فاتحة

كان يومًا حارًّا من أيام شهر حُزيران، أمضيناه داخل حرم جامع سيدي خالد نُحضِّر لامتحانات شهادة الدراسة الابتدائية، على عادة الطلبة في تلك الأيام؛ إذ يلجئون إلى برودة المساجد وفيئها وهدوئها في أيام الامتحانات. توجهتُ إلى رواق الجامع قبل المغيب تفاديًا لزحام ساعة الصلاة، وكان آخر سؤال طرحه عليَّ زميلي الذي يختبر معلوماتي في الفيزياء، وهو يلحق بي: لماذا تنفجر ثمرة الكستناء إذا وُضعت على النار؟ فأجبته وأنا أخطو بسرعةٍ عتبة الباب: بسبب ضغط البخار داخل القشرة. كنا نُفضِّل الخروج من الحرم قبل كل صلاة؛ كي لا نبقى عاكفين على الكتاب والناسُ يؤدون صلاتهم، أو تحاشيًا لسماع كلمات التقريع من أقرب المُصلين إلينا. في إحدى المرات، قبضَت عليَّ ذراعُ شيخ مهيب، وقادني معه إلى مقدمة المصلين حيث أجبرني على الصلاة إلى جانبه.

مشيت حافيًا فوق البلاط الحجري للأرضية الدافئة التي امتصَّت شمس النهار، ثم افترشت حصيرًا من تلك التي تُفرش عادةً في الأروقة الخارجية للمساجد. استلقيت مُتحسسًا خوص الحصيرة المجدول، كان دافئًا وتنبعث منه تلك الرائحة الأليفة لنبات الأسل، تحمل معها على الدوام عبق اجتماع الناس وأحاديث السُّمَّار. وعندما اتصل بصري بالقُبة السماوية اجتاحني تدريجيًّا شعورٌ لا يمكن إعطاؤه حقه بكلمات، كانت سيَّالةً زرقاء تملأ الكون فتشدُّني إلى الأعالي، أو تهبط بالأعالي إلى حصيرتي. المآذن من فوقي تتقارب وتتلاقى، ثم تغيب في الأعماق، والأعمدة والجدران تتباعد ثم تتلاشى وراء آفاق غير منظورة … تحسَّست الزرقة تحت لساني وفي الأوعية الشعرية تحت الجلد، ثم تفتَّتُّ قطعًا زرقاء تتطاير كنُدف قطن لا وزن لها، لم أعد موجودًا، أو لعل من الأنسب أن أقول، لم أشعر بمثل هذا الوجود الحق من قبل، ولن أشعر به إلا مراتٍ قليلةً بعد ذلك. لا أدري كم مضى عليَّ في تلك الحالة، وعندما أخذَت الأشياء تستعيد صورتها من جديدٍ مستجمِعةً شتاتها من هيولى نشأتها، تجمَّعت إلى أجزائي، وعُدت سيرتي الأولى، تلميذًا تحت الرواق يقبض على كتاب الفيزياء ويحاول النهوض في ذهول عما حوله.

كانت تجربةً ساحقة ومُفرحة في آنٍ معًا؛ ساحقة لأنها تغمرك دون إرادة منك أو استدعاء لها، لتذهب بأناك العزيزة وتمحو حدودها في دقائق تبدو دهرًا، ومُفرحة لأنك إذا داهمتك فلن تشعر بالوحشة أو الوحدة بعدها أبدًا.

بعد الامتحانات، التي حملت إلينا ما توقعناه من الأسئلة وما لم نتوقع، وبينها سؤال ثمرة الكستناء إياه، كنت أستعيد تجربة ذلك الأصيل تحت رواق الجامع وأتمنى لو أنها تأتي كَرةً أخرى. ذهبتُ إلى المكان، دخلتُ الحرم وجلست أستمع إلى شيخ يتحدث بعد صلاة العصر، مُفسرًا بعض سور القرآن الكريم لمجموعة تحلَّقت حوله، ثم خرجت إلى الرواق. استلقيت على الحصيرة ورحت أُحاور السماء الزرقاء، ولكن شيئًا مما حدث لي في المرة السابقة لم يحدث. وعندها، خطر لي بما يشبه اليقين أن تجربة ذلك الأصيل لم تكُن إلا دعوة للصلاة. عدتُ إلى البيت، وأخرجت كتاب مقرر الديانة المدرسي، فراجعت مجدَّدًا قواعد الصلاة بدقة، ثم تشمَّرت وتوضَّأت، ومددت سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح القديمة في فناء البيت، وشرعت في الصلاة، ولكن عند السجود، ظهرت أمامي صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء الطويلة، فشعرت بالخوف وأسرعت في إتمام الصلاة. ولهذه الصورة قصة سوف أرويها فيما يلي.

