الفصل الأول

من العبادة إلى الدين الشمولي

لقد توصَّلنا في القسم الأول من دراستنا هذه إلى القول بأن الدين هو: «التعبير الجمعي عن الخبرة الدينية الفردية، وقد تم ترشيدها في قوالب فكرية وطقسية وأدبية ثابتة.» ثم وجدنا في القسم الثاني أن هذا التبدِّي الجمعي للظاهرة الدينية يتكون من معتقد وطقس وأسطورة، هي عناصره الرئيسية، ومن أخلاق وشرائع، وهي عناصر ثانوية تتصل بالدين في سياقه التاريخي دون أن تكون من صلبه. وقد فصَّلنا في شرح هذه المكونات بما يكفي حاجة بحثنا وأهدافه. وأما الآن، فسوف ننتقل إلى توضيح وشرح ثلاثة أشكال رئيسية للحياة الدينية في المجتمعات الإنسانية، وهي الأشكال التي تنجم عن مدى انتشار عقيدة دينية ما، وشمولها لعدد قليل أو كثير من الجماعات البشرية.

إن الدين الذي يؤمن به شعب بأكمله، بكل قبائله وعشائره، وفي جميع المناطق التي يقيم عليها هذا الشعب، أو ذلك الدين الذي تؤمن به شعوب متعددة التركيب العِرقي ومناطق الانتشار الجغرافي، هو ظاهرةٌ جديدة في تاريخ الدين والحضارة. فالأصل في الدين معتقَدٌ بسيط تتركز حوله مجموعة من الطقوس والأساطير الخاصة بجماعة معينة من الناس (عشيرة أو قبيلة، أو شريحة اجتماعية). مثل هذا الشكل المحدود للحياة الدينية يُدعى عادةً بالعبادة (= Cult). ويتطابق مفهوم الدين مع مفهوم العبادة لدى جماعة صغيرة شبه منعزلة؛ فإذا اجتمع لشعب من الشعوب عدد من العبادات المتقاربة، التي يختص كلٌّ منها بجماعة من جماعاته، أسمَينا شكل الحياة الدينية هنا دينًا، وأسمَينا الشكل الفرعي عبادة، وسأوضِّح ذلك بالأمثلة فيما يلي.
كثيرًا ما نسمع بمعتقدات وطقوس الخصب، ونقرأ عنها في أي عرض لأساطير وديانات المشرق العربي القديم؛ فوفقًا لهذه المعتقدات هناك إله يموت في كل عام مع نهاية الصيف ويهبط إلى العالم الأسفل، ثم يُبعَث حيًّا في الربيع جالبًا معه الحياة للأرض والخصب للماشية. وحول هذا المعتقد بُنيت أساطير متعددة ونشأت طقوسٌ متنوعة. ففي سومر على سبيل المثال، نستطيع تلمس عقيدة الخصب وطقوسها منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، سواء في النصوص المكتوبة أم في أعمال الفن التشكيلي، وهي تتركز حول «دوموزي» الإله الميت الحي وقرينته «إنانا»، غير أن عقيدة دوموزي وإنانا ليست كل ديانة السومريين؛ فنحن نعرف عن وجود مجمع موسع للآلهة يرأسه «آن» كبير الآلهة، ويبرز فيه الثالوث الأقدس «آن» و«إنليل» و«إنكي»، كما نعرف عن العدد الكبير لآلهة المدن المحلية؛ فالإله «شَمَشْ» كان يُعبد بشكل رئيسي في مدينة «سيبار»، والإله «سن» في مدينة «أور»، والإلهة «إنانا» في مدينة «أوروك»، والإله «إنليل» في مدينة «نيبور» … إلخ. لهذا السبب فنحن لا نستطيع أن نطلق على معتقد الخصب السومري وما يدور حوله من طقوس اسمَ ديانة الخصب السومرية، بل الأنسب أن نقول عبادة الخصب السومرية، وهو الاصطلاح المتداوَل عادةً بين الباحثين؛ إذ يطلقون اصطلاح Fertility Cult على هذه الشيعة الدينية وأمثالها. أما الدين السومري فيتكوَّن من مجمل العبادات المعروفة في المجتمع السومري بما فيها عبادة الخصب.
ويمكن أن نضرب مثالًا آخر، ديانة العرب قبل الإسلام؛ فهنا تُواجهنا أيضًا عباداتٌ متنوعة ومتعددة بتعدد القبائل العربية. فلدى قريش مثلًا كانت تسُود عبادة الإلهة «العُزى» بشكل رئيسي إلى جانب عبادات أخرى ثانوية، ولدى الأوس والخزرج في يثرب كانت عبادة الإلهة «مَناة» هي الأولى، ولدى ثقيف في الطائف كانت ترتفع «اللات» فوق الجميع. نقرأ في كتاب «الأصنام» لابن الكلبي المتوفى عام ٢٠٤ للهجرة: «ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يُعظمون شيئًا من الأصنام إعظامهم للعُزى، ثم اللات، ثم مَناة. فأما العُزى فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش للعُزى، وكانت الأوس والخزرج تخصُّ مَناة كخاصة هؤلاء الآخرين. وكان لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم هُبل، وكان من عقيق أحمر على صورة الإنسان …»١ أي إن القبيلة العربية الواحدة كانت تدين بما تدين به القبائل الأخرى، ولكن مع تأكيد على هذه العبادة في مقابل تأكيد الأخرى على تلك. من هنا، فنحن عندما ندرس الحياة الدينية عند العرب نستخدم مصطلح العبادة لما هو شائع ضمن القبيلة، ونترك مصطلح الدين لما هو مشترك بين الجميع. وإني أطلق على هذا الشكل من الحياة الدينية، الذي يجتمع فيه عدد من العبادات، اسم دين القوم، تمييزًا له عن العبادة وعن الدين الشمولي الذي سأتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل.
أما عن علاقة الأفراد بهذين الشكلين للحياة الدينية، فيمكن القول بأن الفرد لا يشعر بانتمائه إلى دين القوم قدر شعوره بالانتماء إلى عبادة معينة تسود ضمن بيئته الاجتماعية المباشرة، ولتكن مدينة أو قرية أو عشيرة، أو شريحة اجتماعية ما من شرائح المجتمع الكبير. فالمزارعون في مملكة بابل، على سبيل المثال، لم يكونوا مهتمين بالإله مردوخ إله الإمبراطورية وخالق الكون قدر اهتمامهم بالإله تموز الذي يرعى دورة الفصول ويُكثر الغلال ويُجري اللبن في ضروع الأغنام. ولأسباب ليست على هذه الدرجة من الوضوح، كان عرب الطائف يُعلون من شأن اللات، ويقيمون شعائرهم التي تدور حول حجر مكعب الشكل يشبه حجر مكة، ولا يهتمون إلا قليلًا لكعبة قريش. وكان عرب ثقيف، على حدِّ قول الجاحظ في كتابه «الحيوان»، ينافسون قريشًا ببيت مقدس لهم: «وكان لثقيف بيت له سدنته يضاهون بذلك قريشًا.»٢

