الفصل الأول

المكونات الأساسية للدين

إن النظرة الفاحصة إلى تاريخ وجغرافية دين الإنسان، تكشف لنا عن بنية موحدة للدين، أنى وأين التَقينا به كظاهرة ثقافية رائدة. تقوم هذه البنية على عدد من العناصر أو المكونات، بعضها أساسي لا نستطيع التعرف على الظاهرة الدينية بدونه، وآخر ثانوي لا يلعب دورًا حاسمًا في تكوين الدين، أو في تعرُّفنا على الظاهرة الدينية. وسنلتفت في هذا الفصل إلى المكونات الأساسية، وهي ثلاثة: المعتقد والطقس والأسطورة.

(١) المعتقد

هو أول أشكال التعبيرات الجمعية عن الخبرة الدينية الفردية التي خرجت من حيز الانفعال العاطفي إلى حيز التأمل الذهني. ويبدو أن توصل الخبرة الدينية إلى تكوين معتقد هو حاجة سيكيولوجية ماسَّة؛ لأن المعتقد هو الذي يعطي للخبرة الدينية شكلها المعقول، الذي يعمل على ضبط وتقنين أحوالها. فبعد تلك المواجهة الانفعالية مع القدسي في أعماق النفس، يتدخل عقل الإنسان من أجل صياغة مفاهيم من شأنها إسقاط التجربة الداخلية على العالم الخارجي، وموضعه القدسي هناك. وهنا يتم فرز موضوعات معينة، أو خلق شخصيات وقوًى معنوية، تستقطب الإحساس بالمقدس وتجتذبه إلى خارج النفس؛ وبذلك تتكون الصيغ الأولية للمعتقدات، وندلف إلى ذلك الهيكل السامق الذي ندعوه بالدين.

والمعتقد الديني هو شأن جمعي بالضرورة. وكما أشرت منذ قليل، فإن عقول الجماعة تعمل على صياغته، كما تعمل الأجيال المتلاحقة على صقله وتطويره؛ فما من خبرٍ وصلنا عن أهل الديانات القديمة يفيد بأنهم أخذوا معتقدهم جاهزًا عن جهةٍ ما أو شخص بعينه. فشعوب سومر وأكاد مثلًا، وكنعان ومصر واليونان، قد تركت لنا مدونات عن معتقداتها وأساطيرها وصلواتها، دون أن تذكُر شيئًا عن صدور دياناتها عن كاهن أو عرَّاف أو متنبئ من أي نوع؛ وأسفار الفيدا السنسكريتية المغرِقة في القِدم ما زالت تمارس تأثيرها العميق على الطوائف الهندوسية في الهند، دون أن يعرف أحدٌ مصادرها والتواريخ الدقيقة لتدوينها؛ ومعتقدات الشعوب البدائية في أستراليا وميلانيزيا وغيرهما كانت دومًا موجودة بالنسبة لأهلها، ولا يجوز البحث عن بداية لها أو مصدر لأنها تعكس الحقائق الأزلية التي لا تجوز مناقشتها. فإذا كان لا بد من تصوُّر بداية ما للمعتقد، فإن هذه البداية توضع في الأزمنة الأسطورية السابقة لظهور الإنسان، أو الأزمنة القدسية التي رافقت ظهور الجماعات البشرية الأولى.

وهذا ما يقودنا إلى إقرار حقيقة تاريخية ثابتة، وهي أن ظاهرة مؤسسي الديانات من الأفراد هي ظاهرة حديثة نسبيًّا، ومعلوماتنا عنها لا تؤهلنا لمتابعتها إلى ما وراء القرن السادس قبل الميلاد. ففي النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد عاش زرادشت الإيراني، وبشَّر بمعتقد جديد كل الجدة على الثقافة الإيرانية. وفي النصف الثاني من القرن نفسه ظهر البوذا في الهند، ولاوتسي مؤسس التاوية في الصين. وليس من المصادفة أن يتزامن ظهور هؤلاء المفكرين الأفراد في المشرق مع ظهور نوع آخر من المفكرين الأفراد في الغرب، هم مؤسسو الفلسفات الفردية، في المناطق ذات الطابع اليوناني في غرب آسيا الصغرى، وفي أرض اليونان نفسها والجُزر المتوسطية القريبة منها. ففي أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل الميلاد ظهرت المدرسة الملطية في آسيا الصغرى، وفي أواسط القرن السادس ظهر فيثاغورث أول عباقرة الفلسفة المدعوة بالإغريقية، وتبعه هرقليطس وزينوفان وبارمنديس. ومع سقراط الذي وُلد عام ٤٧٠ق.م. تدخل الفلسفة الإغريقية مرحلة نضجها وعطاءاتها الكبيرة.

والمعتقد شأنٌ جمعي لأكثر من سبب؛ فأولًا من غير الممكن أن يقوم كل فرد من أفراد الجماعة بصياغة معتقد خاص به، بما يستدعي ذلك من سلوك وأفعال سوف تتضارب حتمًا مع ما يبادر به الآخرين. وثانيًا أن دوام واستمرار أي معتقد يتطلب إيمان عدد كبير من الأفراد به، وإلا اندثر وفقد تأثيره حتى في نفس صاحبه. من هنا نفهم لماذا يسعى مؤسسو الأديان وأصحاب الفلسفات الكبرى إلى التبشير بأفكارهم بين الناس وحثهم على اعتناقها؛ ذلك أنهم يجدون في هذا السعي ضمانتهم الوحيدة لحياة معتقداتهم واستمرارها. ويتناسب سعي المُبشر طردًا مع مدى اقتناعه بأنه قد وضع يده على الحقيقة المطلقة. ولنا في سيرة «ماني» مؤسس الديانة المانوية التي انطلقت من بابل أواسط القرن الثالث الميلادي خير دليل على ذلك؛ فعندما عاود الوحي السماوي ماني (على ما يذكره أتباعه ومؤرخو سيرته) وهو في الرابعة والعشرين، هبَّ للتبشير بمعتقده مرتحلًا ما بين الهند ومصر، ولم تهدأ حركته حتى أعدمه الملك الفارسي بهرام سنة ٢٧٦ ميلادية. وهنالك وصف لماني في الكتابات المسيحية من تلك الفترة تصفه في تجواله، يرتدي سروالًا واسعًا أصفر اللون وعباءة زرقاء وبيده عصًا طويلة من الأبانوس، متأبطًا تحت ذراعه على الدوام كتابًا خطه بنفسه باللغة البابلية (وهي الآرامية المشرقية في ذلك الوقت).

إن آلهة المعتقدات بحاجة إلى البشر حاجةَ البشر إليها، وآلهة الإنسان القديم كانت تستمد حياتها من الناس الذين يحملونها في أفكارهم، كما كان الناس يستمدون منها طاقةً روحية تُعينهم على الاستمرار في الحياة. فما تحتاجه الآلهة من الناس حقًّا هو الأفكار، أفكارهم عنها، أما العبادات والطقوس فلا تُقدم للآلهة شيئًا يُذكَر إلا بمقدار ما تديم الذِّكر وتنعش الفكر الذي يحمل صورها.

يتألف المعتقد عادةً من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان، وغالبًا ما تُصاغ هذه الأفكار في شكل صلوات وتراتيل؛ فضمن هذا الشكل من الأدب الديني نستطيع البحث عن المعتقدات الأصلية والمباشرة لجماعة من الجماعات. ولسوف أسوق فيما يأتي، ولغرض التوضيح العملي، صورةً حية عن معتقد مُصاغ في ترتيلة مشهورة تُعتبر من عيون الأدب الديني القديم، وتُعرف ﺑ «الترتيلة الطويلة» للفرعون أخناتون، والمرفوعة إلى إلهه الأوحد «آتون»؛ الطاقة الكونية المتمثلة في قرص الشمس. وهذه الترتيلة هي ثانية ترتيلتين هما كل ما وصلنا من تراث الآتونية المكتوب، إضافة إلى عدد من نصوص القبور التي تركها أتباع الفرعون.

