الفصل الأول

إذا كنتَ في باريس، وسرتَ في شارع كليشي الذي يمتد من شمال كنيسة الترينيتيه، فإنَّك تجد قبل أنْ تصل إلى الميدان بضعة أبنية جديدة ضخمة تبدو غريبة في هذا الحي القديم من المدينة.

على أننا إذا رجعنا إلى سنة ١٨٦٠، فإنَّا نجد مكان هذه الأبنية ساحة مربعة تحفها مبانٍ قليلة الارتفاع، أُطلق عليها اسم «مدينة ريمور»، وكانت هذه مقرًّا للفنانين والشعراء، يعيشون فيها العيشة البوهيمية العجيبة المحببة لديهم.

وكان يوصل إلى هذه السَّاحة طريق يسير تحت قنطرة متداعية، يمتد في مواجهتها صف من الاستديوات، لها نوافذ مستطيلة أُسدل خلف كل منها ستار أسود، يُخيَّل إلى الرائي أنه مثبت في مكانه لا يرتفع ولا يهبط، غير أن تراكم الغبار فوق هذه النوافذ كان يصد عين الفضول عن النَّظر إلى الدَّاخل أكثر من الستائر نفسها.

وكان يمتد على يمين القنطرة صف من المخازن والحوانيت تُعرض في نوافذها نماذج بضاعتها، وإن كانت جميعها لا يكاد يرى الإنسان أحدًا بداخلها.

وكان يقع في مواجهة هذه الحوانيت وعلى يسار القنطرة مطعم، أطلق على نفسه اسم «مطعم الملوك الثلاثة»، وقد اشتُهر بتقديمه طبَقًا من أجود أنواع الطيور النورماندية، يُدعى «طبق الكاسوليت» في عشاء يوم واحد من كل أُسبوع، فكان يجتمع فيه مساء ذلك اليوم أئمة الأدب وكبار الشعراء والفنانين؛ فهذا أوجين ديلاكروا الرَّسام العظيم يأخذ مكانه إلى جانب منضدة قريبة من النافذة، وقد جلس أمامه هوراس فرنيه في ثوبه العسكري القديم ذي الصَّدر المزركش، وإلى جانبه جوستاف فلوبير، الذي أحدثت روايته الجديدة «مدام بوفاري» ضجَّة كبيرة في أنحاء فرنسا. وهناك في ركن منعزل جلس الكاتب الكبير إسكندر ديماس، جالسًا وحده إلى جانب منضدة صغيرة، وفي الرُّكن الآخر جلس ألفونس دوديه مع زولا الصغير.

لقد كان هؤلاء جميعًا يأكلون ويشربون شاغلين أنفسهم بالطعام والتمتع بالحياة، فكانت اجتماعاتهم في مطعم «الملوك الثلاثة» صورة صادقة لبوهيميتهم. وكانت الأمطار تنهمر بشدة خارج مطعم «الملوك الثلاثة»، فما كاد العشاء ينتهي حتى اشتدت برودة الجو، وازدادت الرِّياح قوَّة، فتحولت إلى عاصفة ثلجية قامت تقذف نوافذ المطعم بقطع صغيرة من البَرَد، وصفَّرت الريح داخل المدخنة التقليدية القائمة في وسط القاعة، وكانت لغمات الرِّيح القاسية تندفع بشدة من باب المطعم في كل مرة يخرج فيها أحد زبائنه. وعلى رغم ما كان في القاعة من وسائل التدفئة الكافية، فإنَّ هذه اللغمة القاسية كانت تكفي لسريان القشعريرة في جسد الجميع.

وكان سيرل برتراند، الرَّسام الشاب، قد اتخذ لنفسه مكانًا منعزلًا في القاعة، وجلس يرتشف قهوته وهو يفكِّر فيما قاله أستاذه الكبير أنجر عن صورته الجديدة.

وأبرقت أسارير وجهه في ابتسامة خفيفة وهو يستعيد في سرور ونشوة كلمات أستاذه المشجعة.

ولقد كان لبرتراند هيئة جميلة جذَّابة رغم شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة على طريقة أهل مونتمارتر، وكان لون شعره ولحيته الكستنائي الغامق يندر وجوده بين أهل الشمال، وكان كثير من النِّساء يُطرين حسن هيئته، ويعشقن عينيه السوداوين اللتين تُفصحان — كما يقلن — عن معانٍ أوضح من كلمات الرِّجال الآخرين.

