تبديات الظاهرة الدينية
تتبدَّى الظاهرة الدينية في ثلاثة أشكال يمكن وصفها، إما بالمراقبة المباشرة أو بالاستماع إلى شهادات الأفراد عن خبراتهم الشخصية. وهذه الأشكال هي:
-
(١)
الدين الفردي، وسأطلق عليه اسم الخبرة الفردية أو الحس الديني.
-
(٢)
الدين الجمعي، وهو نتاج مُرشَّد للخبرات الدينية الفردية.
-
(٣)
الدين المؤسساتي، وهو البنية المصطنعة التي تقوم فوق الدين الجمعي في المجتمعات ذات التكوين السياسي والاجتماعي المركب.
(١) الدين الفردي
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الإنسان في أعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين؛ فإذا كان لكل بناء سامق أساسٌ يقوم عليه، فإن بناء الدين إنما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية. وإذا أردنا الإخبار عن هذه الخبرة الأساسية، اعتمادًا على الاستبطان وعلى شهادة الآخرين ممن عبَّروا عن تجاربهم تلك، قلنا إنها إحساسٌ أوَّلاني متمكن من السيكولوجيا الإنسانية، قوامه مواجهة فريدة مع قوة شمولية منبثة في هذا العالم، تبدو متصلة به قدر استقلالها عنه. إنه المقدس الكلي وقد صار ماثلًا في النفس التي تختبر حضوره بكليتها وفي معزل عن أي موقف عقلاني نقدي. وكما لاحظ رودولف أوتو، بحق، فإن هذا الإحساس هو واقعة نفسانية، لا تنشأ عن أية إرادة أو تصميم مسبق، بل العكس هو الصحيح تمامًا؛ ذلك أن الفرد يجد نفسه تحت سلطان هذا الإحساس، دون مقدرة منه على توجيهه أو التحكم به، فهو ضحيته أكثر منه خالقًا له. ونظرًا لهذا الطابع الانفعالي غير العقلاني الذي تتسم به التجربة، فإن التعبير عنها بلغة الواقع المُعاش ومفردات التجارب اليومية، هو أمر على غاية من الصعوبة.
إن أكثر ما أودُّ التوكيد عليه هنا، هو أن اختبار القدسي من خلال الحالة الانفعالية التي وصفتها، هو أمرٌ سابق على أي تصور عقلاني لإله مشخص أو كائنات روحية متفوقة واعية. فغير العقلاني في هذه التجربة يسبق العقلاني، والتعبير الرمزي عن الكلانية الحاضرة في النفس يسبق المفاهيم. من هنا فإن شارة القدسي قد سبقت تمثال الإله المشخص، أو صورته المرسومة، في تاريخ الأديان البشرية. ولسوف أوضح بالتفصيل في فصول لاحقة، ومن خلال معالجتي الخاصة لديانات العصر الحجري القديم والحديث، كيف تقدَّمت الرموز التشكيلية التي تشير إلى «الألوهة» تمثال الإله، وكيف تكوَّنت صور الآلهة نتيجة للتوتر الذي يحصل بين الخبرة الأولانية بالقدسي من جهة والأفكار المُرشَّدة من جهة أخرى.
هذا الحس الديني، أو الخبرة الدينية الفردية، ليس ظاهرة يمكن مراقبتها ووصفها من الخارج، وإنما هو أمرٌ ذاتي يُختبر فرديًّا، ولا يستطيع الباحث أن يعرف عنه إلا بالتنقيب في ذاكرته وسيرته الذاتية، وبالاستماع إلى شهادات الآخرين التي ما فتئت تتالى منذ بدايات التاريخ المكتوب. وهو لا يختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون أخرى، بل يتعرض له الجميع وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معه بدرجات متفاوتة أيضًا من القبول والاعتراف، خصوصًا في العصر الحديث حيث يباهي معظمنا بركونه إلى العقل وبُعده عن كل ما لا يمتُّ إلى العلم التجريبي بصلة، في زمن تراجعت فيه الآلهة عن مواقعها القديمة، وباتت (على حد تعبير غوستاف يونغ) سيئة السمعة إلى حد كبير. وفي حال إفساح المجال كاملًا أمام هذه الخبرة الدينية المباشرة، أو اقتحام الحس الديني ساحة الشعور وتجاوزه كل مقاومة مصطنعة، فإن الفرد غالبًا ما يلجأ إلى تحويل مساره ليصبَّ في عقيدة مؤسسة ومصاغة في قالب ثابت، تنشأ حولها طقوسٌ معروفة للجميع، تدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. وحول هذا الموضوع يقول يونغ:
في العقيدة والطقس المؤسسَين اجتماعيًّا، تذوب الخبرات الفردية في خبرة واحدة مشتركة، هي الدين الجمعي. أما أولئك الأفراد الذين يستسلمون للخبرة المباشرة دون التماس عون من معتقدات وطقوس جمعية، فهم غالبًا من طينة المتصوفة والشامانات ومؤسسي الديانات الجديدة. فعند هؤلاء تبلغ الخبرة الدينية المباشرة درجةً عالية من الشدة، تُنتج ما ندعوه بحالة الوحي، وهي أقصى حالات المواجهة بين الفرد المنعزل والمقدس الكلي. وأعلى درجات الوحي هي الدرجة التي تدعو إلى الفعل، إلى تغيير المعتقد السائد بدلًا من الهروب إليه؛ أي إن وطأة الخبرة الدينية تدعو إما إلى تحويلها إلى مسار العقيدة الجمعية، وإما إلى تحويل العقيدة الجمعية إليها. نقرأ عن تجربة النبي إرميا في التوراة:
كانت كلمة الرب إليَّ قائلًا:
وفي أكثر من موضع نقرأ «وكانت يد الرب عليَّ»، أو «وكانت يد الرب قوية عليَّ»، في إشارة من النبي إلى قوة الوحي القاهرة التي لا يستطيع حيالها شيئًا سوى الامتثال. وفي خِضم نطقه بالنبوءة، غالبًا ما تتلاشى شخصية النبي ليجري لسانه بخطاب مباشرةً من القدرة الإلهية إلى الناس. وها هو إشعيا يقول:
ولعل أوضح مثال من التراث الصوفي الإسلامي على هذا النوع من الوحي الخاص، ما تركه لنا النفري في مواقفه ومخاطباته؛ فعندما يبتدئ النفري موقفًا من مواقفه بالقول «فأوقفني في … وقال لي …»، أو عندما يبتدئ مخاطبته بقوله «يا عبدي …»، فإنما يُعبر عن أشد حالة من حالات الوحي التي يمكن أن يتعرض لها بشرٌ من خلال تجربته الدينية الفردية، بعد تجارب الأنبياء، يقول:
أما في المخاطبات فتغيب صيغة «أوقفني وقال لي …» ليحل محلها خطابُ الحق مباشرةً على لسان النفري:
وفي المجتمعات الشامانية، حيث لم يصل الدين بعد إلى درجةٍ كافية من التقنين والتنظيم للتجربة الروحية الجمعية، تتركز الحياة الروحية للقبيلة حول شخصية واحدة فذَّة هي الشامان. إن ما يميز الشامان في مجتمعات الصيد هذه عن الكاهن في المجتمعات الزراعية المستقرة، هو تفرُّد التجربة الروحية الفردية للشامان عمن سبقه وعمن سيَليه من الشامانات؛ إنه لا يسير في طريقٍ سلكه سلفه، ولا يُعبِّد طريقًا لخلفه، بل يرتقي بقواه الخاصة ثم لا يعمل على تقنين تجربته لتكون حذوًا لغيره. أما الكاهن فإنه (رغم القوى الخاصة التي يتمتع بها، والتي أهَّلته أصلًا لأن يلعب دور الموجِّه الروحي) يلعب دورًا مرسومًا بدقة في دين الجماعة المؤسس منذ القِدم على قواعد ثابتة، وما على الكاهن إلا السير على مسالك من سبقه من الكهنة. وهذا ما يُفرق الشامان أيضًا عن مؤسس الديانة الجديدة؛ لأن طريقة الشامان تنتهي بموته، أما طريقة مؤسس الديانة فتغدو نمطًا لكل الجماعة ولكل من يجيء بعده خليفة.
يمرُّ الشامان قبل ارتقائه لمنصبه الروحي الرفيع بتجربة وجدية فردية بالغة الغرابة والشدة، فيصعد إلى السموات العلا ويهبط إلى الدرك الأسفل من الجحيم؛ لكي يتمرَّس بالعوالم القدسية أبيضها وأسودها، فيصبح بعد ذلك أهلًا لوظيفته، التي تقوم على التوسط بين عالم الناس وعالم الأقداس. وعندما يُنهي المرشح تجربته بنجاح يُرسَّم شامانًا طيلة حياته من قِبل أفراد القبيلة، ليدافع عنهم ضد الأرواح الشريرة والأمراض والسحر الأسود، ويُنمي بينهم الصحة والحياة السليمة والخصب. وقد جمع الأنتروبولوجيون المعاصرون عددًا من الشهادات المباشرة عن تجربة الشامان الروحية، وهذه شهادة شامان من سيبيريا، حيث نعثر على الشامانية في شكلها الأنقى، يقول:
ويصف آخرُ المعراجَ الذي تقوم به روح الشامان في فترة التهيئة، فيقول:
إن هروب الفرد من خبرته الدينية المنعزلة إلى الجماعة، أو جذب الجماعة إلى تجربته عوضًا عن ذلك، هو الذي يخلق ما أسميته بالدين الجمعي، وهو التبدي الثاني للظاهرة الدينية.
