الفصل الخامس

ستراسبورج
١٩ سبتمبر سنة ١٨٦٠
سيدتي الوالدة المحبوبة

تسطر لك هذا أرق وأشفق امرأة على وجه الأرض، وإني أمليه عليها لأني متعب مكدود، حتى لأجدني عاجزًا عن أن أمسك بالقلم بين أصابعي.

نحن لا نزال في ستراسبورج؛ فقد نزلنا في أحسن فندق في البلدة، ورغم هذا فإنَّ وسائل الرَّاحة فيه تكاد تكون معدومة، لقد اجتمع إليَّ في قاعة الفندق جميع أعواني، وإنك لتعرفين أسماءهم أكثر مني، وتكلموا طويلًا، وكانوا في خلال حديثهم يعطسون ويسعلون ويتمخطون! وكنت أستمع إليهم، ولم يكن في الواقع هناك فائدة في أن أقول شيئًا؛ فقد دبروا كل شيء فيما بينهم. لقد قمنا في الفجر، وتجمعت الفرق تحت قيادة الكولونيل ريونو، وأظنُّ أن اسمه هكذا، وقبضوا على رئيس البلدية وبعض أعضائها الذين لم يثبت ولاؤهم لنا. وبعد ذلك لم نكن ندري تمامًا ماذا نفعل؛ أنزحف إلى حيث يعسكر الجنرال إفيلين وننضم إليه، أم نبقى حيث نكون مترقبين الفرص للزحف على باريس؟

لقد ثار حول هذا الخلاف نقاشٌ أتعبني وأضناني؛ فقد ظلوا طول النهار يتباحثون، بل استمروا فيه شطرًا من الليل، وأخيرًا ذهب هذا الصباح كولونيل — نسيت اسمه — إلى الرِّياسة وأمر أركان الحرب بأن يجمع الرجال، ووصلت متأخرًا ربع ساعة، وكانت الفصيلة كلها في الساحة، ورأيت الرِّجال مُدَجَّجين بالسِّلاح، مستكملين عدتهم، فصاح فيهم الكولونيل بأعلى صوته: «أيها الجند، لقد انتهت الإمبراطورية الفرنسية، وسقط الإمبراطور نابليون المغتصب. ليحمِ الله الملك!»

ولقد كان هذا في الواقع كذبًا، إلا إذا كان نابليون قد سقط من فوق جواده أو من فوق درجات السلم. وعلى كلٍّ فقد أجابه الرجال بصيحة عالية: «يعيش الملك»، وقلت لهم بضع كلمات عن سان لويس وعن جدي، فصدحت فرقة الموسيقى بنشيد المارسلييز، وأخذت العلَم بيدي، فصاح الرِّجال مرة أخرى: «يعيش الملك»، غير أنَّ بعض الرجال في آخر الساحة أخطئوا وهتفوا: «يعيش الإمبراطور»، ولست أظن أنهم عرفوا من أكون أنا.

سرنا بعد ذلك في أنحاء المدينة والموسيقى تعزف أمامنا، حتى وصلنا إلى مقر القيادة، فقابلنا جنرال كبير السن اسمه لوفيلي على ما أظن وكان ينتظر وصولنا. غير أني لم أخبرك أنَّ الآنسة سان أماند لم تتركني لحظة واحدة طوال هذا اليوم، لقد كانت معنا منذ طلوع الفجر حتى الظهر؛ تمشي، وتهتف، وتتحدث مع الضباط وتشجعهم. وقدم لنا الجنرال غداء طيبًا شكرته عليه، فما كنت قد تناولت منذ الصباح سوى فنجان قهوة رديئة، وبعد الغداء نشبت مناقشة جافة أخرى، انتهت باستقرار الرأي على إرسال خبر إلى الجنرال إفيلين يُطلب إليه فيه أن يسير بجنوده إلى هنا؛ فقد قالوا جميعًا إنَّ من دواعي الحرص على سلامتي أن أبقى حيث أَنا، ويظهر أَنَّهم تلقوا أنباء تؤكد انتشار جواسيس نابليون في أنحاء البلاد، بغية القبض عليَّ وحجزي في مكان ما.