ترسم صلاة أخناتون صورة لمعتقد على درجة عالية من التجريد؛ فإله الديانة الآتونية، كما يبدو هنا، هو قوة إلهية غير مشخَّصة، وطاقة صافية تأبى على التشكل في هيئة إله ذي ملامح محددة وشخصية مرسومة. إنها القدرة التي صدر عنها الكون بكل أجزائه وتفاصيله وأشكال الحياة المنبثة فيه، والطاقة التي تتجلى في عالم الظواهر بقرص الشمس. تتميز ترتيلة أخناتون بغياب الإشارات الميثولوجية، وانتفاء كل ظلال أسطورية ترافق عادةً الصلوات الدينية. تقول الترتيلة:١
كم هو جميلٌ شروقك في الآفاق، أي آتون الحي، بادئ الحياة.
عندما ترتفع في الأفق الشرقي يملأ بهاؤك كل البلدان.
تحيط أشعتك بكل ما خلقت من أصقاع، والكل أسرى لك، وأنت «رع» تطوِّقهم بمحبتك.
أنت عالٍ وبعيد، ولكن نورك ضافٍ على الأرض.
أنت عالٍ وبعيد، ولكن آثار خطوك تصنع النهار.
وعندما تميل وراء الأفق الغربي، تغرق الأرض في ظلام كأنه الموت،
ويأوي الكل إلى بيوتهم، فتخرج الآساد من عرينها والحيَّات من جحورها.
الكل يغرق في الصمت والظلام يسود؛ لأن الخالق في أفقه يستريح.
وعندما تشرق تبعثر الظلام، وتضج الأرض بالضياء.
ترسل شعاعك فتحتفل أرض مصر، يستفيق الجميع، يرفعون صلاة شكر لظهورك، يمضي كلٌّ إلى عمله.
تفترش الأنعام مروجها، وينتعش بك كل شجر ونبت.
الأطيار تحوم فوق سبخاتها، ترفع الجناح تصلي لك وتدب في الكل حياة.
السفن تمخر عباب الماء صعودًا ونزولًا، وكل الطرق سالكة بشروقك.
الأسماك في الماء تقفز للأعلى أمامك، وشعاعك يصل أعماق البحر الأزرق الواسع.
أنت خالق الخصوبة في المرأة، وصانع بذور الرجل.
أنت من يهَب الحياة للجنين في رحم أمه، وتعطيه الأنفاس التي بها يحيا، وعند مولده تفتح فمه وتقسم له رزقه.
الصوص في بيضته يسقسق، وهناك تمده بهوائه، فإذا كبر نقر قشرته وخرج يصيح بأعلى صوته.
ما أكثر صنائعك يا رب! وحدك ووفق مشيئتك قد خلقت الأرض وما عليها من قطعان وأسراب.
قد خلقت كل ما يدب على الأرض بقدم، وكل ما يطير في السماء بجناح.
في جميع الأصقاع، سوريا والحبشة وأرض مصر، أعطيت لكلٍّ مكانه، ورسمت حياته وقسمت نصيبه وأيامه.
قد ميزت شعوبًا بألسنتها وألوانها وطبائعها، فجعلتها أُممًا مختلفة.
فجَّرت النيل تحت الأرض، تُجريه وفق مشيئتك لتحيي أهل مصر. أي آتون النهار، عظيم الجلال.
وجعلت نيلًا آخر في السماء لحياة الأمصار البعيدة، يهطل عليهم فيجري بحرًا على ذرى الجبال يسقي حقولهم وقُراهم.
شعاعك ينعش كل بستان، بشروقك تحيا وبك تنمو.
أنت صانع الفصول لأجل خلقك، ففي الشتاء تنعشهم، وفي الصيف يعرفون دِفأك.
صنعت السماء العالية لتشرق فيها، وتنظر كل ما قد صنعت.
أنت أحد، تشع في هيئة آتون الحي، تشرق وتتوهج، تمضي بعيدًا ثم تعود. أنت أحدٌ وملايين الأشياء صدرت عنك.
كل العيون تتملى سناك، أنت آتون النهار في ذروة السمت.
أنت في قلبي، ولا يعرفك حقًّا سوى ابنك أخناتون.
وقد أعطيته فهمًا ليدرك طرقك وجلائلك.
العالم كله بين يديك. عندما تسطع على المخلوقات تحيا، وإذا تغرب عنها تموت.
فأنت الحياة وبك الحياة.

إن ابتعاد المعتقد الآتوني عن التعبير عن نفسه من خلال الميثولوجيا واضح في هذه الترتيلة، التي لم تحتوِ على أية إشارة إلى أساطير تكوين وخلق وأصول، شأنها في ذلك شأن أختها المعروفة باسم «الترتيلة القصيرة». كما نستنتج خلو الآتونية من الأساطير، من قراءتنا لنصوص القبور التي تركها الأتباع المقربون للفرعون، فهذه تبتعد بدورها عن أية إشارة إلى أساطير تتعلق بالموت والعالم الآخر، مما هو معروف في غيرها من نصوص القبور المصرية. ولعلنا واجدون في الأعمال التشكيلية التي خلقتها لنا فترة حكم أخناتون برهانًا إضافيًّا على نفور الآتونية من الميثولوجيا.

فالإله آتون لم يُصوَّر بتاتًا في هيئة مشخصة، وإنما اكتفى النحَّات أو الرسَّام بإظهار رمزه التشكيلي، وهو عبارة عن قرص الشمس الملتهب وقد انبعثت أشعته في كل اتجاه، وكل شعاع ينتهي بكفٍّ توزع الخير والبركة. وفيما عدا ذلك فإن الفن التشكيلي قد خلا من المشاهد الدينية ذات الخلفية الأسطورية، واقتصر على تصوير المشاهد الدنيوية البحتة. ويبدو لعين المتفحصين لهذه الأعمال الفنية، أنها قامت بالفعل على فلسفة جمالية أقرب ما تكون إلى فلسفة الفن الإغريقي اللاحق، الذي احتفل بالجمال الأرضي وجعل من الإنسان بؤرة اهتمامه. ولعل غياب الأسطورة في الديانة الآتونية هو أمرٌ تستدعيه طبيعة معتقدها؛ فالوظيفة الدينية للأسطورة هي توضيح صور الآلهة وتزويدها بسيرة حياة، وشجرة نسب، وتبيان دورها في عالم الإنسان، مما سوف نوضحه بعد قليل. أما إله أخناتون، فرغم مخاطبته مجازًا بالإله الواحد، فإن كل طرائق التعبير عن وجوده وطبيعته وعلاقاته بعالم الناس، لتشير إلى كونه طاقةً غفلة غير مشخَّصة، ومبدأً كامنًا عند جذور عالم الظواهر. ومثل هذه الألوهة تستبعد بطبيعتها أي نظام ميثولوجي؛ لأنها لا تتطلب التشخيص والتمثيل والتشبيه.

(٢) الطقس

تولِّد الخبرة الدينية المباشرة حالة انفعالية قد تصل في شدتها حدًّا يستدعي القيام بسلوكٍ ما، من أجل إعادة التوازن إلى النفس والجسد اللذين غيَّرت التجربة من حالتهما الاعتيادية. ولعل الإيقاع الموسيقي والرقص الحر كانا أول أشكال هذا السلوك الاندفاعي الذي تحوَّل تدريجيًّا إلى طقس مقنَّن. ويترافق تقنين الطقس وتنظيمه في أُطر محدَّدة ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية وضبطها في معتقدات واضحة يؤمن بها الجميع، ويرون فيها تعبيرًا عن تجاربهم الفردية الخاصة؛ وبذلك يتحول الطقس من أداء فردي حر إلى أداء جمعي ذي قواعد وأصول مرسومة بدقة، ويتم ربط الطقس بالمعتقد بدل ارتباطه بالخبرة الدينية المباشرة. ومع ذلك، فقد يتعايش هذان النوعان من الطقوس في الثقافة الواحدة، حيث يقوم الطقس الحر جنبًا إلى جنب مع الطقس المنظم، بسبب قصور الطقوس المنظمة عن سد حاجة نوع معين من الأفراد ذوي الحساسية الشديدة للتجربة الدينية الفردية. فإذا كانت الصلاة في المعابد وإنشاد التراتيل فيها هي النموذج الأكثر شيوعًا للطقس المنظم، فإن لنا في حلقات الصوفية وما يؤدى فيها من موسيقى إيقاعية ورقص وتواجد، خير مثال على الطقس الحر الذي لا يرتبط بالمعتقدات الجمعية المؤسسة، بل بالخبرة الدينية العميقة المباشرة. ومن الجدير بالذكر هنا، أن هذا النوع من الطقس الحر، رغم كونه قد نشأ أصلًا عن الخبرة الدينية المباشرة، إلا أنه غالبًا ما يكرر فيما بعدُ من أجل استعادة هذه الخبرة نفسها وإحداث أثرها في النفس بشكل إرادي؛ فمن خلال رقصات معينة وموسيقى إيقاعية خاصة وتَكرار صيغ كلامية ذات أثر خاص في النفوس، يمكن للأفراد المستغرِقين في الأداء الانتقال إلى مستوياتٍ غير اعتيادية للوعي، واستعادة الحالة الوجدية التي تحتل ساحة الشعور تلقائيًّا في التجربة المباشرة التي تحدث في الأصل دون استنهاض مصطنَع.

