الفصل السادس عشر

ولم تكد تمرُّ على سيرل أربع وعشرون ساعة حتى كان في باريس، واتجه مباشرة إلى الاستديو في ميدان ريمور، وكان قد أبرق إلى الخادم من ستراسبورج، فجهزت المكان لاستقباله، وما كاد يدخل حتى أوى إلى غرفة نومه، وبدأ يخلع ملابسه، وقد عاوده التفكير، أتُرى يستقر به الحال هنا ويشتغل بالرسم مرة أخرى ويعمل بجد لكي تُعلَّق صوره في صالة العرض؟ وهل سيجد لذة في التحدث إلى ميمي فتاة الموديلات الصغيرة، وفي تقديم الحلوى إليها ومصاحبتها إلى مطعم الملوك الثلاثة فيتناولان معًا طبق الكاسوليت بعد متاعب العمل في النهار؟ ولم يتمالك نفسه من الضحك لمجرد تفكيره في كل هذا؛ لأنه كان يعلم أنَّ المياه لن تعود إلى مجاريها مرة أخرى، وأن روح مونتمارتر المرحة الطروب القليلة الاهتمام بالحياة قد انقطعت عن نفسه إلى الأبد، أو على الأقل فإنَّ هذا ما كان يظنه في نفسه في ذلك الوقت. وجال سيرل بنظره في أنحاء الاستديو، وكان كل شيء على حاله كما تركه آخر مرة. وأثارت رؤية أدواته ذكريات مريرة مؤلمة، لقد فكر في الفتاة التي حلمت بأن تصبح ملكة على فرنسا يومًا ما، وتذكر اليوم الذي كان فيه ملكًا واستطاع أن ينال أجمل مخلوقة على وجه الأرض ويضمها بين ذراعيه، والآن فإنه لا يزيد عن كونه فنانًا فقيرًا يجاهد في سبيل الرزق.

وفي المساء المعهود لمطعم الملوك الثلاثة، ذهب سيرل إلى المطعم وكان الوقت لا يزال مبكرًا، فلم يكن المكان قد امتلأ بزبائنه بعد، واتخذ لنفسه منضدة في أحد الأركان، وقد لاحظ وجود ثلاثة أشخاص على منضدة مقابلة له، وكان يعرف هؤلاء ولكن العادة في مونتمارتر كانت تقضي بألا يحيي الشخص معارفه بأكثر من إحناء رأسه إذا كان لا يريد أن يشاركهم مجلسهم. وكان يجلس قريبًا من هؤلاء اثنان من الغرباء، وكانا شابين إنجليزيين يظهر عليهما أنهما طالبان يدرسا الفنون، وأنصت سيرل إلى حديثهما، وكان يحب نغمة اللغة الإنجليزية، والواقع أنه كان يحب كل شيء إنجليزي، ولقد حاول من قبل أن يتعلم هذه اللغة من الكتب وجاهد كثيرًا ليتعلمها، ثم اتصل ببعض أصدقائه من الإنجليز لكي يتمرن على التحدث بها.

وتكلم الاثنان عن أشياء كثيرة؛ عن الصور والكتب والحياة في لندن، وعن إحدى القضايا التي شغلت أعمدة صحيفة التيمس، وقد ذكرت عنها بضع تفاصيل مثيرة للإحساس منذ بضعة أيام. وبان من الحديث أنَّ أحد هؤلاء قد درس القانون وأنه يشتغل بفن المحاماة. ولقد كانت يد القدر الخفية توجه سيرل نحو الطريق المرسوم، فإنَّ ذلك الشاب عندما تكلم عن تلك القضية ذكر اسم وكيل دعاوى كان يعمل لحساب أحد الخصمين في القضية، ولم يذكر اسمه بل كل ما ذكره هو عنوانه فندق لينكولن فيلدز، واستقرت في ذهنه هذه الكلمات الثلاثة، حتى إنه عندما عاد إلى الاستديو عاوده ذكر هذا العنوان مرة أخرى، وتذكر معه وكلاء الدعاوى اللندنيين الذين كانوا قد أرسلوا البرقية إليه، وبحث في درج المكتب عنها إذ كان قد وضعها فيه قبل أن يسافر مع الكونت فريزن إلى قلعة دايك، ووجد البرقية حيث تركها وعاود قراءتها:

أخبرك بموت اللورد لونجفيل المفاجئ على أثر حادث في الصيد. وأنت من يليه مباشرة من بين أفراد الأسرة. فالمرجو حضورك بأسرع ما يمكن. كاربن وهوستن، وكلاء دعاوى. فندق لينكولن فيلدز، لندن.

