الفصل الثاني

نماذج من الأديان الشمولية

إن التفريق الذي صنعته منذ قليل بين دين القوم والدين الشمولي، سوف يساعد قارئ تاريخ الأديان على فهم ظواهر بدت له حتى الآن غامضة وعصية على التفسير. فلماذا تبدو الهندوسية، مثلًا، على هذا القدر من التنوع والتعدد في الاتجاهات المذهبية، في الوقت الذي تبدو فيه بوذية الهينايانا، أو بوذية المهايانا، على هذا القدر من الاتساق والتماثل في المعتقد والطقس، وما يتبعهما من مظاهر الحياة الدينية؟ ولماذا نعثر في تاريخ الدين على إيمان يتَّسم بالتسامح ويقبل التعايش مع غيره، في الوقت الذي يناصب فيه إيمانٌ آخر العداء لكل من غايره وخالفه؟ لماذا غضَّت السلطة في روما الإمبراطورية طرفها عن كل العبادات القادمة من الشرق من دون المسيحية التي وقع على أتباعها أول اضطهاد رسمي منظم في التاريخ الروماني؟ لماذا دمَّر البابليون، ومن بعدهم الرومان، هيكل أورشليم من دون بقية هياكل العبادات الفلسطينية أو السورية؟

إن الجواب على مثل هذه التساؤلات يكمن في التمييز بين دين القوم، الذي يتألف من عبادات متعايشة رغم التنوع والاختلاف، وبين الدين الشمولي الذي عمل منذ البداية على تنميط الحياة الدينية في المجتمع الذي استولى على إيمانه، ثم وطد العزم على تحويل كل إيمان آخر لكي يصب في تياره. ورغم أن الأديان الشمولية لا تُبدي تماثلًا تامًّا بينها، من حيث طريقة النشأة، وأسلوب الانتشار، والمسار الثابت الذي تتخذه بعد نجاحها، إلا أن دراسة بعض نماذجها التاريخية تفيدنا في التعرف على هذا الشكل من الحياة الدينية، سواء في تاريخ الدين أم في الصورة الحالية لأديان العالم القائمة اليوم.

ولسوف أتناول فيما يأتي ثلاث محاولات في تاريخ الفكر الديني الشمولي، اثنتان منهما عاجلهما الموت السريع، وواحدة عاشت بضعة قرون ثم عفا عليها الزمن.

(١) أخناتون والآتونية

أول ديانة شمولية معروفة لنا وموثقة تاريخيًّا هي الآتونية، ديانة الفرعون أمنحوتب الرابع، الذي حكم مصر فيما بين ١٣٦٩ و١٣٥٣ق.م. وقد عاشت هذه الديانة عمرًا قصيرًا لم يتجاوز الفترة التي قضاها مؤسسها على عرش مصر، ثم آلت بعد ذلك إلى النسيان الكامل، حتى عرفنا عنها في العصر الحديث مع ما عرفنا عن تاريخ وحضارة مصر القديمة.١

ولي أمنحوتب الرابع عرش مصر وهو حدثٌ لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. ويبدو أن الفرعون الفتى قد مرَّ بتجربة روحية خاصة قبل بلوغه سن السادسة عشرة، قادته إلى إيمان جديد يتعارض ودين القوم السائد في مصر. فقد بدأ بالإعلام عن معتقده منذ السنة السادسة لحكمه، وبنى أول معبد لإلهه آتون في العاصمة طِيبة. وتُظهر بقايا الكتابات التي وُجدت على أحجار هذا المعبد، الذي هدمه الخصوم حتى أساساته، بعض أسماء الآلهة المصرية التقليدية، كما أنها تشير إلى الفرعون باسمه الرسمي كأمنحوتب الرابع، لا بالاسم أخناتون الذي اختاره لنفسه فيما بعد، ولا باللقب الذي لازمه بعد ذلك، وهو «الذي يعيش في الحقيقة». وهذا يعني أن الآتونية لم تكن في هذا الوقت المبكر من تأسيسها سوى عبادة تقوم إلى جانب العبادات التقليدية الأخرى في دين القوم المصري. وأغلب الظن أن هذه العبادة كانت ستعيش مدةً طويلة لو أن الفرعون قد وقف عند هذا الحد في الدعوة لمعتقده والتبشير به، إلا أن الداعية الفتى قد دخل، وقبل الأوان على ما يبدو، في صراع حياة أو موت مع كل التقاليد المتجذِّرة في تاريخ الدين المصري.

بعد اكتمال معبد طِيبة بوقت قصير، غيَّر الفرعون اسم المدينة من طيبة إلى ألق آتون، وأتبع ذلك بإعلان إلهه آتون إلهًا أوحد لمصر بكاملها، كما غيَّر اسمه إلى أخن آتون؛ أي فرح آتون، ثم قام بعدد من الإجراءات الجذرية الهادفة إلى محو ذكرى العبادات القديمة من النفوس، فأغلق معابد الإله الأعلى آمون رع، وسرَّح كهنته من الخدمة، كما أغلق معابد بقية الآلهة، وحطَّم تماثيلها، ومحا أسماءها وصورها أنَّى وُجدت. وبلغ به الحماس حدًّا دفعه إلى فتح مقبرة أبيه أمنحوتب الثالث، حيث محا اسم الإله آمون رع من هناك، وأزال صوره، وغيَّر اسم أبيه في منقوشات القبر. ولكن تآمر الكهنة عليه، وهذا ما نعرفه من رسالة بخط يده، قد دفعه إلى التفكير بترك مدينة طِيبة وبناء عاصمة جديدة له، ثم اندفع إلى تنفيذ فكرته، واكتمل بناء العاصمة في مدة قصيرة، فأطلق عليها اسم أخت آتون؛ أي أفق آتون (اكتُشفت المدينة في موقع تل العمارنة). وقد ترافق بناء هذه العاصمة مع حملة تبشيرية داخل مصر وخارجها؛ لأننا نعرف من وثائق تل العمارنة أن مدينتين أُخريين مكرَّستين للإله آتون، قد تم بناؤهما في الوقت نفسه تقريبًا؛ واحدة في سوريا لا نعرف مكانها على وجه التحديد، والأخرى في النوبة قُرب شلال النيل الثالث.

