الفصل التاسع

غير أنَّ سيرل لم يخرج ثانية في ذلك المساء؛ فقد قضى وقتًا طويلًا جدًّا ينظر إلى لا شيء وذهنه يحترق من الفكر، لقد كان يفكر في فيرونيك وهي تندب ضياع أحلامها، فيرونيك وهي تبكي بحسرة وخجل … وكان تفكيره في أنَّه يستطيع أن ينقذها من الأسى والعار عَزَبًا، لأنه كان سيفقدها على كل حال، لقد أعطى كلمته لصديقه وهو لا يأسف لهذا، فهي ستكون سعيدة، وربما تصبح يومًا ما ملكة على فرنسا الملكة فيرونيك، زوجة لتعس خائر لا يقدر حتى جمالها ولم يدفعه إلى الزواج بها غير مال أبيها، ثم قال لنفسه: «لئن كان العرش لي، فإني أرضى بحبها بدلًا عنه!»

وذهب إلى فراشه في وقت متأخر من الليل، ولم يدرِ ما إذا كان قد نام أم لا فقد أقضَّت نومه أحلام مزعجة سخيفة، وعلى هذا فقد استيقظ مبكرًا في الصباح، وذهب في الساعة الثامنة إلى الحلاق، ولما نظر إلى المرآة بعد نصف ساعة، وجد أنَّه قد تغير بشكل عجيب، ثم قال لنفسه وهو يتأمل وجهه: «إنني قد أصبحت فعلًا قريب الشبه جدًّا لأخي المخنث!»

وقال له الحلاق الذي أزال لحيته عابثًا: إذا كان السيد قد ارتكب جريمة، فإنَّ من السهل عليه بعد الآن أن يتحاشى البوليس، فلن يعرفه أحد الآن، أما أنا فسوف لا أقول شيئًا.

ولما عاد سيرل إلى الاستديو، وجد برقية فوق المنضدة وضعتها الخادم إلى جانب صينية الإفطار، وأدهشه ورود برقية له، وإنه ليذكر أنه لم يتسلم طول حياته برقية من قبل، ولقد أمسك بها في يده يقلبها بين أصابعه وهو يحس بشيء من الخوف يمنعه عن فتحها، وفي ذلك الوقت دخلت الخادم وبيدها سلة مليئة بالخشب لتوقد النار، وإذا ما رأت سيرل أصدرت صيحة دهشة عالية وسقطت منها السلة، فأحدث الخشب صوتًا مزعجًا عند وقوعه على أرض الغرفة، ولم يدر سيرل في البدء سبب تأملها فيه هكذا بعينين جاحظتين مضطربتين، وأخيرًا تذكر فضحك ضحكته المرحة التي لم تسمعها المرأة العجوز من زمن بعيد، فسألها: إنك لم تعرفيني يا أنجيل، أليس كذلك؟

– ﻟ… ﻟ… لا … يا سيدي.

– إنه أنا … المسيو برتراند كما تعلمين يا أنجيل، الذي رسم الصور ثم بهرج في الاستديو.

وتذكر البرقية فجأة فقال: خذي الخشب أيتها المرأة الطيبة، وأخبريني من أحضر هذه البرقية؟

وذهبت أنجيل وهي لا تزال في شك من أمر سيدها لتجمع الخشب وتضع السلة في مكانها، ثم قالت: لقد أحضرها رجل البريد بعد خروج سيدي بخمس دقائق.

– هل كان واثقًا من أنها لي؟

– أجل يا سيدي، فإنَّ اسمك عليها وعنوانك.

وكان هذا فعلًا، فلم يشك سيرل في أنها له، فمزق غلافها، وكانت البرقية باللغة الإنجليزية، وقد جاء فيها:

أخبرك بموت اللورد لونجفيل المفاجئ على أثر حادث في الصيد، وأنت من يليه مباشرة من بين أفراد الأسرة. فالمرجو حضورك بأسرع ما يمكن. كاربن وهوستن وكلاء دعاوى فندق لينكولن فيلدز لندن.

