خاتمة

منشأ الدافع الديني

إذا كان الوعي من حيث الأساس هو نصف الحقيقة، وإذا كان الكون لا يقفز إلى عتبة الوجود بغير الإنسان، فلماذا كان علينا أن ننتظر درس الفيزياء الحديثة ليُطلِعنا على هذا الواقع؟ وجوابي على هذا التساؤل المشروع، هو أن الإنسان كان يشعر دومًا، وفي المستوى الآخر الأعمق لوعيه، بكلَّانية الكون وبلا تمايُزه عن الوعي. وليس الدين إلا ظاهرة عبَّرت، منذ بزوغ الوعي، عن هذا الإحساس المتأصِّل بالتكامل مع العالم والمشاركة في «الحقيقة»، وإن الدافع إلى التدين وإلى تكوين المعتقد الديني لينشأ عن هذا الإحساس بالكلانية، وبالمشاركة في كون واحد حي.

لقد علَّمتنا الفيزياء الحديثة أهمَّ دروسها، وهو أن الأجزاء المستقلة ظاهرًا، ترتبط مع بعضها ارتباطًا لا زمانيًّا ولا مكانيًّا، وأن هذا الارتباط يرجع إلى جذرٍ واحد مشترك، يكمُن في نظامٍ خفي مُنطوٍ، تقوم عليه كل الحوادث الفيزيائية الظاهرة في النظام المنبسِط السطحي. وبتعبير الفيزيائي دافيد بوهم، فإن حوادث الحركة في هذا النظام المنبسط، التي تؤدي إلى إظهار الكون برُمَّته، ليست إلا فقاعةً طافية فوق أوقيانوس النظام الخفي المنطوي. وبما أن الوعي هو الشكل الآخر للمادة وصِنوها الذي لا تقوم للحقيقة قائمة بدونه، فإنه هو أيضًا موزَّع بين نظامين؛ نظام سطحي منبسط ونظام خفي مُنطوٍ. وهذان الوجهان للوعي أدعوهما بوعي الصحو ووعي الغيب. يتجه وعي الصحو نحو المستوى المتجزئ الظاهري، حيث تلعب الأجزاء دور الاستقلال والانفصال، وتؤثر ببعضها وفق سببية ظاهرية، فيحصل على معرفة خطية (أي من الأسباب الظاهرية إلى نتائجها الظاهرية في اتجاه واحد) تجمعه إلى بقية الظواهر، وتساعد الإنسان على حفظ الفردية والتلاؤم مع محيطه. أما وعي الغيب فيتَّجه نحو المستوى المنطوي للوجود، حيث تلتقي الأجزاء وتجتمع في كلانية غير متجزئة، فيحصل على معرفة غير خطية، تجعل الإنسان في اتساق مع الكل وتُعطيه حس الاتصال بكل ما عداه.

إن توضيح العلاقة بين الوعي والمادة، كان من المهام الصعبة عبر التاريخ الفكري للإنسان. وتأتي الصعوبة من ذلك التمايز الجذري الذي يبدوان به أمام تجربتنا من ناحية، ومن تلازمهما تلازمًا غير مفهوم من ناحية ثانية. ولعلنا واجدون في التفسير الذي أتى به ديكارت مثالًا على كيفية التعامل مع هذه المسألة الشائكة؛ فديكارت يُعرِّف المادة على أنها «جوهر يتمتع بخاصية الامتداد في المكان»، ويُعرِّف الوعي على أنه «جوهر يتمتع بخاصية التفكير»، وعلى تباعد هاتين الخصيصتَين، فإن الاتصال بينهما غير ممكن، في رأيه، على الإطلاق، إلا بواسطة الخالق الذي يوجد خارجهما معًا، ويضمن في الوقت ذاته اتصالهما واللقاء بينهما.