رغم قلة المصادر المباشرة التي سَلِمت من حملت التدمير الشاملة، التي شنَّها خصوم الفرعون على كل ما له صلة بدين أخناتون من أبنية وصور ومنحوتات وكتابات، فإن هذه المصادر كافية لتكوين صورة واضحة عن حياة الفرعون الثائر ومعتقداته. فمن الوثائق الكتابية لدينا عدد لا بأس به من نصوص، إضافة إلى ترتيلتَين تُعتبران من عيون الأدب الديني للشرق القديم، خطهما قلم الفرعون نفسه (وقد قدَّمنا ترجمةً كاملة لإحداهما سابقًا). أما الشواهد الفنية من تلك الفترة فمتوفرة نسبيًّا؛ فآثار العاصمة أخت آتون تعطي فكرةً واضحة عن النمط المعماري للمعابد والقصور والبيوت العادية، وعن تنظيم المدينة بشكل عام، إضافة إلى عدد لا بأس به من المنحوتات والرسوم، وهي تشكل مدرسةً متميزة في تاريخ الفن.

يقوم معتقد أخناتون على الإيمان بإلهٍ واحد للبشرية جمعاء، وهو طاقةٌ صافية لا تتخذ شكلًا ما، ولكنها تتبدى في عالم الظواهر بقرص الشمس الذي يعطي الحياة والحركة للجميع. من هنا، فإن الشعوب والأمم جميعًا تتساوى أمام آتون. يقول أخناتون في إحدى ترتيلتَيه: «في جميع الأصقاع، في سوريا والحبشة وأرض مصر، أعطيت لكلٍّ مكانه.» وهذه أول مرة تُذكَر فيها البلدان الأجنبية قبل مصر في النصوص الفرعونية؛ الأمر الذي يشير إلى غياب الأفكار التعصبية للأمة من معتقد أخناتون، والدعوة صراحةً إلى أخوة البشر، وذلك لأول مرة في التاريخ. ولقد وضع الفرعون الشاب أفكاره الإنسانية هذه موضع التطبيق العملي، عندما رفض التدخل لصالح الحكام المُوالين لمصر في بلاد الشام في صراعهم مع الدُّوَيلات الأخرى المناهضة للنفوذ المصري، مُفضلًا خسران الإمبراطورية التي بناها أسلافه على الدخول في حربٍ ظالمة. والعلاقة بين آتون ومخلوقاته تقوم على الحب المتبادل، وكل المخلوقات الحية تُكنُّ الحب للأب الواحد الذي أظهرها إلى الوجود ويسَّر لها رزقها: «كل قلب يخفق لمرآك؛ لأنك ترتفع سيدًا للجميع، كل أيدي البشر ترتفع لتُسبح ظهورك.» وأيضًا: «عندما تشرق عليهم يحيون … وترتفع أبصارهم إليك.» وهذا يسري على كل الشعوب وفي كل مكان من أقطار المسكونة: «أنت آتون النهار، مُبجَّل في كل قُطر بعيد.» ويشترك في محبة آتون كل أشكال الحياة على الأرض، وكلٌّ يسبح بحمده على طريقته الخاصة: «كل مخلوق صنعته يثت إليك.» وأيضًا: «كل الحيوانات تثب على قوائمها، وكل ذوات الريش تنهض من أعشاشها وتُصفق أجنحتها بفرح، وتدور تُسبح بحمد آتون.» ويشترك في هذا الحب والتسبيح عالم النبات أيضًا: «البراعم تتفتح أزهارًا، والنباتات الطالعة في الأراضي القاحلة تطلع وُرَيقاتها لمرآك.» وبذلك توحد الآتونية بين جميع أشكال الحياة على الأرض، وتوحد بينها وبين خالقها بالحب.

إن مثل هذا المعتقد الذي يقوم على وحدة الخالق وأبوته للكون، وعلى المحبة التي تجمع بينه وبين المخلوقات، وما يستتبع ذلك من إحساس بأخوة البشر وصلتهم الحميمة ببقية أشكال الحياة على الأرض، لا يمكن له أن يبقى في إطار العبادة الإقليمية الضيقة، بل لا بد من التبشير به في كل مكان، لكي يبقى صاحبه في انسجام مع طروحاته العالمية. ولقد بدأ الفرعون بالفعل حملةً تبشيرية واسعة النطاق كما أشرنا منذ قليل، إلا أن نشاطه التبشيري لم يُكتب له النجاح رغم السعي المحموم الذي اتخذ شكل الهوس في بداية عهده. فخارج الأراضي المصرية، لا نعلم شيئًا عن انتشار الأفكار الآتونية ضمن الأراضي الواقعة تحت النفوذ المصري، أما في الأراضي المصرية، فيبدو أن الأمر لم يكن بأحسن حالًا، ولدينا عدد من الشواهد الدالة على تعثر التبشير بالدين الآتوني، وعدم فاعليته على جميع المستويات. ففي البيوت المريحة التي ابتناها أخناتون لعمال بناء العاصمة الجديدة، كشفت التنقيبات عن وجود صور الآلهة التقليدية مرسومة على الجدران؛ الأمر الذي يدل على أن بُناة المدينة المقدسة، ومعظم أهلها فيما بعد، لم يهتدوا إلى دين الفرعون. ولم يكن إيمان النخبة التي قرَّبها أخناتون إليه ورفعها إلى أعلى المناصب بأفضل من إيمان العامة؛ ففي نصوص القبور الخاصة بهؤلاء، هناك ثناء عميم على وليِّ نعمتهم لما أسبغه عليهم في كل مجال، ولكن دون ذِكر خاص للآتونية، أو عبارات تشير إلى إيمانهم الديني، كما هو معتاد في نصوص القبور المصرية. ونستطيع أن نلمح الآثار النفسية العميقة لهذا الإخفاق في الصور التي تمثله، وقد أقبل على سن الثلاثين وهو في هيئة مكدودة متعَبة، عليه سيماء من أُحبط كل مسعًى له في الحياة، بعد أن رأيناه في صوره الأولى، التي تمثله مع عائلته إبان السنوات الأولى لانتقاله إلى العاصمة الجديدة، وكله تفاؤل وأمل بالحياة وبالمستقبل.

