الفصل الثاني

المكونات الثانوية للدين

الأخلاق والشرائع

عندما نتحدث عن المكونات الثانوية للدين في مقابل مكوناته الأساسية، فإننا لا نقصد بصفة الثانوية هذه التقليل من شأنها على أي صعيد، بل إلى وصف دورها في عملية تكوين الدين ودرجة أولويتها في التعرف على الظاهرة الدينية. ففي السياقات التاريخية لأديان الإنسان وضمن ظروف اجتماعية وسياسية معينة، تأتي إلى الدين عناصر لم تكن منه ابتداءً، ولم يكن لها شأن في تأصيل بداياته الأولى، وهذه هي: الأخلاق والشرائع.

رغم التشابك المتين بين الدين والأخلاق، والعلاقة الموغلة في القِدم بينهما، فإنهما من حيث المبدأ مفهومان مختلفان تمام الاختلاف، ومتمايزان كل التمايز، رغم ما يبدو من صلتهما الوطيدة؛ فالدين عبارة عن معتقدات وممارسات تنظم سلوك الإنسان تجاه عالم المقدسات وتزوده برؤيا شمولية للكون وموضع الإنسان في هذا العالم. أما الأخلاق فإنها قواعد وممارسات تنظم سلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة التي يُشكلون أعضاءها، وهي تنشأ بشكل خاص لحل المشكلات الناجمة عن التنافس بين الأفراد والمجموعات، فتعمل على تسوية المنازعات التي تخلقها الحياة المشتركة. فالأخلاق والحالة هذه هي بديلٌ عملي وناجح لأسلوب القوة والإكراه في العلاقات الاجتماعية، وتختلف عنها في أنها ترجع إلى مبادئ للسلوك متفق عليها ومقبولة من قِبَل الجميع. إلا أن العلاقة المعقَّدة بين الدين والأخلاق تبدأ عندما تتعلق المشروعية الخلقية بمؤيدات تنبع عن المعتقد الديني المشترك، بدل أن تتعلق بالفهم السليم للعلاقات الإنسانية المتبادلة.

