الفصل الخامس عشر

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، كان يقف أمام فِلَّا ماري تريزا التي يقطنها البارون كريستوف شبح طويل القامة ينظر إلى بناء الفِلَّا ويتطلع إلى نوافذها، وكان هذا سيرل برتراند وقد أقضَّ السهاد مضجعه في الليلة السابقة، فلم يستطع النوم إلا غِرارًا، ثم بكَّر بالخروج من فِلَّا إليزابث حيث وقف أمام منزل فيرونيك، لقد كاد الفكر يحطم رأسه، إذ كان عليه أن يختار بين الحب — الحب الحقيقي — وبين الكرامة، ونظر إلى تلك الحياة فرأى فيها حياة المرح والأبهة والحب والسعادة لا له وحده ولكن لتلك المرأة الطفلة التي سوف تلقى السعادة بين ذراعيه، ثم رأى فيها من ناحية أخرى حياة الخبث والمكر والخديعة وإهدار الكرامة، وتجسم لناظره شبح هذه الحياة وظل مرتسمًا أمام مخيلته، وقد عزم على أن يحل هذا المشكل بنفسه وبغير مساعدة من أحد.

ولقد بدأ يومه بالخروج مبكرًا والطواف بمنزل فيرونيك، وقد سمى نفسه لهذا بالعاشق المجنون، والراجح أنه كان كذلك أو على الأقل فإنَّ ظواهر الأمور كانت تقطع بهذا، إذ كانت غاية ما يرغب فيه هي أن يلقي نظرة أخيرة على تلك المرأة الطفلة، تلك التي أحبها بقوة وحنان، قبل أن يتركها ويلقي بنفسه وحده في غمار الحياة.

وترقب سيرل النوافذ حتى فُتحت جميعها، ولكن ذلك الوجه الجميل الذي كان يرجو رؤيته لم يطل من إحداها، وأخيرًا سار في سبيله ووجهته فِلَّا أجلانتين، ذلك الفندق الذي نزل فيه أول ما وفد على بادن بادن، وأتى إلى الباب الخارجي حيث كان قد شاهد جلالة ملك فرنسا بين ذراعيه سان أماند، وفجأة امتلأت نفسه بذلك الغضب وتلك الكرَاهية التي أحسها نحو أخيه في ذلك الحين، فقد شاهد أخاه يسير متأبطًا ذراع سان أماند وقد اتجها للسير في طريق التل ميممين شطر فِلَّا إليزابث، وقد بان المرح عليهما كليهما، فكانا يتحدثان ويضحكان، وكانا يتوقفان في بعض الأحيان ليتعانقا أو ليتبادلا القُبَل، وتبعهما سيرل عن بُعد. وأخيرًا توقف الاثنان وودَّعا بعضهما وداعًا حارًّا، اتجه بعده لويس في طريق فِلَّا إليزابث، واستمرت ألين في سبيلها، وتبع سيرل خطوات لويس، ودقت ساعة الكنيسة التاسعة، لقد كان الوقت متأخرًا ولا غرو إذا كان سيرل قد أحس بالبرد والتعب. ووصل سيرل إلى باب فِلَّا إليزابث، وكان لويس قد سبقه في الدخول إليها، وكانت أبواب الفِلَّا مفتوحة والبستاني يكنس مماشي الحديقة. وتقدم سيرل فوَلَج إلى الحديقة ونظر نحو الباب الداخلي وكان لا يزال مفتوحًا، فلم يجد رئيس الخدم الذي كان يقف أمامه عادة وأنفه في السماء ويديه خلف ظهره. وأدرك سيرل أنه لا بد وقد ذهب ليقدم جلالته للسيدة البرنسيس، وارتاح سيرل لهذا، إلا أنه كان لا يزال يخشى أن يراه أحد الخدم الآخرين في الداخل، وربَّما كان قد رأى لويس نفسه.

غير أنَّه لحسن حظه استطاع أن يلج إلى صالة الفِلَّا واختبأ خلف أحد أبوابها حتى نزل رئيس الخدم وعبر الصالة ثم أخذ موقفه المعتاد عند مدخل الفِلَّا، وخرج سيرل من مخبئه وقفز صاعدًا درجات السلم، وفي اللحظة التالية كان يدق باب مخدع أمه، ووصل إلى سمعه همهمة من الداخل ثم كان صوت إغلاق أبواب، وسمع صوتًا مألوفًا يقول في خشونة: ادخل.