لم يغفر العسكريون والأمراء للفرعون قط ضياعَ أراضي الإمبراطورية في الخارج، ويبدو أن هؤلاء قد تحالفوا مع الكهنة، وأخذوا يدبرون خطة لإقصاء أخناتون والقضاء على دينه، الذي كان سببًا لضياع هيبة مصر وتآلب أعدائها عليها في مناطق النفوذ القديمة. وقد أفلح المتحالفون أخيرًا في إحكام الطوق على أخناتون، الذي أخذ يشعر بالعزلة بعد تفرُّق الأتباع والمؤيدين تدريجيًّا؛ فعامة الناس لم تكن مهيَّأة لمثل هذا الانقلاب المفاجئ على دينٍ تضرب جذوره عميقًا في التاريخ المصري، أما خاصة القوم من المقربين إلى البلاط، فلم يتحولوا إلى الدين الجديد إلا طلبًا للمكاسب أو حفاظًا عليها، ولم يكونوا على استعداد حقيقي للتضحية من أجل الفرعون. وقد انتهى النزاع سلميًّا بموافقة أخناتون على التنازل عن صلاحياته السياسية لزوج ابنته الكبرى، ثم اعتكف في بيته الصيفي حيث وافته المنية سريعًا، ولم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره. وبعد وفاته مباشرةً، شنَّ الخصوم حملةً واسعة على كل آثار الآتونية، فدمرت العاصمة في تل العمارنة حتى أساساتها، وتم محو اسم أخناتون عن كل جدار وعمود في طول البلاد وعرضها، كما مُحي اسمه عن تابوته وعن الصفيحة الذهبية التي تحيط بجسده المحنط، لكي تظل روحه هائمةً محرومة من الراحة الأبدية. ولكن جثمانه، فيما عدا ذلك، قد عومل بطريقة لائقة، فنُقل من مقبرته في العاصمة المهدمة، وأُعيد دفنه في مقابر الملوك بمدينة طيبة، حيث تم العثور عليه سليمًا ومحنطًا وفق الأصول دون أن يتعرض لانتقام أو أذًى. وهذا يدل على أن الكهنة ومن عاضدهم قد أظهروا عدالة في الانتقام، فلم يلجئوا إلى العنف أو التصفيات الجسدية لأتباع الفرعون الذي لم يعرف العنف قط في حياته.

يُعلمنا إخفاق الآتونية درسَين هامَّين بخصوص الديانة الشمولية؛ أولهما أن الإيمان لا يُفرض من أعلى وبقرار سياسي، بل ينبع من الأسفل عبر القاعدة الشعبية الواسعة، وثانيهما أن الإيمان الشمولي الذي لا يفلح بعد فترة وجيزة من اكتساب هذه القاعدة الشعبية، سوف يتعرض للهجوم المعاكس السريع والحاسم من قِبل الخصوم الذين تم خلقهم وتغذية روح العداء لديهم.

بعد ألف وخمسمائة سنة تقريبًا من وفاة أخناتون، يُسجل لنا التاريخ محاولةً أخرى لرفع إله شمسي إلهًا أوحد للكون، وظهور عبادة محلية حاولت شق طريقها لتكون دينًا شموليًّا للعالم المتحضر، وبالاستناد إلى أقوى سلطان زمني في عصرها، وهو سلطان روما القيصرية.

(٢) إيلاجابال: الشمس التي لا تُقهر

في نهاية القرن الثاني الميلادي، صعد عرشَ القياصرة في روما ضابطٌ من شمال أفريقيا الفينيقية اسمه سبتيموس سيفيروس، ومعه زوجته السورية جوليا دومنة، التي اقترن بها عندما كان قائدًا لفرقة عسكرية ترابط قرب مدينة حمص في سوريا الوسطى، وقد عُرفت الأسرة الحاكمة التي أسَّسها سيفيروس بالأسرة السورية. قد أنجبت هذه الأسرة بعد مؤسسها ثلاثة من الأباطرة، بينهم باسيان الفتى صاحب المحاولة الجريئة الثانية لنشر ديانة شمسية شمولية، والذي طابق الرومان بينه وبين إلهه فدعوه «إيلاجابال».٢

كانت جوليا دومنة ابنة الكاهن الأعلى لمعبد الشمس في مدينة حمص، وهو سليل أسرة عريقة من الملوك الكهنة الذين حكموا المدينة قبل الفتح الروماني، وتسلموا بالوراثة كهانة ديانة شمسية تؤمن بإله أوحد يُدعى «إيلاجابال»، عبَده أهل حمص منذ أن بدأت أخبار هذه المدينة تظهر في التاريخ مع نهايات الألف الأول قبل الميلاد. ويبدو أن هذا الإله كان في الوقت نفسه محل تقديس الكثيرين من خارج المدينة؛ لأن معبده كان مهوى أفئدة الحُجاج من كل حدب وصوب، يؤمُّونه لتقديم فروض الاحترام للحجر الأسود الشهير الذي كان رمز الإله الوحيد؛ إذ لم يُعرَف عن هذا الإله ظهوره في منحوتة أو رسم من أي نوع. بعد المناداة بزوجها سيفيروس إمبراطورًا، رحلت جوليا دومنة إلى روما ومعها ثلة من أقربائها، وعلى رأسهم أختها الكبرى «جوليا ميساء»، التي زوَّجت ابنتَيها «سهيمة» و«ممايا» إلى ضابطين سوريين، فأنجبت الأولى «باسيان» والثانية «الكسيان». وسيتتابع هذان على عرش القيصرية بعد وفاة «كركلا»، ابن جوليا دومنة من سيفيروس. ويدعو المؤرخ الشهير جيبيون هؤلاء النسوة بالأميرات السوريات.