كان لوالدي غرفةٌ يدعوها مكتبة. وفيما عدا إجراءات التنظيف العادية من مسح وكنس، كان مُحرَّمًا على أحدٍ ترتيبها أو حتى تغيير مكان صحيفة يومية فيها. كانت أكداس المجلات والدوريات القديمة تملأ المكان، والكتب موزَّعة على الرفوف القليلة، ومتجمِّعة عند الزوايا في أكوامٍ غير منتظمة. في الأوقات الآمنة، كنت أتسلل إلى الغرفة لتقليب صفحات كتب مصوَّرة أحبها، ثم أنسحب عند اقتراب الخطر. وفي إحدى المرات، تسمَّر بصري على لوحة تملأ صفحتين متقابلتين من كتابٍ حاشد بالصور الملوَّنة الأخَّاذة، كُتِب تحتها «لوحة خلق آدم». في اللوحة شيخٌ مهيب سابح في الفضاء يرتدي جلبابًا هفهافًا ينسحب من ورائه، وهو يمدُّ يده إلى رجلٍ عارٍ يجلس على الأرض في وضعية من صحا لتوِّه من النوم. أطبقت الكتاب وخرجت، وفي ذهني أكثر من سؤال لا يجيب عليه سوى والدي، ولكن كيف أكشف عن سر دخولي إلى الغرفة المُحرَّمة؟

لم يطُلْ تردُّدي، كنت عازمًا على كشف سِر الصورة بأي ثمن. بعد العشاء، أوى والدي إلى غرفته، فطرقت الباب وكشفت عن سِري له مشيرًا إلى مكان الكتاب، ثم قبعت في انتظار ما سيجري. لم يبدُ عليه الغضب، اتجه نحو الزاوية وأخذ الكتاب، ثم عاد إلى مكانه ففتحه على اللوحة إياها، ثم صمت برهة، وأخذ يشرح لي ببطءٍ مضمونها وهو يتخير كلماته بدقة وحذر؛ لأن وجهي قد تحوَّل على ما يبدو من إشارة استفهام إلى بركان دهشة لا حدود لها. وعندما انتهى من حديثه، زوَّدني ببعض المجلات القديمة المصورة، ونبَّهني إلى ضرورة استئذانه في كل مرة أريد فيها دخول الغرفة. وكان عليَّ بعد ذلك أن أهضم فكرة التصوير الديني ووجود مصورين لا يتحرجون من رسم صورة للخالق.

لوحة مايكل أنجلو هذه صارت من أعمال عصر النهضة المحبَّبة إليَّ بعد ذلك. وعندما وقفت أتملَّاها تحت قُبة السستين في الفاتيكان، بعد تلك الصدمة بعشرين عامًا، تذكَّرت انفعالي الأول وابتسمت، كما تذكَّرت كيف حالت صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء بيني وبين الصلاة في تلك الفترة المبكرة.

يتميز الجيل الذي أنتمي إليه بنزعة عقلانية مفرِطة؛ فهو الجيل الذي فتح عينَيه على دولةٍ حديثة الاستقلال، تُحاول أن تجد لها موطئ قدم في عالمٍ شيمتُه التقدم العلمي. لم نكن نسمح لأنفسنا بالنظر إلى العالَم إلا من خلال المحاكمات الذهنية الباردة، وكان السلاح الذي نُشهره في وجه بعضنا هو شعار «كن علميًّا»، كلما آنس واحدنا من زميله بادرة لطرح لا يلتزم المنطق العلمي في أضيق أشكاله، فكان من الطبيعي أن أكُف عن استثارة أحوال نفسانية لا تخضع للمفاهيم العلمية الميكانيكية؛ فإلى جانب الخوف من أن تُصنَّف في زمرة المتخلفين، كان في داخل كلٍّ منا محكمة تفتيش منعقِدة على الدوام، يصرخ قاضيها في أعماقه «كن علميًّا»، كلما وجد في نفسه ميلًا لما هو «غير علمي» بالمفهوم السائد. ومع ذلك، فقد داهمتني حالة «الوجود الحق» كما أسميتها، مرات قليلة بعد ذلك، وعلى درجات متفاوتة من الشدة.