ماذا يقول؟ حسنًا! ولم لا؟! إن لندن بعيدة جدًّا عن بادن بادن، ومن السهل عليه أن ينسى كل شيء هناك، فسوف يقابل أناسًا لم يكونوا قد سمعوا عن ملك فرنسا غير المتوج، ولا عن ابنة المليونير التي يأكل الأسى واليأس والخجل قلبها … لندن؟! ولم لا؟! إنه سيلقب باللورد لونجفيل بدلًا من سيرل برتراند، وعلى كل فإنه سوف يعمل شيئًا ما على أي وجه كان، ليساعد نفسه على النسيان.

وعلى هذا حزم سيرل حقيبة سفره، وكان في اليوم التالي يعبر البحر إلى إنجلترا.

•••

فيما يلي مذكرات مستخرجة من يوميات نيافة الكاردينال بنفنتي:

٢٦ سبتمبر سنة ١٨٦٠

بعد مرور ست وثلاثين ساعة من وقت توقيع عقد الزواج، تسلم البارون كريستوف إخطارًا معجَّلًا من الكونت فريزن يطلب منه فيه المبادرة بإيقاف صرف الشيك المكتوب باسم جلالة ملك فرنسا، حيث إنَّ جلالته لن يستطيع أن يستعمل هذا المبلغ في تحقيق الغرض الذي يرمي إليه البارون، والذي اشترطه عند كتابة العقد، إذ إنَّ جلالته قد تزوج بعقد قانوني صحيح الآنسة ألين سان أماند. ولقد أسرع البارون بإعلامي بهذا الإخطار بعد وصوله، حتى يمكننا أن نتدبر الأمر ونُعلم الآنسة كريستوف بالخبر على أسهل وأبسط صورة ممكنة.

وفي وقت متأخر من النهار، ذهبت لرؤية السيدة البرنسيس دي بوربون الأم التعسة للولد التعس. وعند وصولي إلى فِلَّا إليزابث سمعت أنَّ السيدة مريضة جدًّا، وأنَّ عندها طبيبين يقومان على معالجتها، ولما سألت إحدى الممرضات اللواتي كن يقمن بالسهر عليها والعناية بها، قالت لي: إن السيدة الجليلة أصيبت بنوبة قلبية ألزمتها الفراش.

٢٧ سبتمبر

حضر إليَّ في الصباح الكونت فريزن ومكث لديَّ أكثر من ساعة، وقد تركني في حالة من الدهشة لا يمكن وصفها! لقد جاء ليخبرني بالحقيقة، وكل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. ولقد كنت أستمع إلى ما يقول وكأنما أنا أسمع قصة من نسيج الخيال، إن الرجل الذي رأيته في ذلك المساء العظيم في فِلَّا إليزابث لم يكن ملك فرنسا، ولكنه كان سيرل برتراند ابن السيدة من زوجها الإنجليزي!

وفي المساء أعلن جلالة ملك فرنسا تنازله عن حقوقه الحاضرة والمستقبلة لعمه الدوق دي بوردو، وبذلك أصبح اسمه هنري الخامس ملك فرنسا.

ذهبت إلى فِلَّا ماري تريزا حيث يقطن البارون كريستوف، ولَكَم كانت دهشتي عظيمة لدى رؤيتي الآنسة كريستوف، لقد كانت جالسة فوق الأرض أمام والدها إلى جانب النَّار، وكان قد أخبرها بحقيقة الموضوع كله، فعندما أعلن الخادم قدومي ودخلت الغرفة، كانت لا تزال جالسة أمام النار ممسكة يد والدها. وقام البارون كريستوف لمقابلتي، وقامت هي بنشاط عجيب ثم قدمت تحية لطيفة وسحبت لي كرسيًّا مريحًا قريبًا من النار، وجلسنا جميعًا وقد اتخذت فيرونيك لنفسها مجلسًا على الأرض إلى جانب والدها، ولقد افتر ثغرها عن ابتسامة رقيقة لطيفة، وبانت في عينيها الزرقاوين لمعة نشاط ومرح أكثر منها لمعة أسى أو حزن. وبدأت أتحدث إلى والدها أكثر من حديثي لها، مؤملًا أن أجد الكلمات المناسبة في هذا الموقف المزعج، ولكن فيرونيك نفسها أسرعت مؤكدة فقالت لي برزانة: إنني أعلم ماذا تريد نيافتك أن تقوله لي، ولكن ليس من الضروري أن تقوله لأني لا أريد أن أُعَزَّى أو أن يشفق أحد عليَّ طالما أحس بأني غير تعسة.

فقلت: إني أحمد الله لأنك يا طفلتي صغيرة السن، كما أن جرح قلبك لم يكن بالدرجة من العمق التي كنت أتصورها، وعلى كل فإن الزمن سوف يساعدك.