ودفع سيرل الباب ودخل إلى الغرفة، فرأى السيدة البرنسيس وحدها جالسة أمام مكتبها، وقد تظاهرت بأنها كانت تحرر خطابًا، وإن كان من الواضح أنها لم تمسك القلم إلا من لحظة مضت، وكانت الحمرة قد غمرت خديها وارتعشت أصابعها وهي ممسكة بالقلم، وكانت هذه الدلائل كلها تنم عن أنَّ مقابلتها لولدها المحبوب لم تكن على ما تروم. وبمجرد أن رأت سيرل قفزت من كرسيها كالسهم وأفلتت ممن شفتيها المرتعشتين كلمة واحدة: أنت؟!

وقد بدت في صوتها رنة خوف واضطراب، وأغلق سيرل الباب خلفه وظل واقفًا موليًا ظهره إليه، فقالت السيدة في تساؤل: حسنًا، ماذا تريد؟

فأجاب سيرل في اقتضاب: أين لويس؟

فردت السيدة في برود: إنَّ مكان جلالته لا يهمك في شيء، وإني أحب أن تخبرني بأي حق أنت هنا؟

– ليس لي أي حق مطلقًا، وغاية ما أريد هو أن أرى لويس، إنه كان هنا من لحظة فلماذا هرب؟!

– ماذا تريد منه؟

– سوف أخبره حالما أراه.

– ولكني لن أدعك تراه قبل أن أعرف ماذا تريد منه، أم تتصور أنك تستطيع أن تحشر نفسك في حضرة جلالته؟

فقاطعها سيرل بجفاف: أوه! بحق السماء أوقفي هذا العمل، إنني لا أطيق كل هذا السُّخف.

فردت السيدة بغطرسة: والآن أراك متطفلًا، إنني لا أعرف لماذا لا تريد أن تقول لي ما تبغي قوله لجلالته! هل أنت خائف؟

– إنني لست خائفًا من شيء.

– إذن لماذا هذا التكتم؟!

فقال سيرل بنفاد صبر متزايد: ليس هناك تكتم، فما أريد سوى أن أعطي لويس أخي الشيك الذي تسلمته من البارون كريستوف في تلك الليلة.

– حسنًا، يمكنك أن تعطيني هذا الشيك.

– لن أعطيه لأحد سوى جلالته.

وقبل أن تنطق السيدة بكلمة أخرى انفتح باب في آخر الغرفة وظهر منه لويس نفسه، وكانت هيئته غريبة شيئًا ما؛ فقد بان في عينيه أثر إجهاد وتعب، وكسا خديه احمرار طفيف، وكانت يده التي لا تزال تمسك بمقبض الباب ترتعش قليلًا، وقال في ضحكة قصيرة جوفاء: هذا حسن، إن الملكة الوالدة مخطئة، وعليك أن تسلم تلك الورقة الصغيرة اللطيفة لجلالة ملك فرنسا، إنها مكتوبة باسمنا الجليل على ما أظن؟

وألقى سيرل بنظرة نحو والدته، وكانت لا تزال واقفة في مكانها مصفرة الوجه، وقد بان عليها أنها قد بوغتت وأنها تخشى شيئًا لا تدري كنهه، وكانت عيناها الجميلتان تنتقل في تساؤل من وجه لآخر، وكانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها ولديها منذ أصبحا رجلين يقف كل منهما في مواجهة الآخر، ولقد كان التشابه بينهما ملحوظًا بشكل واضح؛ في الوجه والصوت، غير أنَّ الخلاف كان شاسعًا بينهما في ناحية لم يكن يعرفها أكثر من السيدة نفسها. وعضَّت شفتيها بمرارة ثم مرت بمنديلها فوق جبهتها.