إن علاقة الأخلاق بالدين في المجتمعات التقليدية التي لم تتعقد بناها الاجتماعية والسياسية، تُقدم لنا برهانًا على أن الأصل في الأخلاق استقلالها عن الدين. ففي هذه المجتمعات التي تعطينا صورة عن المراحل المبكرة من تطور الحضارات الكبرى، نجد في الأخلاق شأنًا دنيويًّا تنظمه الأعراف السائدة دونما مؤيد من قوة قدسية ما. ففي أفريقيا السوداء على سبيل المثال،١ تقوم الأخلاق في المجتمعات الزنجية كشأن ملحق بالتنظيم الاجتماعي دونما رابط يلحقها بالدين أو مؤيد يأتي من قِبل الآلهة. والمفهوم الذي صنعه الأفريقيون لأنفسهم عن الله مختلف تمامًا عن المفاهيم السائدة في أكثر الحضارات الكبرى، فهم لا يرون فيه صانعًا للأخلاق، ولا يعتبرونه الخير المحض في مقابل الشر؛ ولذا فإنه لا يجزي ولا يعاقب ولا يمتلك مفاتيح جنة أو نار. أما قواعد السلوك الاجتماعي فتنصُّ عليها المواضعات الاجتماعية المؤيدة بسلطة الجدود الأموات، ممن تسهر أرواحهم على دوام تطبيق الأوامر والنواهي المتعارف عليها منذ القدم. ويتبع ذلك أن الهدف من الطقوس الدينية بالنسبة للزنجي هو تحقيق حياة أفضل في هذا العالم. وبما أن مفهوم الخطيئة باعتبارها تعديًا على حرمة قانون إلهي مفروض، غير معروف لدى هذه المجتمعات، فإن المعاصي عندهم يمكن غسلها تمامًا بواسطة طقوس مخصصة لهذه الغاية؛ ذلك أن الخير والشر كصفتين غير معروفة هنا، والرجل الذي اقترف إثمًا ليس إنسانًا شريرًا بالضرورة، وهو لا يستحق أي لوم ما إن يقوم بغسل ذنبه.
إلا أننا نستطيع العثور لدى المجتمعات التقليدية٢ على ما يشبه الأخلاق الدينية، وذلك في مؤسسة اﻟ «تابو» التي يمكن أن تشكل نقطة اتصال بين الأخلاق الاجتماعية والأخلاق الدينية، ونستطيع أن نتبين فيه الأخلاق الدينية بشكلها الجنيني. يتشكل التابو في المجتمعات التقليدية من عدد من التحريمات المتصلة بالعلاقة بين العالم الدنيوي وعالم المقدسات. وهذه التحريمات لا يُعرَف لها مشرع أو مستن، وتجد مؤيداتها في قوة فوق طبيعانية ما، سواء كانت هذه القوة من مصدر إلهي بالمفهوم الذي نعرفه أم من مصدر سحري حيث القوى الغفلة غير المشخصة. ويأتي تأييد القوة للائحة التحريمات بتدخلها الفوري وبردِّ فعل أوتوماتيكي، فيطال الجزاء من اعتدى على حدود التابو، كأن يصيب الشلل العضو الذي استخدمه في الفعل المحرم، أو يداهمه مرض ما، أو يعالجه الموت السريع، وقد تتدخل الجماعة في بعض الأحيان لتسبق العقوبة التلقائية بعقوبة إجرائية، وذلك كأن تفرض على المذنب العزل أو الإبعاد أو الإعدام أحيانًا، وذلك تبعًا لنوع التابو وخطورة انتهاكه، ولسوف أقدم فيما يلي بعض الأمثلة.
يقوم عدد لا بأس به من لوائح التابو في الوسط الديني البدائي على فكرة الفصل بين العوالم القدسية والعوالم الدنيوية فصلًا لا يتاح معه لأي نوع من الاحتكاك أو الاتصال بينهما. فلدى القبائل الأسترالية يكتسب الرجال البالغون ممن مروا عبر طقوس التعدية (= Initiation) جزءًا من القداسة التي تتمتع بها القوة فوق الطبيعانية التي تتخلل الطبيعة؛ ولذلك يسمح لهم بالمشاركة في الطقوس الدينية واستخدام كل الأدوات المعدة لهذا الغرض. ولكن يحرم على الذكور غير البالغين ممن لم يستلموا دينهم بعدُ لمس الأدوات الطقسية تحت أي ظرف من الظروف. أما النساء، وهن الشريحة المستبعَدة من الحياة الدينية للجماعة، فيحرم عليهن حتى رؤية هذه الأدوات ولو عن بُعد، كما يحرم عليهن سماع تراتيل طقسية معينة تحت طائلة الموت. وانطلاقًا من مبدأ الفصل نفسه، تتطلب ممارسة الطقوس الدينية من المشاركين التجرد الكامل من ملابسهم وزينتهم المعتادة باعتبارها جزءًا من العالم الدنيوي يتوجب تركه عند أعتاب مكان الاحتفال. أما إذا تطلبت بعض الطقوس ارتداء زينة معينة، فإن هذه الزينة تُصنع خصوصًا للاحتفال، ويُمنع أي استخدام دنيوي لها بعد ذلك، وقد تُدفن في الأرض أو تُحرق ويقوم صاحبها بغسل نفسه تمامًا قبل العودة إلى الحياة اليومية كي لا يحمل معه أثرًا من زينته الطقسية. وتقوم عادة ترك الأعمال اليومية المعتادة والراحة منها في أيام الأعياد الدينية على مبدأ الفصل بين المقدس والدنيوي؛ ذلك أن فترة الأعياد هي وقت مُقدس مُخصص للطقوس يتوجب خلاله الإقلاع عن أي نشاط دنيوي.٣
وفي فتراتٍ معينة تقع زُمَر من الأفراد تحت حيطة القوة فوق الطبيعانية، وهنا ينبغي أن يتم التعامل مع هؤلاء بكثير من الحذر ووفق قواعد معينة؛ لأنهم يكونون حينها موضوعًا للتابو. فلدى قبائل أستراليا يُمنع على النساء في فترة الحيض وتحت طائلة الموت لمس ما يستعمله الرجال أو المشي في درب يطرقونه. وقد سجَّل أحد الأنتروبولوجيين واقعةً مفادها أن أحد الرجال عمد إلى قتل زوجته فور اكتشافه أنها قد تمدَّدت على حصيرته وهي حائض، ثم ما لبث أن مات ذعرًا بعد أسبوعين وهو يترقب عقاب القوى الخفية، وبالطبع فقد اعتقد أقرانه بأنه قد لاقى جزاء احتكاكه بموضوع تحريم. وتخضع النساء أيضًا إلى تحريمات مشابهة خلال فترة الولادة والنفاس، فتعزل المرأة تمامًا حتى انتهاء فترة نفاسها، وكل ما تستعمله أثناءها يمنع لمسه أو استعماله حتى من قبلها بعد زوال التابو عنها. ولدى معظم قبائل أمريكا تُعزل الفتاة حين يأتيها الحيض الأول في كوخ، ويمنع على أحد من الذكور رؤيتها خلال فترة كافية لتطهيرها، ثم تلتزم بعد ذلك تغطية وجهها لمدة محددة بعد خروجها من معتكفها. ومثل النساء في هذا النوع من التابو الواقع على الأشخاص، زمرة المحاربين؛ فهؤلاء يخضعون بعد انتهاء القتال إلى فترة عزل كافية لتخليصهم من آثار أرواح ضحاياهم، ومثلهم الصيادون الذين يخضعون إلى طقوس تطهيرية عقب رجوعهم من الصيد.٤ إن الطقوس التطهيرية التي خضع لها أفراد هذه الزمر وأمثالهم، نابعة من توهُّم خطرٍ ما يصدر عن هؤلاء وخطرٍ آخر عليهم في الوقت نفسه؛ لأنهم خلال فترة التابو يكونون مشحونين بقوة خطرة ينبغي عدم السماح لها بالانتقال إلى الآخرين.

