الفصل الأول

أفكارٌ استهلالية: مكانة الدين وتعريفه

(١) مكانة الدين

منذ أن قال أرسطو في الإنسان إنه حيوان ناطق، والفلسفات والعلوم تأتينا بتعريفاتٍ أخرى لهذا الكائن الذي يرغب دومًا في رسم حدود فاصلة بينه وبين شركائه على هذا الكوكب. ونظرًا لتعدد هذه التعريفات، فإني لا أرى حرجًا من أن أُضيف إليها واحدًا جديدًا فأقول بأن الإنسان هو كائنٌ متدين، خصوصًا وأننا الآن بصدد التمحيص في ظاهرة من أهم الظواهر المميزة للجماعات البشرية منذ بدايات تكونها، بل لعلها أهم ظاهرة ميَّزت تلك الجماعات الأولى بعد صناعة الأدوات. إن أول ما انفرد به الإنسان عن غيره من جماعات الرئيسيات العليا هو تشكيل الأدوات الحجرية بواسطة تقنيات الشطف. وبعد ظهور الأدوات الحجرية، ترك لنا الإنسان الأول إلى جانب أدواته شواهد على وسطه الفكري، تشير إلى بوادر دينية لا لبس فيها، وتُبين ظهور الدين إلى جانب التكنولوجيا كمؤشرَين أساسيين على ابتداء الحضارة الإنسانية. ولا زلتُ إلى يوم الناس هذا لا أرى في كل نواتج الحضارة الإنسانية إلا استمرارًا لهاتين الخصيصتَين الرئيسيتين للإنسان؛ فكل ارتقاء مادي تكنولوجي قد تسلسل من تلك التقنيات الحجرية الأولى، وكل ارتقاء فكري وروحي قد تسلسل من تلك البوادر الدينية الأولى وتطوَّر عنها.

كثيرًا ما يُقال لنا بأن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حدًّا للفكر الديني والميثولوجي، وأنها بذلك قد حرَّرت العقل من شروطه القديمة. وهذا الطرح يسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكلٌ أدنى من أشكال النظر العقلي، والفلسفة هي شكله الأرقى والأعلى. واعتمادًا على تَكرار هذه المقولة التي لم تخضع للنقد، فإننا نقبل بالتقسيم المعتاد لتاريخ الفكر الإنساني إلى أربع مراحل، هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. غير أن نظرةً جديدة غير متحيزة على مسار الحياة الفكرية للإنسان، تُظهر لنا بوضوحٍ أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة، ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، وتراجع الفكر الفلسفي قرونًا عديدة قبل أن يُبعَث مجددًا في العصور الحديثة، متوكئًا عصًا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متَّقِد، على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها أمامه الفلسفة مع فترة مدها الأول، فقد بقي أسيرَ التطورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي، التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين والأسطورة، وتبعه غاليلو فنيوتن، فكان لهؤلاء معًا فضل وضع أسُس التفكير العلمي الحديث.

إن التاريخ القريب جدًّا لنجاح العلم والفلسفة في ترسيخ أقدامهما، وما نراه من مقاومة عنيدة للفكر الديني في كل ثقافة من ثقافات العالم الحديث، يجعل من تقسيم تاريخ الفكر إلى مراحل أربع يتوِّجها العلم، مسألةً نظرية لغرض الدراسة، لا أمرًا فعليًّا يعكس واقع الحال. لقد امتصَّ الفكر الديني صدمة انتصار العلم والفلسفة، وما زال يُزاحم وبقوة على اقتسام هوى وعقل الناس في كل مكان. في مطلع القرن التاسع عشر، أنهى العالم الفلكي والرياضي المركيز دي لابلاس مؤلَّفه الموسوعي الضخم عن ميكانيك الفضاء، معتمدًا على حسابات نيوتن وقوانينه، فسار بفكرة الآلة الكونية الجبَّارة التي ابتدعها نيوتن إلى نهاياتها القصوى. وعندما عرَض مؤلَّفه على الإمبراطور نابليون بونابرت، قال له بونابرت: لقد قيل لي إنك قد وصفت في عملك هذا نظام الكون برُمَّته، ولكن من غير أن تشير من قريب أو بعيد إلى خالقه! فأجابه لابلاس: مولاي، إن هذه الفرضية لا ضرورة لها في نظامي.١ غير أن علماء اليوم يُظهرون تواضعًا أكثر من سابقيهم رواد النهضة العلمية، وهم لا يرون غضاضة في الإفصاح عن صلة الفكر العلمي بالفكر الديني السابق عليه. يقول الفيزيائي روبرت أوبنهايمر صاحب الباع الطويل في صُنع أول قنبلة ذرية:
«إن ما أدَّت إليه اكتشافاتنا في عالم الفيزياء من مفاهيم وأفكار حول طبيعة الأشياء، ليست جديدة تمامًا؛ فإضافةً إلى كون هذه الأفكار ذات تاريخ في حضارتنا الغربية، فإنها تتمتع بمكانةٍ مركزية وهامة في الفكر البوذي والهندوسي. ولعلنا نستطيع القول بأن الأفكار الجديدة عبارة عن وثيقة مصدَّقة عن الحكمة القديمة، ونسخة مشذَّبة عنها.»٢

