المكونات الثانوية للدين
عندما نتحدث عن المكونات الثانوية للدين في مقابل مكوناته الأساسية، فإننا لا نقصد بصفة الثانوية هذه التقليل من شأنها على أي صعيد، بل إلى وصف دورها في عملية تكوين الدين ودرجة أولويتها في التعرف على الظاهرة الدينية. ففي السياقات التاريخية لأديان الإنسان وضمن ظروف اجتماعية وسياسية معينة، تأتي إلى الدين عناصر لم تكن منه ابتداءً، ولم يكن لها شأن في تأصيل بداياته الأولى، وهذه هي: الأخلاق والشرائع.
رغم التشابك المتين بين الدين والأخلاق، والعلاقة الموغلة في القِدم بينهما، فإنهما من حيث المبدأ مفهومان مختلفان تمام الاختلاف، ومتمايزان كل التمايز، رغم ما يبدو من صلتهما الوطيدة؛ فالدين عبارة عن معتقدات وممارسات تنظم سلوك الإنسان تجاه عالم المقدسات وتزوده برؤيا شمولية للكون وموضع الإنسان في هذا العالم. أما الأخلاق فإنها قواعد وممارسات تنظم سلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة التي يُشكلون أعضاءها، وهي تنشأ بشكل خاص لحل المشكلات الناجمة عن التنافس بين الأفراد والمجموعات، فتعمل على تسوية المنازعات التي تخلقها الحياة المشتركة. فالأخلاق والحالة هذه هي بديلٌ عملي وناجح لأسلوب القوة والإكراه في العلاقات الاجتماعية، وتختلف عنها في أنها ترجع إلى مبادئ للسلوك متفق عليها ومقبولة من قِبَل الجميع. إلا أن العلاقة المعقَّدة بين الدين والأخلاق تبدأ عندما تتعلق المشروعية الخلقية بمؤيدات تنبع عن المعتقد الديني المشترك، بدل أن تتعلق بالفهم السليم للعلاقات الإنسانية المتبادلة.
يكفي هذا القدر اليسير من الأمثلة (وتعدادها جميعًا يتطلب مجلدًا بأكمله) لإظهار الأساس المشترك بين تحريمات التابو ولوائح الأخلاق الدينية؛ فكلاهما يجد تأييده في قوة خارجة عن الإنسان، وكلاهما مما ينصاع له الأفراد دون مناقشة أو محاكمة عقلية. ولكن، بينما تقتصر تحريمات التابو على قواعد تتعلق بعدم تعدي حدود قوًى إلهية أو سحرية غفلة، فإن لوائح الأخلاق الدينية تتجاوز ذلك لتشمل العلاقات المتبادلة ضمن الجماعة. من هنا، أستطيع الافتراض، ببعض الثقة، بأنه عند مرحلة معينة من تطور المجتمعات القديمة، اتسعت دائرة التابو لتستوعب تدريجيًّا بعض القواعد الأخلاقية التي كانت حتى ذلك الوقت شأنًا دنيويًّا تنظمه الأعراف القبلية، في الوقت الذي أخذت فيه التحريمات القديمة تفقد سطوتها مع تغير المفاهيم الدينية. ولعل مما يؤيد هذا الافتراض، أن الوصايا الأخلاقية في بعض الأديان المتطورة تختلط في النص الواحد بتحريمات تقوم على مبدأ التابو القديم، وهذا ما نراه بكل وضوح في كتاب التوراة. فمع الوصايا الأخلاقية العشر في سِفر الخروج، يستلم موسى عددًا من التحريمات التي لا يمكن تفسيرها إلا على ضوء مفهوم التابو البدائي، وهي تهبط من السماء باللهجة الإلزامية للوصايا العشر نفسها، وفي الجو القدسي المرعب نفسه. نقرأ في سفر الخروج ٢: ١٨–٢٦: «وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق، وصوت البوق والجبل يُدخن … وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الرب، فقال الرب لموسى، هكذا تقول لبني إسرائيل … مذبحًا من تراب تصنع لي … وإن صنعت لي مذبحًا من حجارة فلا تبنهِ منها منحوتة، إذا رفعت عليها إزميلك تُدنسها، ولا تصعد بدرج إلى مذبحي كي لا تنكشف عورتك.» أما لماذا يتوجب صُنع المذبح من تراب أو من حجر غير منحوت، ولماذا يتوجب عدم استعمال الإزميل الحديدي في تسوية الحجارة، فأمرٌ لا يوضحه التحريم؛ لأنه قائم على تابو، ومثل هذا التابو معروف لدى بعض المجتمعات البدائية الحديثة وبعض الحضارات القديمة مما سأسرده فيما يأتي:
ولعل من جملة الأسباب التي ساعدت على اتصال الأخلاق بالدين، وتحول لائحة التابو إلى قواعد أخلاقية، هو اجتماع السلطتين السياسية والدينية في يدٍ واحدة هي يد الملك-الكاهن، وذلك عند أعتاب التاريخ، عندما كانت المجتمعات البشرية تتحول لأول مرة في مناطق الهلال الخصيب من نظام القرية الزراعية إلى نظام المدينة. ولدينا براهين مؤكدة من المدن السومرية الأولى، وهي أسبق المدن في الحضارة الإنسانية، على سلطة المؤسسة الدينية، وعلى الصفة المزدوجة للملك السومري كحاكم زمني وككاهن أعلى. لقد شعر هؤلاء الحكام-الكهنة الأوائل، وهم يقودون مجتمعًا ودَّع إلى الأبد بساطة القرية وعلاقاتها الاجتماعية القبلية، وصار إلى حالة من التعقيد وتشابك العلاقات لم تماثلها حالة من قبل، شعروا بضرورة ربط المؤيدات الاجتماعية للسلوك الأخلاقية بمؤيدات تأتي من العالم الإلهي الذي يكافئ ويعاقب، ويحافظ من خلال القوانين الأخلاقية على نظام المجتمعات الإنسانية حفاظه على نظام الكون من خلال القوانين الطبيعية. ولما كان أولئك الحكام يسيطرون على أحوال الناس الدنيوية سيطرتهم على أحوالهم الدينية، فقد سهَّل عليهم هذا الوضع المتميز إحكام الربط بين النظام الأخلاقي والنظام الديني للجماعة. وقد زادت أواصر هذه العلاقة بمرور الزمن، حتى بدت الأخلاق والأديان وكأنها من طبيعةٍ واحدة وأصلٍ مشترك.
وبما أن الأخلاق لا تستكمل ارتباطها العضوي بالدين إلا عبر سياق تطوري بطيء، فإننا نستطيع متابعة هذا الالتحام التدريجي في بعض الأديان التي خضعت لعملية تطورية عبر فترة طويلة من الزمن، ولدينا عنها وثائق كتابية كافية، مثل الديانة اليهودية. فرغم أن الوصايا الأخلاقية العشر قد تصدَّرت سِفر الخروج، وهو ثاني أسفار التوراة، فإن وصايا «التابو» البدائي والأحكام الطقسية، قد طغت على الوصايا الأخلاقية في معظم أسفار الكتاب. فقد خُصص النصف الثاني من سِفر الخروج، وكل سِفر اللاويين الذي يليه، لبسط وتفصيل أحكام التابو التوراتي التي تتفق وكثيرًا من أحكام التابو التي أطلعنا عليها علم الأنتروبولوجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر. فمعظم ما تلقَّاه موسى من أحكام في سِفر الخروج وسِفر اللاويين هو أحكام تتعلق بكيفية أداء الطقوس أمام الرب، وطرائق تقديم الذبائح والقرابين، وكيفية إقامة خيمة الاجتماع، وبناء المذبح، وقواعد التحريم الخاصة بالتعامل مع تابوت العهد. أما سِفر اللاويين، فيُعتبر بحق سِفرًا للتابو العبراني؛ فهناك تابو اللمس (٣–١٥)، وتابو الطعام (١١: ١–٤٦)، وتابو المرأة في فترة الولادة والنفاس (١٢: ١–٨)، وتابو البرص والقرع (١٣: ١–٥٩)، وتابو السيلان (١٥: ١–٣٣)، وتابو الدم (١٧: ١–١٦)، وتابو المرأة الحائض (١٥: ٩–٣٣)، وتابو الجنس (٢٠: ٩–٢١) … إلخ، في الوقت الذي لم تنَل فيه الوصايا الأخلاقية من الأحكام إلا أقلها. والخطيئة الأخلاقية يمكن غسلها، أما تعدي حدود التابو فجريمة تستجلب القصاص الفوري؛ فمن «أخطأ وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبًا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبًا … يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشًا صحيحًا من الغنم، ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح عنه» (اللاويين ١: ٦–٦). وحتى ذنوب القوم يمكن غسلها جميعًا وفق الطقس المعروف بطقس تيس الخطيئة: «ويضع هارون يدَيه على رأس التيس الحي، ويُقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل، وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرضٍ مُقفِرة» (اللاويين ٢١: ١٦–٢٢). وفي المقابل، فإن ابنَي هارون، وهو الكاهن الأكبر، يموتان فورًا لتعديهما حدًّا من حدود التابو: «وأخذ ابنا هارون كلٌّ منهما مجمرته، وجعلا فيها نارًا، ووضعا عليها بخورًا، وقرَّبا أمام الرب نارًا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (اللاويين ١٠: ١–٢).