عاشت الأميرات السوريات في فترة تميَّزت بنشاط ديني كبير في الإمبراطورية الرومانية، وبتلاقح وحوار الأفكار الدينية ذات الأصول المتباعدة والمتغايرة، وقد كنَّ نشيطات في الشئون السياسية والدينية على كل صعيد، ويدغدغ خيالَهن حلمٌ كبير بالقضاء على الفروق الدينية في الإمبراطورية، وذلك بالسعي لكي يعتنق الجميع نوعًا من التوحيد مؤسسًا على عقيدة الشمس الحمصية وإلهها الأوحد. ولعلنا واجدون في سيرة الإمبراطورة دومنة أفضل مصدر عن الملامح العامة لعقيدة الشمس هذه؛ إذ لا نكاد نرصد عملًا من أعمال هذه السيدة أو موقفًا من مواقفها لا يعكس معتقدها الديني ذا الطابع الإنساني الشمولي. لقد استخدمت دومنة مُرضِعة ومُربِّية لابنها كركلا من الجماعات المسيحية التي كانت منبوذة من قِبل المجتمع الروماني، وأتبعت ذلك باستخدام عدد متزايد من هؤلاء المسيحيين رغم اعتراضات الكثيرين من حولها. ويقول مؤرخ معاصر لدومنة عن سبب عداء المجتمع الروماني للمسيحيين في ذلك الوقت (ومن دون بقية العبادات الشرقية، التي كان العالم الروماني يزخر بها): إن المسيحيين كانوا يجاهرون بعدائهم وازدرائهم لكل العبادات السائدة، الرومانية منها والوافدة، وقد وجدت منهم دومنة كل تعصُّب وتحجُّر في المعتقد؛ الأمر الذي صرفها عن المسيحية بعد أن أنفقت وقتًا في دراسة أفكارها وتعاليمها.

غير أن الكتاب الذي ألَّفه «فلافيوس فيلوسترات» بالتعاون مع جوليا دومنة وبإلهامها، يقدم خير دليل لنا على معتقداتها وعلى معتقد إله الشمس الحمصي من ورائها. ففي الكتاب الذي أسماه مؤلفه «حياة الحكيم أبولونيوس»، والذي ظهر بعد وفاة دومنة بوقت قصير، تشيع أفكار عن عالمية الدين وشموليته، وعن احترام جميع الأديان دون تمييز، كما تشيع فيه أفكار ومواقف مستمدة من الأناجيل، التي كانت معروفة ومنتشرة في ذلك الوقت، رغم تجنُّبه الإشارة إلى المسيحية وإلى الدين المسيحي، وقد ذكر المؤلف في مقدمته أن الكتاب قد أُنجز بالتشاور مع دومنة، وأنه قد حاز على رضاها التام في صيغته الأخيرة قبل وفاتها.

ولقد عُرف عن بقية أفراد الأسرة السورية اعتناق أفكار دينية عالمية، واتخاذ مواقف تقوم على معتقد يؤمن بوحدة الأديان، ولكن من دون الإشارة مباشرةً إلى العبادة الشمسية في حمص. أما الإعلان الصريح عن عقيدة الأسرة السورية والتبشير بها دينًا للإمبراطورية الرومانية، فقد جاء فور اعتلاء الفتى باسيان كاهنًا أعلى لعبادة الشمس في حمص. وقد انتقل إليه المنصب بالوراثة، فتسلم مهامَّ أعلى منصب روحي، ربما في بلاد الشام طرًّا، وهو ابن اثنتَي عشرة سنة فقط. ويبدو من مسار الأحداث اللاحقة، أن باسيان لم يقبل منصب الإمبراطور إلا لكي يكون في وضع أفضل للتبشير بعقيدة الشمس الحمصية وإلهها «إيلاجابال»، الذي شاء مؤرخو ذلك العصر إطلاق اسمه على القيصر السوري، فصار اسمه إيلاجابال في السجلات الرومانية.

في المعركة الفاصلة التي جرَت قرب أنطاكيا، بين القوات التي حشدتها جوليا ميساء لدعم حفيدها المطالب بالعرش وقوات المتآمرين من قتلة كركلا، مالت الكفة لصالح المتآمرين، وبينما كانت ميساء وابنتها سهيمة تشجعان الجنود المتراجعين وتحثانهم على الصمود، استلَّ باسيان سيفه وانطلق بحصانه إلى الأمام ليقود بنفسه الهجوم؛ الأمر الذي حسم المعركة لصالحه، ودخل أنطاكيا حيث نودي به إمبراطورًا وهو في سن الرابعة عشرة فقط. وقد عكس أول أمر إمبراطوري أصدره صورة عن مسيرة حكمه المقبل القائم على مبادئ روحية سامية؛ فلقد منع الجنود من نهب أنطاكيا المدينة التي وقفت إلى جانب المتآمرين، ونهاهم عن القتل والانتقام، وتعويضًا لهم عن ذلك قام بدفع مبلغ من المال ساهمت المدينة المغلوبة بتسديد قسم كبير منه. وقد أظهر بعد ذلك بوضوحٍ أن الشجاعة التي أبداها في معركة أنطاكيا، لم تكن من قبيل حب الحروب والرغبة في تخليد الانتصارات والأمجاد الشخصية، وإنما وقوفًا إلى جانب الحق؛ فعندما جاءه من أراد إقامة نصب يكرمه وينقش عليه نعوت الإمبراطور وألقابه الحربية، على سُنَّة السابقين له، نهاه عن ذلك قائلًا: لا أحتاج إلى أن أُذكر بألقاب الحرب وسفك الدماء، يكفي أن تكتبوا بأني رجل يتقي الله.