ويقول نيلز بوهر، وهو واحد من أهم مؤسسي فيزياء الكم:

«إذا شئنا العثور على مُوازٍ للدرس الذي تعطينا إياه الفيزياء النووية، فعلينا أن نلتفت إلى تلك المشكلات المعرفية التي واجهت من قبلُ مفكرين من أمثال البوذا ولاو تسي، والتي تتضمن من جملة ما تتضمن وضْعَنا كمشاهدين وممثلين في دراما الوجود الكبرى.»٣

أما فيرنر هايزنبرغ، صاحب تفسير كوبنهاجن المشهور في فيزياء الكم، فيقول:

«إن الإسهام العظيم الذي قدَّمته اليابان مثلًا في الفيزياء النظرية بعد الحرب الأخيرة، يمكن أن يُعتبر دليلًا على وجود قرابة بين الأفكار التقليدية في الشرق الأقصى وبين الجوهر الفلسفي لنظرية الكم. وقد يكون التكيف مع المفهوم الكمومي للواقع أيسر، عندما ينجو المرء من تأثير الأفكار المادية الساذجة التي استمرَّت تُسيطر على أوروبا حتى العقود الأولى من القرن العشرين.»٤

ولقد عثرتُ شخصيًّا على العديد من المشكلات المعرفية المشتركة بين الفيزياء الحديثة وفِكر محيي الدين بن عربي، وذلك في غمار دراستي للفيزياء الكوانتية تحضيرًا للفصل ما قبل الأخير من هذا الكتاب، ونقاط التشابه من الكثرة والتنوع بحيث تستدعي من أحد المهتمين دراسةً تفصيلية مطوَّلة.

إن ما أودُّ التوكيد عليه هنا هو أن الدين والفكر الديني ليس مرحلةً منقضية من تاريخ الفكر الإنساني، بل هو سمةٌ متأصلة في هذا الفكر، وإذا كانت هذه السمة قد أعلنت عن نفسها زمنيًّا قبل غيرها، فكان الدين مصدرًا بدئيًّا للثقافة الإنسانية، فإن كل المؤشرات تدل على أنه ما زال حيًّا ومؤثرًا بطريقة لا يمكن تجاهلها؛ ولهذا لن يتسنى لنا أبدًا فهم الحاضر الفكري الغني للإنسان، إذا نحن أبقينا على هذا المصدر البدئي والمُحرض الدائم في دائرة الظل، أو تابعنا النظر إليه بمفهوم عصر التنوير الأوروبي، باعتباره لغزًا أو فوضى فكرية مرتبطة بطفولة الجنس البشري.