فقاطعتني فيرونيك بهدوء وباعتقاد ثابت وقالت: إنَّ المسألة لا تتعلق بالزمن في شيء، إذ لا يحتمل أن يغير الزمن شيئًا من حياتي، بل ولست أرغب في أن يتغير فيها شيء، إنني لست تعسة، ولن أكون تسعة، أرأيت؟

وكانت عيناها تشعان بضوء عجيب، فأتمت قائلة: لم يسئ أحدٌ إليَّ في الحقيقة، وإنَّ مليكي لم يؤذني في شيء، إن مليكي يحبني، وهو لم يخطئ في حقي.

ولم أجد جوابًا لتلك السذاجة أو لذلك الاعتقاد العجيب في القدر! وأخيرًا استأذنت في الخروج، وكان أكثرنا انشراحًا تلك الفتاة الطفلة، حتى إنها عندما سلَّمت عليَّ ضغطت في لطف على يدي وهي تقول في إيمان صادق: إن مليكي لا يمكن أن يخطئ.

جيموند في ١٣ سبتمبر سنة ١٨٦٢

لقد مرت سنتان منذ تلك الليلة العظيمة وما تلاها مباشرة من حوادث، إنَّ الوقت ليمر بسرعة عندما يكبر الإنسان ويطعن في السن؛ فقد وقعت حوادث عدة في تلك المدة، لم أجد في نفسي الهمة للمبادرة بتسجيلها في يومياتي بالتفصيل، وها أنا أجمل ما مر من الحوادث:

أرسلني جلالة الإمبراطور فرنسوا ووزيف إلى باريس في مهمة خاصة، وكان يتعلق بنجاح هذه المهمة مستقبل الحياة الدينية لأصدقائنا في فرنسا. ولقد قضيت في جيموند بضعة أيام في الصلاة والقيام بواجبات التقديس، استعدادًا لمهمتي الصعبة. وكانت أخبار أشخاص المأساة السابقة قد انقطعت عني منذ سنتين؛ فلقد جاء البارون كريستوف وحده إليَّ ليراني بينما كنت في فينَّا، ولقد أسعدني أن أسمع منه أن فيرونيك لم تفقد شيئًا من عقيدتها، وأنه كان قد أخذها في رحلة مشوقة جميلة إلى مصر إبان الخريف التالي للمأساة، وبعد ذلك أخذها إلى قصره الخاص في بوهيميا، وكانت حالتها طيبة جدًّا طوال هذا الوقت، كانت مرحة وسعيدة لدرجة أنَّ البارون قرر أن يعود إلى باريس حيث يحيا حياته العادية. ولقد لاحظت أن البارون كان في حديثه عن فيرونيك تظهر عليه الحيرة كما لو كان هناك شيء لا يفهمه عنها!

ولقد أسفت على السيدة البرنسيس دي بوربون كل الأسف، حيث إنَّها كانت لا تزال مريضة من أثر الصدمة العنيفة التي أصابتها بالنوبة القلبية، ولم تكن قد تركت فِلَّا إليزابث بعد، بل إنها استقرت بها وعاشت فيها تعالج نفسها مما ألمَّ بها. ولقد فهمت أن جلالة إمبراطور أوستوريا يمدها بكرمه المعهود بمبلغ طيب من المال يعينها على الحياة في هدوء وراحة.

أمَّا عن جلالة ملك فرنسا السابق فقد عاش في هولندا، وقد أخبروني أن زوجته قد لاقت نجاحًا عظيمًا في برلين أيضًا. وقد انصرف الملكيون عن لويس التاسع عشر، وأخلص الجميع إلى جلالة الملك هنري الخامس ملك فرنسا الشرعي، وكانوا يرجون اليوم الذي ينال فيه حقوقه ويعتلي عرش فرنسا، وقد سقط نهائيًّا اسم لويس التاسع عشر من قائمة ملوك فرنسا.

باريس في ٩ نوفمبر سنة ١٨٦٢

ذهبت لرؤية صورة جديدة عُرضت في معرض الصور باسم سيرل برتراند، وطلبت من المدير أن يمهد لي سبيل الاتصال بالرسام، ولكنه أخبرني بأنَّ هذا مستحيل لأسباب لم يرد أن يبينها لي … وتعرفت إلى سكرتير المدير وكان شابًّا لطيفًا لم يرفض المبلغ الذي قدمته له لكي يعطيني ما أطلب من المعلومات عن السيد برتراند.

ولقد أدهشني ما أخبرني به؛ فقد أطلعني على آخر خطاب وصل من الفنان، وكان الخطاب مرسلًا من إنجلترا حيث كان يقيم، ولم يكن اسمه برتراند مطلقًا بل كان اللورد لونجفيل، وطبعًا لا بد أنه أصبح رجلًا عظيمًا ذا ثروة طائلة. وكان قد ختم خطابه بهذه الكلمات: «ولسوف أقيم في الاستوديو القديم في ميدان ريمور»، ووصف لي السكرتير الصغير ميدان ريمور، ودلني على سبيل الوصول إليه.