لم يكن يعرف أحد عن سيرل أكثر من أنه قد بدأ حياته صبيًّا يشتغل في استديو الرَّسام الكبير أنجر؛ ينظف أدواته ويغسل الفُرَش في آخر كل يوم، أمَّا الآن فقد اتخذ له استوديو خاصًّا في مدينة «ريمو». وكان قد أوصل صورة إلى صالة العرض فرُفضت. وليس في هذا غرابة؛ فإنَّ كثيرًا من عظماء الرِّجال قد بدءوا حياتهم الفنية على هذا المنوال. ولقد كان يكسب بعض المال بقيامه برسم نماذج للقُبَّعات والملابس لمحل كبير في البوليفار، وكان يرسل كل عام صورتين إلى صالة العرض، ولكنهما تعودان إلى الاستوديو ثانيةً مصحوبتين بعبارة الرَّفض المؤدبة: «اللجنة تأسف …» على أنَّ هذا الفشل المتكرر لم يؤثر في نفسية برتراند؛ فقد ظلَّ رغم هذا مرحًا طروبًا قانعًا بما قُسِم له مترقبًا الفرصة للنجاح.

والواقع أن هذه الطباع المشرقة قد جعلته محبوبًا لزمرة أولئك البوهيميين المسرفين، وكانت «فتيات الموديلات» يُعجبن به، حتى إنَّ ميمي — تلك الفتاة الشقراء اللعوب، التي اشتُهرت باسم «فينوس الجيوب» — صرحت مرارًا بأنها تحب مجالسة المسيو برتراند عن غير الفنانين، ولو أنها تجد في طباعه شيئًا من الغرابة! والواقع أنَّ ميمي وأمثالها كنَّ صادقات فيما قلنه عن برتراند، وعلى الأخص بعد أن رسم صورة الآنسة كريستوف وحصل على أجر كبير في مقابل رسمه.

لقد تغيرت أحوال برتراند فعلًا بعد انتهائه من رسم هذه الصورة، فكان يغرق أحيانًا في صمت طويل، وأصبح ضحكه ومرحه أشبه شيء بقناع متكلَّف يجبر نفسه على لبسه بين الناس، حتى إذا كلمه أحدٌ وهو يشتغل أو أثناء تناوله الطعام، وقف عن الحركة وحملق فيه بعينيه كأنَّما قد أُوقظ بغتة من حلم عميق.

والحق أن سيرل برتراند أصبح رجلًا آخر منذ أن قام بعمل صورة لفيرونيك كريستوف، لقد كان هذا حادثًا عجيبًا في حياته، وكان يظن أنَّ المسألة في بادئ الأمر بعد أن أُعطي الإذن بعمل الصورة لا تعدو أن تكون خطوة موفقة في سبيل نجاحه الفني، ولقد فرح بهذا كل الفرح؛ فقد وضع قدَمه فوق أول درجة من سلم النجاح، وتقوَّى بهذا أمله في الوصول إلى القمَّة وتحقيق أحلامه الذَّهبية.

لقد عرفه ألبرت كريستوف أغنى رجال المال في أوروبا عندما كان يزور معرض الخريف، وبعد أيام ذهب السيد كريستوف إلى استديو الفنان في «مدينة ريمور»، وأعطاه أمرًا بعمل صورة للآنسة فيرونيك كريستوف ابنته، وقال للفنان إنها لا تستطيع أن تجلس أمامه أكثر من ثلاث جلسات فقط؛ إذ إن معظم وقتها مشغول في شئون اجتماعية هامة. ثم عرض عليه في مقابل قيامه بالصورة مبلغ ٧ آلاف فرنك! ولم يدر برتراند في البدء أيضحك أم يطرد ذلك الزائر؛ فقد ظن أنه في عرضه لهذا المبلغ الكبير إنما يسخر منه، غير أنَّ السيد كريستوف لم يكن من ذلك الصنف من الرِّجال الذين يسخرون هذا النوع من السخرية، حتى إنه في مدَّة خمس دقائق كان قد عقد الصفقة.

وقام الرسام بعمل الصورة، وقد خيِّل إليه أنه كان في حلم عميق إبان الأيام الثلاثة التي جلست فيها أمامه أجمل امرأة على وجه الأرض! لقد كان يشتغل بنشاط فذٍّ وقوة عجيبة طوال هذه المدَّة، لقد جلست أمامه الثلاث جلسات الموعودة، ولكنَّها كانت تبقى أمامه في كل جلسة أربع ساعات تتخللها فترات استراحة قصيرة. لقد خُيِّل إليه أوَّل مرَّة دخلت عنده في الاستديو أنها فتاة مدرسة خرجت أوَّل مرة إلى الحياة، وأحسَّ في آخر مرة تركته أنها المرأة الوحيدة التي أحبها قلبه.