ونستطيع الافتراض بثقةٍ أن شأن الأخلاق لم يعلُ على الطقوس وعلى لوائح التابو إلا خلال الأسر البابلي، ومن خلال كرازة الأنبياء المتأخرين الذين قاموا بما يشبه الانقلاب الديني حقًّا. يقول إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب: أتخمتُ من محرقات كباش وشحم مسمنات … البخور هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل … رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت عليَّ ثقلًا، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. اغتسلوا تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر» (إشعيا ١٧–١: ١١). وعند عاموس نقرأ: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا … بغضتُ كرهتُ أعيادكم، ولست ألتذُّ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع، وليجرِ الحق كالمياه والبر كنهر دائم» (عاموس ٥: ١٤، ٢١–٢٤). كما يعلن هوشع على لسان الرب: «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هوشع ٦: ٦). إلا أن الانتصار الحقيقي للأخلاق في ديانات المشرق العربي لم يتم إلا مع مجيء المسيحية ومن بعدها الإسلام؛ فرسالة الأناجيل ليست سوى رسالة إيمان وأخلاق، وبولص الرسول، صاحب الفضل الأول في تحرير المسيحية من الفكر اليهودي، قد ركَّز في تعاليمه على فكرة أن الله لا يُطلَب بالذبائح بل بالإيمان والخُلق القويم، وكل رسالته إلى العبرانيين تقريبًا تحمل هذه المعاني. أما الإسلام، فقد أعلن منذ البداية صلة لا يمكن فصلها بين الدين والأخلاق؛ ولذا فغالبًا ما اقترن التكليف بالوصايا، كقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (الإسراء: ٢٣). كما شغلت الوصايا الأخلاقية الجزء الأكبر من أحاديث الرسول؛ ﻓ «الدين المعاملة»، و«إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وغير هذه الأحاديث كثير.
ولقد أثَّر علو شأن الأخلاق في الحياة الدينية، بشكل خاص، على مفهوم الإله عند الجماعة، وعلى ظهور شخصية إلهية مختصة بأمور الشر؛ فالإله الذي يحض على فضائل الأعمال ينبغي أن يمثل بذاته الخير المحض، ويترك شرور العالم لكي يتدبرها الشيطان. ففي الزرادشتية الإيرانية التي كانت، تاريخيًّا، أول من فصل بشكل مطلق بين الخير والشر في شخصية الإله، يجري تصور الكون برُمَّته على أنه نظام أخلاقي قُطباه قوتان؛ الأولى خيرٌ محض، والثانية شرٌّ محض. ومثل الزرادشتية في هذا، المانوية وريثتها الفكرية. أما اليهودية، فبسبب عدم توصلها إلى فكرة الخير المحض في شخصية الإله، فقد بقيت حتى اختتام تدوين أسفار التوراة في القرن الثاني قبل الميلاد (وهو زمن تدوين آخر الأسفار) لا توكل لشئون الشر على المستوى الكوني شخصية ما ورائية من أي نوع؛ لأن الخير والشر بقيا متلازمين في شخصية الإله. يقول يهوه على لسان إشعيا: «أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق البشر، أنا صانع كل هذه» (إشعيا، ٤٥: ٦–٧). أما الشيطان فيبدو في الأسفار الأولى كشخصية باهتة، وكنوع من الجن يسكن البوادي