يرسم المعتقد صورًا ذهنية واضحة وقوية التأثير للعوالم القدسية، ولكن الأفكار وحدها لا تصنع دينًا بالغةً ما بلغت من وضوحها واتساقها، بل قد تُشكل في أفضل أحوال اتساقها فلسفةً دينية. وأعُود هنا للاستشهاد بمثال الفلسفة الأفلاطونية المحدَثة، التي اشتدَّ عودها في المشرق العربي إبان القرن الثالث الميلادي؛ فهذه الفلسفة قد جعلت من الإلهيات بؤرة اهتمامها، وكانت أفكارها مهيَّأة لأن تكون أساسًا مكينًا لديانةٍ كبرى في ذلك الوقت، ولكنها لم تُحقق هذه الخطوة رغم طموحها الضمني لتحقيقها؛ وذلك بسبب افتقارها إلى نظام طقسي، يضع الإنسان في علاقة مع العوالم القدسية التي صاغ المعتقد صورتها الذهنية، فبقيت هذه العوالم صورًا ذهنية باردة تعيش في عقول أتباع هذه الفلسفة لا في قلوبهم. إننا لا نتحول من الفلسفة إلى الدين (وأنا أفترض هنا أن كل تفكير متسق هو فلسفة) إلا عندما يدفعنا المعتقد إلى سلوك وإلى فعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، ومن التفكير في العوالم المقدسة إلى اتخاذ مواقف عملية منها؛ فنتقرب منها أو نسترضيها أو نُسخر قُواها لمصلحتنا أو نكف غضبها عنا … إلخ. فإذا كان المعتقد حالةً ذهنية، فإن الطقس حالة فِعل من شأنها إحداث رابطة. وإذا كان المعتقد مجموعة من الأفكار المتعلقة بعالم المقدسات، فإن الطقس مجموعة من الأفعال المتعلقة بأسلوب التعامل مع ذلك العالم، إنه اقتحام على المقدس وفتحُ قنوات اتصال دائمة معه.

وبشكلٍ عام يمكن القول بأن أية صورة ذهنية لا تخرج من عالم الفكر إلى عالم الفعل، هي صورة معرَّضة للتحجر أو التلاشي والزوال. وبما لهذا السبب يتم تذكير الجنود في ثكناتهم يوميًّا بفكرة الوطن، من خلال ممارسة يومية هي أقرب إلى الطقس الديني بشكلها ومضمونها. إن كل من مارَس أو شاهد في القطعات العسكرية الإجراء المتعلق بتحية العَلم الصباحية والمسائية، حيث يُرفع العَلم بحضور جميع أفراد القطعة صباحًا، وينزل مساءً على صوت البوق، يدرك المعاني الكبيرة التي تنمو في النفوس من جرَّاء القيام بهذا الطقس الدنيوي اليومي. ولعلنا واجدون الشيء نفسه في موقف المجتمع من فكرة الشهادة وإجلال الشهداء؛ فنحن مهما تحدَّثنا عن مكانة الشهداء في قلوبنا وتقديرنا لهم، لا نستطيع أن نفِي ذلك حقه كما يفيه طقس وضع أكاليل الزهور على ضريح الجندي المجهول في مناسبات معينة. وأكثر من ذلك، فإن مفهوم الوطن القومي وصورته في عقول المواطنين، لا ترسخه الأفكار قدر ما ترسخه الطقوس. فنحن نستطيع أن نتحدث في كُتب التعليم وعبر وسائل الإعلام عن فكرة الوطن ومفهوم المواطنية، ولكن احتفالًا قوميًّا واحدًا يلتقي فيه الناس في الشوارع فيهتفون ويزغردون ويرقصون بمصاحبة الأناشيد القومية ويُلوِّحون بالأعلام والشعارات، من شأنه تثبيت فكرة الوطن القومي وإضرام نار الانتماء إليه أكثر من كل الكتب والتعاليم. ولقد أدرك المشرِفون على وسائل الإعلام في الأنظمة القومية الفاشية هذا الميل النفسي بكل دهاء. ففي ألمانيا النازية، عمد دهاقنة الإعلام إلى تصميم عدد متنوع من الطقوس لفئات الشبيبة النازية؛ فمن الألبسة والشارات المميزة لكل فصيل، ورفع اليد بالتحية المعروفة، إلى الأناشيد الحماسية تُنشد «ألمانيا فوق الجميع»، إلى موسيقى فاغنر تُعزَف في المناسبات وقد أُلبست ثوبًا قوميًّا عصريًّا، إلى احتفالات المشاعل الليلية وما إليها. وتمَّت الإفادة من هذه المظاهر والاحتفالات الجمعية إلى درجة يمكن القول معها بأن الأيديولوجية النازية لم تنتشر عن طريق التبشير النظري الساذج، قدر انتشارها عبر التصميم المتقَن لطقوس قومية لها صفة الهوس الديني.

استنادًا إلى ما تقدَّم يمكن القول بأن الطقس ليس فقط نظامًا من الإيماءات التي تُترجم إلى الخارج ما نشعر به من إيمان داخلي، بل هو أيضًا مجموعة الأسباب والوسائل التي تعيد خلق الإيمان بشكلٍ دوري؛ ذلك أن الطقس والمعتقد يتبادلان الاعتماد بعضهما على بعض؛ فرغم أن الطقس يأتي كناتج لمعتقدٍ معيَّن فيعمل على خدمته، إلا أن الطقس نفسه ما يلبث حتى يعود إلى التأثير على المعتقد فيزيد من قوته وتماسكه، بما له من طابع جمعي يعمل على تغيير الحالة الذهنية والنفسية للأفراد. وهذا الطابع هو الذي يُجدد حماس الأفراد ويعطيهم الإحساس بوحدة إيمانهم ومعتقدهم. فالطقس، رغم قيامه على مجموعة من الإجراءات المرتبة والمنسقة مسبقًا، والتي تم القيام بها مرارًا وتكرارًا، إلا أنه يبدو جديدًا كلما أكَّدت الجماعة على الأداء المشترك له. لهذه الأسباب يظهر الطقس للمراقب باعتباره أكثر عناصر الظاهرة الدينية بروزًا، ويقدم نفسه كأول معيار نُفرق بواسطته الظاهرة الدينية عن غيرها من الظواهر؛ لأن الدين لا يبدو للوهلة الأولى نظامًا من الأفكار، بل نظامًا من الأفعال والسلوكات، والمؤمن ليس إنسانًا قد أضاف إلى معارفه مجموعة من الأفكار الجديدة، بل هو إنسان يسلك ويعمل بتوجيه من هذه الأفكار.

(٣) الأسطورة

قبل أن أبحث في الدور الهام الذي يلعبه هذا المكون الثالث من مكونات الدين، سوف أتوقف مطولًا عند مفهوم الأسطورة لغاية توضيحه وتحديده بدقة؛ وذلك نظرًا للتشوش الكبير الذي يحيط بهذا المفهوم في أذهان كثير من المتخصصين، ناهيك عن عامة المهتمين. إن أحد الكتب التي راجت في الغرب منذ الستينيات، وعنوانه «أقنعة الله»،٢ قد صدر في أربعة مجلدات تحمل العناوين الفرعية الآتية: (١) الميثولوجيا البدائية. (٢) الميثولوجيا الغربية. (٣) الميثولوجيا الشرقية. (٤) الميثولوجيا الخلاقة. فإن شرَع القارئ في تصفح جزئه الأول، اكتشف لتوه أن مؤلفه جوزيف كامبل إنما يُقدم عملًا موسوعيًّا في تاريخ الدين لا في ميثولوجيا الشعوب، وأنه قد طابق تعسفيًّا بين مفهوم الدين ومفهوم الأسطورة، مستخدمًا الجزء للدلالة على الكل؛ الأمر الذي يزيد الأمور اختلاطًا في أذهان الناس.
ليست الأسطورة من الكلمات المستحدَثة في اللغة العربية، والمضامين التي استوعبتها هذه الكلمة في الاستخدامات الحديثة تستند إلى مضامينها القديمة. تفيدنا المعاجم العربية بأن كلمة أساطير قد جاءت من السطر، وهو الخط أو الكتابة، وجمعه أسطار كما هو الحال في سبب وأسباب، وجمع الجمع أساطير. ونعثر على أول استخدام للكلمة في القرآن الكريم، حيث جاء في سورة الفرقان: ٥، قوله تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وهنا إشارة إلى اتهام المشركين للنبي باستلهامه قصص الأولين المكتوبة. وهذا الاشتقاق لكلمة أسطورة في العربية يقارب اشتقاقاتها في اللغة الأوروبية؛ فكلمة Myth في الإنكليزية والفرنسية وغيرها، مشتقة من الأصل اليوناني Muthas، وتعني قصة أو حكاية. وكان أفلاطون أول من استعمل تعبير Muthologia للدلالة على فن رواية القصص، وبشكل خاص ذلك النوع الذي ندعوه اليوم بالأساطير، ومنه جاء تعبير Mythology المستخدَم في اللغات الأوروبية الحديثة. أما في لغات المشرق القديم، فلا نعثر على مصطلح خاص ميَّز به أهل تلك الحضارات الحكاية الأسطورية عن غيرها. وتُظهر فهارس النقوش الكتابية التي تعوَّد الكتبة السومريون وضعها لتصنيف محتويات مكتباتهم (وقد عثر حتى الآن على اثنين من هذه الفهارس) أن الأرشيف السومري لم يميز النصوص الأسطورية عن غيرها، ولم يدرجها في تسلسل خاص، بل تركها موزَّعة بين النصوص الأخرى التي تدور حول موضوعات شتى مثل الحكمة والأمثال والأدعية والوصايا وما إليها.