عند هذا كنت أحس بتعب شديد أنهك قواي، ولولا عناية الآنسة سان أماند وشفقتها عليَّ لتحطم كياني، لقد قالت — وشعرت أنَّ الحق معها — إن ما أحتاج إليه وقتئذ هو الراحة. وكان منزلها في ستيجاند غير بعيد عن هنا، ودفعها لطفها إلى أن تدعوني لقضاء بضعة أيام هناك، حيث يمكنها في هدوء الرِّيف أن تعتني بي فتعيد إليَّ صحتي. ولقد عزمت على قبول هذه الدعوة الكريمة، وسنسافر إلى ستيجاند بعد ساعة على الأكثر، وبمجرد أن يبلغ إلى علمي وصول الجنرال إفيلين إلى ستراسبورج، وسيكون هذا بعد ثلاثة أيام على الأكثر، فسأرجع إلى هناك وأستأنف البرنامج الذي رسمتِه لي.

على أنني أعرف أنك قد عملت ترتيبك لكي أتقابل مع الآنسة كريستوف عند عودتي، وأصارحك القول بأنَّ هذا الزَّواج يقل شأنه في نظري يومًا بعد يوم رغم الملايين المنتظرة منه.

إلى الملتقى يا أماه. سأرسل لك برقية عند عودتي إلى ستراسبورج. وإذا لم تسمعي عني خبرًا حتى ١٧ الجاري، فاعلمي أنَّ جواسيس نابليون قد نالوني، فإمَّا أن أكون أسيرًا بين أيديهم أو قتيلًا وقد تركوني في حفرة بعد أن أهالوا عليَّ التراب.

ولدك
لويس

واستطاعت ألين أن تقنع الملك لويس بأن تذهب هي بنفسها لتضع الخطاب في البريد، بحجة أنه خطاب مهم لا يجوز أن تتركه لخادم الفندق، وكان لويس مكدودًا واهن القوى من متاعب اليوم التي لم يتحملها جسده الرهيف، وتركها لتفعل ما أرادت ثم استلقى وحده على الأريكة ينشد الراحة.

وطفق يفكر في ملال: أوه! إذا لم يكن في الموضوع مليار كريستوف وتاج فرنسا، الذي لا يرغب فيه حقيقة، لتمت له سعادته مع ألين، ولكن هناك والدته، وكل هؤلاء الكهول الأوغاد، إنه لا يستطيع الحياة بينهم مطلقًا، ولقد أحس لويس برغبة في أن يقع في أيدي رجال نابليون، حتى يبتعد عن طريق أمه وكريستوف وأولئك الأوغاد ويخلو له الجو بمعبودته ألين، ما أجملها! ويا لسحر عينيها، وفمها، وقبلتها! وبينما جلالته يحلم بألين غلبه النعاس فنام.

•••

ووقفت ألين سان أماند خارج الغرفة، وقد أمسكت مقبض الباب بإحدى يديها، وأطبقت الأخرى على الخطاب الذي كتبته حسب ما أملاه لويس عليها، ونظرت إليه باضطراب وشك، والواقع أنها في تلك اللحظة لم تكن تعرف تمامًا ماذا تفعل، لم تكن واثقة من نفسها ولا مما ترغب فيه حقيقة، وقد طافت بذهنها خيالات شتى، فضاقت نفسها لحظة، فإذا بعينيها تمتلئان بالدموع، وبحركة سريعة مسحتهما بظهر يدها، ثم نزلت درجات السلم.

وكان الطريق في الطابق السفلي يؤدي إلى صالة الفندق الكبيرة، وعلى اليسار باب زجاجي كُتب عليه بحروف مذهبة «مدخل القهوة»، ودفعت ألين هذا الباب ثم دخلت، وكان الخطاب لا يزال بيدها.

لم يكن بقهوة فندق الكولوني في ذلك الوقت غير بضعة رجال في ركن منها يلعبون الدومنة ويشربون، وفي الرُّكن الآخر كان يجلس منفردًا، وقد ارتدى ملابس سوداء واعتمد بمرفقيه على الطاولة أمامه، فاتجهت ألين إليه، وما إن رآها حتى قام من مكانه وسحب لها كرسيًّا، ودعاها للجلوس ففعلت ثم سألها: ماذا تطلبين؟ قهوة؟ إنها طيبة.

فأجابت: لا شيء، أشكرك.

وألقت بمرفقيها فوق الطاولة، وأسندت رأسها بيدها وأحست بغتة بتعب شديد، فأغلقت عينيها وقد بان الذبول على شفتيها الجميلتين، فقال الرَّجل: أرى أن تأخذي قدحًا من «الفاين» فإنه ينفعك.

وهزت رأسها، ولكنه لم يعبأ بهذا، بل نادى الخادم وأمره بإحضار كأس من الفاين لها، وأحضر الخادم الشراب فصب منه شيئًا في الكأس وهمَّ ليأخذ الزجاجة، غير أنَّ الرجل أمره بتركها أيضًا.