وكان لويس في تلك اللحظة قد تقدم إلى داخل الغرفة ووقف إلى جانب أخيه، ومد إليه يده قائلًا في ضحكة فارغة: حسنًا، أين الشيك اللطيف الصغير؟

ووضع سيرل يده في جيبه وأخرج حافظة أوراقه وكان لويس وأمه يراقبانه في اهتمام كبير، بينما كان يطبق الورقة في يديه وهو ينظر إليها، فقال لويس في إلحاح: أعطها لي.

فرد سيرل في تؤدة ورزانة: قبل أن أعطيها لك أريد أن تقدم لي كل التأكيدات وأن تقسم لي بأنك سوف تحب وتحترم الفتاة الكريمة التي ستكون زوجة لك.

وكان سيرل يتكلم وهو ينظر بتفرس في وجه أخيه، وكأنما لم يعجبه ما لاح على وجهه وقتذاك، فأردف مطالبًا: هل سمعت ما أقول؟ ألم تسمع؟

– إنك تصيح بعلو كافٍ، ولكن هل لي أن أسألك ما شأنك أنت بهذا؟ ومن هي تلك الفتاة التي تتكلم عنها؟

– لقد وعدت الآنسة فيرونيك باسمك؛ فقد أنقذتك من الخجل وأنقذتها من العار والمذلة، كما خلصت مشروعك الثمين من الضياع بقيامي بأكذوبة أمام البارون كريستوف.

فقاطعه لويس بخشونة: إنني لم أطلب منك أن تفعل شيئًا من هذا، أليس كذلك؟

– لا، وهذا جزء من المأساة، ولكن ليس لنا أن نتناقش في هذا الموضوع؛ فقد فعلت ما فعلت تبعًا لرغبة والدتك. وما أريده الآن هو أن تقسم قبل أن أسلم هذا إليك بأن تعمل ما في وسعك لكيلا تعرض تلك الفتاة البريئة لأي تعب أو تعاسة من جراء هذا الموضوع.

ونظر لويس لأخيه لحظة أو اثنتين، ثم استلقى على قفاه وقد انفجر في ضحكة طويلة عالية، ثم قال: حسنًا، إنني لم أسمع في حياتي شيئًا أبدع من هذا قط!

غير أنَّ السيدة وقد لاح عليها أنها لم تستطع أن تضبط عواطفها أكثر من هذا، قالت بمرارة وحرقة: إني لم أسمع في حياتي بشيء مزرٍ كهذا قط.

والتفتت إلى سيرل وانفجرت قائلة: أظن أنك تعشق فيرونيك كريستوف أنت نفسك؟

وكانت تريد أن تقول شيئًا أكثر من هذا، شيئًا أشد إيلامًا وقسوة، ولكن لويس قاطعها وهو لا يزال يضحك: لا تتعبي الرجل المسكين يا أماه، سوف أعطيه التأكيدات التي يطلبها، وعند ذاك نصبح جميعًا سعداء. استمع إليَّ.

والتفت إلى سيرل وأتم في جد وتعظيم: إني أقسم لك بشرفي أنَّ حياتي المستقبلة سوف أقضيها محاولًا جهدي إسعاد السيدة الجميلة التي ستكون زوجة لي! والآن هل أنت مقتنع بهذا؟

وسلم سيرل الشيك إلى جلالته دون أن ينبس ببنت شفة، وأخذه جلالته، ونظر فيه لحظة ثم وضعه في جيب صديريته، ثم عبر إلى آخر الغرفة ووقف عند الباب، وكان لا يزال مفتوحًا والتفت إلى سيرل ثم قال في بساطة: إنَّ كل هذا هراء كما تعلم، لأني سوف لا أتزوج تلك الفتاة البديعة التي تحبها، وذلك لسبب واحد هو أنني قد تزوجت فعلًا وانتهى الأمر، وإن تعدد الأزواج غير مسموح به في فرنسا كما لا يخفى عليك!

وصدرت من فم السيدة صيحة احتجاج عالية: صه يا لويس!

ولكن جلالته ضحك مرة أخرى ضحكة جوفاء، ثم قال: لماذا أسكت؟ سوف يكون معلومًا بعد وقت قليل في جميع أنحاء أوربا أنَّ لويس التاسع عشر لن يكون ملكًا على فرنسا بعد، بل إنه سيعيش في هدوء وسعادة مع تلك الفتاة التي اختارها لنفسه، وهي ألين سان أماند الجميلة. وإني أقسم لك مرة أخرى أنني سوف أحب دائمًا وأقدس الفتاة الجليلة التي قررت أن أتخذها زوجة لي!