من هنا يمكن القول بأن القدماء لم يضعوا لأنفسهم تمييزًا لغويًّا دقيقًا لتلك المجموعة من الأعمال الأدبية التي نصنِّفها الآن تحت عنوان الميثولوجيا، ولا هم عُنوا بتفريقها عن بقية الأجناس الأدبية، وذلك رغم توكيدهم على اختلافها وخصوصيتها. فكيف نستطيع اليوم أن نميز بين النص الأسطوري والنص العادي، وما هي المعايير التي تساعدنا على إجراء مثل هذا التمييز؟

  • (١)

    من حيث الشكل، الأسطورة هي شكل من أشكال الأدب الرفيع، فهي قصة تحكمها قواعد السرد القصصي من حبكة وعقدة وشخصيات وما إليها. وفي الثقافات العليا، جرت العادة أن يصاغ النص الأسطوري في قالب شعري يساعد على ترتيله وتداوله شفاهة بين الأفراد وعبر الأجيال، ويزوده بسلطان على العواطف والقلوب.

  • (٢)

    وهي قصة تقليدية، بمعنى أنها تحافظ على ثبات نسبي، وتتناقلها الأجيال بنصها عبر فترة طويلة من الزمن طالما حافظت على طاقتها الإيحائية بالنسبة إلى الجماعة. فأسطورة هبوط إنانا إلى العالم الأسفل، وهي أسطورة سومرية من أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، قد استمرَّت في صيغتها الأكادية المطابقة تقريبًا للأصل السومري حتى أواسط الألف الأول قبل الميلاد، حيث عُثر على نسخة منها في مكتبة آشور بانيبال.

  • (٣)

    ليس للأسطورة زمن؛ أي إنها لا تقصُّ على حدث جرى في الماضي وانتهى، بل عن حدث ذي حضور دائم. فزمانها والحالة هذه زمنٌ ماثل أبدًا لا يتحول إلى ماضٍ. إن الإله تموز الذي قُتل ثم بُعث إلى الحياة، إنما يفعل ذلك في كل عام؛ إذ يُقتل في الصيف ويُبعث إلى الحياة في الربيع. والإله مردوخ، الذي خلق الكون ونظَّمه في الأزمنة المقدسة الأولى، إنما يفعل ذلك في كل عام ومع بداية السنة الجديدة، حيث يقوم بإعادة خلق الكون وتجديده. وصراع الإله بعل مع الحية لوتان ذات الرءوس السبعة وقتله لها، هو صراع دائم بين قوى الخير والحياة، وقوى الشر والموت. وعندما لا يكون للحدث الأسطوري هذا الطابع الدوري المتكرر والواضح، فإن مضمون الأسطورة يعبر عن حقيقة أزلية متخللة في حياة البشر لا يطالها تغيير؛ فأسطورة خلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدم إله قتيل، هي تأسيس لفكرة الطبيعة المزدوجة للإنسان وتكوينه من عنصر مادي وآخر روحاني. وحتى عندما تشير الأسطورة صراحةً إلى حدث مؤطر في الزمن ومحدد في التاريخ، فإن مراميها البعيدة تكمن خارج الزمن وتتخذ صفة الحضور الدائم، ونموذج هذا النوع أسطورة الطوفان الرافدية؛ فرغم أن السومريين قد اتخذوا حدث الطوفان، الذي أبلغت عنه الأسطورة، نقطة في التاريخ يؤرخون بها لما حدث قبلها في تاريخهم وما حدث بعدها، إلا أن فحوى الأسطورة لم يكن زمنيًّا بالنسبة إليهم، والطوفان الذي دمَّر الأرض من حولهم مرةً هو نذيرٌ دائم بسطوة القدر، وتحذير من الغضب الإلهي البعيد عن أفهام البشر، ومن الاطمئنان إلى استمرارية الشرط الإنساني وثبات الأحوال. إن ما يميز الحدث الأسطوري عن غيره هو ذلك الحضور الدائم للحدث أو لمراميه الحقيقية.

  • (٤)

    تتميز موضوعات الأسطورة بالجدية والشمولية؛ فهي تدور حول المسائل الكبرى التي ألحَّت دومًا على عقل الإنسان، مثل الخلق والتكوين وأصول الأشياء والموت والعالم الآخر وما إلى ذلك من قضايا آلت إلى الفلسفة فيما بعد.

  • (٥)

    يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة؛ فإذا ظهر الإنسان على مسرح الأحداث كان دوره مكملًا لا رئيسيًّا.

  • (٦)

    لا يُعرَف للأسطورة مؤلف معيَّن؛ لأنها ليست نتاج خيال فردي أو حكمة شخص بعينه، بل هي ظاهرةٌ جمعية تُعبِّر عن تأملات الجماعة وحكمتها وخلاصة ثقافتها. ولا يمنع هذا الطابع الجمعي أن يقوم الأفراد بإعادة صياغة الحكايات الأسطورية وفق صنعة أدبية تتماشى وروح عصرهم.

  • (٧)

    تتمتع الأسطورة بقدسية وبسلطةٍ عظيمة على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي تمتَّعت بها الأسطورة في الماضي لا يُدانيها سوى سطوة العلم في العصر الحديث؛ فنحن نؤمن بوجود الجراثيم وبقدرتها على تسبيب المرض، سواء رأيناها تحت المجهر أم لا؛ وذلك لأن العلم قد أثبت وجودها، كما أننا نؤمن بالطريقة نفسها بأن المادة مؤلفة من جزيئات وذرَّات، وأن الكون مؤلف من مليارات المجرات … إلخ. وفي العالم القديم لم يرَ الشياطين أو الآلهة سوى قلة من الكهنة في أحلامهم أو في نوبات الوجد التي تعتريهم، ومع ذلك آمن الإنسان القديم بكل العوالم التي نقلتها له الأسطورة، وكان الكفر بمضامينها كفرًا بكل القيم التي تشدُّ الفرد إلى جماعته وثقافته، وفقدانًا للتوجه السليم في الحياة.

  • (٨)

    ترتبط الأسطورة بنظام ديني معيَّن، وتتشابك مع معتقدات ذلك النظام وطقوسه المؤسسة، وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورة إذا انهار النظام الذي تنتمي إليه، وتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الشبيهة بالأسطورة، مثل الحكاية الخرافية والقصة البطولية، وقد تدخل بعض عناصرها في الحكاية الشعبية.

اعتمادًا على الوصف الذي قدمته أعلاه أستطيع أن أخلص إلى ما يشبه التعريف، فأقول بأن الأسطورة هي «حكاية مقدَّسة مؤيَّدة بسلطانٍ ذاتي». والسلطان الذاتي للأسطورة هنا لا يأتي من أية عوامل خارجة عنها، بل من أسلوب صياغتها وطريقة مخاطبتها للجوانب الانفعالية وغير العقلانية في الإنسان. وما زلنا حتى اليوم، نحن أهل دولة العقل العالمية هذه، نشعر بسلطان الأسطورة يغمرنا كلما وقفنا بين يديها دون أن ندري لذلك سببًا.