(٢) الدين الجمعي
تتخذ الظاهرة الدينية سِمَتها الجمعية عندما يأخذ الأفراد بنقل خبراتهم المنعزلة إلى بعضهم بعضًا، في محاولة لتحقيق المشاركة والتعبير عن التجارب الخاصة في تجربة عامة، وذلك باستخدام مجازات من واقع اللغة، وخلق رموز تستقطب الانفعالات الدينية المتفرقة في حالة انفعالية مشتركة، وهذا ما يقود إلى تكوين المعتقد، وهو حجر الأساس الذي يقوم عليه الدين الجمعي. فهنا تتعاون عقول الجماعة، بل وعقول أجيال متلاحقة ضمن هذه الجماعة، على وضع صيغة مُرشَّدة لتجربتها. وعندما يوضع المعتقد الديني في صيغته الناجزة وأطُره الثابتة، يجد الأفراد أنفسهم مضطرين، وبدافع الميكانيكية التي تربط الفرد بالجماعة، إلى التماثل معه، وإلى فهم وتفسير خبراتهم وفقه. ومع المعتقد الذي ترسَّخ الآن يظهر الطقس المنظم، وهو أقوى أشكال التعبير عن الخبرة الدينية وقد انتقلت إلى مستواها الجمعي. فمن خلال القرابين والرقص والحركات الدرامية التي تؤدى وفق سيناريو ثابت، تعمل الجماعة على دمج الاستجابات الانفعالية المتفرقة في استجابةٍ ذات طابع مؤسس عام، ترسم موقف الجماعة الخاص من القدسي الذي تستشعر حضوره الشامل في النفس وفي الطبيعة. ومع المعتقد أيضًا تظهر الأسطورة التي تعمل على توضيح الاعتقاد وتجذيره. ولسوف أتوقف فيما بعد عند هذه العناصر الثلاثة وأشرحها بالتفصيل؛ لأني أرى فيها المكونات الأساسية للدين.
ويمكن مقارنة العلاقة بين الدين الفردي والدين الجمعي بالعلاقة بين الفرد والمجتمع؛ فنحن مهما عُدنا بالزمن إلى الوراء، لا نستطيع تلمُّس دلائل تشير إلى وقتٍ عاش خلاله الأفراد البشريون في عزلة عن بعضهم البعض، بل إننا نواجه الإنسان على الدوام ضمن جماعة، حتى عند أسلاف «النياندرتال» من أشباه الإنسان. غير أن حقيقة اجتماعية الفرد البشري لا تنفي حقيقته الأخرى ككائن ذي وجود مستقل، بل إن هذا الوجود الفردي المستقل هو الوحدة الأساسية التي يقوم عليها بناء المجتمع، وهذا ما ينطبق أيضًا على الدين الفردي والدين الجمعي. لقد حكى ابن طُفيل الأندلسي في كتابه «حي بن يقظان» عن كائن بشري عاش حياته في عزلةٍ كاملة عن الأناسي منذ أن التقطته غزالة في القفر وأرضعته، وشرح لنا الخبرة الدينية لهذا الكائن، وكيف توصَّل إلى اعتقادٍ ديني معين من خلال حركته الذهنية والنفسية ودونما إيحاء من أحد. غير أننا في الواقع لا نستطيع العثور على مثل هذا الكائن في ماضي البشرية وحاضرها، لنختبر عنده نشوء الحس الديني وتحوُّل هذا الحس إلى معتقد ناضج. ومع ذلك فإن هذا لا ينفي، في اعتقادي، أن الدين كظاهرة اجتماعية إنما يقوم انطلاقًا من ظاهرة فردية في أساسها.