وتراجع خطوة إلى الغرفة الأخرى ثم أقفل دونه الباب، ولم يتمالك سيرل نفسه من أن يقفز كالحيوان المجنون في اتجاه الباب، وسرعان ما اعترضته السيدة فوقفت بينه وبين الباب المغلق، ولم تقل شيئًا، بل كانت عيناها هما اللتان تتكلمان، ونظر سيرل فيهما فإذا بغضبه كله وحقده عليها يتلاشى فجأة ويحل محله شعور بالعطف والحنان لأول مرة في حياته، وكان حنانه وليد شفقته؛ فقد كان يأسف لها كل الأسف لما لحقها من خيبة أمل كبيرة، واعتراها يأس شديد لاح على محياها الجميل؛ فقد انطفأ من عينيها ذلك البريق الغريب وشحب خداها وهرب الدم من شفتيها وترنحت في وقفتها، فمد سيرل بغريزته يده إليها ليسندها، ولكنها سحبت نفسها منه كأنما كان وحشًا ضاريًا!

غير أنَّ هذه الحالة لم تستمر إلا لحظة قصيرة، وسرعان ما تمالكت نفسها بعدها، وقد أصبحت امرأة أخرى، وإذا بحنان سيرل يتحول إلى دهشة وتعجب. والواقع أنها كانت امرأة مدهشة، وقد أثارت إعجاب سيرل العميق بتلك الطريقة التي ملكت بها عواطفها وسيطرت على الجو الذي يحيط بها، حتى إنها عندما تكلمت كان صوتها ثابتًا رغم ما اعتراه من خشونة، فقالت في برود: كل هذا هراء محض، إنَّ جلالته قد تورط في هذا بتأثير امرأة وضيعة، وكان زواجه غير قانوني وسوف يصلح كل شيء في مدى أيام قلائل، وفي الوقت عينه فإنا سوف نستمر بنفس الحالة التي بدأنا بها. والأجدر بك أن تبقى هنا، وسنرسل في طلب الكونت فريزن ثم نتدبر الأمر معًا جميعًا.

ولكن سيرل هز رأسه برزانة ثم قال: يجب أن تسقطيني من حسابك يا سيدتي، ومن جميع مشروعاتك المستقبلة أيضًا.

– ماذا تعني؟!

– أعني أنني سوف أترك بادن بادن بعد ظهر اليوم.

– أتتكلم بجد؟!

لست جادًّا في أي يوم أكثر مني الآن، إنَّ الرجل لا يمزح حينما يرى البناء الذي شيده ودفع من شرفه في مقابل بنائه قد انهار وتحطم قطعًا متناثرة، كأنما كان كتلة من القذارة.

فسألت السيدة بمرارة: ألا ترى أنك تهذي بقولك هذا الكلام في مثل هذه الأمور الخطيرة؟!

– ربما كنت كذلك، وإني أعلم أني أتعبك بهذا، ولذا فإني ذاهب لو سمحت.

وتحول نحو الباب، ولكن السيدة استوقفته وسألته في تحكم: إلى أين أنت ذاهب؟

– سأذهب أولًا إلى البارون كريستوف.

فهمهمت السيدة وقد رفعت يدها إلى حلقها كأنما كانت تسعل، ولكنها سرعان ما تمالكت نفسها وقالت في هدوء: أذاهب أنت لكي تفسد عملنا؟

– أنا ذاهب لأقول الحقيقة للبارون كريستوف.

فأردفت في برود: إذا كنت أتصور أنك ستفعل هذا فإني أقتلك الآن!

– إني أرغب في أن تفعلي ما تقولين.

فهزت السيدة كتفيها بنفاد صبر وقالت: إنك مجنون يا سيرل، أو على الأقل مجنون كوالدك!