تنشأ الأسطورة إذًا عن المعتقد الديني، وتكون امتدادًا طبيعيًّا له، فهي تعمل على توضيحه وإغنائه، وتثبته في صيغة تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال، كما أنها تزوده بذلك الجانب الخيالي الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية. ويبدو أن المهمة الأساسية للأسطورة هي تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حية، خصوصًا في المعتقدات التي تقوم على تعدد الآلهة؛ فالأساطير هي التي ترسم صور الآلهة، وتعطيها أسماءها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحد لها صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض. فالإله الأزلي القابع فيما وراء الزمن الجاري هو إلهٌ نظري ذو طبيعة فلسفية، وهو لا يُباشر وجوده الفعلي وصِلته بعالم الناس إلا عندما يعلن عن فعاليته الواضحة في الزمن ويقوم أو يشارك في خلق وتكوين العالم، وهذا ما ترويه وتفصله لنا الأساطير. فالأسطورة تقوم على مفهوم زماني لا مكاني، كما يقول الفيلسوف الألماني المعاصر أرنست كاسيرر؛٣ ولذلك فإن الأسطورة الحقة كما يراها لا تبدأ عندما نُكون تلك الصور المحددة عن الآلهة، بل عندما نعزو لهذه الآلهة بداية محددة في الزمن، وعندما تباشر هذه الآلهة فعالياتها وتنبئ عن وجودها في سياق زمني؛ أي عندما يتحول الوعي الإنساني من فكرة الألوهة إلى تاريخها.٤ فمن خلال هذا التاريخ الذي ترسمه الأسطورة، يعلو الإله على مظاهر الطبيعة ويتسلط عليها، ومن خلال الذاتية التي ترسم خروجه من العماء الساكن إلى الزمن المتحرك، تنتقل الألوهة من الوجود المجرد إلى الفعل الذي يظهرها في عالم الإنسان ويربطها إلى مسار حياته.

من هنا تأتي أهمية ميثولوجيا التكوين في أديان الشعوب، وعلو شأن أسطورة الخلق في النظم الميثولوجية. إن العمل الأول الذي يقوم به الإله الأكبر هو خلق العالم والخروج به من عماء اللاتمايز المكاني والزمن الراكد إلى الوضوح وعالم الحركة والفعل، عالم الزمن الدينامي. فهذا الإله إنما يبتكر نفسه بابتكاره للكون، ويبدأ تاريخه الخاص إذ يبتدر مظاهر هذا الكون. لذلك كانت أسطورة التكوين البابلية هي سيدة أساطير تلك الثقافة؛ فعندما «لم يكن هنالك سماء في الأعالي، ولم يكن هنالك أرض في الأسفل»، كما يقول مطلع الأسطورة، لم يكن هناك سوى آلهة العماء القابعة وراء الزمن، والمعارِضة لأية حركة أو فعل، ثم جاء الإله الخالق مردوخ ليبتدئ سيرة حياته مع سيرة حياة الكون الذي أخرجه من لجَّة العماء البدئي؛ ولذلك أيضًا تتصدر أسطورة التكوين التوراتية الصفحة الأولى من كتاب «العهد القديم». «ففي البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف فوق وجه المياه»، كما يقول مطلع سفر التكوين، أما ما كان قبل ذلك فلا نعرف عنه شيئًا، ولا عما كان يفعله «يهوه» قبل أن يشرع في خلق السموات والأرض.