تريَّث إيلاجابال في مغادرة سوريا انتظارًا لاستتباب الأمور تمامًا في روما، وكان مجلس الشيوخ الذي صادق على قرار القطعات العسكرية بتنصيبه إمبراطورًا يحثه على القدوم إلى العاصمة. وقبل أن يشدَّ الرحال لاستلام مقاليد أعلى سلطة زمنية في العالم، أرسل صورة له إلى مجلس الشيوخ تمثله في الأردية الكهنوتية الحمصية، طالبًا وضعها على كرسي القيصر الفارغ إلى حين وصوله؛ وبذلك كشف للمسئولين ولعامة الشعب هناك عن هوية الحاكم الجديد، ولفت انتباههم إلى أنهم في انتظار قدوم مُبشِّر ديني وصاحب رسالة روحية لا قيصر روماني. وعندما دخل روما بعد ذلك بوقت قصير عام ١٩٢ ميلادية، أكَّد مجددًا، ومن خلال عرض عملي، رسالته المتضمنة في صورته إلى مجلس الشيوخ، فاخترق في موكب شرقي شوارع المدينة، عليه رداء أرجواني مُذهَّب، تحته بنطال شرقي طويل، وعلى رأسه إكليل نفيس. فإذا تخيَّلنا مثل هذه البهارج الكهنوتية يضعها غلام في الرابعة عشرة من عمره، عرفنا لماذا شبَّهه الناس حينها بالإله ديونيسيوس.

بعد استقراره في العاصمة، ترك إيلاجابال شئون الحكم والسياسة إلى جدته ميساء تُصرِّفها كما تشاء، وتفرَّغ لخدمة إلهه والتبشير بديانته؛ فاستقدم الحجر الأسود من هيكل حمص وبنى له معبدَين، واحدًا في المدينة وآخر خارجها أمام الأسوار، على غِرار المعبدين اللذين لإيلاجابال في حمص؛ فواحد لإقامته في الشتاء، وآخر له في الصيف. وكان عامة روما يرون القيصر وهو على رأس موكب ديني مهيب، مثبتًا نظره على الحجر المقدس الذي تنقله عربة مذهبة تجرُّها جياد ستة، يرافق إلهه بين هذين المعبدين في الأوقات المعلومة. أما طقوس المعبد فكانت تجري بحضور أعضاء مجلس الشيوخ بناءً على رغبة القيصر، وكان يقود الطقوس شخصيًّا، راقصًا حول المحاريب على ألحان تُنشدها جوقات مؤلفة من عذارى سوريات، وصوت الطبول والصنوج يُسمِع القاصي والداني. كان يريد هداية الناس إلى إلهه، ويرى أن أفضل ما يبدأ به هو عرض طقوس الديانة أمامهم. غير أن جهود القيصر الكاهن لم تتوقف عند عرض الطقوس الشرقية الغريبة على الطبع الروماني (فالعاصمة روما وغيرها من الحواضر الرومانية كانت تمتلئ بالشيع الشرقية وتشهد طقوسًا أكثر غرابة)، بل كان همه يتجه بشكل أساسي إلى نشر ديانة الشمس الحمصية وإحلالها دينًا عالميًّا لزمانه. وخلال ثلاث سنوات حافلة فيما بين ٢٢٠–٢٢٢ ميلادية، بذل القيصر السوري كل جهد تبشيري ممكن، إلا أن سعيه قد آل إلى الإخفاق على كل صعيد، وتخلى عنه في النهاية كل معين حتى جدته ميساء، التي نصحته بالاعتزال والتنازل عن صلاحياته تدريجيًّا لابن خالته الكسيان بن جوليا ممايا، وكانت الحاميات الرومانية ومجلس الشيوخ وعامة الناس قد بدأت تميل بالفعل إلى الكسيان. وفي إحدى الليالي من آذار عام ٢٢٢، وبعد أن تخلى عن إيلاجابال آخر أتباعه، هاجمه الجنود وقتلوه مع أمه في عقر داره، ثم جُرَّت الجثتان وأُلقيتا في نهر التيبر، ونودي بإلكسيان آخر أفراد الأسرة السورية قيصرًا تحت اسم أليكسندر سيفير.

وفي الحقيقة، فإن ديانة الشمس السورية لم تكن مجهَّزة لأن تلعب دور ديانة شمولية، تلمُّ أطراف الإمبراطورية الرومانية حول معتقد ديني واحد، وذلك لعدد من الأسباب؛ فقد كان القرن الثالث الميلادي عصرًا يموج بالأفكار والديانات والفلسفات التي تتنازع قلوب وعقول شعوب مُتعلمة تثق بالكتب وتداولها، فكان كل نظام ديني وفلسفي يعبر عن نفسه بالتدوين، ويلجأ من أجل تثبيت مواقعه إلى التعبير عن تعاليمه ومعتقداته في صيغةٍ تروق لذهنية ذلك العصر ونفسيته. ففي ذلك الوقت اكتملت الأناجيل المسيحية، وتم تداولها على نطاق واسع، وقامت الفِرق الغنوصية المختلفة بتدوين أدبياتها الغزيرة وجمع شتاتها، ولنا في المكتبة الغنوصية التي اكتُشفت بموقع نجع حمادي بمصر خيرُ مثال على هذا المجهود التحريري الغنوصي. وفي الإسكندرية نشطت الهرمسية التي تنتسب إلى هرمس المثلث الحكمة، فجمعت الرسائل المنسوبة إلى هرمس مُسبِغةً عليها طابع القدسية والوحي الإلهي. وإلى جانب هذه الاتجاهات الدينية، قامت الفلسفة بدورها التبشيري على أكمل وجه، ممثلة بالأفلاطونية المحدثة التي كانت تمارس نشاطًا كبيرًا في بلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا، وتنشر تعاليمها بواسطة كتبها الرائجة وفلاسفتها السوريين خاصة، من أمثال لونجين وفورفويوس وكالينيكوس، الذين كانوا يرتحلون من مكان إلى آخر في سبيل دعوتهم الفلسفية.٣ يُضاف إلى ذلك كله حركة إحياء التراث الروماني، التي قامت ردًّا على الأفكار الشرقية التي كانت تضغط دونما هوادة نحو مركز الإمبراطورية في روما.