والتقطت ألين الكأس بحركة آلية وشربته، واضطربت ملامح وجهها لحظة من أثر حموه، ثم وضعته فوق المنضدة.

فقال الرجل: إنها سوف تنفعك، أنت متعبة.

فقالت ألين بتراخٍ: إنني اشتغلت طول شهر أغسطس؛ فقد مر عليَّ الآن وأنا أقوم بهذا العمل — دعني أرى — أسبوعان تقريبًا، إنني لم أتعود الحياة في هذا الضجيج المزعج، وها أنا ذا لم يغمض لي جفن منذ أن وصلنا هنا.

فأردف الرجل بجفاف: إنك لا تأسفين على هذا يا عزيزتي.

فقالت ألين وهي تتناول الكأس بيدها: لست أعرف تمامًا.

وأخذت رشفة من الشراب، ثم ألقت باليد الأخرى فوق المنضدة، وكانت لا تزال ممسكة بالخطاب.

فسألها: ما هذا الذي معك؟

فوضعت الخطاب فوق المنضدة ثم قالت بخشونة: خطاب، كتبه لأمه، أو بالأحرى أملاه عليَّ.

والتقط تولون الخطاب وفتحه، ولم تكن قد قفلت مظروفه بعد، وأخذ يتلوه، ثم أعاده إلى مظروفه، وألصقه عليه، ثم وضعه في جيبه وهو يقول: ليس فيه ما يضر، ولكن يجب ألا نرسله الآن، سوف أبعث به في الوقت الملائم.

وسكت قليلًا ثم أخذ نفسًا من سيجارته، وبعد لحظة قال: وأما من جهة النقود.

فرفعت عينيها إليه وقد غمرتهما الدموع وقالت باضطراب: إنني ألعب دورًا قذرًا يا تولون.

وأتمت في ابتسامة حزينة قصيرة: إنه فتى لطيف، بريء كالطفل، وفوق ذلك فهو يثق بي.

فأردف تولون بقلة اصطبار: بيد أنَّكِ يا عزيزتي لن تؤذيه في شيء، بل ولن نؤذيه نحن أيضًا. ولكن خبريني هل يريد ذلك الفتى اللطيف كما تسمينه أن يصبح ملكًا لفرنسا، أم أنه لا يرغب في هذا؟

وردت ألين بعد تردد قليل: لا، أظن أنه لا يريد هذا.

فقال: هل يرغب في الزواج بفيرونيك كريستوف؟

وكان ردها هذه المرة بغير تردد: لا، أنا واثقة من أنه لا يرغب في هذا.

– إذن فهذا حسن، حسن جدًّا.

وسكت الاثنان قليلًا، وكان المطر ينهمر في الخارج فيرتطم بزجاج النافذة، ودخل القهوة بضعة رجال، أخذوا أماكن بعيدة، وأطفأ تولون سيجارته، ولمس ذراعها بأطراف أصابعه، محاولًا دفعها لأن تنظر إليه مباشرة، ثم قال برفق: انتبهي إليَّ قليلًا يا عزيزتي، ما أريده منك هو أن تسافري من هنا في مدى ساعة، إلى ستيجاند حيث يوجد منزلك البديع، وستقابلكم في الطريق فرقة من البوليس الطوَّاف، وسيأمر سائق عربتك بالوقوف، ثم يتقدم ضابط في لباسه الرَّسمي ومعه شرذمة من الجنود إلى باب العربة، وستضطربين ويُغمى عليك، أو تتصرفين كما تفعل عادة السيدات العصبيات، فيكون الضابط في هذا الوقت قد أمر السيد البرنس دي بوربون بالنزول، فإذا حاول المقاومة — وإن كنت واثقًا من أنَّه لن يقاوم — فالرِّجال سيقبضون على شخصه المبجَّل ولكنهم سوف لا يؤذونه وأقسم لك بشرفي على هذا! وستكون هناك عربة أخرى لتحمل السيد إلى قلعة دايك حيث يُعنى به كل العناية ولكن لبضعة أيام فحسب، أسبوعين على الأكثر، وستستأنفين أنت السفر إلى ستيجاند، حيث تبقين هناك مصابة بصدمة في الأعصاب من جراء ما لاقيته من فزع وانزعاج. ويجب أن تجيبي دائمًا عن كل سؤال أو استفهام يُلقى إليك بأنك لا تعرفين شيئًا، وأنَّ المفاجأة أثرت على أعصابك في ذلك الوقت فأُغمي عليك، فعندما صحوت وجدت أن جلالته قد اختفى. وقد لا يصدقك أحد ويظنون فيك الظنون، ولكن النتيجة على كل حال ستكون انهيار مشروع الزواج، وهذا ما يرغب كلانا فيه؛ أنا لأنه يترك آل بوربون مفلسين لا يستطيعون الاستمرار في مشروعهم، وأنت لأنك تتمكنين بذلك من أن تتخذي لنفسك من فتاك اللطيف زوجًا.