لقد كانت طفلة، ولكنها امرأة، وكانت امرأة، ولكنها طفلة؛ فقد كان أشهى وأعذب ما فيها تلك الطفولة المُحببة. ما كانت تتكلم معه طويلًا أثناء الجلسات، لا لشيء إلا لأنَّ برتراند لم يكن ينفرد وإياها، إذ كان في صحبتها دائمًا معلمها ورقيبها الذي لا يجوز لفتاة في مركزها أن تخرج من منزلها بدونه. لقد شعر أنَّها تفهم طريقة عمله؛ كانت تجلس بلا حراك ولكنها ممتلئة بالحياة. لقد كانت عيناها وفمها ويداها العجيبتان كلها تنطق بحيويتها، وكانت ابتسامتها تكشف عن الإشراق، ولا تتشعَّع نظرتها الجميلة إلى حملقة فارغة. فإذا احتاجت للراحة نزلت إليه ووقفت خلفه، بينما لا يزال مستمرًّا في عمله. وكان وجودها هكذا قريبًا منه يسكره؛ فكانت يده ترتعش، إلا أنه ما كان لينظر خلفه؛ ويعلم الله ماذا كان يحدث لو فعل؛ فقد كان في هذا الوقت قد شُغِف بحبها. ولقد قالت له مرة وهي ترتشف قدحًا من النَّبيذ في فترة استراحتها: إنَّ فيك لفنانًا عظيمًا يا مسيو برتراند، ولقد أحس برغبة جامحة في أن يلقي بأطباقه وفُرْشَته ليطوقها بذراعيه قائلًا لها: إنَّ فيَّ لمُحِبًّا عظيمًا لو صدقتني وأعطيتِ نفسك لي.

لقد كان جنون سيرل برتراند بنَوال فيرونيك كريستوف ابنة المليونير بعيد الاحتمال بُعْدَ الكوكب عن الأرض، ولكن اليأس في شئون الهوى قَلَّما يلج قلب الشباب. وبدأ سيرل يحلم أحلامًا جميلة؛ فقد عجل خياله بوصوله إلى قمة المجد، وتصور نفسه يدخل مطعم «الملوك الثلاثة» والناس يهمسون حوله قائلين: هل ترى ذلك الرَّجل الذي دخل الآن؟ إنه سيرل برتراند أعظم فناني عصره، إنَّه تزوج فيرونيك كريستوف ابنة المالي الكبير. غير أنَّ كل هذا الجنون لم يكن سوى أحلام.

لقد عُرضت الصورة في صالة العرض وعلَّق النقاد عليها مؤمِّلين في المصور الشاب مستقبلًا عظيمًا. واستحضر سيرل ثوبًا جديدًا وترقَّب دعوته إلى الحفلات العامة حيث يحظى برؤية فيرونيك أو ينال حظ التكلم معها ولو بضع كلمات، ولكن قَلَّما استطاع هذا؛ فقد كان يحوطها دائمًا جمع من الشباب والرجال المتأنقين وأصحاب الأسماء الأرستقراطية. ولقد ذهب إلى الأوبرا وجلس في الصالة واختار مقعدًا يستطيع فيه أن يراها وهي في مقصورتها، ولكم حاول أن يستجمع قواه ليصعد إليها، ويقدم احتراماته كما يفعل غيره من الرجال! ولكن مقصورة البارون كريستوف كانت دائمًا مزدحمة بالزوار.

وأحس سيرل بالخجل؛ فقد شعر بأنه قبيح، وجاهل بأساليب الآداب الاجتماعية، وظن أنَّ ثوبه الجديد لا يلائمه وأن رباط رقبته غير منظم، وضايقه شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة. غير أنه حاول بعد ذلك أن يتغلب على جبنه، فانتظر يوم تشريف الإمبراطور والإمبراطورة آخر ليلة في الأوبرا، حيث كان من المؤَكد أن يؤمها في تلك الليلة جميع الأوساط الراقية في باريس، ولقد كان هذا فعلًا.

غير أنَّ أسرة كريستوف لم تكن هناك، وبحث سيرل عن فيرونيك وقت الاستراحة هنا وهناك، دون أن يعثر لها على أثر، وخرج من الملهى مُتَّجِهًا إلى شارع دي فاريني وظلَّ يحوم حول منزلها، ولكنَّها لم تعد. وأخيرًا دفعته رغبته المُلِحَّة إلى أن يشد جرس الباب الكبير، ولقد كان ذهنه كله غارقًا في التفكير فيها، حتى إنَّه لم يلاحظ أن منافذ البيت كلها مغلقة كأنَّما هَجَرَه أهله. وخرج إليه رجل بقميص ذي أكمام طويلة ومئزر من الجوخ الخشن، قال: لقد سافر سيدي منذ أسبوع إلى بادن بادن، أمَّا الآنسة فسافرت إلى فينَّا عند بعض أقاربها، وستلحق بالسيد بعد بضعة أيام.

– ومتى تكون عودتهما؟

– لا أعرف يا سيدي، وعلى كل حال فالسيد والآنسة لا يرجعان عادة إلى باريس قبل نوفمبر.

وتركه سيرل وهو يفكر، إنه الآن في يوليو، أيسافر إلى بادن بادن، ذلك المكان الذي لا يحبه قط، والذي قال عنه منذ بضعة أيام إنَّه يفضل أن يموت بدلًا من أن يذهب إليه؟ لقد عاشت أمه هناك، وكذلك عاش أخوه غير الشقيق، الذي كان يعتبره الكثيرون ملك فرنسا، لم يكن هناك شيء يغريه بالذهاب إلى بادن بادن، ولكنه ذهب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