ويعتقد كارل غوستاف يونغ بوجود جدلية لا غِنى عنها بين الدين المؤسس اجتماعيًّا وبين الخبرة الدينية الفردية المباشرة. وهو يرى أن للدين وظيفةً نفسية كبيرة الأهمية في المجتمع؛ لأنه يُقدم للأفراد جملة من الرموز الموظفة في معتقد وطقس منظمين تنظيمًا مكينًا، من شأنها التعويض عن الخبرة الدينية المباشرة وردُّ غائلتها في الأحوال الشديدة. وقد شرح حالات كثير من مرضاه النفسانيين الذين واجهوا تجربة دينية ساحقة في ظل الإصرار على رفض الخضوع لسلطان مرجع ديني، وشرَح كيف رافقهم في انهياراتهم النفسية الشديدة، حتى لقد بات مقتنعًا بما للعقيدة والطقس من أهمية عظيمة بما هما منبعان للصحة العقلية. يقول في كتابه «الدين في ضوء علم النفس»:
وهذا ما يقودنا إلى المؤسسة الدينية، وهي التبدي الثالث للظاهرة الدينية وفق تصنيفنا.
(٣) المؤسسة الدينية
يختلط مفهوم الدين اليوم بفكرتنا عن المؤسسة الدينية وموقفنا منها إلى درجة تبعث على التشويش، وتؤدي إلى نتائج مُفجِعة في بعض الأحيان. ولعل أوضح مثال على ما أسوقه هنا، هو تلك الجملة التي وردت في كتاب للفيلسوف الاجتماعي كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م)، والتي تقول بأن «الدين أفيون الشعوب». فلقد تحولت هذه الجملة، بعد أن انتُزعت من سياقها، إلى شعارٍ رفعته أحزاب في موقع السلطة، وحاربت من خلاله كل أشكال الحياة الدينية، حتى ظنَّت أنها قادرة على اجتثاث الميل الديني من نفوس الناس طرًّا. والحقيقة أن ما قصده ذلك الفيلسوف ينصب في معظمه على المؤسسة الدينية لا على الدين، على تفسير المؤسسة الدينية للدين لا على تديُّن الناس، على تسييس الدين واستخدامه أداة ضغط وتسلط، سواء من قِبل السلطة الزمنية، أم من قِبل أية شريحة أو فئة تجعل من نفسها قيِّمًا على دين الناس ومرجعًا أعلى لتفسيره والعمل بموجبه.
وفي الحقيقة، فإن المؤسسة الدينية هي بنية اجتماعية حديثة نسبيًّا في تاريخ الحضارة الإنسانية؛ فلقد عاشت الجماعات البشرية وفقًا لمعتقداتها، ومارست طقوسها، وقصَّت أساطيرها لعشرات الألوف من السنين، دون مؤسسة دينية تُشرِف وتُوجِّه وتجعل من نفسها السلطة المرجعية العليا. ربما قام أفرادٌ مُتميزون، في مجتمعات العصر الحجري والمجتمعات القروية الأولى، بالإشراف على الطقوس الدينية والتوسط بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية، إلا أن هؤلاء لم يتخذوا صفة الكهان المرسومين، ولم يتمتعوا بسلطة مطلقة على الحياة الدينية لجماعاتهم. وربما تركَّزت الطقوس حول أماكن مقدسة كغابةٍ ما أو بحيرة أو نبع، أو موضوعات مقدسة كشجرةٍ ما أو صخرة، ولكن دور العبادة المكرَّسة لم توجد ولم تأخذ طابعها المعروف، إلا في نهايات العصور الحجرية والاقتراب من مطالع الفترات التاريخية. وتؤكد نتائج التنقيب الأثري في مواقع العصر الحجري الحديث (النيوليتي) ملاحظتنا هذه؛ ففي المستوطنات المستقرة الأولى السابقة للزراعة، لم يلحظ المنقبون بنًى معمارية خاصة استخدمها الناس لأغراض العبادة، وذلك رغم عثورهم على الكثير من اللقى الأثرية ذات العلاقة بالمعتقدات والطقوس الدينية. أما في المواقع الزراعية التي تبدأ في الظهور والانتشار مع مطلع الألف الثامن قبل الميلاد، فهنالك دلائل قليلة جدًّا على وجود بيوت متواضعة لا تختلف عن بيوت السكن، مخصصة لأغراض دينية. ولا تأخذ هذه البيوت العادية بالتمايز عن غيرها والتحول إلى هياكل حقيقية إلا مع اقترابنا من العصور التاريخية. يضاف إلى ذلك أن الدراسة المدققة لعادات الدفن والهدايا الجنائزية المرافقة للموتى مثل السلاح والأدوات الشخصية، لم تثبت وجود شخصيات ذات طابع اجتماعي متميز مثل الملوك والقادة ورجال الدين. الأمر الذي يدل على أن هذه المناصب لم تكن مناصب دائمة، وأن شاغليها كانوا يُختارون في وقت الحاجة ويُستغنى عنهم كلما بطلت الحاجة إليهم، أو يستبدل غيرهم بهم دوريًّا. وهذا إجراء يتناسب وحالة المشاعة الأولى المترافقة مع ديمقراطية بدائية.