وسكت تولون بعد هذا الحديث الطويل، وقد أفصح عنه من أوله إلى آخره بصوت ناعم هادئ، وانتظر لحظة حتى يتأكد من أنَّ كلماته قد استقرت في نفسها، ثم أخذ سيجارة فأشعلها بحركات هادئة بطيئة وقال: تذكري أيضًا يا صديقتي العزيزة أنَّك سوف تنالين مقابل دورك في هذه اللعبة الصغيرة مكافأة لطيفة لا تقل عن خمسة وعشرين ألف جنيه، إنها دوطة زواج يا عزيزتي، لا يمكن أن يترفع عنها حتى أمير.

وتنهدت ألين تنهدة عميقة، ثم وضعت يدها فوق خدها الملتهب وقالت: إن لك يا صديقي قدرة على دفع الإنسان إلى أن يفعل ما تريد.

فهز كتفيه وقال برزانة: لم أقل هذا إلا لأبين لك بساطة الموضوع كله، فإنك تبالغين كثيرًا في تصور أهمية دورك فيه، ولا تنسي يا عزيزتي أنني كنت أستطيع أن أقوم بكل شيء بدون مساعدتك غير أني لم أعمد إليها إلا …

فقاطعته وأتمت: إلَّا لأنك تريد قبل كل شيء أن يسير الموضوع دون أن يشعر أحد به. إن ما تريده في الحقيقة هو سكوتي.

فسألها بتملق: ألست على استعداد لأدفع نصف مليون ثمنًا له؟

فردت بحمية: إنه يستحق هذا، وأنت تعرف ذلك، فلو أنني أذيع الموضوع لما توانى البارون كريستوف عن أن يتقدم بملياره ليخلص لويس من قبضتك، ولا تذكر إمبراطور أوستوريا فإنَّ المال يفعل كل شيء، حتى إذا أخذوا لويس من دايك وعاد إلى بادن بادن، فماذا يكون حالك أنت يا صديقي؟ ستظل كما أنت الآن تدبر الخطط محاولًا استرجاعه ثانية، ولكنك لن تجد الأمر سهلًا بعد ذلك؛ لأنَّ ألين سان أماند لن تساعدك، هل فهمت؟

فرد في جفاف: ربما كان هذا صحيحًا، فسأبقى حيث أنا الآن، كما سيبقى تاج فرنسا حيث هو الآن أيضًا، ولكن لويس دي بوربون سوف يكون قد ارتبط برباط مقدس مع فيرونيك كريستوف في مقابل مليار والدها.

وعندما قال هذه الكلمات الأخيرة بصوت أجش ونغمة ساخرة، امتلأت عينا ألين بالدموع وشحب وجهها، فأنشأ يقول بصوت ملطف: رويدك، رويدك! لماذا نتشاجر معًا؟! نحن لا يستغني كل منا عن الآخر، ولا أريد منك سوى الصمت، إلى أن تبعد فيرونيك عن طريقنا حتى يفشل ذلك الزواج، وبعد أن تتسلمي الخمسة والعشرين ألف جنيه يمكنك أن تتزوجي أميرك المفلس، تعالي.

ثم مد يده إليها من فوق المنضدة، وهو يقول: أتريدين أن نكون أصدقاء أم أعداء متنابذين؟

فقالت بعد لحظة تردد وقد مدت إليه يدها: لنكن أصدقاء، ولكن تحت شرط واحد.

– اذكريه.

– لا ينقطع الاتصال بيني وبين لويس عندما يكون في دايك.

فقال مؤكدًا: سوف تكتبين له كل يوم، وسأعمل على أن تصله خطاباتك، وسيرسل إليك حاكم القلعة كل يوم تقريرًا عن السجين أو خطابًا منه.

فقالت: إذن فإني أوافق.

ورفع يدها إلى شفتيه وقال مؤكدًا: سوف لا تأسفين على هذا. متى ستسافرين؟

فأجابت: بعد نصف ساعة. ثم لا تنسَ خطاب لويس لأمه.

– سأرسله في البريد، دعيني أرَ، اليوم الثلاثاء سأضعه يوم الجمعة.

– حسنًا.

وافترقا كأحسن ما يكون عليه الأصدقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