يكفي هذا القدر اليسير من الأمثلة (وتعدادها جميعًا يتطلب مجلدًا بأكمله) لإظهار الأساس المشترك بين تحريمات التابو ولوائح الأخلاق الدينية؛ فكلاهما يجد تأييده في قوة خارجة عن الإنسان، وكلاهما مما ينصاع له الأفراد دون مناقشة أو محاكمة عقلية. ولكن، بينما تقتصر تحريمات التابو على قواعد تتعلق بعدم تعدي حدود قوًى إلهية أو سحرية غفلة، فإن لوائح الأخلاق الدينية تتجاوز ذلك لتشمل العلاقات المتبادلة ضمن الجماعة. من هنا، أستطيع الافتراض، ببعض الثقة، بأنه عند مرحلة معينة من تطور المجتمعات القديمة، اتسعت دائرة التابو لتستوعب تدريجيًّا بعض القواعد الأخلاقية التي كانت حتى ذلك الوقت شأنًا دنيويًّا تنظمه الأعراف القبلية، في الوقت الذي أخذت فيه التحريمات القديمة تفقد سطوتها مع تغير المفاهيم الدينية. ولعل مما يؤيد هذا الافتراض، أن الوصايا الأخلاقية في بعض الأديان المتطورة تختلط في النص الواحد بتحريمات تقوم على مبدأ التابو القديم، وهذا ما نراه بكل وضوح في كتاب التوراة. فمع الوصايا الأخلاقية العشر في سِفر الخروج، يستلم موسى عددًا من التحريمات التي لا يمكن تفسيرها إلا على ضوء مفهوم التابو البدائي، وهي تهبط من السماء باللهجة الإلزامية للوصايا العشر نفسها، وفي الجو القدسي المرعب نفسه. نقرأ في سفر الخروج ٢: ١٨–٢٦: «وكان جميع الشعب يرون الرعود والبروق، وصوت البوق والجبل يُدخن … وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الرب، فقال الرب لموسى، هكذا تقول لبني إسرائيل … مذبحًا من تراب تصنع لي … وإن صنعت لي مذبحًا من حجارة فلا تبنهِ منها منحوتة، إذا رفعت عليها إزميلك تُدنسها، ولا تصعد بدرج إلى مذبحي كي لا تنكشف عورتك.» أما لماذا يتوجب صُنع المذبح من تراب أو من حجر غير منحوت، ولماذا يتوجب عدم استعمال الإزميل الحديدي في تسوية الحجارة، فأمرٌ لا يوضحه التحريم؛ لأنه قائم على تابو، ومثل هذا التابو معروف لدى بعض المجتمعات البدائية الحديثة وبعض الحضارات القديمة مما سأسرده فيما يأتي:

في روما القديمة كان محرمًا على الكهنة الحلاقة بموس من حديد، وفي غابة أرفال المقدسة قُرب روما كان محرمًا إدخال الحديد أو أية أداة مصنوعة منه، فإذا تطلَّب الأمر استعمال أداة حديدية لغرض كتابة نقش ما على الحجر، كان لا بد من تقديم ذبيحة تطهيرية قوامها حمَل وخنزير. وهنالك جسرٌ قديم مقدس في المدينة قد تم بناؤه دون استخدام أداة حديدية. ولما احتاج معبد جوبيتر في فورفو للإصلاح، استصدرت السلطات المدنية قانونًا يجيز استخدام الأدوات الحديدية في ذلك. وإلى وقت قريب كان أهالي جزيرة جاوا يُحجمون عن استخدام المحاريث الحديدية في فلاحة أرضهم، ولدى بعض قبائل الهنود الحُمر في أمريكا تُستعمل السكاكين الحجرية في الطقوس الدينية من دون الأدوات الحديدية. وفي كوريا كان محرمًا على الحديد أن يمسَّ لأي سبب من الأسباب جسمَ الملك، ويُروى أن ملكًا كوريًّا مات عام ١٨٠٠م من ورم في ظهره كان من الممكن علاجه بمفصد حديدي. وفي جنوب غرب أفريقيا تجري عملية الختان بواسطة سكين صواني، فإذا تطلب الأمر إجراءها بسكين حديدية جرى التخلص من السكين بدفنها تحت الأرض.٥

ولعل من جملة الأسباب التي ساعدت على اتصال الأخلاق بالدين، وتحول لائحة التابو إلى قواعد أخلاقية، هو اجتماع السلطتين السياسية والدينية في يدٍ واحدة هي يد الملك-الكاهن، وذلك عند أعتاب التاريخ، عندما كانت المجتمعات البشرية تتحول لأول مرة في مناطق الهلال الخصيب من نظام القرية الزراعية إلى نظام المدينة. ولدينا براهين مؤكدة من المدن السومرية الأولى، وهي أسبق المدن في الحضارة الإنسانية، على سلطة المؤسسة الدينية، وعلى الصفة المزدوجة للملك السومري كحاكم زمني وككاهن أعلى. لقد شعر هؤلاء الحكام-الكهنة الأوائل، وهم يقودون مجتمعًا ودَّع إلى الأبد بساطة القرية وعلاقاتها الاجتماعية القبلية، وصار إلى حالة من التعقيد وتشابك العلاقات لم تماثلها حالة من قبل، شعروا بضرورة ربط المؤيدات الاجتماعية للسلوك الأخلاقية بمؤيدات تأتي من العالم الإلهي الذي يكافئ ويعاقب، ويحافظ من خلال القوانين الأخلاقية على نظام المجتمعات الإنسانية حفاظه على نظام الكون من خلال القوانين الطبيعية. ولما كان أولئك الحكام يسيطرون على أحوال الناس الدنيوية سيطرتهم على أحوالهم الدينية، فقد سهَّل عليهم هذا الوضع المتميز إحكام الربط بين النظام الأخلاقي والنظام الديني للجماعة. وقد زادت أواصر هذه العلاقة بمرور الزمن، حتى بدت الأخلاق والأديان وكأنها من طبيعةٍ واحدة وأصلٍ مشترك.