ولكن البيولوجيا والفيزياء الحديثة تشير اليوم بكل وضوح إلى أن الوعي ليس شيئًا غريبًا عن العالم يضاف إليه من خارجه، بل إنه بطريقةٍ ما ناتج عن مادة هذا العالم من جهة، وإنه يعمل بعد تكوينه على إعادة صياغة العالم. فالوعي ينطوي على المادة لأنه يدركها، والمادة تنطوي على الوعي لأنها تنتجه؛ فهما مستقلان ظاهرًا متَّحِدان ضمنًا، في بنية كلانية تحتية غير متجزئة. وقد كان للسيكولوجي المعروف كارل غوستاف يونغ أفكارٌ نبوئية حول هذا الموضوع. يقول في كتابه Aion ما يلي:
«عاجلًا أم آجلًا، فإن فيزياء الذرات وسيكولوجيا اللاشعور سوف تقتربان من بضعهما كثيرًا؛ لأنهما، ومن موضعين مستقلين، قد شقَّا طريقهما نحو أرض مشتركة … إن النفس لا يمكن لها أن تستقل تمامًا عن المادة، وإلا فكيف تؤثر فيها؟ والمادة ليست غريبة عن النفس، وإلا فكيف تعمل على إنتاجها؟ إن المادة والنفس موجودتان في العالم نفسه، وكل واحدة منهما تشارك في الأخرى. وبدون هذا فإن أي تبادل للفعل بينهما يغدو مستحيلًا. فإذا قُيِّض للبحث الجاري أن يتطور بما يكفي، فإننا لا شك واصلون إلى لقاء تام بين المفاهيم الفيزيائية المادية والمفاهيم السيكولوجية. إن محاولاتنا الجارية الآن في هذا الاتجاه جريئة، ولكني أعتقد بأننا نسير في الطريق الصحيح.»١

لقد أمضى يونغ حياته العلمية في تتبُّع آثار جدلية الخافية الفردية (الخافية = اللاوعي) مع الخافية الجمعية، وأظهر بمقتربه التجريبي وبصيرته الثاقبة، وحدة الوعي الإنساني، واتصال الذوات الإنسانية عند أعمق مستويات الواعية الفردية، حيث تتلاشى سيكولوجية الفرد في البحر العظيم لسيكولوجية الجنس البشري. ورغم أنه لم يتوصَّل صراحةً إلى ما يمكن أن ندعوه بالوعي الكوني، فإن مثل هذه النتيجة المنطقية تغدو بين أيدينا إذا نحن زاوَجنا بين سيكولوجيا الأعماق ليونغ والنتائج المعرفية الفلسفية للفيزياء الحديثة. ولشرح مثل هذه المزاوجة التي تُظهر لنا الوعي الكوني الكامن فينا وطريقة عمله، سأقوم برسم المخطط التوضيحي التالي الذي يُعبِّر عن نظريتي في منشأ الدافع الديني:

فالوجود عبارة عن دارةٍ مُغلَقة ذات قرصَين يدوران على بعضهما دوران الرَّحى؛ الأول هو الكون، والثاني هو الوعي. وبدوران هذا على ذاك يظهر الوجود. فإذا زال الوعي، تحوَّل الكون إلى أنماط موجية احتمالية لعوالم متراكبة تنحو نحو الوجود، ولكنها لا تستطيع إنجاز هذه الخطوة منفرِدة. وإذا زال الكون تلاشى الوعي لتلاشي موضوعه. وفي الرسم التخطيطي الثاني أدناه، أوضح كيفية انقسام الكون والوعي، إلى مستوًى تجزيئي ظاهري ومستوًى كلَّاني تحتي. ففي المستوى التجزيئي تمارس الأجزاء وجودًا مستقلًّا ظاهريًّا، كما يمارس وعي الصحو الفردي أيضًا وجودًا مستقلًّا ظاهرًا، فيشعر الفرد بأناه المنعزلة وبممارسته للمعرفة التجزيئية، التي تجعله يتعرف على الموضوعات المتجزئة الأخرى. وفي المستوى الكلاني التحتي تتحد الحوادث المادية، كما يتحد الوعي الفردي بالوعي الجمعي ثم يجتازه إلى الوعي الكوني، حيث يتلاشى الوعي في المادة وتتلاشى المادة في الوعي، في وحدة متكاملة.