إضافة إلى العروة الوثقى التي تجمع الأسطورة إلى المعتقد، فإن الأسطورة من ناحية أخرى ترتبط بشكل وثيق بالطقس؛ فالطقس كما أوضحت هو جسرٌ بين المتعبِّد وقوًى قدسية معينة، وكلما كانت هذه القوى ذات شخصيات محددة وخصائص وسيرة حياة ترسمها الأساطير، كلما ازداد الطقس غنًى وتعقيدًا. وعلى العكس من ذلك، فإن الطقس يميل نحو البساطة كلما مال المعتقد إلى التجريد وافتقر إلى الأساطير. وهنا يمكن أن نسوق مرةً أخرى مثالًا مستمدًّا من الديانة الآتونية، التي وجدنا في معتقدها نموذجًا معبرًا عن المعتقد التجريدي الذي لا يستعين بالأساطير؛ فبعض الباحثين في الفرعونيات، يعلن صراحةً أنه لا يعرف شيئًا عن طقوس ديانة أخناتون،٥ والبعض الآخر يرى أن الطقوس كانت موجودة في تلك الديانة، ولكنها كانت غاية في البساطة، وتتألف من تقدمات من الثمار والأزهار للإله آتون، مصحوبة بأناشيد وموسيقى عذبة، مستدلين على ذلك من صور تُمثل الفرعون وزوجته نفرتيتي في زيارة للمعبد ورعايتهما لمثل هذه الطقوس، ومن مقطع من الترتيلة القصيرة لأخناتون حيث يقول: «جوقات المنشدين من رجال ونساء ترفع إليك أعذب الإنشاد في المعبد الكبير وفي كل معبد …»٦ فإذا قارنَّا هذا النوع من الطقوس بطقوس عبادات الخصب في ثقافات المشرق العربي القديم، ونموذجها عبادة الإله تموز الرافدي، لوضح أمامنا الفرق بين طقوس الدين الفقير بالميثولوجيا وطقوس الدين الغني بها؛ فطقوس الإله تموز التي تستند إلى ميثولوجيا كثيرة الغنى والتعقيد، كانت تُقام على مدار السنة في بلاد سومر لتُرافق دورة حياته السنوية كما رسمتها الأسطورة. وبشكل خاص، كان عُباد تموز يحتفلون بثلاثة أعياد طقسية رئيسية تؤشر لثلاثة مراحل في حياة الإله العاصفة والقصيرة؛ فهناك احتفالات الزواج المقدس حيث تقام دراما طقسية كبرى تمثل زواج تموز بالإلهة إنانا، ولكن سعادة الإله لا تدوم طويلًا، ولا يلبث أن يموت في الصيف وتجرُّه العفاريت إلى العالم الأسفل، فتقام عليه المناحات في طول البلاد وعرضها، حتى إذا جاء الربيع بُعث إلى الحياة من جديد، وأقيمت الأفراح بصعوده من عالم الأموات جالبًا معه كل خير عميم. وإضافة إلى هذه المناسبات الطقسية الرئيسية، كانت تقام في معابد الخصب طقوسٌ ثانوية أخرى مثل طقوس الخصاء، حيث كان الكهنة الجُدد يُضحون بذكورتهم قربانًا للإلهة إنانا زوجة تموز، وطقوس البغاء المقدس المعروفة في جميع أنحاء الشرق القديم.
ومن الطقوس البسيطة التي تقوم على معتقد خلو تمامًا من الأساطير، يمكن أن نذكر طقوس السحر. والسحر كما نراه، وكما سنوضح ذلك لاحقًا، هو نوع بدائي من أنواع الدين، فطقوس السحر تقوم على معتقد تجريدي، وبسيط٧ إلى درجة لم يستطِع معها معظم الباحثين تبينه وتحديده، فقالوا باستقلال السحر عن الدين. ومنهم جيمس فريزر الذي يعتبر أن السحر لا يقوم على أي معتقد، بل على جملة من المبادئ الشبيهة بمبادئ العلم الحديث؛ حيث تخضع الطبيعة لجملة من القوانين، وتتصل أحداثها من خلال نظام حتمي للسبب والنتيجة يمكن التنبؤ به بدقة، وما على الساحر هنا إلا أن يكتشف هذه العلائق، ويعمل على توجيهها لغاياته دون الاستعانة بقوًى ما ورائية من أي نوع.٨ إلا أن الدراسات الأنتروبولوجية المعاصرة قد أبرزت الصلة التي تجمع السحر إلى الدين، وكشفت عن الأساس الديني للمعتقدات والممارسات السحرية.
إن دراسة أديان ومعتقدات الشعوب البدائية، قد أوصلت الباحثين إلى مفهوم أساسي من المفاهيم التي تقوم عليها المعتقدات الدينية للبدائيين، وهو مفهوم المانا Mana، والكلمة من مفردات اللغات المحلية في ميلانيزيا، وتشير إلى قوة غفلة تسري في الطبيعة كما تسري الحياة في أعضاء البدن، هي للعالم بمثابة الروح التي تتخلل مظاهره، من دون أن تكون حالَّة في كائناتٍ ما ورائية مشخَّصة. وقد كان للباحثَين Mauss وHubert فضل التنبيه إلى أن السحر إنما يقوم على فكرة المانا؛ ففي كتابه «النظرية العامة في السحر Théorie Générale De La Magic»، يجد Mauss أن الممارسات السحرية تعتمد على مفهوم غامض مشابه لمفهوم المانا، حيث تتبادل الأشياء التأثير ببعضها عبر وسط متصل يجمعها إلى بعضها، فيما يشبه الفكرة الرواقية عن كون حي متصل.٩ ثم قام إميل دوركهايم بدراسة مستفيضة لعلاقة السحر بالدين في كتابه «الأشكال الأولية للحياة الدينية»، مبينًا أن السحر ليس إلا نوعًا ابتدائيًّا من أنواع الدين.١٠ ثم عمدت جين هاريسون إلى تطبيق أفكار دوركهايم بشكل واسع على علاقة الأشكال الأولية للدين الإغريقي بالسحر، وذلك في كتابها المعروف عن الأصول المجتمعية للدين الإغريقي الصادر عام ١٩١٢م.١١ وقد مهَّد هؤلاء البحاثة إلى إعادة نظر شاملة في مؤسسة السحر قديمًا وحديثًا.
ولتبيان مدى بساطة الطقس السحري، يمكن الاستعانة بمثالٍ كلاسيكي يتعلق بطقس إنزال المطر؛ فمن وظائف ساحر القبيلة، في الثقافات التقليدية المعاصرة، التحكم بالمطر بواسطة طقوس تقوم في بعضها على تقليد هطول المطر، وذلك برشِّ الماء وإحداث أصوات تشبه الرعد وفق حركات معينة مدروسة وباستخدام أدوات خاصة، ومن المفترض عند ذلك أن تستجيب الطبيعة بإرسال المطر.١٢ وفي أماكن متفرقة من العالم اليوم، هنالك طقس سحري للغرض نفسه يقوم على تقليد صوت المطر عن طريق هز أداة إيقاعية قوامها نبتة قرع من النوع المنتفخ الرأس والمستدق الطرف، وذلك بعد تجفيفها تحت الشمس حتى يفرغ داخلها، وتتحرك بذورها بحرية لإحداث الصوت المطلوب. ويبدو أن مثل هذه الممارسة كانت معروفة في بلاد اليونان في القرن الثامن ق.م. كما تدلنا على ذلك بعض الرسوم على الفخار.١٣ فإذا قارنَّا مثل هذا الطقس السحري بطقوس الخصب في الديانات ذات المعتقدات والأساطير الغنية والمركبة، أدركنا مدى بساطة الفكرة الكامنة وراءه؛ فالساحر هنا لا يُقرب الذبائح إلى الآلهة، ولا يصلي لها، ولا يقود دراما طقسية معقدة لإحلال الخصب، وإنما يقوم بالتأثير على مظاهر الطبيعة من خلال تلك القوة الغفلة التي تسري في كل شيء، والتي من شأنها تحويل الإجراء الطقسي الذي يجري في هذا الجانب إلى فعل حقيقي يتم في الجانب الآخر.
إن ما قدَّمته حتى الآن من أفكار وملاحظات حول الأثر الذي تمارسه الأسطورة على الطقس، لا يقصد إلى إعطاء أسبقية لهذه على ذاك؛ فكما تقوم الأسطورة بإغناء الطقس، فإن هذا بدوره يعمل على تثبيت الأسطورة في الأذهان والنفوس، خصوصًا في الطقوس الدورية الكبرى التي تُشكل المعادل الدرامي الحركي والمنظور للنص الأسطوري، ومثالها الكلاسيكي أعياد رأس السنة في بلاد الرافدين، حيث يجري تمثيل أسطورة التكوين البابلية اعتمادًا على نص درامي موضوع خصوصًا لهذه الغاية، وتقوم أحداثه على النص التقليدي المعروف. إلا أن فريقًا من الباحثين ممن أقبل على دراسة الدين والأسطورة مع بداية هذا القرن، وفق منظور متأثر بالمعطيات الجديدة لعلم الأنتروبولوجيا الناشئ قد أسَّس لاتجاه أحادي النظرة يرى في الأسطورة ناتجًا من نواتج الطقس. من هؤلاء البحَّاثة مجموعة صغيرة عُرفت يومها باسم «مجموعة كابريدج»، وكانت شديدة التأثير في الحلقات الأكاديمية، وما زال فكرها يتمتع حتى اليوم ببعض المؤيدين. من بين أولئك الرواد نذكر جين هاريسون Jane Harrison في كتابها Themes، وكوك A.B. Cook في كتابه Zeus، وكونفورد M.F. Conford في كتابه From Philosophy to Religion.١٤ أما كيف تنشأ الأسطورة عن الطقس في رأي هذه المدرسة، فراجع إلى أن الطقوس التي تمارسها الجماعة منذ أقدم الأزمنة وتتناقلها الأجيال بحرفيتها، تفقد بمرور الوقت معناها وبواعثها الأولى، فتأتي الأسطورة لكي تقدم تبريرًا لتلك الطقوس وتنسج حكاية من شأنها تزويد الطقس بمعنًى وغاية؛ فأسطورة الإله آتيس، مثلًا، الذي خصى نفسه تحت شجرة الصنوبر ونزف حتى الموت، ليست في تفسير هؤلاء إلا تسويغًا لطقوس الخصاء التي كان كهان آتيس يمارسونها. وأسطورة قيام التيتان في التقاليد الديونيسية بتمزيق الإله ديونيسيوس حيًّا في هيئة الثور التي تحوَّل إليها وهو يهرب من وجههم، ليست إلا تسويغًا للطقس الذي كان يتم بموجبه في أعياد ديويسيوس تمزيق ثور حي والتهامه نيئًا في ذروة الانفعال الطقسي. ولقد غدت أفكار هذه المدرسة الطقسية في تفسير الأسطورة مرفوضةً اليوم، وعلى نطاقٍ واسع.
يعتمد تطوُّر النظام الميثولوجي لثقافةٍ ما على تطور ونضج اللغة وأساليب التعبير اللغوية؛ ذلك أن الأسطورة في صيغتها الشكلية، كما ألمحنا منذ قليل، هي نوع من أنواع الأدب، بل ربما كانت أول أدب أبدعه الإنسان، والأدب لا تنضج أدواته ولا يشب عن الطوق إلا بتأصيل تقاليده. من هنا فإن الثقافات التي وصلت لغاتها إلى مراحل متقدمة كفيلة بالتعبير عن أدق المجردات، واغتنت وتنوعت لديها أساليب الصياغة الأدبية، تتكاثر عندها الأساطير وتتضخم إلى درجةٍ تفوق حاجات معتقداتها الدينية، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى تحوُّل نوع من الأساطير إلى مجرد أدب دنيوي يعيش على هامش الدين ولا يتصل به إلا أوهى اتصال. ومثالنا الأوضح على ما نذهب إليه هنا هو الميثولوجيا الإغريقية؛ ففي ذلك الحشد الكبير من الأساطير التي تركها لنا الإغريق نستطيع تمييز ثلاثة أنواع من الأساطير؛ فهنالك نوع يتصل بالديانة الإغريقية اتصالًا صميميًّا ويشكل جزءًا من بنية المعتقد الديني، وهنالك نوع ثانٍ قد ضاعت صلاته الدينية حتى لا نكاد أن نتبيَّنها، هنالك نوع ثالث استقل عن الدين واستمر كأدبٍ دنيوي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالحياة الدينية، رغم امتلاء قصصه بالشخصيات الإلهية والشيطانية من كل نوع. ولا أدلَّ على ابتعاد الأساطير الإغريقية عن منبتها الديني من عناية الأدباء والشعراء بإعادة تحريرها وصياغتها، خصوصًا في العصر الروماني، بطريقة قضت على آخر لمسات القداسة التي تمتَّعت بها قديمًا. من هؤلاء نذكر الشاعر فيرجيل صاحب الإنيادة، والشاعر أوفيد في كتابه «التحولات»، وكلاهما عاش في القرن الأول قبل الميلاد. يقول أوفيد في مطلع تحولاته: «إن هدفي في هذا الكتاب أن أقُص عن الكائنات التي تحولت عن أشكالها إلى أشكال أخرى مختلفة.»١٥ وهو يفي بوعده حتى آخر صفحة في الكتاب الذي بقي حيًّا مدة ألفين من السنين ومُلهمًا للأدب القصصي في الغرب، حيث يقدم لنا حشدًا من الأقاصيص التي تدور حول التحولات، أبطالها من الآلهة أو الجن أو البشر.
إن عدم التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة من الأساطير في الثقافات، التي تطور فيها الأدب حتى بغى على الأسطورة، قد قاد بعض الباحثين إلى موقف متطرف، حيث فضَّلوا استبعاد الأسطورة برُمَّتها من دائرة الدين على القبول بذلك الركام من القصص الأسطوري الذي يعزو إلى الآلهة كل نقيصة في طِباع البشر. من هؤلاء ماكس مولر الذي يرى في كتابه «محاضرات في علم اللغة» ضرورة التفريق بين الميثولوجيا والدين، فيضع الأساطير خارج دائرة الحياة الدينية. فالدين عنده هو المعتقدات التي تقود حياة أخلاقية سوية وتنبع عن لاهوت عقلاني، أما الأساطير فإنها نمو عشوائي على هامش الدين يجري تحت تأثير اللغة، ومن شيمتها إلصاق نفسها دومًا بالمعتقدات الدينية الأساسية وإفسادها. وعليه، فإن الاعتقاد بالإله زيوس مثلًا، هو اعتقاد ديني بمقدار ما يعمل هذا الاعتقاد على رفعه كإلهٍ أعلى وأب للبشرية وحامٍ للشريعة والعدالة، أما ما عدا ذلك، وخصوصًا فيما يتعلق بمغامرات زيوس العاطفية وزيجاته المتعددة واختطافه لبنات وبني الناس إلى قمة الأوليمب، فهي مجرد أقاصيص ينبغي ألا تؤخذ على محمل الجد.١٦ وفي الحقيقة، فإننا لا نستطيع قبول هذا الرأي المتطرف على علاته، كما أننا لا نستطيع في الوقت ذاته أن نقبل كل الأساطير الإغريقية باعتبارها الوجه الآخر للمعتقد الديني الإغريقي. كل ما في الأمر أنه يتوجب علينا عندما نتحدث عن الأسطورة أن نقول أي نوع من الأساطير نعني. ففي الوضع المشوَّش الحالي لعلم الأسطورة (كما أرى هذا الوضع)، حيث يتم جمع كل الأقاصيص التي تُروى عن الآلهة تحت عنوان الأساطير، علينا أن نعترف بأن النظام الميثولوجي لأية ثقافة ليس شأنًا دينيًّا بحتًا، وأن هناك زمرة من الأساطير غير الدينية تقوم إلى جانب الأساطير الدينية وتخدم غايات معرفية ومجتمعية شتى؛ بعضها قد يخرج عن النظام الميثولوجي ويشق لنفسه طريقًا مستقلًّا، وهذه هي بدايات تشكل الحكايات الخرافية والقصص الشعبي، وما إلى ذلك من أجناس أدبية ورثت الأسطورة ونهلت من منابعها.
أخيرًا، سوف أعمد فيما يأتي إلى تقديم مثال حي، يُرينا بجلاء كيف يعرض المعتقد الديني نفسه من خلال الأسطورة. والنص الذي اخترته هو أسطورة من الديانة المانوية التي بشَّر بها «ماني»، الذي وُلد في منطقة بابل لأسرة إيرانية عام ٢١٦ ميلادية. ورغم أن الأساطير المانوية تحمل الطابع الشخصي لماني وفكره، إلا أنها تقوم على تقاليد دينية فارسية قديمة ومتجذرة. تهدف هذه الأسطورة إلى شرح المعتقد الثنوي المانوي، الذي يرى في الوجود تنازع قوتين كونيتين هما قوة الخير وقوة الشر، وأن الشر قد دخل في نسيج العالم منذ البداية، ولكنه سوف يزول تدريجيًّا مع تقدم الزمن. وقد اعتمدت هنا النص العربي للأسطورة، كما قدَّمه ابن النديم في «الفهرست».١٧ ويُعتبر النص العربي الأكثر قربًا إلى النص الذي خطه ماني؛ لأن المؤلفين العرب كانوا على اطلاع مباشر على المراجع المانوية المتوفرة بين أيديهم في ذلك الوقت، وكانت المانوية ما تزال حيةً خلال القرون الأولى للعصر الإسلامي، وتُشكل منافسًا حقيقيًّا للإسلام في الأقطار المفتوحة. يقول ماني:

«مبدأ العالم كونان؛ أحدهما نور والآخر ظلام، كلٌّ منهما منفصل عن الآخر. فالنور هو العظيم الأول — ليس بالعدد — وهو الله ملك جِنان النور، وله خمسة أعضاء هي الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وخمسة أُخر روحانية هي الحب والإيمان والوقار والمروءة والحكمة. وهو بصفاته هذه أزلي، ومع شيئين أوليين هما أرض النور وجو النور، وأعضاء جو النور خمسة هي الحلم والعلم والعقل والغيب والفطنة، وأعضاء أرض النور هي النسيم والريح والنور والماء والنار. أما الكون الآخر، وهو الظلمة، فأعضاؤه خمسة، وهي الضباب والحريق والسَّموم والسُّم والظلمة.

وذلك الكون النيِّر مجاور للكون المظلم لا حاجز بينهما، فلا نهاية للنور من فوقه ولا يمنته ولا يسرته، ولا نهاية للظلمة من سفلها ولا من يمنتها ولا من يسرتها. ومن الأرض المظلمة كان الشيطان الذي ليس أزليًّا بعينه رغم أن مكوناته بحد ذاتها أزلية. ورأس هذا الشيطان كرأس أسد، وبدنه كبدن تنين، وجناحه كجناح طائر، وذنَبه كذنَب حوت، وأرجله أربع كأرجل الدواب. فلما تكوَّن هذا الشيطان من الظلمة تسمَّى إبليس القديم، ثم راح هذا الإبليس يتحرك يمنةً ويسرة وإلى الأسفل يُهلك كل من غالبه. ولما رام العلو رأى لمحات النور، فأعد نفسه وتسلَّح استعدادًا للانقضاض على مملكة النور من أسفلها، فعَلِم به ملك جنان النور واحتال لقهره، وكان جنوده قادرين على قهر إبليس ولكنه أراد أن يتولى ذلك بنفسه، فأولد مولودًا، وهو الإنسان القديم،١٨ وندبه لقتال الظلمة، فتدرَّع الإنسان القديم بالأجناس الخمسة، وهي النسيم والريح والنور والماء والنار، واتخذها سلاحًا؛ فأول ما لبس النسيم، وارتدى على النسيم العظيم بالنور المشع، وتعطف على النور بالماء ذي الهباء، واكتنَّ بالريح الهابَّة، ثم أخذ بيده النار كالمجن والسنان، وانحط بسرعةٍ نحو مكان إبليس. وعمد إبليس القديم إلى أجناسه الخمسة، وهي الدخان والحريق والظلمة والسَّموم والسُّم، فتدرَّعها، ولقي الإنسان القديم فاقتتلوا مدة طويلة، ولكن إبليس ظهر على الإنسان القديم، وبلغ من نوره، وأحاط به مع أجناسه وعناصره، ولكن ملك جنان النور أرسل وراءه نجدة من قوى عالم النور خلَّصت الإنسان القديم وأسرت من أرواح الظلمة.

وحدث لما شابك إبليس القديم بالإنسان القديم بالمحاربة، أن اختلط من أجزاء النور الخمسة بأجزاء الظلمة الخمسة؛ فخالط الدخان النسيم، فمنها هذا النسيم الممزوج؛ فما فيه من اللذة والترويح عن الأنفس وحياة الحيوان فمن النسيم، وما فيه من الهلاك والإيذاء فمن الدخان. وخالط الحريق النار، فمنها هذه النار؛ فما فيها من الإحراق والهلاك والفساد فمن الحريق، وما فيها من الإضاءة والإنارة فمن النار. وخالط النور الظلمة، فمنها هذه الأجسام الكثيفة مثل الذهب والفضة وأشباه ذلك؛ فما فيها من الصفاء والحُسن والنظافة فمن النور، وما فيها من الدرن والكدر والغلظ والقساوة فمن الظلمة. وخالط السموم الريح، فمنها هذه الريح؛ فما فيها من المنفعة واللذة فمن الريح، وما فيها من الكرب والتعوير والضرر فمن السموم. وخالط الضباب الماء، فمنها هذه الماء؛ فما فيها من الصفاء والعذوبة والملاءمة للأنفس فمن الماء، وما فيها من التغريق والتخنيق والإهلاك والثقل فمن الضباب.