فالعبادة والحالة هذه هي المناخ الديني الذي تنشط ضِمنه الحياة الروحية للأفراد، والمؤسسة التي يشعرون بالانتماء المباشر إليها، أما دين القوم فيبقى رابطةً عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة دون أن يكون له حضورٌ مباشر ويومي في الحياة الدينية للناس.

وتتميز مؤسسة العبادة بالمرونة والتسامح؛ فإلى جانب الإله الرئيسي الذي اختار الفرد تعظيمه والدخول في عبادته، فإنه يقوم في الوقت نفسه بتبجيل آلهة أخرى والمشاركة أحيانًا في طقوسها. وهو عندما يرحل من مكان إلى آخر فإنه يقوم بتقديم الفروض الدينية لآلهة الجماعات التي يحل بينها، وحتى لآلهة الأقوام البعيدة والغريبة عن قومه، مؤمنًا بأن كل العبادات تملك من الحقيقة والمشروعية ما لعبادته وعبادات قومه. وكان إنسان الحضارات القديمة حرًّا في التنقل بين العبادات المختلفة، فيترك عبادة إله ما للالتحاق بعبادة إله آخر، لا يمنعه عن ذلك عُرفٌ ديني أو اجتماعي، ولربما بلغ به الأمر ترك دين قومه والالتحاق بعبادة إله قوم أجنبي، كما كان يحدث للجنود الذين يقضون زمنًا طويلًا في المناطق النائية ثم يعودون ومعهم آلهة الشعوب الأجنبية التي عاشوا بينها. وبهذه الطريقة تم تأسيس العبادات المشرقية في روما والعالم الهيليني اعتبارًا من القرن الثاني قبل الميلاد، مثل عبادة «سيبيل» الأناضولية، و«ميترا» الفارسي، و«سيرابيس» المصري.