وبما أن الأخلاق لا تستكمل ارتباطها العضوي بالدين إلا عبر سياق تطوري بطيء، فإننا نستطيع متابعة هذا الالتحام التدريجي في بعض الأديان التي خضعت لعملية تطورية عبر فترة طويلة من الزمن، ولدينا عنها وثائق كتابية كافية، مثل الديانة اليهودية. فرغم أن الوصايا الأخلاقية العشر قد تصدَّرت سِفر الخروج، وهو ثاني أسفار التوراة، فإن وصايا «التابو» البدائي والأحكام الطقسية، قد طغت على الوصايا الأخلاقية في معظم أسفار الكتاب. فقد خُصص النصف الثاني من سِفر الخروج، وكل سِفر اللاويين الذي يليه، لبسط وتفصيل أحكام التابو التوراتي التي تتفق وكثيرًا من أحكام التابو التي أطلعنا عليها علم الأنتروبولوجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر. فمعظم ما تلقَّاه موسى من أحكام في سِفر الخروج وسِفر اللاويين هو أحكام تتعلق بكيفية أداء الطقوس أمام الرب، وطرائق تقديم الذبائح والقرابين، وكيفية إقامة خيمة الاجتماع، وبناء المذبح، وقواعد التحريم الخاصة بالتعامل مع تابوت العهد. أما سِفر اللاويين، فيُعتبر بحق سِفرًا للتابو العبراني؛ فهناك تابو اللمس (٣–١٥)، وتابو الطعام (١١: ١–٤٦)، وتابو المرأة في فترة الولادة والنفاس (١٢: ١–٨)، وتابو البرص والقرع (١٣: ١–٥٩)، وتابو السيلان (١٥: ١–٣٣)، وتابو الدم (١٧: ١–١٦)، وتابو المرأة الحائض (١٥: ٩–٣٣)، وتابو الجنس (٢٠: ٩–٢١) … إلخ، في الوقت الذي لم تنَل فيه الوصايا الأخلاقية من الأحكام إلا أقلها. والخطيئة الأخلاقية يمكن غسلها، أما تعدي حدود التابو فجريمة تستجلب القصاص الفوري؛ فمن «أخطأ وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبًا، أو اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبًا … يأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه كبشًا صحيحًا من الغنم، ذبيحة إثم للكاهن، فيكفر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح عنه» (اللاويين ١: ٦–٦). وحتى ذنوب القوم يمكن غسلها جميعًا وفق الطقس المعروف بطقس تيس الخطيئة: «ويضع هارون يدَيه على رأس التيس الحي، ويُقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل، وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرضٍ مُقفِرة» (اللاويين ٢١: ١٦–٢٢). وفي المقابل، فإن ابنَي هارون، وهو الكاهن الأكبر، يموتان فورًا لتعديهما حدًّا من حدود التابو: «وأخذ ابنا هارون كلٌّ منهما مجمرته، وجعلا فيها نارًا، ووضعا عليها بخورًا، وقرَّبا أمام الرب نارًا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب وأكلتهما فماتا أمام الرب» (اللاويين ١٠: ١–٢).

وإله العبرانيين نفسه ذو طبيعة أخلاقية متناقضة وموزَّعة فيما بين الخير والشر، وهو يبدو في كثير من تصرفاته أبعد ما يكون عن الحس الأخلاقي في معاملة مخلوقاته، فهو يبلبل ألسنتهم ليمنعهم من الاتحاد في مواجهته، ويُشتتهم في بقاع الأرض، على ما تذكره أسطورة برج بابل في سِفر التكوين (١١: ١–٨). وهو يفني كل نفس حية بين إنسان وحيوان وحشرة في طوفان شامل، ولا يتورع عن قتل كل المواليد الأبكار في مصر لإرغام الفرعون على إطلاق بني إسرائيل. وعندما يأتي لدمار مدينتَي سدوم وعمورة يقف أمامه إبراهيم ليذكره بالقواعد الأخلاقية: «حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر؛ أن تُميت البار مع الأثيم … أديَّان الأرض لا يصنع عدلًا؟» (التكوين ١٨: ٢٣–٢٥). وهو ينقض مواثيقه بعد عقدها وحلفانه على ثباتها كما في المزمور ٨٩: ٣٥–٤٤. ويبدو سلوك يهوه غير المفهوم من وجهة النظر الأخلاقية، كأوضح ما يكون في سِفر أيوب؛ فهنا نرى الإله يقع في مصيدة الشيطان الذي يوغر صدره على عبده أيوب، لا لشيء إلا لكون هذا الإنسان مثالًا على التقوى والخلق القويم، فنتابع في هذا السِّفر المخيف كيف يُسلب أيوب قطعانه ويُقتل عبيده ويودي الإعصار بأبنائه وبناته، وكيف يُنزل به إلهه الآفات والأمراض من كل نوع. ولكي تُحكَم حلقات الحصار حوله، يقوم أصدقاؤه القدامى وزوجته بإطلاق التُّهم فيه، وينسبون إليه كل فريَّة، ولكن أيوب يرفض مع ذلك أن يرفع شكاته لغير إلهه رغم يأسه من الاستماع إليه، ويقف ثابتًا في الدفاع عن حقه أمامه؛ وبذلك يتفوق أخلاقيًّا على ذلك الإله.٦ هذا التوزع بين الخير والشر يدفع إله العهد القديم لأن يتعامل بمعيارَين متناقضين؛ فبينما يسمح لنفسه أن يأخذ الأبناء بذنوب آبائهم: «أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي» (الخروج ٢: ٥)، فإنه يُشرِّع في سفر التثنية عدم أخذ الابن بجريرة أبيه: «لا يُقتَل الآباء عن الأولاد ولا يُقتَل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يُقتَل» (التثنية ٢٤: ١٦). وكان على يهوه أن ينتظر في هذه الحالة الأخلاقية المنقسمة حتى وقت متأخر من تاريخ الديانة اليهودية، وها هو يصحح سلوكه السابق على لسان حزقيال الذي عاش إبَّان السبي البابلي: «ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل قائلين: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست؟ حي أنا، يقول السيد الرب: لا يكون لكم من بعدُ أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل … النفس التي تخطئ هي التي تخطئ، هي التي تموت … الابن لا يحمل من إثم الأب» (حزقيال ١٨: ٢–٤، ٢٠).