وقرأ سيرل البرقية ثلاث مرات قبل أن يدرك مغزاها، ثم وضعها فوق المنضدة وبدأ يتناول فطوره وهو يقرؤها للمرة الرَّابعة، وقد ترك لأفكاره العنان منقِّبًا وراء ما جاء فيها:
  • أولًا: عن الإمضاء «كاربن وهوستن وكلاء دعاوى»، وتذكر سيرل تلك السنين البعيدة أيام أن كان صبيًّا، وقد جاء إلى باريس ليجرب حظه في عالم الفن، لقد كانت تصل إليه بضع رسائل ممضاة باسم «كاربن وهوستن وكلاء دعاوى»، وعلى كل حال فإنه لا يتذكر ماذا كان في هذه الرسائل، ولا السبب الذي دعا هؤلاء الوكلاء اللندنيين إلى تحمل مشقة البحث عن مسكنه، فربما حصلوا عليه من دفتر البوليس، وهذا كل ما هناك.
  • وثانيًا: ذلك الاسم لونجفيل، اللورد لونجفيل؛ فقد كان سيرل يعلم أنَّ له ابن عم اسمه فرانسيس برتراند، أو اللورد لونجفيل، غير أنَّه لم يكن ليهتم بتتبع أخباره أو معرفة الجهة التي يقطن فيها، وقد اتضح له الآن أنه كان يقضي بعض الوقت في صيد أشياء، ويظهر أنه قد أصيب في حادثة فمات، ولكن ما علاقة موته به؟! وما الذي يدعو هؤلاء الوكلاء اللندنيين إلى تكليف أنفسهم مشقة إبلاغه هذا الخبر؟!

ولم تطرأ الفكرة على ذهن سيرل إلا بعد أن تناول قهوته، لقد جاء في البرقية: «وأنت من يليه مباشرة من بين أفراد الأسرة»، أتعني هذا أنه قد أصبح في لحظة رجلًا ذا لقب ومال؟! وعلى كل حال فما الفائدة من كل هذا؟! لئن جاءته هذه الأشياء منذ بضعة شهور لاختلف الأمر الآن، ولمَا كانت فيرونيك قد عقدت خطبتها على أخيه غير الشقيق! ولكن ليس هناك فائدة من كل هذا. وأحس برغبة في أن يقذف بتلك البرقية في النار؛ «المرجو حضورك بأسرع ما يمكن!»، إنه لن يذهب بأسرع ما يمكن، بل ربما لا يذهب مطلقًا، إلا إذا انتهى من موضوع حصن دايك كما وعد صديقه بذلك، وبحركة عنيفة أطبق بيده على الورقة، وبينما هو يهم بإلقائها في النار سمع وقع خطوات لينة فوق أرض الغرفة الحجرية، وكانت الساعة وقت ذاك تدق التاسعة، فدس سيرل ورقة البرقية في درج مكتبه، وصاح الكونت فريزن وهو يدخل الغرفة: ها أنا ذا.

ثم خلع قبعته وتقدم إلى سيرل وأعاد قوله «ها أنا ذا»، ولم يتم كلمته بل وقف فاغرًا فاه وهو يحملق بعينين مشدوهتين، ثم انفجر في ضحكة عالية، فأمسك بكتفي سيرل وهو يقول: مدهش يا رفيقي العزيز! مدهش جدًّا! إن أمك نفسها لا يمكن أن تعرفك.

فرد سيرل وهو يمر على ذقنه بأطراف أصابعه: أوه! نعم، إنَّ هذه اللحية الطيبة قد ذهبت.

– حسنًا، إنني ذاهب الآن إلى وزارة الداخلية لمقابلة الوزير فأنا أعرفه شخصيًّا، وهو الذي سيعطيني الإذن الذي أحتاج إليه، وسيقوم قطارنا في السادسة والربع من محطة الشرق، وسأحضر إليك هنا قبل السادسة بربع ساعة.

وفي السادسة والربع بعد الظهر سافر الاثنان، وفي صباح اليوم التالي نزلا من القطار المحلي إلى رصيف محطة ليسين، حيث يمكنهما من هناك أخذ العربة إلى حصن دايك، ولم يجدا سوى عربات قديمة غير مريحة، استقلَّا واحدة، سارت في طريق جميل تحفه مناظر الريف البهجة، لم تأخذ عينا سيرل من جمالها شيئًا.