١٠ نوفمبر

لقد حمدت الله على مساعدته لي في سبيل الوصول إلى معرفة مقر السيد برتراند، وكان ما عليَّ أن أفعله بعد ذلك أن أتصل بالبارون كريستوف، وكان قد استقر به المقام في باريس في قصره الجميل بشارع دي فاريني، وجاء ليراني في الفندق الذي نزلت به، وقد صحب ابنته معه هذه المرة، وكانت فيرونيك صغيرة مشرقة كما كانت آخر مرة رأيتها فيها. وتحدثنا طويلًا دون أن أشير إلى ذكر سيرل صراحة، وحاولت أن أسلي الفتاة بإلقاء أسئلة عديدة عليها، وكانت على ذكاء نادر استطاعت به أن تدرك ما أرمي إليه، ولقد سرها أن أطلب منها أن تأتي من وقت لآخر لمشاركة رجل هرم في وحدته.

وزارتني مرارًا وكنا نتحدث في شئون شتى، ولم يمضِ أسبوعان حتى أصبحنا صديقين حميمين.

وفي الثالث من هذ الشهر، أخذت عربة إلى طريق كليشي وتركت العربة عند مدخل ميدان ريمور، وذهبت للبحث عن صديقي القديم سيرل برتراند، وساعدتني الاستعلامات التي حصلت عليها من السكرتير الصغير في العثور على الاستوديو. وفتحت لي الباب خادم أخبرتني أنَّ المسيو برتراند في الخارج، كما أنه لا يقابل أحدًا من زائريه، ولقد قام جنيه قدمته لها بإزالة كل عقبة في طريقي، فأدخلتني إلى الاستديو، حيث أخذت مقعدًا أمام النار وانتظرت هكذا نصف ساعة إلى أن حضر سيرل برتراند، وقابلني ببشاشة وإيناس، وقد لاحظت أنه قد عاد بذاكرته إلى الوراء حيث شاهدني أول مرة في الحفل العظيم، وتحدثنا في شئون شتى، وقد حاولت أن أتحاشى ذكر اسم البارون كريستوف وابنته، وإن تكلمنا عن السيدة البرنسيس وجلالة ملك فرنسا السابق، ثم الكونت فريزن الذي نُقل إلى سفارة أوستوريا في لندن، وكانت علاقات المودة والصداقة بينه وبين سيرل ما زالت على أحسن حال.

وأخيرًا افترقنا ونحن أصدقاء، وقد وعدني سيرل بأنه سيوف يحضر لرؤيتي بالفندق في صباح الغد، غير أنني كنت أشعر بشيء من الكآبة بعد تركي إياه، إذ كان يبدو عليه أنه تغير كثيرًا وظهر عليه تأثير الزمن والحياة، فبان متقدمًا في السن.

وجاء لرؤيتي مرتين أو ثلاثًا وقد شعر كلانا بالمودة والألفة نحو الآخر منذ أول مقابلة، وكما فعلت مع فيرونيك كنت أتحدث إليه في شئون شتى. وقد دعوته لزيارتي دائمًا في الصباح حيث إني قد خصصت وقتي بعد الظهر لفيرونيك.

ولكن منذ أيام ثلاثة أرسلت إليه كلمة أقول له فيها إنني مشغول في الصباح ورجوته الحضور إليَّ بعد الظهر.

وفي الساعة الرابعة بعد الظهر كانت فيرونيك معي، وكانت غرفة الاستقبال الخاصة بي في الفندق منسقة تنسيقًا بديعًا، وقد وضعت الخادم باقات عدة من الورد فوق المناضد، وكانت النار قد اشتعلت في الموقد، وكان المصباح يشع بضوء وردي جميل. ولم أكن قد رأيت الفتاة الطفلة في حياتي أبهى وأجمل منها في ذلك المساء، حتى لقد حمدت الله على مساعدتي في إحياء نفسين قد ربطهما الإخلاص والحب معًا. وفُتح الباب ودخل سيرل الغرفة والتفتت فيرونيك بعد أن كانت تحدق في نار الموقد، وما إن رأت الداخل حتى قامت كالسهم من كرسيها، ولم يتحرك سيرل بل اتجهت هي إليه، وما إن فعلت هذا حتى نظرت إليَّ ثم قالت: كنت أعلم أنَّ مليكي يحبني وأنه لم يخطئ في حقي.

وما كدت أنسحب بأقل ضجة ممكنة من الغرفة، حتى رأيتها قبل أن أصل إلى الباب وهي بين ذراعيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