فإذا كان الدين ظاهرةً مترافقة مع الإنسان منذ استقلاله عن المملكة الحيوانية، فإن المؤسسة الدينية هي ظاهرة جديدة ومرتبطة بحضارة المدينة، وبمدى تطوُّر البنى والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في مجتمع المدينة، وهو المجتمع الذي تشكَّل لأول مرة في المشرق العربي القديم، وصار فيما بعدُ الشكل المميز للحضارة العالمية. ويبدو أن السبب المباشر في ظهور المؤسسة الدينية لدى الجماعات النيوليتية عند أعتاب التاريخ، هو وصول هذه الجماعات إلى مستوًى اقتصادي متطور، من شأنه تحقيق فائض دائم في الإنتاج، يسمح بتفريغ عدد لا بأس به من الرجال والنساء للإشراف على المعبد وإدارة الشئون الدينية. ويبدو أن هذه النواة الأولى من رجال الدين الذين لا يعملون في الزراعة وإنتاج المواد الغذائية، كانت الوحدة الأساسية في بنية المدينة. فبعد إقامة المعبد الكبير، تركَّزت حوله مجموعة من النشاطات المرتبطة به، والتي أدَّت مع الزمن إلى تكوين المؤسسات المدنية المختلفة. ومن ناحية أخرى، فإن المعلومات التاريخية التي حصلنا عليها من مواقع المدن الأولى في سومر، تُظهر الارتباط الوثيق، والتزامن، بين تطور المؤسسة الدينية وتطور المؤسسة السياسية. وليس قيام ملوك دويلات المدن السومرية بالجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، إلا مثالًا على هذا الارتباط؛ فالملك السومري كان يحمل لقب «إن» الذي يتضمن معنى الملك بالمفهوم السياسي الذي نعرفه، وأيضًا معنى الكاهن الأعلى.
ورغم انفصال السلطة السياسية عن السلطة الروحية فيما بعد، فإن المؤسسة الدينية حافظت بشكل أو آخر على طابعها السياسي، وغلب هذا الطابع على علاقاتها بالسلطة الزمنية؛ فطالما حافَظ النظام السياسي على قوته، بقيت المؤسسة الدينية ضمن الحدود التي رسمها لها وقدمت له الخدمات المطلوبة، فإذا تضعضع النظام السياسي بغت عليه المؤسسة الدينية وجعلت منه مطية لها تحكم من ورائه. وهنا يمكن أن نُذكِّر بالمثال الذي يعرفه الجميع عن نفوذ الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى ومطلع العصور الحديثة، وعن سلطان الباباوات على ملوك أوروبا.
لن أفصِّل أكثر في بحث المؤسسة الدينية؛ لأن مثل هذا البحث لا يدخل في مجال تاريخ وفينومينولوجيا الدين، وهو أقرب إلى مجال العلوم الاجتماعية. ولعل ما سُقته هنا يكفي للدلالة على أن المؤسسة وتطورها كان مرهونًا بظروف تعقد الحياة الاجتماعية، ولم تكن في يوم من الأيام عنصرًا لا غِنى عنه لدين الناس.
إن التمييز الذي قمت به أعلاه بين التبديات الثلاثة للظاهرة الدينية، لذو أهمية بالغة بالنسبة لمدخل بحثي هنا؛ فإذا كنت لا أودُّ الآن أن أصوغ تعريفًا شاملًا للدين نظرًا للمحاذير التي بسطتها ابتداءً، فلا أقل من وضع حدود للظاهرة التي ينصبُّ جهدي على دراستها، والتي أعنيها كلما أشرت لما ندعوه جميعًا بالدين. إن الدين الذي أصفه هنا هو التعبير الجمعي عن الخبرة الدينية الفردية، التي تم ترشيدها من خلال قوالب فكرية وطقسية وأدبية ثابتة، تتمتع بطاقة إيحائية عالية بالنسبة إلى الجماعة.
هذه القوالب التي ترشِّد الحس الديني وتجعل من الدين ظاهرةً جمعية، يمكن إرجاعها إلى ثلاثة، هي: (١) المعتقد. (٢) الطقس. (٣) الأسطورة. وأدعوها بالمكونات الأساسية للدين.
انظر الترجمة العربية: الدين في ضوء علم النفس، ترجمة نهاد خياطة، دمشق ١٩٨٨م، ص٢٧.
انظر أيضًا ترجمة نهاد خياطة، الدين في ضوء علم النفس، دمشق ١٩٨٨م، ص٥٦.