كنا نتجول مساءً في ساحة مونمارتر وأزقتها بباريس، عندما أنذر الرذاذ الخفيف بتحوله إلى وابل ثقيل، فاقترحت زوجة صديقي أن نلجأ إلى كاتدرائية مونمارتر القريبة. كان هناك قُداس من نوعٍ ما منعقِد بعد الغروب. جلسنا في الصف الخلفي، وصديقي المقيم في باريس يحاول أن يقدم شرحًا عن تاريخ الكاتدرائية وعمارتها، ولكن كلماته غابت تدريجيًّا لتحل محلها كلماتُ الكاهن الذي يقود القُداس. كنت وكأني أسمع لأول مرة قصةَ الإله الذي صار إنسانًا، والإنسان الذي صار إلهًا. ارتفعت قُبة الكنيسة، توسَّعت حتى تلاشت في الظلام الكوني، وتباعدت الجدران والأعمدة، تحوَّلت الأشياء إلى كلمات، لا تنطوي كل كلمة على معنًى بعينه، بل تحتوي كل كلمة كل كلمة أخرى؛ معنًى واحدًا يتبدى بألف لون ولون، ثم رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهايات الأربع، وأنا في نقطة التقاطع.

بعد ذلك، عرفت أن حالة «الوجود الحق» يمكن استثارتها بأساليب خاصة، وكانت محكمة التفتيش في داخلي قد أخلت مكانها لهيئة محلفين من مشارب شتى، لا يمانعون في إجراء المداولات الحرة قبل إصدار القرار.

في وقتٍ متأخر من الليل، طرق بابَ منزلي في دمشق جارٌ وصديق لا يخلو من غرابة الأطوار، تعوَّد زيارتي بين الحين والآخر. كان يحمل في يده شريط تسجيل، قال وهو يتجه نحو الزاوية التي تعوَّدنا الجلوس فيها لسماع الموسيقى أحيانًا: سأُسمعك شيئًا أعجبني؛ فلعله يعجبك أيضًا. جلسنا أكثر من ساعة نستمع إلى فرقةٍ معروفة بإنشاد الألحان الصوفية، حيث تعرفتُ لأول مرة على هذا النوع من الفن الديني. حملتني إيقاعات الدفوف إلى حلقات رقص فسيحة يدور فيها الدراويش بأذرعٍ مرفوعة نحو الحقائق المستورة، وأرجُل تلف بخفة على الأرض التي ترتفع بهم للقاء السماء. رأيت بعين خيالي كيف يتوسط الراقص بين عالمين، وكيف تمتد روحه شرارة برق تصل المنفصل وتجمع المنقطع. وفي الأمسية التالية، استمعت إلى الشريط وحيدًا، وعلى إيقاعِ مدد، مدد. لا أدري هل دُرتُ أم دار الكون من حولي، كل الكون. اختلطت الأشياء وتمازجت ألوانها، ثم ذابت خطوطًا في حلقات تتَّسع، حتى ضاع الشكل واللون. الإنسان في المركز، وكل المجرات حتى أبعدها عند حواف الكون تدور وتدور. صار الكون إنسانًا، والإنسان صار كونًا.

وبمرور الأيام، كان التساؤل القديم، الذي حملني من حصيرة رواق الجامع إلى سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح، ينمو ويتحول من تساؤل عرَضي إلى سؤال أساسي: هل تجرِبة ما أسميته بالوجود الحق هي تجربة دينية؟ فإذا كانت دينية، فما الفرق بينها وبين ما تُحققه الصلاة المعتادة؟ لماذا يلجأ البعض إلى طقس مُؤسَّس ومتعارَف عليه، والبعض الآخر إلى طقس خارج على المألوف؟ وإذا لم تكن هذه التجربة دينية، فماذا تكون؟ ثم تبيَّن لي تدريجيًّا أن معالجة هذه الأسئلة ستدور في حلقة مفرَغة، إذا لم نشرع قبلها في الإجابة على سؤالٍ أكثر أساسية يتعلق ﺑ: ما هو الدين؟ فلِكَي نستطيع تصنيف أمرٍ ما في زُمرة الدين، أو نَصِف سلوكًا ما بالديني، علينا أن نكون واثقين من أننا نعرف فعلًا ما نعنيه بالدين. والحال أننا مختلفون في هذا الأمر، رغم أن كلًّا منا يعتقد جازمًا بأنه يعرف ما الذي يعنيه الدين بالنسبة إليه. وليس الفلاسفة ودارسو الأديان من شتى المشارب بأفضل حالًا منَّا، فلدينا اليوم تعريفات للدين بعدد مَن تصدَّى لدراسته، وحاول الإحاطة بهذه الظاهرة ووضع تعريفًا مُرضيًا لها. كيف ذلك؟ كيف لهذا المُحرِّض الإنساني الكبير أن يكون على هذه الدرجة من الغموض والزوغان عن التعريف؟ وهل من الممكن فعلًا أن يختلف الدين باختلاف الأفراد وتنوُّع نظرتهم إلى الحياة؟ أم إن وراء هذا التنوع الظاهري وحدةً صميمية، وإن التعريفات لا تقصد إلا أن تقول شيئًا واحدًا، وتُعبِّر عن تجربةٍ إنسانية واحدة؟