فالأم الأناضولية الكبرى «سيبيل» قد دخلت روما عام ٢٠٤ق.م. في احتفال رسمي، عندما ذهب وفد من شيوخ روما وجلب حجرها الأسود من مقر عبادتها الرئيسية في آسيا الصغرى فوضعه في الكابيتول. كما قوبلت الإلهة «إيزيس»، القادمة من مصر مع الفِرق الرومانية العائدة، بترحابٍ بالغ، وأقيمت لها الهياكل في كل مكان. وكان بعض الأباطرة الرومان من المتحمِّسين لعبادتها كالإمبراطور «كاليغولا». ورغم أن هذه العبادات الأجنبية لم تدخل في صلب دين القوم الروماني، ولم يلحق آلهتها بالبانثيون الرسمي، إلا أنها عاشت بحريةٍ تامة كبقية العبادات الرومانية. كما كان من الإجراءات المعهودة قديمًا في الحروب، أن يقوم القائد الغالب بتقديم فروض الولاء لآلهة الشعوب المغلوبة في معابدها، وأخبار حملات الملوك الآشوريين مليئة بالإشارات إلى مثل هذه الطقوس، وكذلك أخبار حملات الإسكندر. نقرأ على سبيل المثال في نص للملك الآشوري شلمنصر الثالث (٨٥٨–٨٢٤ق.م.) يصف حملته على مناطق غربي الفرات في سوريا: «ثم غادرت الفرات نحو حلب التي خاف أهلها وخرُّوا عند قدمي، فتلقَّيت منهم الجزية فضة وذهبًا، وقدمتُ قربانًا إلى «هدد» حلب، من حلب توجَّهت إلى مدن «أرخوليني» ملك حماة … إلخ.»٣

وقد بقي دين القوم بمثابة رابطة عامة تجمع أهل الثقافة الواحدة، دون أن تكون له الأولوية على العبادات المحلية، إلى أن شهد تاريخ الدين ظاهرة جديدة كل الجدة هي ظاهرة الديانات الشمولية. والدين الشمولي هو في منشئه عبادة كغيرها من العبادات، ولكن هذه العبادة الجديدة الناشئة لا تقنع بوضعها المحدود ضمن الصورة العامة لدين القوم، وإنما تأخذ بفرض نفسها على بقية العبادات في حركة دائبة طموحة هدفُها إحلال نفسها دينًا للقوم، والاستيلاء على الحياة الدينية للثقافة التي تنتمي إليها، وإلى تعميم تجربتها الروحية على الثقافات الأخرى، متجاوزةً في ذلك كل الحواجز السياسية والإقليمية والجغرافية من أي نوع. وتتَّسم العبادة التي تسير في الطريق إلى رُتبة الديانة الشمولية بما يأتي:

  • (١)

    تحمل هذه العبادة طابع التجربة الدينية لشخص بعينه، ويكون العنصر الفاعل فيها شخصية إنسانية فذَّة، تحاول من خلال حركة ثورية شاملة قلبَ المفاهيم الدينية لعصرها.

  • (٢)

    يعتقد مؤسس العبادة، التي تطمح إلى الشمول، بامتلاك الحقيقة المطلقة والنهائية من دون بقية العبادات الداني منها والنائي.

  • (٣)

    ترفض هذه العبادة، سواء في حياة مؤسسها أم بعده، التعايش مع بقية العبادات؛ لأن من يمتلك الحقيقة وحده لا يساوم عليها. وقد يتخذ هذا الرفض شكل الحرب المعلنة، خصوصًا إذا أفلحت العبادة في استمالة حاكم أو ملك أو كيان سياسي يتبنَّاها ويحارب خصومها.

وهكذا فإن العبادة التي وطدت العزم على التحول إلى ديانة شمولية، تجد نفسها مُجبَرة على السير في أحد طريقين، فإما استيعاب بقية العبادات وفرض نفسها دينًا للقوم أولًا، وللأقوام الأخرى ثانيًا، وإما الانقراض والزوال. وهذا الانقراض إما أن يأتي سريعًا، وذلك بضربة قوية ومفاجئة من قِبل العبادات الأخرى التي اضطرت إلى الدخول في معركة مصير وبقاء لم تختَرها، أو أن يأتي بعد فترة من الزمن، عندما تفقد الديانة الشمولية زخمها التبشيري، ولا تفلح في اكتساب كيان سياسي مقتدر يعمل على حمايتها. لقد بقيت البوذية، مثلًا، طائفة من الطوائف الهندوسية، حتى أحلها الإمبراطور أشوكا (٢٧٣–٢٣٢ق.م.) ديانة لجميع البلاد. وعندما تراجعت في الهند قُيض لها كيانٌ سياسي آخر في الصين عمل على نشرها، وإكمال العمل التبشيري المبكر الذي مارسته هناك منذ وفاة البوذا. كما وجدت المسيحية كيانها السياسي في بيزنطة، التي حوَّلها الإمبراطور قسطنطين (٢٨٠–٣٣٨م) إلى الدين الجديد. أما الإسلام، فقد تطابق منذ بداياته الأولى مع كيان سياسي هو دولة الرسول في يثرب، ودولة الخلفاء من بعده.

ولسوف أتوقَّف فيما يأتي عند ظاهرة الديانات الشمولية؛ لأن معظم الناس في العصر الراهن لا يتعرفون على الظاهرة الدينية من حولهم إلا من خلال ديانة شمولية ما.

١  ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، القاهرة ١٩٦٥م، ص٢٧.
٢  الجاحظ، كتاب الحيوان، الجزء ٧.
٣  J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, p. 279.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