(٢) تعريف الدين

غالبًا ما يبدأ المؤلفون، الذين أخذوا على عاتقهم دراسة الظاهرة الدينية، بوضع تعريف للدين؛ لأنه بدون هذه الخطوة المبدئية قد يجد الباحث نفسه وهو يلاحق ظواهر بعيدة عن الدين، أو يتابع جوانب ثانوية من الدين على حساب جوانبه الرئيسية؛ إلا أن محذور هذه الطريقة يكمن في أن التعريف قد يقود في سُبلٍ مضللة، إذا لم تكتمل صياغته عقب دراسة متأنية لتجليات الظاهرة الدينية عبر التاريخ، ولدى مختلف الجماعات البشرية؛ لأنه في هذه الحالة سوف يعكس المواقف المسبقة للباحث وإسقاطاته الخاصة، أو مواقف وإسقاطات الثقافة التي ينتمي إليها ونظرتها إلى الثقافات الأخرى. فنحن هنا أمام مأزق فِعلي يتعلق بالمنهج؛ ذلك أن التعريف المسبق ضروري من أجل تحديد وتوضيح مجال الدراسة، ولكننا في الوقت نفسه قد لا نستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن نقطع شوطًا واسعًا في دراستنا للظاهرة الدينية، ونتقدم نحو نهاياتها. من هنا يجنح بعض المؤلفين إلى وضع تعريف أولي لا يهدف إلا إلى رسم الإطار العام لدراستهم، ولا يدَّعي الشمول والإطلاق. يقول وليم جيمس في بداية كتابه The Varieties of Religious Experience:
«رغم أنه من غير الحكمة وضعُ تعريف للدين ثم المُضي في الدفاع عنه في وجه كل الاعتراضات؛ فإن هذا لن يقف حائلًا دون قيامي بتقديم وجهة نظر محدودة بغرض وأهداف هذا الكتاب. فمن بين المعاني المتعددة للكلمة سوف أختار معنًى محددًا تدور حوله هذه المحاضرات؛ فالدين الذي أعنيه هنا هو الأحاسيس والخبرات التي تَعرِض للأفراد في عزلتهم، وما تقود إليه من تصرفات. وتتعلق هذه الأحاسيس والخبرات بنوع من العلاقة، يشعر الفرد بقيامها بينه وبين ما يعتبره إلهيًّا …»٥

ولكن بما أن مجال بحثي هنا يتجاوز المجال الذي حدَّده وليم جيمس لدراسته، فإنني سوف أتوقف قليلًا عند بعض من أهم التعريفات المتداولة في حقل دراسة الدين، والتي طمحت في وقتها للإحاطة بالظاهرة الدينية، وذلك قبل أن أتناول الموضوع من جانبي. وقد تحاشيت، فيما يأتي، استعراض الآراء الفلسفية البحتة؛ لأن الآراء الفلسفية غالبًا ما تعكس وجهة نظر شخصية نابعة من النُّظم الفلسفية لأصحابها، لا من دراسة شاملة للظاهرة الدينية.

تقوم فكرة «فوق الطبيعي» Supernatural أساسًا لعدد من التعريفات. والتعبير هنا يشير إلى كل ما يتجاوز حدود المعارف الإنسانية ويقع في نطاق السِّر والمجهول؛ فالدين هو تفكرٌ في كل ما يتأبى على العقل العلمي والتفكير الواضح. يقول هربرت سبنسر: «إن الأديان على قدر اختلافها في عقائدها المعلنة، تتفق ضمنيًّا في إيمانها بأن وجود الكون هو سِر يتطلب التفسير.» ولذا فإن الدين بالنسبة إليه هو: «الاعتقاد بالحضور الفائق لشيءٍ غامض وعصيٍّ على الفهم.»٦ ويدور تعريف ماكس مولر (١٨٢٢–١٩٠٠م)، الفيلسوف ومؤرخ الأديان الألماني، حول الفكرة نفسها، فيقول في كتابه نحو علم للدين:
«إن الدين هو كدح من أجل تصوُّر ما لا يمكن تصوُّره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه؛ إنه توقٌ إلى اللانهائي.»٧

وهناك اتجاه في التعريف يقوم على فكرة «الألوهة». يقول م. رافيل في كتابه مقدمة في تاريخ الأديان:

«إن الدين هو اشتراط الحياة الإنسانية بإحساس بالاتصال بين العقل الإنساني وعقل خفي يتحكم بالكون، وما ينجم عن ذلك من شعور بالغبطة.»٨
ويقول ف. شلرماخر F. Schleirmacher (١٧٦٨–١٨٣٤م)، وهو لاهوتي ودارس أديان:
«إن الدين هو شعور باللانهائي واختبار له. وما نعنيه باللانهائي هنا هو وحدة وتكامل العالم المدرك. وهذه الوحدة لا تواجه الحواس كموضوع، وإنما تُنبئ عن نفسها للمشاعر الداخلية. وعندما تنتقل هذه المشاعر إلى حيز التأملات، فإنها تُخلِّف في الذهن فكرة الله. وإن الخيال الفردي هو الذي يسير بفكرة الله إما نحو المفارقة والتوحيد، أو نحو شكل غير مشخَّص للألوهة يتَّسم بوحدة الوجود.»٩
ويرى بعض الباحثين أن فكرة الألوهة إذا أُخذت بمدلولها الضيق فإنها تترك كثيرًا من الأديان خارج دائرة التعريف، وهي الأديان التي تضع في بؤرة معتقدها كائنات روحية من مختلف الأنواع، كأرواح الموتى والأرواح الحالَّة في مظاهر الطبيعة المختلفة، والتي لا تنضوي تحت مفهوم الآلهة المعتاد. من هنا يرى إدوارد تيلور (١٨٣٢–١٩١٧م)، وهو مؤسس الأنتروبولوجيا في بريطانيا، أن التعريف الأشمل ينبغي أن يستبدل مفهوم الآلهة بمفهوم «الكائنات الروحية» الأكثر عمومية. يقول تيلور في كتابه Primitive Culture:
«إن المتطلب الأول في الدراسة المنهجية لأديان الشعوب البدائية، هو وضع تعريف بدائي للدين؛ ذلك أن التوكيد على الإيمان بكائنٍ أعلى، من شأنه أن يُخرج المعتقدات البدائية من دائرة الدين؛ لأن مثل هذا الإيمان هو مرحلةٌ متطورة من الحياة الدينية. من هنا، فإن الأفضل أن نضع حدًّا أدنى لتعريفٍ يقتصر على الإيمان بكائنات روحية.»١٠

والمقصود بالكائنات الروحية عند تيلور، هو كائناتٌ واعية تمتلك قوًى وخصائص تفوق ما لدى البشر. ويدخل في عداد هذه الكائنات كلُّ أنواع الأرواح والعفاريت والجن، التي تفترض الذهنية البدائية تداخُل عالمها بعالم البشر، كما يدخل في عدادها أيضًا الآلهة بالمعنى المعتاد للكلمة. وبما أن هذه الكائنات ليست قوًى غفلة عمياء، بل تتمتع بالوعي والإرادة، فإن العلاقة معها تتميز بمحاولة التأثير عليها واستمالتها للوقوف إلى جانب الإنسان، سواء بالكلمات المناسبة أو بالذبائح والتقدمات وما إليها. وهنا يأتي جيمس فريزر (١٨٥٤–١٩٤١)، الأنتروبولوجي البريطاني المعروف، ليقدم تعريفًا مكملًا لتعريف تيلور. يقول في كتابه الغصن الذهبي الذي صدر في طبعته المختصرة عام ١٩٢٢م:

«إن صياغة تعريف واحد من شأنه إرضاء كل الآراء المتصارعة حول الدين، هو أمرٌ غير ممكن التحقيق. من هنا فإن كل ما يستطيعه الباحث هو أن يحدد بدقةٍ ما يعنيه بكلمة الدين، ثم يعمل على استخدام هذه الكلمة عبر مؤلَّفه بالمعنى الذي حدَّده لها منذ البداية. وعليه، فإننا نفهم الدين على أنه عملية استرضاء وطلب عون قُوًى أعلى من الإنسان، يعتقد أنها تتحكم بالطبيعة والحياة الإنسانية. وهذه العملية تنطوي على عنصرَين، واحد نظري والآخر تطبيقي عملي؛ فهناك أولًا الاعتقاد بقوًى عُليا، يتلوه محاولات لاسترضاء هذه القوى. ولا يصح الدين بغير توفُّر هذين العنصرَين؛ ذلك أن الاعتقاد الذي لا تتلوه ممارسةٌ هو مجرد لاهوت فِكري، أما الممارسة المجردة عن أي اعتقاد فليست من الدين في شيء.»١١
في كتابه The Elementary Forms of Religious Experience، يوجه إميل دوركهايم، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (١٨٥٨–١٩١٧م)، نقدًا شديدًا للتعريف الذي قدَّمه فريزر؛ لأنه يقصُر الدين على الممارسات التي تتضمن توسلًا لكائناتٍ ما ورائية تسمو على الإنسان. ويرى دوركهايم أن أمثال هذا التعريف تلقى قبولًا في الغرب بسبب مطابقتها من حيث الأساس لمفهوم الدين المسيحي، ولكنها لا تنطبق على أديان عدة واسعة الانتشار لا تدور معتقداتها حول أرواح أو آلهة من أي نوع، أو أن هذه الكائنات لا تلعب فيها إلا دورًا ثانويًّا جدًّا؛ فالبوذية مثلًا قد شقَّت لنفسها طريقًا مستقلًّا عن البراهمانية في الهند، انطلاقًا من رفض فكرة الإله؛ فهي نظامٌ أخلاقي بدون مُشرِّع، وإيمان بدون إله. إن البوذي غير معني إطلاقًا بمن خلق العالم وكيف، وجلُّ همه يتركز في الكدح من أجل التحرر وتخليص روحه من سلسلة التقمصات في عالم لا يحمل إلا الألم والشقاء. وهو في كدحه هذا لا يستعين بأي كائن ما ورائي من أي نوع، بل يعتمد على قُواه الذاتية وحدها. أما الآلهة، فليست، في حال وجودها، إلا كائنات أقدر من الإنسان على التحكم في عالم المادة، ولكنها أسيرةٌ مثله في عالمٍ بائس عليها أن تُخلِّص نفسها منه أيضًا.
انطلاقًا من هذا النقد، يرى دوركهايم أن أي تعريف للدين يجب أن ينطبق على جميع الديانات، من أكثرها بدائية إلى أكثرها تطورًا وتعقيدًا. ولكي نستطيع صياغة مثل هذا التعريف، ينبغي لنا أن نبحث عما هو مشترك بين الديانات المعروفة جميعًا، ونُسقط من حسابنا تلك الأفكار والمعتقدات التي يختص بها دينٌ دون آخر. ولما كانت القوى الفاعلة في الطبيعة ليست وقفًا على قوى الكائنات الروحية المشخصة كالآلهة وغيرها (وهذه نقطة سوف نعمل على توضيحها بكثير من التفصيل لاحقًا)، فإن الدين لا يمكن تعريفه انطلاقًا من علاقة الإنسان بهذه الكائنات. وبدلًا من التوكيد على مفهوم الألوهة ومفهوم الكائنات الروحية، يجد دوركهايم أن كل المعتقدات الدينية، بسيطها ومركَّبها، تنطوي على خصيصة عامة مشتركة؛ فهي تفترض تقسيمًا لكل الأشياء المنظور منها والغيبي، يضعها في زمرتين؛ زمرة المقدس وزمرة الدنيوي Sacred and Profane. وهو يرى أن هذا التقسيم إلى عالمين، يحتوي الواحد منهما على كل ما هو مقدس والآخر على كل ما هو دنيوي، هو السمة الأساسية المميزة للفكر الديني، وأن كل التمثيلات الدينية ما هي إلا وسائل تعبير عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقتها ببعضها أو علاقتها بالأشياء الدنيوية. من هنا يمكن أن نفهم لماذا تعتبر البوذية دينًا رغم استبعادها للآلهة من معتقدها؛ فهي عوضًا عن الإيمان بإله يتمركز حوله المعتقد والطقس، فإنها تؤمن بالحقائق النبيلة الأربع وما يتفرع عنها من ممارسات. إضافة إلى هذه السمة الأساسية للدين، فإن تعريف دوركهايم يؤكد على ناحية أخرى ضرورية، وهي الطابع المجتمعي للدين؛ فالمعتقد الديني الحقيقي هو على الدوام معتقد لجماعة معيَّنة من الناس يقتصر عليها ويميزها عن غيرها من الجماعات. والأفراد الذين يؤلفون هذه الجماعة يشعرون بصلة بعضهم مع بعض، وبالترابط داخل وحدة اجتماعية خاصة بهم انطلاقًا من واقعة امتلاكهم لمعتقد ديني خاص بهم. ويُطلق دوركهايم على مثل هذه الجماعة المتحدة بالمعتقد اسم الكنيسة. وبناءً على ذلك يصوغ إميل دوركهايم التعريف التالي:
«الدين هو نظامٌ متَّسِق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى أنواع التحريم. وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة تُدعى كنيسة.»١٢
والموضوعات المقدسة التي يشير إليها تعريف دوركهايم لا تقتصر على المجردات والغيبيات؛ لأن مفهوم القدسي يمكن أن يشتمل على الموضوعات المادية والمعنوية في آنٍ معًا. من هنا فإنه يرى ضرورة وضع معيار للتمييز بين ما هو مقدس وما هو دنيوي في معتقدات وممارسات الجماعة، وهذا المعيار لا يعتمد على المكانة التي يشغلها المقدس في هرميةٍ ما لنظامٍ مؤسس للأشياء، وما تُسبغه عليه هذه المكانة من قوة ونُبل وما إليها، كما لا يعتمد على العلاقة الدونية التي تسمُ علاقة الأدنى بما هو أعلى منه؛ فهذه السمات وغيرها قد تنطبق على المقدس ولكنها لا تميزه تمامًا. إن ما يميز المقدس فعلًا هو تغايُره المطلق Heterogeneity عن الدنيوي، بحيث إننا لا نكاد نعثر في تاريخ الأفكار الإنسانية على زمرتين متضادتين ومتعارضتين، كحال المقدسات والدنيويات. وإلى جانب ذلك، فإن طائفة من التحريمات (= تابو) تتكاثر في طقوس الثقافات البدائية، من أجل العزل الدائم بين المقدس والدنيوي ومنع اختلاطهما، وذلك مثل التحريمات المتعلقة باللمس أو النطق أو النظر … إلخ. ومع ذلك فإن العبور بين العالمَين ممكن، ولكن من خلال نوع من الطقوس التي يدعوها الأنتروبولوجيون بطقوس التعدية (= طقوس العبور= الطقوس الإدخالية = Initiation).

