسهم، لقد فهموا كما يفهم الماليون أن مقياس النجاح في الحياة سعة الرزق، وعظم المرتب، وتدفق المال، فلما لم يجدوا شيئًا في أيديهم عدوا أنفسهم خاسرين، فنقموا على أنفسهم وعلى الزمان، وعلى حرفة التعليم، وعلى القدر الذي ألجأهم إليها، وفاتهم أنهم غلطوا في مقياس النجاح، فوزنوا بالمتر، وقاسوا الطول بالقنطار، فمقياس النجاح في الحياة العلمية غيره في الحياة المالية والمناصب الحكومية.

•••

ومع هذا فلهم بعض العذر في الشكوى من الضيق والضنك، فنظم الحياة يسرت العيش للراهب ولم تيسره للمعلم، جعلت الراهب يعيش لنفسه وربه، وقطعت صلته بالأسرة فتخفف من أعبائها، ولكنها أباحت للمعلم أن يتزوج وأن يكون رب أسرة، ثم طالبته أن يترهب، فإن ترهب هو لم تترهب زوجه وولده، فهو يحلِّقُ بنفسه وعمله في السماء، وأسرته تجذبه في عنف إلى الأرض، يرضى بكسب القلوب، ويسر بفتح الزهور، ويعد نفسه غنيًّا بملك النفوس، ولكن ذلك كله لا يغني فتيلًا عند أسرته، فهي تريد المال الصامت، ولا يرضيها ملك النفوس الناطقة، فهو بائس مسكين، مضطرب بين مثله السماوي ومثل أسرته الأرضي، وغناه النفسي وفقرهم المادي، وقناعته بلذته الروحية وإلحافهم في طلب لذائذهم المادية، وقد كان يكون مثل المعلم صحيحًا وسليمًا لو عاش وحده وطمح وحده وتغنى وحده كما هو شأن الراهب، أما وهو معلم في معهده ومثقل بالأسرة في بيته، فتلك مشكلة المشكلات في العالم كله.

•••

لو عقل الناس لأغنوا المعلم وأمكنوه من التفرغ لعلمه ولإنتاجه ولخلقه، ولو قاسوا الأشياء بفوائدها لقوموا المعلم أكبر قيمة، ولكن أنَّى هذا وتقويم الأشياء في الدنيا من أول عهدها إلى اليوم تقويم أخرق، بني على نظر أحمق، هذا كل مهارته أن يثير الضحك بمنظره أو بمنطقه أو بحركاته فينهال عليه المال انهيالًا، وهذا يثير الشهوة بألفاظه وخدعه فيتدفق عليه المال بالهيل والهيلمان، وهذا شاب سخيف غر كل ميزته أنه ابن غني مات والده فانتقلت إليه ثروته التي لا تحصى ولا خير للمجتمع منه، وهذا وذاك من الأمثلة الوافرة، وبجانب هؤلاء جميعًا نابغة لا يجد قوته ومعلم لا يجد الكفاف، كل ما في الدنيا من أمثلة يدل على فساد التقويم، كتاب مليء حكمة بدرهم، وحبة من لؤلؤ — ليست لها قيمة ذاتية — بآلاف، ومجهود الآلاف من الناس يحرثون ويزرعون لا يساوي خاتمًا من ماس تتزين به المرأة ساعة في العمر، ولاعب تقوَّم لعبته بالمئات، ومكتشف لا يقوم اكتشافه بشيء، وعلى الجملة فقد عجز العقل أن يدرك «أساس التقويم» عند الناس، فلا هو مقدار ما في الشيء من منفعة، ولا ما فيه من عدم منفعة، ولا هو الجمال ولا القبح، ولا الخداع ولا الصراحة ولا الصدق ولا الكذب، ولا الحق ولا الباطل، لا شيء من ذلك كله، ولا شيء غير ذلك كله، صالح لأن يفسر أساس التقويم عند الناس.

•••

ومن مصائب المعلمين أنهم كثيرون، وأنهم يجب لصالح الدولة أن يكونوا كثيرين، فلا بد لكل طفل وطفلة أن يكون له معلم، فكان لا بد من معلمين يتناسبون في الكثرة مع المتعلمين؛ ومن مقتضيات كثرتهم أن مدى زمن التعلم يبلغ عند كثير من أفراد الأمة ثلث عمرهم أو أطول، وكثرة العدد في مهنة من المهن حليف الفقر، فلو قوَّمتهم الدولة قيمتهم الذاتية التي يستحقونها لم تكفهم خزائنها، ولم تسد مطلبهم ميزانيتها، فكان الفقر من مقتضيات الحال وصروف الزمان.

وعلى كل حال فلا منفذ لهم من ضيق اليد إلا سعة النفس، ومن الفقر في المادة إلا غنى الروح، ومن الحياة اللاصقة بالأرض إلا السمو إلى السماء، ومن الشكوى من سوء تقويم الناس للأشياء إلا إنشاؤهم مملكة روحية في أنفسهم تقوم فيها الأشياء تقويمًا صحيحًا عادلًا.

•••

قُصَّ — أيها الأب — هذه القصة على ابنك، واشرح له ما غمض، وفصِّل له ما أجمل، ثم اسأله بعد: هل هو راض عن التضحية كما يضحي الجندي؟ وهل هو قابل أن يحد من لذته كما يحد الراهب؟ وهل هو مستعد أن يتعزى بالمعنويات عن الماديات، وأن يخلق في نفسه عالمًا فيه كل ضروب القناعة، وتحل فيه اللذائذ العقلية والروحية محل اللذائذ الجسمية؟

إن كان كذلك فدعه يكون معلمًا، وإلا فجنبه الشقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