ونستطيع الافتراض بثقةٍ أن شأن الأخلاق لم يعلُ على الطقوس وعلى لوائح التابو إلا خلال الأسر البابلي، ومن خلال كرازة الأنبياء المتأخرين الذين قاموا بما يشبه الانقلاب الديني حقًّا. يقول إشعيا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب: أتخمتُ من محرقات كباش وشحم مسمنات … البخور هو مكرهة لي، رأس الشهر والسبت ونداء المحفل … رءوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي، صارت عليَّ ثقلًا، فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. اغتسلوا تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر» (إشعيا ١٧–١: ١١). وعند عاموس نقرأ: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا … بغضتُ كرهتُ أعيادكم، ولست ألتذُّ باعتكافاتكم، إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع، وليجرِ الحق كالمياه والبر كنهر دائم» (عاموس ٥: ١٤، ٢١–٢٤). كما يعلن هوشع على لسان الرب: «إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات» (هوشع ٦: ٦). إلا أن الانتصار الحقيقي للأخلاق في ديانات المشرق العربي لم يتم إلا مع مجيء المسيحية ومن بعدها الإسلام؛ فرسالة الأناجيل ليست سوى رسالة إيمان وأخلاق، وبولص الرسول، صاحب الفضل الأول في تحرير المسيحية من الفكر اليهودي، قد ركَّز في تعاليمه على فكرة أن الله لا يُطلَب بالذبائح بل بالإيمان والخُلق القويم، وكل رسالته إلى العبرانيين تقريبًا تحمل هذه المعاني. أما الإسلام، فقد أعلن منذ البداية صلة لا يمكن فصلها بين الدين والأخلاق؛ ولذا فغالبًا ما اقترن التكليف بالوصايا، كقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (الإسراء: ٢٣). كما شغلت الوصايا الأخلاقية الجزء الأكبر من أحاديث الرسول؛ ﻓ «الدين المعاملة»، و«إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وغير هذه الأحاديث كثير.

ولقد أثَّر علو شأن الأخلاق في الحياة الدينية، بشكل خاص، على مفهوم الإله عند الجماعة، وعلى ظهور شخصية إلهية مختصة بأمور الشر؛ فالإله الذي يحض على فضائل الأعمال ينبغي أن يمثل بذاته الخير المحض، ويترك شرور العالم لكي يتدبرها الشيطان. ففي الزرادشتية الإيرانية التي كانت، تاريخيًّا، أول من فصل بشكل مطلق بين الخير والشر في شخصية الإله، يجري تصور الكون برُمَّته على أنه نظام أخلاقي قُطباه قوتان؛ الأولى خيرٌ محض، والثانية شرٌّ محض. ومثل الزرادشتية في هذا، المانوية وريثتها الفكرية. أما اليهودية، فبسبب عدم توصلها إلى فكرة الخير المحض في شخصية الإله، فقد بقيت حتى اختتام تدوين أسفار التوراة في القرن الثاني قبل الميلاد (وهو زمن تدوين آخر الأسفار) لا توكل لشئون الشر على المستوى الكوني شخصية ما ورائية من أي نوع؛ لأن الخير والشر بقيا متلازمين في شخصية الإله. يقول يهوه على لسان إشعيا: «أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق البشر، أنا صانع كل هذه» (إشعيا، ٤٥: ٦–٧). أما الشيطان فيبدو في الأسفار الأولى كشخصية باهتة، وكنوع من الجن يسكن البوادي المُقفِرة تحت اسم «عزازيل»، من ذلك ما نراه في سِفر اللاويين (١٦: ٨، ١٠، ٢٦). ولم يرد ذكره تحت اسم الشيطان إلا مرات قليلة لا تكفي لإيضاح هويته ومجال سلطانه، ولكننا نعرف منها مقاومته لإرادة الرب، كما هو الحال في سِفر أيوب (١: ٦–١٢)، وزكريا (٣: ١–٢). ثم يأتي العهد الجديد ليرسم الشخصية الواضحة للشيطان، ويعطيه سلطانًا على العالم يشبه سلطان أهريمان الزرادشتي؛ فهو ملاكٌ سقط بسبب الكبرياء (رسالة بولص إلى أهالي إفسوس ٦: ١٢)، وهو رئيس رتبة من الأرواح النجسة (متى ١٢: ٢٤)، ويقود العصاة السماويين على الله (رسالة بطرس الثانية ٢: ٤)، ويوقع بالبشر ويصدهم عن فعل الخير (مرقس ٤: ١٥)، وسلطته تُشكل كل الجنس البشري (إفسوس ٢: ١–٣)، ويدعوه بولص بإله هذه الدنيا الفانية (رسالة بولص إلى أهالي كورنثه ٤: ٤)، ويدعوه يوحنا الإنجيلي رئيس هذا العالم (يوحنا ١٢: ٣١)، ويبقى سلطانه قائمًا إلى يوم الدينونة (رؤيا ٢٠: ١–٢ و١٠). ورغم أن الإسلام يسير على النهج نفسه، إلا أنه لا يعطي للشيطان من السلطان الشيء الكثير، ويبقى نشاطه ضمن حدود السيطرة الإلهية من جهة، وقوة الإنسان على مقاومته من جهة ثانية؛ فإبليس بعد أن يُطرد من السماء لعصيانه الأمر الإلهي وتكبُّره على السجود لآدم، يعلن تصديه لحمل مسئولية الشر في العالم بالقدر الذي تسمح به المشيئة الإلهية: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (الحجر: ٣٩–٤٢).