•••

أما بعد، فهذا كتاب في وصف الظاهرة الدينية عند نوع من الأحياء معروف باسم الإنسان العاقل (= Homo Sapien)؛ فقد وجدنا أن الدين هو إحدى السمات الرئيسية، التي ميَّزت هذا النوع عن غيره، منذ اكتسابه للخصائص الإنسانية التي نحن عليها الآن قبل أكثر من مائة ألف عام من عصرنا هذا. وقد رافقته، منذ ذلك الوقت المبكر لاستقلاله التام عن بقية الأنواع الحية على هذا الكوكب، كمُحرض أساسي وهامٍّ في حياة البشرية عبر عصورها. وأريد أن ألفِت النظر ابتداءً إلى أن المقدمة الشخصية التي ابتدأت بها لا تطرح منهجًا لبقية الكتاب، وأن الفصول القادمة ليست تأملاتٍ ذاتيةً في مسألة الدين، بل العكس هو الصحيح تمامًا؛ فإذا كان لكل مشروع دافعٌ شخصي، فإن ما يميز مشروع البحث الموضوعي عن غيره هو قدرة صاحبه على الانتقال من الشخصي إلى الموضوعي، وتعديل الأول بما يتلاءم ومعطيات الثاني.
يميز وليم جيمس، الفيلسوف والسيكولوجي الأمريكي (١٨٤٢–١٩١٠م)، في كتابه: The Varieties of Religious Experience،١ بين نوعين من المحاكمة في دراسة الظاهرة الدينية، يدعو الأول محاكمة وجود Existential Judgement، والثاني محاكمة قيمة Proposition of values. في المقترب الأول، يقوم الدارس بتقصي طبيعة موضوعه؛ أي تركيبه وأصله وتاريخه، وفي المقترب الثاني يبحث في أهميته وجدواه. ويرى وليم جيمس أننا لا نستطيع اشتقاق أحد هذين المقتربين من الآخر؛ لأنهما مستقلان تمام الاستقلال، وينشأ كلٌّ منهما عن مواقف فكرية متغايرة؛ فمحاكمة الوجود موضوعية لا تعتمد معايير موضوعة مسبقًا، أما محاكمة القيمة فذاتية تعتمد معايير يقوم الدارس بتبنِّيها مسبقًا. فدراسة كتاب التوراة مثلًا، من حيث طريقة جمعه وتحريره والأشخاص الذين عكفوا على صياغته، والشروط التي أحاطت بظهور هذا الكتاب وإتمام أسفاره، هي محاكمة وجود لا علاقة لها بتاتًا بالتساؤل عن قيمة الكتاب كمُوجِّه روحي، فهذه محاكمة قيمة تختلف باختلاف المعايير التي يتبنَّاها الدارس. من هنا، فإن حكم القيمة يختلف باختلاف مشارب الباحثين ومواقفهم الفكرية المسبقة.

ولقد تبنَّيت في كتابي هذا المقترب الأول، ووقفت في منهجي عند الحد الفاصل تمامًا بين الدراسة الوصفية والحكم القيمي.