أما الرسم التخطيطي الثالث، فيوضِّح درجات انفتاح الوعي؛ من وعي الصحو إلى وعي الغيب الفردي (وهو الخافية الفردية)، فوعي الغيب الجمعي (وهو الخافية الجمعية الإنسانية)، فالوعي الكوني الذي يوحد الفرد والجنس البشري بالكون.

ينغرس الوعي في صميم المادة-الكون، ويعطي الإنسان شعورًا بالخروج من ذاتيته والتوحد بكل ما عداه. وهذا الشعور ليس شعورًا وهميًّا، بل إنه أكثر المشاعر الإنسانية حقيقية. كما أنه في الوقت ذاته ليس شعورًا اصطناعيًّا ناجمًا عن إعمال فكر في طبيعة الكون والمادة وعلاقة الإنسان بهما، بل هو أشبه بوظيفة نفسانية مؤسسة بشكل راسخ؛ لأنه يعكس بالفعل حالة انغماس الوعي بالقاع الكلي للوجود. وفي الواقع، فإن وعي الغيب يعمل بطريقة آنية وأكثر مباشرة من وعي الصحو، الذي يعمل بطريقة تحليلية بنائية شديدة التعقيد. ففي وعي الصحو، نحن نتلقى المعلومات عن الحوادث الخارجية بواسطة الحواس التي تنقلها إلى المراكز الدماغية عبر سيالات كهربائية، حيث يجري فرزُها وتحليلها، والاستعانة بالذاكرة من أجل تمييزها وتقييمها، ثم تعمل مراكز المنطق في الجهة اليمنى من الدماغ، بعد ذلك، على تمحيص هذه المعلومات وتفسيرها، إلى آخر هذه العملية التي يجري بعضها عفويًّا وبعضها بشكل قصدي إرادي. أما في وعي الغيب، فإن العالم كله معطًى لنا بشكلٍ آني مباشر، وما علينا سوى الاستسلام إليه والثقة به. ولا أدلَّ على هذه الآلية المباشرة في عمل وعي الغيب من حالة الحلم؛ ففي الأحلام يحمل لنا وعي الغيب الجمعي، ومن دون جهد يُذكَر من قِبلنا أو قصد، رموزًا ورؤًى تنبع من أعماق الخافية، لا تنفع في وصفها وتحليلها مئات الصفحات المكتوبة، توضع أمام وعي الصحو من أجل استيعابها وفق معارفه الخطية.

ولكن الإنسان، عبر تاريخ طويل من اعتماده على وعي الصحو من أجل الارتقاء بتقنياته في مواجهة شروطه البيئية، قد وسَّع باستمرار مساحةَ الصحو في وعيه على حساب مساحة الغيب، إلى درجة جعلت من العالم التجريبي الظاهري المجال الوحيد لما هو أصيل وحقيقي، ودفعت بوعي الغيب ومحتوياته إلى أعماقٍ منسية في النفس الإنسانية؛ الأمر الذي كان يعمل باستمرار على تكريس استقلال الذات الفردية، حتى وصل الإنسان الحديث إلى أقصى درجات الفردية والعزلة التي تقطعه عن بقية الأفراد وعن الطبيعة. والحقيقة أن الإنسان بحاجة إلى إقامة توازن دقيق بين وعي صحوه ووعي غيبه؛ لكي يشعر باستقلال كافٍ يساعده على التعامل بكفاية مع محيطه وبيئته وتنمية تقنياته المختلفة، ولكي يؤمِّن في الوقت نفسه حالة توازن نفسي وروحي مع الكون؛ ذلك أن طغيان وعي الغيب يقف حجرَ عثرةٍ أمام التعامل المباشر مع الطبيعة، أما طغيان وعي الصحو فيدفع الأفراد إلى هوة البؤس النفسي والروحي. ولعل من أهم منجَزات علوم الطبيعة والنفس، أنها قد فتحت عيوننا على تكامل شطرَي الوعي وضرورتهما بعضهما لبعض.