وأخيرًا صعدت العربة فوق المنحدر الجبلي الذي يقع فوق الحصن، وما إن وصلا إليه حتى أمر فريزن السائق بالانتظار في مكان ملائم، ونزل هو وسيرل إلى باب الحصن، حيث وقف الديدبان فتقدما إليه، وأبرز فريزن الخطاب الرَّسمي الذي يحمل شارة وزارة الدَّاخلية، وفيه الإذن له بدخول الحصن، فسمح لهما بالدخول، حيث قابلا ضابطًا برتبة الملازم يلبس الثوب الرَّسمي، فأبرز له فريزن الخطاب، فتمتم هذا بكلمات غير مفهومة وتركهما، وغاب قليلًا، ثم عاد ومعه لفتنانت صغير في ملابس رسمية، فلما قرأ الخطاب أدى تحية عسكرية وقال: سيدي الكونت فريزن؟

– ها أنا ذا، وهذا المسيو برتراند سكرتيري الخاص.

ثم أشار إلى الورقة في يد الضابط وتمتم فريزن: لقد أخذت هذا الأمر من جناب الوزير نفسه وأنا أعتقد أنه قانوني.

– هو كذلك يا سيدي الكونت، ولكن يظهر أنَّ جناب الوزير لم يكن قد وصل إلى علمه أنَّ السجين المشار إليه ليس معنا.

فانتفض فريزن قائلًا: ماذا تعني بقولك إنه ليس معكم؟

– إنَّ السجين كان هنا منذ خمسة أيام فقط، وقد ورد للرئيس أمس أمر من مدير البوليس ليسلمه، وقد حضر ضابطان من ضباط البوليس السري بعربة وأخذا السجين وكان هذا بعد الظهر.

– ولكن أين ذهبوا بصاحب اﻟ… ان باﻟ… سجين؟

فابتسم اللفتنانت وقال: إنَّ لديهم أوامر سرية يا سيدي الكونت، وحتى لو كنت أعلم فإني لا أستطيع أن أقول شيئًا.

– هل أستطيع أن أرى الرئيس؟

– بالطبع يا سيدي الكونت.

وسار الضابط الصغير وخلفه الرجلان إلى حجرة الرئيس، وكان فريزن يحاول إخفاء اضطرابه وضيقه، وقد أحس سيرل من أجله بالأسف لإخفاقه في مكيدته.

وكان الرئيس رجلًا كبير السن، عسكريًّا بمعنى الكلمة؛ فقد كان النظام العسكري لديه أقرب شيء إلى الدين، يخلص له ويقدسه، وقدم لزائريه كرسيين، ودخل الكونت في صلب الموضوع مباشرة، فقال له إن لديه أمرًا من الوزير بزيارة السجين، فهل هو موجود بالسجن أم خرج منه فعلًا؟

فرد الرئيس بجفاف: لقد خرج فعلًا يا سيدي الكونت.

– ربما تستطيع جنابك أن تخبرني أين يكون … صا… ا… سجينكم الآن؟

فرد الرئيس بجفاف وحزم: إنَّ الأوامر التي لديَّ من البوليس الخصوصي لصاحب الجلالة الإمبراطور سرية للغاية يا سيدي الكونت.

ولم يكن لفريزن بد من أن يتحقق تمامًا من أنه لا فائدة من الكلام مع ذلك العسكري العجوز، فبعد لحظة قصيرة قام مستأذنًا في الخروج، فصحبه الرئيس إلى الباب يحييه ويودعه.

وعادت بهما العربة دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة، وكان كل منهما يفكر؛ سيرل يأسف لفشل صاحبه، ولكن فريزن كان يفكر في شيء آخر، وأخيرًا قال: إنني لا أهتم كثيرًا لا بجلالته ولا بنفسي، بقدر ما أنا — بصراحة — متألمٌ كل الألم لتلك الفتاة التعسة، إنَّ الله وحده يعلم ماذا يفعل بها الإخفاق والفضيحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