إن ما أهدف إليه هو التعرف على الظاهرة الدينية كما هي، وعلى حقيقتها، وذلك عن طريق وصفها وصفًا دقيقًا، وعزلها عن بقية ظواهر الثقافة الإنسانية الأخرى المتعددة، وهو أمرٌ على قدرٍ كبير من الصعوبة والتعقيد، على عكس ما يخطر في البال للوهلة الأولى. فعبادة الموتى لدى بعض ثقافات العصر الحجري والعديد من الثقافات البدائية، قد صُنفت خارج دائرة النشاط الديني من قِبل بعض الباحثين المحدَثين؛ لأنها لا تتوسل إلى قوًى خالقة وخارقة تقع خارج الحيز المكاني والزماني المألوف. ومثلها أيضًا تلك الممارسات والمعتقدات السحرية التي تقع في بؤرة الحياة الروحية لشعوب بدائية كثيرة؛ لأنها تتوسل إلى قوًى غامضة غير مشخَّصة تتوسط بين الأسباب ونتائجها في حركة الطبيعة، وهي قوًى لا تشبه الآلهة من قريب أو بعيد. وهناك أكثر من دين واسع الانتشار لا يؤمن أهلوه بإلهٍ ما، ولا يتعبَّدون لشخصياتٍ ما ورائية من أي نوع، ولا ينتظرون منها مِنَّة ولا خلاصًا؛ فإلى أي حد نستطيع أن نُطلق صفة الدين على هذه الطرائق الروحية المغايرة لطرائقنا؟ ومن ناحية أخرى، لدينا فلسفات كبرى كالأفلاطونية المحدَثة، شاعت وانتشرت، وساهم في بنائها العديد من العقول الجبَّارة، جعلت من فكرة الألوهة بؤرة اهتمامها، ومن الإله الأسمى الذي تعرَّفت عليه قطب الرحى في بنائها الفلسفي، فكان لها من الأتباع ما لأي نِحلة دينية معروفة، ولكن أحدًا من مؤرخي الأديان لم يرَ فيها دينًا؛ فما الذي تفتقد إليه أمثال هذه الفلسفات لتغدو دينًا؟

ما هو الدين؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي سنسعى معًا إلى تلمُّس إجابات مُرضية حوله، ولكن قبل الشروع في ذلك لا بد من كلمةٍ حول منهج البحث.

لقد حاولت بشكل أساسي تجنُّبَ أمرين؛ الأول فلسفة الدين، والثاني تاريخ الأديان. فالفلسفة تبقى بعد كل شيء امتدادًا لفكر صاحبها، وتعبيرًا عن توجهاته ومواقفه، إنها أمرٌ شخصي بحت، ولدينا من الفلسفات قدرُ ما لدينا من الفلاسفة. وبما أني راغب عن تقديم وجهة نظر شخصية في مسألة الدين، راغب في وصفه وتحديده موضوعيًّا، فقد ابتعدت قدر المستطاع عن فلسفة الدين وفلاسفته، وعن إقحام أي رأي شخصي، مما يمكن للباحث أن يحمله ويُضطر إلى وضعه على الرف مؤقتًا، فيما لو كان جادًّا في التعلم من بحثه في اكتناه الواقع، لا في وضع هذا الواقع ضمن إطار ذهني مرتب مسبقًا. أما تاريخ الأديان، فيعتمد منهجًا تاريخيًّا يلجأ إلى تحليل الأديان المختلفة في سياقها التاريخي؛ أي إنه يحاول الكشف عما حدث فعلًا، ودون العناية بفهمٍ عميق لما حدث، أو تقديم تركيب منظم يجمع الظواهر الدينية التي يدرسها إلى ظاهرة واحدة. في محاولتي الابتعاد عن هذين التوجهَين، وجدت نفسي مع أصحاب المنهج الفينومينولوجي (= الظاهراتي).

والفينومينولوجيا، كما وضع أسُسَها إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨م)، هي طريقةٌ وصفية في البحث، تبتعد عن النظريات الفلسفية، وتحاول حدس ووصف الظاهرة كما تبدو لتجرِبتنا المباشرة؛ أي وصف طبيعتها وطرُق تبدياتها وتعبيراتها عن نفسها. ففي مقابل انشغال الفلسفة التقليدية بتحليل المفاهيم، والتركيز على العقلاني، فإن الظاهراتية تركز على كُلية التبدي الظاهراتي في التجربة الإنسانية، والتوجه إلى موضوع بحثها كأمرٍ قائم في ذاته، لا يمكن إرجاعه إلى ظاهرة أخرى تحتويه. من هنا، هاجَم هوسرل الإرجاعية السيكولوجية، التي يحاول علماء النفس من خلالها إرجاع كثير من الظواهر (ومنها الظاهرة الدينية) إلى الظاهرة النفسية. هذا الموقف الرافض للإرجاعية يُحرر الباحث الفينومينولوجي من المواقف المسبقة، التي لم تخضع أصلًا للنقد، والتي تمنعه من الالتفات إلى الخصوصية والتنوع في الظاهرة التي يدرسها، وهذا ما يعينه على توسيع وتعميق تجربته المباشرة، ويؤمن له وصفًا دقيقًا لهذه التجربة، لا يختلط بالأحكام القيمية. هذا عن الفينومينولوجيا الفلسفية. أما عن الفينومينولوجيا الدينية، فإنها تطبيق لطرائق الفينومينولوجيا على دراسة تاريخ الدين؛ أي إنها تشغل مكان الوسط بين الفلسفة والتاريخ، وتطرح منهج بحث عملي، لا فلسفة بالمعنى التقليدي.