ومن ناحية أخرى، فقد ارتبطت الأخلاق تقليديًّا بالتشريع. فالشرائع ليست إلا جزءًا من الأخلاق العامة، وقد تم تأييده بالعقوبات التي تفرضها السلطة السياسية. وأول القواعد التشريعية لم تكن سوى قواعد أخلاقية بدت ذات قيمة استثنائية لنظام الجماعة، فجرى دعمها بالقوانين التي تضمن إلزام الأفراد بها. فالسرقة مثلًا تبقى مسألة من مسائل الأخلاق العامة التي تجد مؤيداتها في الروادع الذاتية، إلى أن تؤيد بعقوبة تفرضها الجماعة، عندها تتحول إلى قضية تشريعية رغم استمرار انتمائها إلى المجال الخلقي. إن أخلاق حضارة بلاد الرافدين، على سبيل المثال، كانت على الدوام تحض على الأمانة وعدم الاعتداء على ممتلكات الغير، إلى أن جاءت الشرائع فجعلت من السرقة موضوعًا تشريعيًّا. وهذه شريعة حمورابي تنص على ما يأتي: «لو سرق رجل ثورًا أو حمارًا أو خنزيرًا أو قاربًا كان من أملاك إله أو من أملاك قصر، يدفع ثلاثين مِثلًا، وإن كان من أملاك قروي يرد عشرة أمثاله. أما إذا لم يكن لدى اللص ما يدفعه فيُقتل.» وأيضًا: «لو سرق رجل ابنًا لرجل آخر يُقتل.» وأيضًا: «إن لم يُقبض على اللص، فعلى المسروق منه أن يُصرح بما فقده أمام إله، وعلى المدينة أو العمدة في المنطقة التي اقتُرفت فيها السرقة أن يعوض له خسارته.»٧

وعندما ارتبطت الأخلاق بالدين كان لا بد بالتالي من ظهور الشريعة الدينية، خصوصًا في الديانات الشمولية التي ربطت بشكل كامل بين الحياة الروحية والحياة الاجتماعية. ففي كتاب التوراة نجد نوعين من الأحكام الأخلاقية؛ واحد مؤيَّد بالعقوبات ويدخل في جملة الشرائع، وآخر غير مؤيَّد بالعقوبات ويبقى في مجال الأخلاق؛ فالفقرات ٥ و٨ و١٠ من الوصايا العشر هي قواعد أخلاقية لا يوجد لها إلزام في الشريعة، وهي: «أكرِمْ أباك وأمك. لا تشهد على قريبك شهادة زور. لا تشتهِ امرأة قريبك.» أما الفقرات ٦ و٧ و٨ فتندرج في لوائح الشريعة، وهي: «لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ.» وعقوباتها مُدرَجة في أسفار الخروج والعدد والتثنية، من ذلك مثلًا عقوبات الزنى التي تتدرج من إلزام الرجل بالزواج بمن زنى معها إلى رجم الزانيين حتى الموت (انظر التثنية، ٢٢: ١٣–٢٨). وفي القرآن أيضًا نجد هذين النوعين من الوصايا الأخلاقية، فالظن الإثم والغيبة والتجسس على الآخرين أفعالٌ مُنافية للأخلاق يجب اجتنابها، ولكن لا وجود لنص تشريعي يُعاقِب عليها:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا (الحجرات: ١٢). وبالمقابل فإن اجتناب الزنى قاعدة أخلاقية، ولكنها مؤيدة بعقوبة تُلحقها بالشريعة. فالقاعدة الأخلاقية منصوص عليها في سورة الإسراء (٣٢): وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا. أما القاعدة التشريعية فمنصوص عليها في سورة النور (٢): الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ.

وفي الديانات الهندوسية، نجد في مفهوم الدهارما Dharma ما يشبه الشرائع الدينية في الأديان الشرق أوسطية. والكلمة تُستعمل بمعنيَين مختلفين؛ ففي المعنى الأول: هي كل المعتقدات الدينية التي يقوم عليها الدين. وبالمعنى الثاني: هي جملة الشرائع التي تقوم على هذه المعتقدات من أجل تنظيم علاقات الناس. وبذلك يجمع مفهوم الدهارما بين الدين والتشريع في وحدةٍ متكاملة.٨ وقد انتقل هذا المفهوم من الهندوسية إلى البوذية، حيث تُشكل الدهارما فيها مجمل الشرائع والقواعد الأخلاقية المستمدة من مواعظ البوذا، والتي جمعها وثبَّتها تلامذته من بعده. ويتصل بمفهوم الدهارما البوذي والهندوسي مفهومٌ آخر هو «الكارما»، والكلمة في الأصل تعني «الفعل»، وبالمفهوم الديني يتسع معناها الأصلي لتشمل الفعل وجزاءه ثوابًا كان أم عقابًا. غير أن الجزاء والعقاب لا يفرضه إله مُتسامٍ مشخص يدير الكون، كما هو الحال في الأديان الشرق أوسطية، بل يأتي نتيجة لسريان مبدأ كارمي في الكون متصل بعقيدة تناسُخ الروح. فالأرواح تخضع لسلسلةٍ غير متناهية من التقمصات في أجساد بشرية أو حيوانية أو حتى إلهية، وذلك تبعًا لنوع الفعل الكارمي الذي يصدر عنها في كل حياة من حيواتها المتعاقبة، بحيث يجد الفعل الذي تقوم به في حياةٍ ما جزاءه في الحياة التي تلي، تنعمًا كان هذا الجزاء أم معاناة لألم. وقد تستمر هذه الدورة التناسخية إلى الأبد؛ إذ لم تفلح الروح في الوصول إلى مرتبة من النقاء تؤهلها لكسر هذه السلسلة والدخول في الأبدية. وبهذا المعنى تعمل الكارما وفق آلية ضبط ذاتي ودونما تدخُّل خارجي.٩