المُقفِرة تحت اسم «عزازيل»، من ذلك ما نراه في سِفر اللاويين (١٦: ٨، ١٠، ٢٦). ولم يرد ذكره تحت اسم الشيطان إلا مرات قليلة لا تكفي لإيضاح هويته ومجال سلطانه، ولكننا نعرف منها مقاومته لإرادة الرب، كما هو الحال في سِفر أيوب (١: ٦–١٢)، وزكريا (٣: ١–٢). ثم يأتي العهد الجديد ليرسم الشخصية الواضحة للشيطان، ويعطيه سلطانًا على العالم يشبه سلطان أهريمان الزرادشتي؛ فهو ملاكٌ سقط بسبب الكبرياء (رسالة بولص إلى أهالي إفسوس ٦: ١٢)، وهو رئيس رتبة من الأرواح النجسة (متى ١٢: ٢٤)، ويقود العصاة السماويين على الله (رسالة بطرس الثانية ٢: ٤)، ويوقع بالبشر ويصدهم عن فعل الخير (مرقس ٤: ١٥)، وسلطته تُشكل كل الجنس البشري (إفسوس ٢: ١–٣)، ويدعوه بولص بإله هذه الدنيا الفانية (رسالة بولص إلى أهالي كورنثه ٤: ٤)، ويدعوه يوحنا الإنجيلي رئيس هذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١)، ويبقى سلطانه قائمًا إلى يوم الدينونة (رؤيا ٢٠: ١–٢ و١٠). ورغم أن الإسلام يسير على النهج نفسه، إلا أنه لا يعطي للشيطان من السلطان الشيء الكثير، ويبقى نشاطه ضمن حدود السيطرة الإلهية من جهة، وقوة الإنسان على مقاومته من جهة ثانية؛ فإبليس بعد أن يُطرد من السماء لعصيانه الأمر الإلهي وتكبُّره على السجود لآدم، يعلن تصديه لحمل مسئولية الشر في العالم بالقدر الذي تسمح به المشيئة الإلهية: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (الحجر: ٣٩–٤٢).
وعندما ارتبطت الأخلاق بالدين كان لا بد بالتالي من ظهور الشريعة الدينية، خصوصًا في الديانات الشمولية التي ربطت بشكل كامل بين الحياة الروحية والحياة الاجتماعية. ففي كتاب التوراة نجد نوعين من الأحكام الأخلاقية؛ واحد مؤيَّد بالعقوبات ويدخل في جملة الشرائع، وآخر غير مؤيَّد بالعقوبات ويبقى في مجال الأخلاق؛ فالفقرات ٥ و٨ و١٠ من الوصايا العشر هي قواعد أخلاقية لا يوجد لها إلزام في الشريعة، وهي: «أكرِمْ أباك وأمك. لا تشهد على قريبك شهادة زور. لا تشتهِ امرأة قريبك.» أما الفقرات ٦ و٧ و٨ فتندرج في لوائح الشريعة، وهي: «لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ.» وعقوباتها مُدرَجة في أسفار الخروج والعدد والتثنية، من ذلك مثلًا عقوبات الزنى التي تتدرج من إلزام الرجل بالزواج بمن زنى معها إلى رجم الزانيين حتى الموت (انظر التثنية، ٢٢: ١٣–٢٨). وفي القرآن أيضًا نجد هذين النوعين من الوصايا الأخلاقية، فالظن الإثم والغيبة والتجسس على الآخرين أفعالٌ مُنافية للأخلاق يجب اجتنابها، ولكن لا وجود لنص تشريعي يُعاقِب عليها:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (الحجرات: ١٢). وبالمقابل فإن اجتناب الزنى قاعدة أخلاقية، ولكنها مؤيدة بعقوبة تُلحقها بالشريعة. فالقاعدة الأخلاقية منصوص عليها في سورة الإسراء (٣٢): وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا. أما القاعدة التشريعية فمنصوص عليها في سورة النور (٢): الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ.