إن ما يميِّز الفينومينولوجيا الدينية بشكلٍ خاص هو ميلها إلى العمومية، وتقصِّيها لكل ما هو مشترك وعام بين الظواهر الدينية. وهي إذ تَصِف وتُنظِّم وتُنَمذِج موضوعاتها، إنما تعمل على استقصاء البنية الجوهرية والمعنى في الظاهرة الدينية. ورغم أن الظاهراتي يتحاشى فرض أحكامه وقيمه على موضوع بحثه، إلا أنه ينطلق في الوقت ذاته من موقفٍ متعاطف مع هذا الموضوع، وبشكلٍ خاص مع الجانب الإنساني فيه. فهو في وصفه للكيفية التي يعي بها المؤمن إيمانه ويفهمه، فإنه يحترم القيمة المطلقة التي يعزوها هذا المؤمن لعقيدته. وهذه نقطة يتوجب عليَّ منذ البداية أن أجعلها واضحة تمامًا. عن هذا الموقف المتعاطف الذي لا ينشأ عن أفكارٍ مسبقة، يقول كارل غوستاف يونغ، مُنشئ علم النفس التحليلي، ما يأتي:

«على الرغم من أنني كثيرًا ما أُدعى فيلسوفًا، إلا أنني امرؤٌ تجريبي، وأنطلق من موقفٍ فينومينولوجي، ظاهراتي بحت. وهو موقف يُعنى بالحوادث والخبرات، وتقوم حقيقته على الوقائع لا على الأحكام؛ فحين يتحدث علم النفس التحليلي، الذي أمثِّله، عن الميلاد العذري مثلًا، فإنه لا يُعنى إلا بواقعة وجود مثل هذه الفكرة، ومن دون التطرق إلى مسألة صحة الفكرة أو خطئها. فهذه الفكرة صحيحة سيكولوجيًّا، من حيث إنها فكرة موجودة. والوجود السيكولوجي هو وجودٌ ذاتي بقدرِ ما تخطر الفكرة على بال إنسان واحد، وهو وجودٌ موضوعي بقدرِ ما يترسخ بإجماع الناس عليه. والحق، فإن أفكارًا معينة تكاد توجد في كل مكان وكل زمان، وهي قادرة على أن تخلق نفسها بصورة تلقائية وفي معزل عن النقل أو التقليد. هذه الأفكار لا يصنعها الفرد بل تحدُث له، حتى لَتفرض نفسها على وعيه فرضًا. إن ما أقوله هنا ليس فلسفةً أفلاطونية، بل علم نفس تجريبي.»٢
وعلى هذا، فإن ما أضعه بين يدَي القارئ، فيما يأتي من الصفحات، هو مساهمة في فينومينولوجيا الدين، تتميز، على ما آمل، بالجدة في مقترباتها ومعالجاتها ونتائجها؛ ذلك أن عملًا يأتي في هذا الوقت المتأخر عن فترة ازدهار هذا النوع من البحث على المستوى العالمي، لا بد من أن يحمل معه مسوِّغات قوية لظهوره. وإني لأعترف بفضل اثنين من المفكرين زوَّداني بالإطار الفكري السليم اللازم لإنجاز هذا الكتاب، وهما: إميل دوركهايم Emile Durkheim، المُفكر وعالم الاجتماع، الذي أعطى لدراسة الدين نكهة العلم، وفريتجوف كابرا Fritjof Capra الفيزيائي الذي أعطى الفيزياء الحديثة نكهة الحكمة.
١  William James, The Varieties of Religious Experience, Modern Library. New York PP. 5–7.
٢  C. G. Jung, Psychology and Religion (in The Collected Works) V. ll. pp. 5–6.
انظر أيضًا الترجمة العربية: الدين في ضوء علم النفس، ترجمة نهاد خياطة، ص١٠–١١، دمشق ١٩٨٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