غير أن اتصال الأخلاق والشرائع بالدين ليس مسألةً حتمية في تاريخ الدين، فهناك ديانات حافظت حتى النهاية على استقلالها عن الأخلاق، ومنها الديانة الإغريقية والديانة الصينية. فعند الإغريق، لم يكن كبير الآلهة زيوس يتطلب أكثر من الذبائح والقرابين، وهو لم يضع وصايا أخلاقية ولم يستنَّ الشرائع، وصواعقه التي كان يرسلها على الأرض لعقاب البشر لم تكن مُعدة للفجرة بالمعنى الخلقي المعروف، بل لأولئك الذين يُهددون نظام الجماعة عمومًا ولا يُعِيرون الآلهة التفاتًا. وإذا كان يهوه التوراتي يأمر بالخلق الحسن ثم لا يُخضِع تصرفاته هو للمعايير الأخلاقية، فإن زيوس لم يأمر بمكارم الأخلاق من جهة، ولم يجعل سلوكه قدوةً خلقية من جهة أخرى. ومثله في ذلك بقية الآلهة الأوليمبيين؛ فمواقف هؤلاء وتصرفاتهم كانت تصدر عن فطريةٍ سلوكية وردود أفعال آنية، غالبًا ما اتسمت بالبعد عن روح المسئولية الخلقية، وبذلك تركت المجتمعات الإغريقية لتُدير شئونها الداخلية بنفسها وبمعزل عن تدخُّل الآلهة. وربما لهذا السبب نشأت فلسفة الأخلاق الدنيوية أول ما نشأت لدى هؤلاء الإغريق؛ ففي الوقت الذي عكف فيه فقهاء الديانات الأخلاقية على اكتناه إرادة السماء فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم، فإن الفلسفة الإغريقية منذ سقراط كانت تتساءل عن ماهية الخير من وجهة نظر إنسانية بحتة، وبعيدًا عن توسط قوًى إلهية أو مبدأ كارمي من أي نوع.

أما في الصين، فمنذ بدايات تاريخها المكتوب يقوم القانون في استقلال عن الدين. وأكثر من ذلك، فإن هذا القانون المدني لم يكن مطبَّقًا إلا على الشرائح الدنيا من المجتمع، أما الشرائح العليا فكانت تسللت وفق نظام معقَّد من الأخلاقيات الاجتماعية، وتؤمن أنها قادرة على الالتزام به دونما مؤيد خارجي.١٠ من هنا فقد أكَّد المفكرون الصينيون على الطابع الدنيوي للأخلاق والشرائع، ونشأ في الصين فكرٌ أخلاقي دنيوي وضع أسُسه عددٌ من المفكرين الكبار، على رأسهم كونفوشيوس (بالصينية KUNG FU–TZU). وُلد «المعلم»، كما يدعوه الصينيون، عام ١٥٥ق.م. وتوفي عام ٤٧٨؛ أي عندما كان لسقراط الإغريقي سبع سنوات من العمر؛ فالاثنان ينتميان إلى فترة واحدة من تاريخ الحضارة الإنسانية، وكلاهما وضع أسس الأخلاق الدنيوية لثقافتين متباعدتين في كل شيء، ولا يجمعهما إلا قيامهما على الفصل بين الدين والأخلاق. لم يُعنَ كونفوشيوس بالمسألة الدينية، وكان يرى في المسائل الميتافيزيقية واللاهوتية مضيعة للوقت؛ لأن الإنسان يجب أن يولي جُل اهتمامه لكيفية سلوكه في هذا العالم. ونحن نجد في أجوبته على تساؤلات تلامذته الدينية خير مثال على مواقفه تلك؛ فقد سأله واحد منهم: «كيف نستطيع أن نخدم أرواح الأسلاف؟» فأجاب: «إنك لم تتعلم بعدُ أن تخدم الأحياء، فكيف تستطيع أن تخدم الأموات؟» وسأله آخر عن الموت وطبيعته وحال الأموات، فأجاب: «إنك لم تصل إلى فهم الحياة بعد، فكيف لك أن تفهم الموت؟»١١
من هنا فقد حضَّ كونفوشيوس على اتباع العبادات الصينية التقليدية، مثل عبادة الأسلاف وعبادة قوة السماء، وعلى إقامة الطقوس المتوارثة، ووقف نفسه على إصلاح المجتمع من خلال نظام أخلاقي بيَّنه بشكل أساسي للحكام وأصحاب الرأي في المجتمع؛ لأنهم القدوة التي يعمل الناس على تقليدها. ويمكن القول إنه كان يحلم بصنع «الإنسان الأعلى» الذي تجتمع فيه الفضائل، ويكون بسبب حساسيته الخلقية معيارًا لنفسه؛ فالنظام الأخلاقي مزروع في النفس الإنسانية، وهو انعكاس للنظام الأخلاقي الكوني، وما على الفرد إلا أن يحاول الانسجام مع هذه الأخلاقية الكونية. يقول كونفوشيوس: «إن حياة الفرد الأخلاقي تقوم على احتذاء النظام الخلقي الكوني والانسجام معه، أما حياة الأوغاد فتقوم على معاكسة ذلك النظام الكوني.» وأيضًا: «إن الغاية الأسمى للإنسان هي العثور على مِفتاح كِيانه الأخلاقي الذي يوحده بالنظام الكوني.»١٢ ونظرًا لثقته المطلقة بالطبيعة الخيِّرة للإنسان، فقد بشَّر بإمكانية الجميع على تربية الخصال الحميدة في نفوسهم واكتسابها بالتعلم الذي يكشف عما في النفس من خير؛ الأمر الذي يقود إلى قمة التوازن مع الذات، فمن هو طيب حقًّا لن يشعر بالتعاسة أبدًا. يقول «هناك خمسة واجبات شمولية يجري القيام بها وفق ثلاث خصال أخلاقية … بعض الناس يولدون ومعهم معرفة تلك الخصال الأخلاقية، وبعضهم يتعلمها بالتربية، والبعض الآخر بالتعرض للتجارب القاسية.»١٣