في هذه الحِقبة التي تُعتبر من أغنى أحقاب التاريخ الفكري والديني، بدت ديانة الشمس الحمصية وكأنها مذهب يمُت إلى الماضي أكثر مما يمُت إلى المستقبل؛ لأنها لم تستطِع مخاطبة ذلك العصر باللغة التي يفهمها، فماتت في المهد كعبادة لم تفلح في تحصيل مرتبة الدين الشمولي. ولكن، وقبل نهاية حكم الأسرة السورية في روما، بزغ في بابل نجم عبقري شرقي، قيض لأفكاره الدينية أن تلعب دورًا كبيرًا في العالم ولعدة قرون قادمة، فيما بين الصين والحدود الغربية للإمبراطورية. إنه «ماني» نبي المانوية، الذي أعلن وهو في سن الرابعة والعشرين: «إني أنا الرسول الشكور المبعوث من أرض بابل.»

ماني والمانوية

وُلد ماني لأسرة إيرانية قرب مدينة «طيسفون» العاصمة الفارسية في منطقة بابل ببلاد الرافدين عام ٢١٦ ميلادي، وتربَّى على ملة أبيه، وهي طائفة غنوصية تُدعى بالمغتسلة نسبةً لطقوس الاغتسال بالماء التي كانت تمارسها. وقد جاءه وحي من السماء (على ما رواه في كتبه) ينقل إليه تعاليم دينه وهو في سن الثانية عشرة من عمره، ثم عاوده وهو في الرابعة والعشرين، وأمره هذه المرة بنشر دعوته.٤ وعلى رواية «ابن النديم» المؤلف العربي في كتابه المعروف «الفهرست»، فإن ملاكًا هبط من السماء وبلغه الرسالة: «فلما تمَّ له اثنتا عشرة سنة أتاه الوحي، على قوله، من ملك جِنان النور، وهو الله تعالى عما يقوله، وكان الملاك الذي جاءه بالوحي يُسمى التوم، وهو بالنبطية،٥ ومعناه القرين، فقال له: اعتزل هذه الملة؛ فلست من أهلها، وعليك بالنزاهة وترك الشهوات، ولم يئن لك أن تظهر لحداثة سنك. فلما تم له أربع وعشرون سنة أتاه التوم فقال له: عليك السلام يا ماني مني ومن الرب الذي أرسلني إليك واختارك لرسالته، وقد أمرك أن تدعو وتُبشر ببُشرى الحق، وتحتمل في ذلك كل جهدك.»٦

وقد طوَّر ماني إلهاماته التي تلقَّاها من الوحي السماوي، في عدد من الكتب التي بقيت لدينا نتف منها بنصوصها الأصلية، أو في اقتباسات المؤلفين المسلمين بشكلٍ خاصٍّ، كما تم العثور على عدد لا بأس به من الأدبيات المانوية باللغة السريانية، وهي لغة ماني الأساسية، وباللغة القبطية المصرية. اعترف ماني بقيمة الديانات السابقة عليه، ولكنه اعتبرها مؤقتة وغير كاملة؛ ولذلك أعطى لنفسه لقب «خاتم الأنبياء»، وكان مشروعه الكبير يقوم على صياغة ديانة شمولية تحتوي على الأفكار الدينية القديمة، وتتجاوزها في تركيبٍ جديد قادر على اكتساب الجميع إلى عقيدة موحدة. فلقد تأثَّر بشكل رئيسي بالأفكار الثنوية الإيرانية، ولكنه أخذ العديد من الأفكار المهمة عن المسيحية والمثروية والهندوسية والرافدية القديمة، إضافةً إلى خلفيته الشخصية الغنوصية، فجاءت ديانته بحق مذهبًا توفيقيًّا من الطراز الأول، يهدف في ذلك العصر القلق إلى توحيد العالم بكامله تحت راية دينية واحدة. ويصف ماني بنفسه ذلك الطابع العالمي لتعاليمه فيقول: «كما أن نهرًا يرفد آخر لتكوين تيار دافق، كذلك صبَّت الكتب القديمة في كتاباتي فشكَّلت حكمة كبرى لا مثيل لها في الأجيال السابقة.» ورغم أن هذه المحاولة الطموحة تذكرنا بمحاولة القيصر السوري الفتى، والتي سبقتها بعقدين من الزمان فقط، إلا أن الفرق شاسع بين هاتين المحاولتين، سواء من حيث البدايات أو المصائر التاريخية. ويأتي الفرق من التباين الجذري بين الداعيتين، فبينما بقي إيلاجابال أسير عبادة محلية لم تستطِع تطوير نفسها بما يتناسب وطبيعة العصر؛ فإن ماني قد استوعب في سنٍّ مبكرةٍ كل ثقافة عصره، وخاطبه بأدواته، مطورًا نظامًا دينيًّا قادرًا على مقارعة الأنظمة الدينية والفلسفية المتنافسة على الساحة العالمية.