لقد أثَّرت أفكار دوركهايم على كثير ممن جاء بعده من دارسي الدين. ولعل أكثر من تأثَّر من الباحثين المعاصرين بفكرة المقدس والدنيوي كناظم للتعرف على الظاهرة الدينية، هو مؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد، الذي أصدر عام ١٩٥٦م كتابًا تحت عنوان «المقدس والدنيوي»، درس من خلاله الظاهرة الدينية استنادًا إلى التمييز بين زمرتَي المقدسات والدنيويات؛ مما أرسى أسُسه دوركهايم قبل ذلك بزمن طويل. يقول إلياد:

«يتجلى القدسي دائمًا كحقيقة من صعيد آخر غير صعيد الحقائق الطبيعية … ويعلم الإنسان بالقدسي لأنه يتجلى، يظهر نفسه شيئًا مختلفًا كل الاختلاف عن الدنيوي. ويمكننا القول إن تاريخ الأديان، من أكثرها بدائية إلى أكثرها ارتقاءً، عبارة عن تراكم من تجليات الحقائق القدسية. ليس ثَمة انقطاع لاستمرار الظهورات الإلهية، بدءًا من تجلي القدسي في شيء ما كحجر أو شجر، وانتهاءً بالتجلي الأعلى الذي يتمثل لدى المسيحي بتجلي الله في يسوع المسيح؛ إنه الفعل الخفي نفسه: تجلي شيء مختلف تمامًا، أي حقيقة لا تنتسب إلى عالمنا، في أشياء تُشكل جزءًا لا يتجزأ من عالمنا الطبيعي الدنيوي.»١٣
وأخيرًا، لا بد لأي حديث في تعريف الدين من أن يتوقف عند رودولف أوتو (١٨٦٩–١٩٣٧م)، وهو لاهوتي ألماني وباحث في تاريخ وفينومينولوجيا الدين؛ وذلك نظرًا للسلطة الكبيرة التي مارسها في كتابه «فكرة المقدَّس» على الدراسات الدينية، منذ صدوره عام ١٩١٧م. يعالج أوتو في كتابه، وبشكلٍ أوضح وأوسع، الفكرة التي كان قد تقدَّم بها شلرماخر حول وجود وعي بالقدسي مغروس في النفس الإنسانية. وهو يبدأ القول بأن القدسي قد فقد معناه الأولي وتحوَّل إلى جملة من التشريعات الأخلاقية والتقوى السلوكية. أما الحالة الأصلية للوعي بالقدسي، فتجربةٌ انفعالية غير عقلية هي أساس الدين. وتنطوي هذه التجربة على مجابهة مع قوة لا تنتمي إلى هذا العالم، تعطي إحساسًا مزدوجًا بالخوف والانجذاب في آنٍ معًا. إنها تجربة مع الآخر المختلف كليًّا، تأبى على الوصف بالمصطلحات والتعابير المعتادة في وصف التجارب الأخرى. وإن الانقياد إيجابيًّا لهذه التجربة فكرًا وعملًا هو الذي يُكوِّن الدين. ويطلق أوتو على الإحساس بحضور الآخر المختلف كليًّا تعبير الإحساس النيوميني Numinous، وقد نحته من الكلمة اللاتينية Numen التي تعني تجلي الألوهة، كما تعني قوة أو إرادة الألوهة. وهو يرى أن هذا العنصر النيوميني في التجربة الدينية هو حالة أولانية Apriori للوعي، وتكمن في البنية الأساسية لكل التجارب الدينية.١٤