وبذلك يلتقي فِكر كونفوشيوس الأخلاقي العملي مع فكر سقراط؛ فالإنسان بطبعه خيِّر عند سقراط، والمعرفة هي التي تقود إلى السلوك الأخلاقي؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يرتكب الشر وهو عارف به، ويستتبع هذا أن الفضيلة يمكن اكتسابها بالتعلم ودونما توجيه خارجي أو ضغط من سلطة عليا. أما أفلاطون فيرى في الكون نظامًا أخلاقيًّا؛ فعلى قمة هرم «المثُل» الخالدة يتربَّع مثال «الخير»، وكل الأشياء تنزع إلى الغاية الخيِّرة، رغم أن طابعها الحسي يجعلها عاجزة عن بلوغ الخير. ويرى أرسطو أن غاية الحياة البشرية هي سعادة النفس العاقلة، وهذه لا تتأتَّى إلا عن طريق حياة عقلية نشطة، تزينها الفضيلة التي هي أساس السعادة. وبعد أرسطو، قام الاتجاهان الرئيسيان في الفلسفة اليونانية على فكرٍ أخلاقي بالدرجة الأولى؛ فأبيقور لم يرفض فكرة وجود الآلهة، ولكنه رأى أن وجودها لا يزيد حياة الإنسان خيرًا أو شرًّا؛ لأنها لا تكترث بمشكلات البشر ولا تفرض ثوابًا أو عقابًا؛ ولذا فعلى الإنسان أن يعمل ليصل حالة من التوازن الكامل عن طريق الحرص والاعتدال، وهذا التوازن هو أرفع اللذات التي يسعى الإنسان بطبيعته الفطرية إليها، وهو الخير الأسمى. أما الرواقية، فقد اهتمَّت بمسألة الجبر والاختيار والحرية الإنسانية، وحثَّت أتباعها على العيش وفق قانون أخلاقي صارم من شأنه جعل الفرد في وحدة مع العالم ومع الفاعلية الإلهية المتخللة في الكون. والقانون الأخلاقي عندهم ليس لوائح سلوك تمليها قوةٌ عليا، بل قواعد يمكن اكتشافها بالعكوف على الذات والانصراف عن الأهواء الدنيوية والملذات الحسية.

١  J. C. Froelich, Animisme, Edition de l’Orante, Paris 1964, pp. 73–76, 84.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب تحت عنوان: ديانات الأرواح الوثنية، ترجمة يوسف شلب الشام، دار المنارة، اللاذقية، سوريا ١٩٨٨م، ص٩٢–٩٧، ١٠٧.
٢  صفة «التقليدية»، هنا وأينما وردت في هذا الكتاب، أستخدمها للإشارة إلى المجتمعات البطيئة التقدم من الناحية التكنولوجية، والتي يطلق عليها عادةً صفة «البدائية».
٣  Emile Durkheim, op. cit, pp. 340–345.
٤  James Frazer, Op. cit, pp. 241–260.
٥  James Frazer, op. cit, pp. 261–262.
٦  على حد تعبير كارل غوستاف يونغ الذي درس هذا السِّفر مطولًا باعتباره نموذجًا لتطور شخصية الإله في اللاشعور الإنساني، وذلك في كتابه: C. G. Jung, Answer To Jon, in The Collected Works, Rotledy, London.
انظر أيضًا الترجمة العربية للكتاب تحت عنوان: الإله اليهودي، للأستاذ نهاد خياطة، دار الحوار، سوريا ١٩٨٦م.
٧  T. J. Meek, The Code of Hammurabi, p. 138 (in: J. B. Pritchard, The Ancient Near East, Princeton, 1973).
انظر ترجمة أسامة سراس للنص أعلاه في كتابه: شريعة حمورابي، دمشق ١٩٧٨م، الفقرات ٨، ١٤، ٢٣.
٨  R. C. Zaehner, Hinduism, Oxford 1984, p. 2.
٩  Ibid, pp. 50–60.
١٠  D. Twichett, Law and Religion in East Asia (in: Encyclopedia of Religion), Vol.: 8. p. 469.
١١  H. G. Creel, Chinese Thought, Mentor, New York 1960, p. 39.
١٢  Lin Yutang, The Wisdom of Confucius, Modern Library, New York 1938, p. 105.
١٣  Ibid, p. 117–118.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