اتخذ ماني الثنوية الإيرانية منطلقًا له، وهذه الثنوية تنتمي إلى زرادشت الذي عاش وبشَّر بديانته زمنًا ما، فيما بين عامَي ٥٥٠–٦٥٠ق.م. أي خلال الفترة التي شهدت ظهور الفلسفة الإغريقية في الغرب، والبوذا ولاوتسي وكونفوشيوس في الشرق. وللزرادشتية تاريخٌ طويل تغيَّر عبره معتقدها تغيرًا كبيرًا؛ فتعاليم زرادشت الأصلية التي نجدها في الكتاب الوحيد المعزو إليه، وهو اﻟ Gathas أي الأناشيد، هي تعاليم توحيدية مستقيمة، وزرادشت يعتبر نفسه نبيًّا تلقَّى الوحي عن الإله الواحد الخالق المدعو «أهورا مزدا».
وقد جاءت الثنوية في تفكير زرادشت من توكيده على صفة الخير المطلق في شخصية الخالق؛ فإذا كان الله هو الخير، فلا بد من تقديم تفسير لوجود الشر في العالم، والتفسير الذي اقترحه زرادشت يقول بنشوء روحَين متعارضتين عن الإله الأزلي الحق خالق السماء والأرض؛ فروح خيِّرة اختارت الخير منذ البداية وهي «سبينتا ماينيو»، وأخرى شريرة اختارت الشر منذ البداية أيضًا وهي «أنجرا ماينيو»، الذي سيُدعى «أهريمان» فيما بعد. وهذا الخيار البدئي هو النموذج الذي ستحتذيه خيارات البشر اللاحقة فيما بين الطريقين، وبدافع أخلاقي حر تمام الحرية. إلا أن هذه الثنوية التوحيدية قد خضعت فيما بعد إلى تحوير أساسي، فصار أهورا مزدا إله زرادشت طرفًا في الصراع أمام ممثل الشر أنجرا ماينيو، وتراكمت أدبيات ميثولوجية وطقسية كثيرة حول المعتقد الزرادشتي الأصلي.٧ ولكن المانوية ترفض اعتبار الخير والشر قوتين متكافئتين، كما ترفض اعتبار ممثل الشر إلهًا يقف على قدم المساواة مع الله، وهذه نقطة الخلاف الجذرية والأساسية بين ماني والزرادشتية المتأخرة. يقول ماني بوجود مبدأين رئيسين؛ الأول هو الله، والثاني هو المادة؛ فمن الله يأتي كل خير، ومن المادة يأتي كل شر. وقد أنجبت المادة الشيطان أهريمان، وهذا الشيطان ليس إلهًا رغم سلطته على النصف المظلم من الكون، وهو يخسر حربه مع الله، كما بيَّنت الأسطورة المانوية التي أوردناها آنفًا، ويجري إلقاؤه في القيود وكف أذاه نهائيًّا في آخر الزمان. أما عن مكان الإنسان في هذا العالم، فإن شرطه المادي يجلب له الألم في الحياة، وهو لا يستطيع تخليص نفسه والالتحاق بالعالم النوراني إلا بالمعرفة التي تكشف له حقيقته وحقيقة العالم وتخلصه من آثار الظلمة. ولمساعدة المؤمنين على اجتياز درب خلاصهم، فقد قدَّم لهم ماني تصورًا للعالم وللإنسان ولجميع الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية، فيما يمكن تسميته بنظام معرفي شامل. وقد كان هذا النظام المعرفي هو ما جذب شخصيةً متميزة مثل القديس أوغسطين الذي اعتنق المانوية قبل تحوله إلى المسيحية، وقال في كتابه «الاعترافات» إن ما جذبه إلى المانونية لأول وهلة هو إيحاؤها بالقدرة على تفسير كل ظاهرة من ظواهر الدنيا.

لم يبدأ نشاط ماني التبشيري في بابل كما هو متوقع، بل في الهند، حيث مكث فترة ثم عاد إلى طيسفون، ومن هناك بدأ بإرسال حوارييه شرقًا وغربًا تحت حماية الملك الفارسي «شابور»، الذي سمح له بنشر تعاليمه بحرية في كل مكان من الإمبراطورية الفارسية، وبعث إلى الولاة والحكام لتيسير أمر الدعاة الذين انتشروا من آسيا الوسطى إلى مصر. كما تولَّى ماني بنفسه القيام برحلات تبشيرية عديدة، مؤسسًا جماعات جديدة من الأتباع أنَّى رحل، تاركًا بين أيديهم نسخًا من الكتب العديدة التي وضعها بنفسه، والتي كان يتباهى بتأليفها قائلًا: إنه يضع أناجيله بنفسه على عكس سابقيه من أمثال عيسى وبوذا وزرادشت، الذين دوِّنت أناجيلهم بعد وفاتهم وبيد خلفائهم. ولقد ساعدت هذه الظروف المواتية، وامتداد العمر بماني الذي عاش حتى سن الستين، على ترسيخ الدعوة المانوية في أرجاء الإمبراطورية الفارسية وفي خارجها، كما أن وفاته لم تؤثر على استمرار النشاط التبشيري؛ فنحو الغرب وصلت المانوية إلى فلسطين، ثم انتشرت على نطاقٍ واسع في مصر، ومن مصر انتشرت إلى أفريقيا وإسبانيا، كما عبَرت المانوية من سوريا إلى اليونان وإيطاليا حيث كانت تصطدم بالجماعات المسيحية وبالسلطات الرومانية التي كانت ترى فيها دسيسةً فارسية. أما نحو الشرق فقد وصل التبشير المانوي إلى بلاط الإمبراطور الصيني على طول طريق الحرير الذي توضعت عليه جماعات مانوية قوية التأثير. وعن المانوية في بلاد العرب يروي الجغرافي ابن رُسته خبرًا عن وصول البعثات التبشيرية المانوية إلى بلاد العرب من الحيرة، التي دانت بالمانوية حوالَي عام ٣٠٠ للميلاد، في حين يروي ابن قتيبة أن بعض القرشيين كانوا مسئولين عن إحضار البدعة المانوية من الحيرة.

ولقد سار أتباع ماني على النهج الذي اتبعه في مهاجمة الأديان السابقة عليه، وقالوا ببطلانها جميعًا بعد ظهور الرسالة الحقة، ودخلت المانوية في كل مكان في صراع لا هوادة فيه مع العبادات والأديان الشمولية الأخرى؛ فإلى جانب صراعها مع وثنية عصرها المتنورة ربيبة الثقافة الهيلينستية، فقد دخلت في صراع مميت مع ديانتين شموليتين؛ إحداهما شائخة هي الزرادشتية التي كانت تسعى إلى تجديد نفسها من خلال حركة إحياء شاملة، والأخرى فتيَّة هي المسيحية التي كانت تشق لنفسها طريقًا صاعدًا بإصرار نحو روما والقسطنطينية. ولقد تلقَّت المانوية من الزرادشتية أولى ضرباتها القاسية، عندما مات مؤسسها شهيد دعوته، وأُعدم إثر محاكمة صورية في بلاط الملك «بهرام» خليفة شابور، نتيجةً للدسائس التي حاكها له الكهنة المجوس، ثم جاءتها الضربة الثانية باعتناق الإمبراطور الروماني «قسطنطين» المسيحية وإعلانها دينًا رسميًّا للدولة، وما تبع ذلك من ملاحقة واضطهاد للمانويين. أما الضربة الثالثة فجاءت من الديانة الشمولية الجديدة وهي الإسلام، عندما قامت الخلافة العباسية في بغداد باستئصال شأفة المانوية من موطنها الرئيسي في إيران والمشرق العربي. ومع ذلك فقد صارعت المانوية طويلًا عقب ذلك من أجل البقاء، واستمرَّت جيوب لها قائمة هنا وهناك حتى مطلع العصور الحديثة.