ومنهج أوتو في كتابه منهجٌ سيكولوجي ظاهراتي؛ فلقد حاول وصف البنية الأساسية للدين، ورد الفعل الإنساني على خبرة القدسي، موضحًا لا جدوى المقتربات العقلانية في دراسة الدين؛ ذلك أن الدين هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية، وموجود معها منذ البداية. وبينما تكون التعبيرات الظاهرية عن الدين عُرضة للتغير والتبدل مع الزمن، فإن التكوين السيكولوجي الذي يجعل الدين ممكنًا عند الإنسان ثابت لا يتغير.

أكتفي بهذا العدد من التعريفات التي اخترت تقديمها هنا، من أجل رصف مدخل سهل يضعنا في صلب الموضوع. ولعل الاستعراض السريع لما قدَّمته، يظهر الاختلاف الواسع في وجهات النظر إلى الدين. وهذا الاختلاف لا يرجع في رأيي إلى عدم قابلية الظاهرة الدينية للإحاطة والتعريف، بل إلى التباين في الأفضليات وزوايا النظر. وهذا الوضع لا يقتصر على مادة دراستنا هنا، بل إنه شأنٌ معتاد كلما تعلق الأمر بظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية. فالعائلة الإنسانية مثلًا تبدو لناظرها بشكل يختلف باختلاف زاوية نظره؛ فهي لعالم الاجتماع الوحدة الأساسية المكونة للمجتمع، وهي لعالم النفس التربة الخصبة للصحة أو للمرض النفسي، وللمُصلح الاجتماعي وسيلة ضبط وتنظيم جنسي وعاطفي، ولبعض أصحاب الاتجاهات السياسية الجذرية وسيلة قمع في يد الطبقات الحاكمة. وبين هذا وذاك، تبقى العائلة ظاهرة إنسانية قابلة للإحاطة والتعريف، ولكن من منطلق شمولي يهدف إلى الكشف عن ماهيتها دون معيار مسبق، ومن غير السعي إلى تقييمها وإصدار حكم أخلاقي بشأنها. وفي مجال الدين، فإني أرى أن اختلاف وجهات النظر ناجم عن عدم التفريق، غالبًا، بين ثلاثة تبديات ملحوظة للظاهرة الدينية مما سأبسطه فيما يأتي.

١  Fritjof Capra, The Tao Of Physics, Flaminco, Glasco 1983, p. 66.
٢  Openheimer, Science and the Common Understanding, Oxford, London 1954, pp. 8–9.
٣  N. Bohr, Atomic Physics and Human Knowledge, John Wiley, New York 1953, p. 2.
٤  Heisenberg, Physics and Philosophy, Alen and Unwin, London 1963, p. 125.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب تحت عنوان: فيزياء وفلسفة، ترجمة أدهم السمان، دمشق ١٩٨٤م، ص١٩٤.
٥  William James, op. cit, pp. 31–32.
٦  H. Spencer, First Principles, p. 27 (quoted in: E. Durkheim, The Elementary Forms of Religious Experience, p. 39).
٧  Max Muller, Introduction To The Science of Religion, p. 18 (quoted in: E. Durkheim, op. cit, p. 39).
٨  M. Reville, Prolegomena to the History of Religions, p. 25 (quoted in, E. Durkheim, The Elementary Forms, p. 44).
٩  B. A. Grish, F. Shchleirmacher (in: Encyclopedia of Religion, V. 13, p. 112).
١٠  E. B. Tylor, Primitive Culture, London 1903 p. 424.
١١  James Frazer, The Golden Bough, MacMillan, London 1971, pp. 57–58.
١٢  Emile Durkheim. The Elementary Forms of Religious Experience, pp. 50–63.
١٣  M. Eliade, The Sacred and the Profane, Harvest, New York 1969, pp. 9–10.
انظر أيضًا ترجمة نهاد خياطة، المقدَّس والدنيوي، دمشق ١٩٨٧م، ص١٢–١٣.
١٤  من أجل أفكار أوتو المعروضة هنا، انظر القسم الأول وحتى الصفحة ٤٠ تقريبًا من الترجمة الإنكليزية: Rudolf Otto. The Idea of the Holy, 3rd edition, New York 1970.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