وهكذا، وعلى ضوء توحيد النتائج المعرفية والفلسفية للفيزياء الحديثة مع سيكولوجيا الأعماق، تبدو أمامنا المسائل الأساسية للمعرفة، وهي الكون والمادة والحياة والوعي، وقد اجتمعت في مسألة واحدة. وصِرنا نرى هذه العناصر المستقلة كإسقاطات لحقيقة واحدة هي الكلانية التحتية غير المتجزئة. ولكن الوعي الديني قد أحسَّ دومًا بهذه الحقيقة البسيطة، وعبَّر عن هذا الإحساس بمعتقد يقسم الوجود إلى مستويين؛ هما المستوى الظاهري للخبرة الحياتية العادية، والمستوى القدسي الغائب الذي يصدر عنه عالم الظواهر. يجتمع هذان المستويان على استقلالهما الظاهري في دارة وجود واحدة، لُحمتها القوة السارية التي تصدر من عالم اللاهوت لتعطي كل حركة في عالم الناسوت. أو بمصطلح الفيزياء الحديثة؛ الطاقة الصافية، التي تصدر عن النظام المنطوي الخفي، لتتخذ أشكالها على هيئة حوادث دائمة التبدل والتغير في المستوى المنبسط السطحي. إن أشكال المعتقدات الدينية كافة ليست إلا تنويعات على هذه القاعدة الأساسية للحد الأدنى الاعتقادي، الذي توصلنا إليه في دراستنا الحالية.

ولكن وعي الغيب ووعي الصحو لم يكونا دومًا في حالة توازن مثالي. ففي المراحل الأولى للحضارة الإنسانية، كان وعي الغيب يشغل مساحة تزيد عن مساحة وعي الصحو، والإنسان الأول كان يشعر بوحدته مع كل أشكال الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، بل كان يرى أيضًا إلى الكون كعضوية تتخللها حياة واحدة ونفس واحدة. ولقد أنتج هذا الوعي الغيبي الكلاني بالوجود معتقدات المجال القدسي والقوة السارية في ثقافات العصر الحجري والثقافات البدائية، وكل أشكالها الأنضج في الحضارات الكبرى للهند والشرق الأقصى؛ لأن الإنسان كان يواجه الكلانية الوجودية بموقف كلاني، وفِكر كلاني يصدر عن وعيِ غيبه أكثرَ من صدوره عن وعي صحوه. غير أن نمو وعي الصحو على حساب وعي الغيب، ومقابلة الكلانية الوجودية بموقف تجزيئي، وفِكر تجزيئي يصدر عن وعي الصحو أكثر من صدوره عن وعي الغيب، قد أدَّى إلى الظهور التدريجي للإله المشخص، الذي كان بمثابة تسوية سيكولوجية بين شطرَي الوعي. فإذا كان الوجود للأجزاء، فلا بد أن تكون الألوهة شخصًا ذا هوية محدَّدة وكيان مُفارِق؛ وبذلك سار الوعي في إحساس مباشر بالكلانية، إلى إحساس غير مباشر بها عن طريق توسيط كائن ما ورائي يضمن وحدة شطرَي الوجود.

وجِماع القول هو أن الدين لا يقوم على أساسٍ وهمي، ولا على أساس عددٍ من الأفكار الخاطئة التي تم تكوينها في طفولة الجنس البشري؛ فالإحساس الذي يجعل الدين ممكنًا إنما يقوم على اختبارٍ نفسي في وعي الغيب للوحدة الكلية للوجود، ومنعكساته في وعي الصحو. وبصرف النظر عن الإله المشخص الذي يوسِّطه الإحساس بالوحدة الكلية، فإنه يبقى مَعبرًا إلى ما وصفته في الصفحات الأولى بأنه: حالة الوجود الحق.

١  C. G. Jung, Aion, The Collected Works, vol. 9, ii, p. 261.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