بعد هذه الوقفة المطولة عند مفهوم الدين الشمولي، والأمثلة التي اخترتها لأجل توضيحه، وهي وقفة اعتبرتها ضرورية، أريد قول كلمة أخيرة حول موضوع المستويات الشمولية للدين، وهي أن الدين الشمولي ليس بالضرورة مرحلةً حتمية في تطور الظاهرة الدينية؛ فقد تراوح الظاهرة الدينية لدى ثقافة ما عند مرحلة «العبادة» التي لا تطمح إلى هداية عبادات الثقافات الأخرى إلى صراطها، أو عند مرحلة «دين القوم» الذي يتكون من عبادات متآلفة لا تتناحر ولا يعدو بعضها على بعض. ولعل أوضح مثال عن «دين القوم» قائم إلى يومنا هذا، ويُصرُّ على عدم التحول إلى دين شمولي، هو الديانة الهندوسية، التي بقيت محصورة ضِمن القارَّة الهندية منذ أقدم العصور، بطوائفها المتعددة وعباداتها المتنوعة، التي لم تطمح واحدة منها إلى ابتلاع البقية والتحول إلى دين شمولي، لا نستثني من ذلك البوذية، التي طغت في فترةٍ ما ثم انحسرت راجعة إلى وضعها السابق في الهند كعبادة بين بقية العبادات، واكتفت بممارسة نشاطها الشمولي في أقطار مشرقية أخرى. هذا الوضع الخاص للهندوسية هو الذي جعل أهلها فخورين بخلوِّ دينهم من التعصب والأفكار الدوغمائية، وخلو تاريخهم من حركات الاضطهاد الديني. وقد وصف المؤلف العربي «البيروني» (أبو الريحان المُتوفى عام ٤٤٠ هجرية) في كتابه «تحقيق ما للهند» تسامح الطوائف الهندية تجاه بعضها، فقال بأنهم على قلة تنازعهم في شئون المذهب، فإن نزاعهم لا يتعدى الجدال الكلامي إلى الإضرار بالنفس. كما وصف عُزوف الطوائف عن التبشير، والمبالغة في ذلك إلى حدِّ عدم قبول من ليس منهم إذا رغب فيهم أو صبا إلى دينهم.٨ وهناك موقفٌ مشهور للمهاتما غاندي في هذه المسألة، عندما جاءه مسيحي هندي يطلب التحول إلى الهندوسية، فقال له: اذهب وكن مسيحيًّا صالحًا. ويعني بذلك طبعًا أن كل الطرق إلى الله صالحة شريطةَ توفُّر صدق النية وقوة الإيمان والعزيمة. أما ما نراه اليوم من نزاعات دينية في الهند، فيرجع إلى اصطدام الطوائف الهندوسية بالأديان الشمولية التي تجاهر ببطلان العقائد الهندوسية، وتسعى بشكلٍ دائب إلى اكتساب مزيد من الهندوس إلى صفوفها، أو إلى تعصب أديان غريبة عن الهندوسية مثل ديانة السيخ، وهي ديانة مستحدَثة ابتدرها المعلم «ناناك» أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، بتأثير الأديان الشمولية التي غزت الهند، واتخذت طابعًا عسكريًّا في عهد خلفاء المعلم الأول.

في القسم الآتي من دراستنا، سوف ينصبُّ الجهد على ما ندعوه، وفق المنهج الفينومينولوجي، ببنية الحد الأدنى، وهي البنية الأساسية التي يمكن اختزال الظاهرة إليها لغرض التعرف على ماهية هذه الظاهرة؛ فأنا ما زلت ملتزمًا بالإجابة عن السؤال الأساسي الذي طرحته في مقدمتي، وهو: ما هو الدين؟

١  المادة المعلوماتية فيما يلي مستمدة من Savitri Devi, Son of the Sun, op. cit.
٢  المادة المعلوماتية مستمَدة فيما يأتي عن:
  • (١)
    الترجمة العربية لكتاب Jean Babelon, Emperatrices Syrienne جان بابلون، إمبراطورات سوريات، ترجمة يوسف شلب، الشام دمشق ١٩٨٧م.
  • (٢)
    الترجمة العربية لكتاب Frantz Altheiem, Der Unbesiegte Gott فرانتز ألتهايم، إله الشمس الحمصي والديانات الشرقية في الإمبراطورية الرومانية، ترجمة إيرينا داود، دمشق ١٩٩٠م.
٣  وقد عيَّنت الملكة زنوبيا أحد هؤلاء مستشارًا لها، وهو لونجين، الذي أصبح موجهًا لسياسة تدمر، ثم أعدمه الإمبراطور أورليان بعد انتصاره على زنوبيا.
٤  بخصوص المادة المعلوماتية عن ماني والمانوية، اعتمدت المرجعَين التاليين:
  • (1)
    Geo Widengren, Mani and Manichaeism, New York 1965.
  • (2)
    G. Gnoli, Mani Manichaeism (in Encyclopedia of Religion. Vol. 9).
٥  والمقصود بالنبطية هنا اللغة السريانية.
٦  ابن النديم، الفهرست، تحقيق الدكتورة ناهد عباس عثمان، الدوحة ١٩٨٥م، فصل المانوية، ص٦٤٤.
٧  Mary Boyce, A History of Zaroastrianism, Leiden 1982.
٨  البيروني، تحقيق ما للهند، حيدر أباد ١٩٥٨م، ص١٤–١٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