فلما اختلطت الأجناس الخمسة الظلمية بالأجناس النورية، نزل الإنسان القديم إلى غور العمق فقطع أصول الأجناس الظلمية لئلا تزيد، ثم انصرف إلى موضعه من الناحية الحربية، فأمر بعض الملائكة باجتذاب ذلك المزاج إلى جانب من أرض الظلمة يلي أرض النور، فعلقوهم بالعلو. وبعد ذلك أمر ملك عالم النور بعض ملائكته بخلق هذا العالم وبنائه من تلك الأجزاء الممتزجة، من أجل تخليص أجناس النور من أجناس الظلمة، فبنى عشر سموات وثماني أرضين، ووكل ملكًا بحمل السموات وآخر برفع الأرضين، وجعل حول هذا العالم خندقًا ليطرح فيه الظلام الذي يستصفى من النور، وجعل خلف ذلك الخندق سورًا لكيلا يذهب شيء من تلك الظلمة المفردة عن النور، ثم خلق الشمس والقمر لاستصفاء ما في العالم من النور، فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر، والقمر وسائر النجوم تستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد. وهكذا فأجزاء النور أبدًا في الصعود والارتفاع، وأجزاء الظلمة أبدًا في النزول والتسفل، حتى تتخلص الأجزاء من الأجزاء، فيبطل الامتزاج وتنحل التراكيب، ويصل كلٌّ إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والمعاد.

ومما يعين في التخلص والتمييز ورفع أجزاء النور، التسبيح والتقديس والكلام الطيب وأعمال البِر؛ فترتفع بذلك الأجزاء النورية في أعمال عمود الصبح (درب التبانة، طريق المجرة المضيء) إلى فلك القمر، فلا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى النصف، فيمتلئ فيصير بدرًا ثم يؤدي إلى الشمس، إلى آخر الشهر، فتدفع الشمس إلى نور فوقها في عالم التسبيح، فيسير في ذلك العالم إلى النور الأعلى الخالص، ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا العالم. فإذا انقضى التدبير ورأت روح الظلمة خلاص النور وارتفاع الملائكة والجنود والحفظة، رامت القتال، فيزجرها الجنود من حولها، فترجع إلى قبر قد أُعد لها، ثم يُسد على ذلك بصخرة تكون مقدار الدنيا، فتتم حينئذٍ الراحة من الظلمة وأذاها.»١٩

قد لا تُقابل هذه الأسطورة كل المعايير التي أوردتها سابقًا، ولكنها بالتأكيد مثالٌ ناصع على ارتباط الأسطورة بالمعتقد ارتباطًا يصعب معه الفصل بينهما في بعض الأحيان.

•••

المعتقد والطقس والأسطورة، هذه هي المقومات المكونة للدين، والتي لا نستطيع التعرف على الظاهرة الدينية في تبدِّيها المجتمعي، بدون التعرف عليها مجتمعة ومتعاونة. إن الحالة المثالية هي الحالة التي لا يطغى فيها أحد هذه العناصر على العناصر الأخرى، ولكن واقع الأمور لا يضعنا إلا فيما ندر أمام مثل هذه الحالة المتوازنة، ومعظم الأديان يُبدي تفوقًا لأحد هذه العناصر على الأخرى؛ ففي تعاليم بوذا الأصلية، والتي استمرَّت فيما عُرف إلى اليوم ببوذية اﻟ «هينايانا» (ومقابلها بوذية المهايانا)، لا نواجه إلا معتقدًا خلوًا تمامًا من الميتافيزيك، ومصاغًا بطريقة مباشرة. وقد رفض البوذا في كل مناسبة التحدثَ عن الماورائيات مُنبهًا إلى أن همَّ الإنسان ينبغي أن يتركز على تحرير نفسه من عالم المظاهر والانطفاء في «النيرفانا» حالة السكون الأبدي، كما رفض حتى الدخول في شروح وتفصيلات حول حالة النيرفانا هذه، مُفضِّلًا الإشارة إلى طرق وسُبل تحقيقها. ونظرًا لغياب القوى الماورائية في المعتقدات البوذية من أي نوع، فقد حلَّت المجاهدات الروحية محل الطقوس، وانعدمت الأساطير بشكل كامل، فيما عدا سيرة البوذا نفسه، التي صارت إلى حالٍ يشبه الأسطورة. أما أديان الشرق القديم فتُقدم لنا مثالًا مغايرًا تمامًا؛ فهنا تسود الأسطورة الدينية وترتقي مراتب لم تبلغها في أية ثقافة أخرى، خصوصًا في سومر وبابل، كما يرتفع شأن الطقوس ليغلب على الأسطورة في مصر الفرعونية. وفي الديانات المدعوة بالديانات السحرية يرتفع شأن الطقوس القائمة على معتقدات غامضة وتنعدم الأساطير، ومثال هذه عبادة «الفوندو» في أفريقيا وهاييتي.

إلى جانب هذه المكونات، التي أصفها بالأساسية، هناك مكوناتٌ ثانوية لا تلعب دورًا أساسيًّا في تكوين الدين، وإنما تظهر كعوامل مساعدة، وضمن سياقات تاريخية واجتماعية معينة، وهي: الأخلاق والتشريع.

١  Savitri Devi, Son of the Sun, A. M.O. R.C San Jose, California 1981.
٢  Joseph Campell, The Masks of God, Penguin Books, London 1978.
٣  Ernest Cassirer, The Philosophy of Symbolic Forms, Yale. New Haven 1977, Vol. 2. pp. 104–105.
٤  Ibid p. 105.
٥  W. Budge, Tutankhamen 1923 p. 9 (Cited in: Savitri Devi, op. cit, p. 164).
٦  Savitri Devi, op. cit, pp. 164, 174.
٧  وكما يلاحظ القارئ، فإني استخدم تعبير «بسيط» هنا في وصف الطقس أو المعتقد لا بمعنى السذاجة والبدائية، بل كنقيض للمعقَّد والمركَّب.
٨  James Frazer, The Golden Bough, op. cit, pp. 12–13, 56–57.
٩  انظر الترجمة الإنكليزية للكتاب: M. Mauss, A General Theory of Magic, London, 1972.
١٠  Emile Durkheim, The Elementary Forms of Religious Life, op, cit.
١١  Jane. E. Harrison, Themes, Cambridge 1927, University Books, New York, 1966, ch. 4.
١٢  James Frazer, The Golden Bough, op, cit, p. 72.
١٣  Jane E. Harrison, op. cit, pp. 77–78.
١٤  انظر أفكار هؤلاء وغيرهم من أتباع المدرسة الطقسية في كتاب Kirk G. S. Kirk, Myth, Its Meaning and Functions, Cambridge University Press, 1983, ch. 1.
١٥  Ovid. Metamorphoses, translated by: M. M. Innes, Penguin 1981, p. 29.
١٦  من أجل عرض عام لأفكار مولر راجع: J. Voiget, Max Muller, The Man And His Ideas, Calcutta, 1967.
١٧  انظر ملاحق كتاب ماني والمانوية للدكتور سهيل زكار، دمشق ١٩٨٥م.
١٨  تتضح ماهية هذا الإنسان القديم من سياق النص، حيث يقول بأن إله النور أراد أن يتولى قتال إبليس بنفسه، فأولد مولودًا هو الإنسان القديم؛ أي إنه جزء من نفسه وشخصية تُعبر عن حقيقة من حقائق الذات الإلهية. وتعبير الإنسان القديم هنا يشبه إلى حدٍّ بعيد تعبيرَ «الإنسان الكامل» في التصوف الإسلامي، وكان أول من استعمله محيي الدين بن عربي. يقول في الفتوحات الملكية: «الإنسان الكامل أقامه الحق برزخًا بين الحق والعالم، فيظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقًّا، ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقًا.» وأيضًا: «الإنسان الكامل الجامع حقائق العالم وصورة الحق سبحانه.» وأيضًا: «الإنسان الكامل روح العالم، ولعالم مُسخَّر له علوه وسفله. وإن الإنسان الحي من جملة العالم المسخَّر له» (انظر الطبعة المحققة، الجزء ٢، ٣٩١؛ و٣، ٤٤٧؛ و٣، ٢٦٦).
١٩  انظر نص هذه الأسطورة المانوية في كتاب الفهرست لابن النديم، تحقيق الدكتورة ناهد عباس عثمان، الدوحة ١٩٨٥م، ص٦٤٤–٦٤٦.
وانظر أيضًا ملاحق كتاب ماني والمانوية، ترجمة الدكتور سهيل زكار، المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