– إنني إنجليزي كوالدي، وفي إنجلترا لا ينظر الرجال بعين الرضا حينما يرون امرأة طيبة يضحَّى بها على مذبح الطمع السياسي، إنني لا أستطيع أن أرى فيرونيك كريستوف تُستعمل كمخلب القط في تلك اللعبة التي كنت تديرينها في ذهنك من قبل، إنني أعلم أنها سوف تقاسي أشد الآلام من جراء جرح عواطفها وكبريائها عندما تتحقق من أنها كانت مخدوعة وأنه قد كُذب عليها. ولكنَّ هذا لن يكون شيئًا إلى جانب تلك الحياة التعسة التي سوف تحياها لو كانت قد ارتبطت بذلك التعس الضعيف لويس أخي.

وتراقص على شفتي السيدة رد غاضب سرعان ما كبحت نفسها عن التفوه به؛ فقد كانت على مهارة كافية لأن تدرك عدم جدوى الشدة مع مثل ولدها العنيد هذا. وبسيطرتها المعهودة على عواطفها استطاعت أن تغير تعبير وجهها وصوتها، فهش وجهها ولطف صوتها، وقالت في رجاء ولين: استمع إليَّ يا سيرل، ما فائدة عراكنا هكذا؟! إنك تخلق كل أنواع المتاعب لي، ويؤسفني أن أقول إننا لم يعرف بعضنا الآخر في ود وألفة من قبل لأنك تفهم أني … لا تعض على أنيابك! إني أؤكد لك أنني أعرف أكثر مما أوليتني فيه ثقتك وذكرته لي، فمثلًا أنا أعرف أنَّ فيرونيك كريستوف تحبك بالقدر الذي تحبها … لا تقاطعني فأنا أعني كل كلمة أقولها، فها أنتما شابان صغيران يحب كل منكما الآخر، ويتمنى أن يعيش طول حياته مع الآخر، أليس كذلك؟

إنك لن تكون إنسانًا إذا لم تكن ترغب في هذا، حسنًا، إن مستقبلكما معًا يتوقف عليك وعليَّ أنا، ولسوف تصبح أنت ابن لويس السابع عشر الملك الشرعي لفرنسا، ولا يمكن أن يزحزحك شيء عن هذا المركز، طالما تمسك لسانك عن الكلام. أما أنا فإني أود من كل قلبي أن يتم الأمر على هذا الوجه وكذلك الكونت فريزن.

وما كادت السيدة تصل إلى هذا الحد حتى توقفت عن الكلام وقطعت الغرفة حيث مكتبها. وكان سيرل طول ذلك الوقت ينظر إليها صامتًا، ففتحت درجًا مقفولًا وأخذت منه حزمة من الأوراق، وانتقت منها أربع ورقات وأعطتها لولدها بيد عرتها رعشة خفيفة وقالت له: هذه ورقة ميلادك وتلك ورقة تعميدك، والأخريان ورقة ميلاد وتعميد أخيك لويس، ومنذ هذه اللحظة فإنَّ الورقة المدون فيها اسم لويس أنطوان ماري شارل إيمي دي بوربون سوف تصبح ورقتك، والأخرى التي باسم سيرل أرثر برتراند سوف تصبح ورقة لويس، ولهذا فأنت ترى كم يكون الأمر سهلًا ولا خطر فيه البتة.

وكانت السيدة لا تزال ممسكة بالشهادات الرسمية دون أن يتحرك سيرل ليأخذها، أو على الأقل لينظر إليها، فألقت بها بانفعال في وجهه حتى إنه تراجع خطوة إلى الخلف ليتحاشى اصطدامها به.

فقالت السيدة في إلحاح: لماذا لا تنظر إليها؟! ألا تُعْنَى؟!

وكان تعبير وجهها يمد عبارتها بمعاني عدم التصديق ثم الخوف وأخيرًا الانفجار، وقالت وهي تسعل: بحق السماء على أي أساس ترفض؟!

– إنها ستكون حياة إهدار للشرف والكرامة، حياة كذب وخداع، حياة لا بد أن تؤدي إلى مأساة مروعة تختتم بها.

– ولكن لويس يتوق لأن يتنازل عن حقوقه في العرش.

– لمصلحة عمه الذي سوف يصبح الملك الشرعي لفرنسا لا لمصلحة سيرل برتراند ابن ضابط إنجليزي يود لو يرى ابنه ميتًا بدلًا من أن يحيا هذه الحياة المزرية المهدرة للشرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