غير أن اتصال الأخلاق والشرائع بالدين ليس مسألةً حتمية في تاريخ الدين، فهناك ديانات حافظت حتى النهاية على استقلالها عن الأخلاق، ومنها الديانة الإغريقية والديانة الصينية. فعند الإغريق، لم يكن كبير الآلهة زيوس يتطلب أكثر من الذبائح والقرابين، وهو لم يضع وصايا أخلاقية ولم يستنَّ الشرائع، وصواعقه التي كان يرسلها على الأرض لعقاب البشر لم تكن مُعدة للفجرة بالمعنى الخلقي المعروف، بل لأولئك الذين يُهددون نظام الجماعة عمومًا ولا يُعِيرون الآلهة التفاتًا. وإذا كان يهوه التوراتي يأمر بالخلق الحسن ثم لا يُخضِع تصرفاته هو للمعايير الأخلاقية، فإن زيوس لم يأمر بمكارم الأخلاق من جهة، ولم يجعل سلوكه قدوةً خلقية من جهة أخرى. ومثله في ذلك بقية الآلهة الأوليمبيين؛ فمواقف هؤلاء وتصرفاتهم كانت تصدر عن فطريةٍ سلوكية وردود أفعال آنية، غالبًا ما اتسمت بالبعد عن روح المسئولية الخلقية، وبذلك تركت المجتمعات الإغريقية لتُدير شئونها الداخلية بنفسها وبمعزل عن تدخُّل الآلهة. وربما لهذا السبب نشأت فلسفة الأخلاق الدنيوية أول ما نشأت لدى هؤلاء الإغريق؛ ففي الوقت الذي عكف فيه فقهاء الديانات الأخلاقية على اكتناه إرادة السماء فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم، فإن الفلسفة الإغريقية منذ سقراط كانت تتساءل عن ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة، وبعيدًا عن توسط قوًى إلهية أو مبدأ كارمي من أي نوع.
وبذلك يلتقي فِكر كونفوشيوس الأخلاقي العملي مع فكر سقراط؛ فالإنسان بطبعه خيِّر عند سقراط، والمعرفة هي التي تقود إلى السلوك الأخلاقي؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يرتكب الشر وهو عارف به، ويستتبع هذا أن الفضيلة يمكن اكتسابها بالتعلم ودونما توجيه خارجي أو ضغط من سلطة عليا. أما أفلاطون فيرى في الكون نظامًا أخلاقيًّا؛ فعلى قمة هرم «المثُل» الخالدة يتربَّع مثال «الخير»، وكل الأشياء تنزع إلى الغاية الخيِّرة، رغم أن طابعها الحسي يجعلها عاجزة عن بلوغ الخير. ويرى أرسطو أن غاية الحياة البشرية هي سعادة النفس العاقلة، وهذه لا تتأتَّى إلا عن طريق حياة عقلية نشطة، تزينها الفضيلة التي هي أساس السعادة. وبعد أرسطو، قام الاتجاهان الرئيسيان في الفلسفة اليونانية على فكرٍ أخلاقي بالدرجة الأولى؛ فأبيقور لم يرفض فكرة وجود الآلهة، ولكنه رأى أن وجودها لا يزيد حياة الإنسان خيرًا أو شرًّا؛ لأنها لا تكترث بمشكلات البشر ولا تفرض ثوابًا أو عقابًا؛ ولذا فعلى الإنسان أن يعمل ليصل حالة من التوازن الكامل عن طريق الحرص والاعتدال، وهذا التوازن هو أرفع اللذات التي يسعى الإنسان بطبيعته الفطرية إليها، وهو الخير الأسمى. أما الرواقية، فقد اهتمَّت بمسألة الجبر والاختيار والحرية الإنسانية، وحثَّت أتباعها على العيش وفق قانون أخلاقي صارم من شأنه جعل الفرد في وحدة مع العالم ومع الفاعلية الإلهية المتخللة في الكون. والقانون الأخلاقي عندهم ليس لوائح سلوك تمليها قوةٌ عليا، بل قواعد يمكن اكتشافها بالعكوف على الذات والانصراف عن الأهواء الدنيوية والملذات الحسية.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب تحت عنوان: ديانات الأرواح الوثنية، ترجمة يوسف شلب الشام، دار المنارة، اللاذقية، سوريا ١٩٨٨م، ص٩٢–٩٧، ١٠٧.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب تحت عنوان: الإله اليهودي، للأستاذ نهاد خياطة، دار الحوار، سوريا ١٩٨٦م.
انظر ترجمة أسامة سراس للنص أعلاه في كتابه: شريعة حمورابي، دمشق ١٩٧٨م، الفقرات ٨، ١٤، ٢٣.