الفصل الثاني

عتبة الدين، اللاهوت والناسوت في معتقد الباليوليت

إذا كان ثَمة وجود لديانة بدائية صافية لم تتأثر بغيرها، بل خضعت لديناميات نموها الداخلية الخاصة بها، فإن هذه الديانة هي حصرًا ديانة العصر الحجري القديم (= الباليوليتي). من هنا، فإن أية حفريات معرفية في طبقات الدين تستهدف الوصول إلى قاعه الأساسي، يجب أن تهبط أولًا إلى هذا المستوى البدئي لدين الإنسان العاقل. إن سبر معتقدات إنسان عصور ما قبل التاريخ لن تكون أبدًا بالمهمة السهلة، ولكنها، على أية حال، مهمة لا بد من القيام بها. والصعوبة هنا تنشأ من كون الباحث في ديانات العصر الحجري لا يمتلك الأدوات والوسائل التي تُعين، في العادة، زملاءه في حقل الأنتروبولوجيا الاجتماعية أو في حقل تاريخ الأديان؛ فهو لا يستطيع القيام بزيارات ميدانية للجماعات التي يعمل على دراستها للاطلاع المباشر على موضوعات بحثه كما يفعل الأنتروبولوجي الاجتماعي، كما أنه لا يمتلك الوثائق الكتابية التي يعتمد عليها مؤرخ الأديان بشكل أساسي، بل إنه مضطر إلى الاعتماد على الشواهد المادية الصامتة، مثل الأعمال التشكيلية من منحوتات ورسوم جدارية، وبقايا الدفن، وتشكيلات يدوية لا تُنبئ عن قيم استعمالية واضحة. فهو مضطر، والحالة هذه، إلى إعادة بناء الوسط الفكري لجماعات بادت منذ عشرات ألوف السنين، انطلاقًا من مادة صمَّاء، وتبدو لأول وهلة أبعدَ ما تكون عن الترابط وعن أداء معنًى محدَّد وواضح. ولكن الحال في الواقع ليس على هذه الدرجة من السوء وتثبيط الهمة، فهذه المادة التي تبدو صمَّاء للنظرة الأولى، إنما تحمل لنا رسالة على درجة لا بأس بها من الأهمية والوضوح.

يرى جاك كوفان في كتابه «المستقرات الأولى الزراعية في سوريا وفلسطين»، أن إنسان ما قبل التاريخ كان يُعبِّر عن أعلى فعالياته الفكرية من خلال فنونه التشكيلية التي تستمد مادتها وتصوراتها من العالم المحيط به، غير أنه عندما ينسخ وفق اختيار دقيق، وينتقي من بين خيارات لا حصر لها، فالصورة والحالة هذه هي انطباعٌ رمزي، ونسخةٌ خيالية عن الواقع، تحمل طابعًا اجتهاديًّا ورؤيا منقحة لهذه الوقائع. ويمكن أن نلحق أيضًا بهذه الأعمال التشكيلية عمليات الترتيب المقصود لموضوعات طبيعية، مثل رءوس الثيران وعظام الحيوانات والهياكل العظمية في القبور، وذلك عندما لا يكون لهذه الترتيبات دلالات استعمالية بل تجريدية رمزية. من هنا فإن الدراسة المدققة لهذه المخلفات القليلة والهامة، إنما تزوِّدنا بمقترب علمي يعيننا على إنشاء العالم المادي المحيط بإنسان ما قبل التاريخ، ورؤيته لذلك المحيط وبأفكاره عنه.»١ وبمعنًى آخر، فإن قلة الوثائق وتبعثُرها واتساع الهوة الزمنية، وما إلى ذلك من معوقات دراسة الوسط الفكري لجماعات ما قبل التاريخ، يمكن تعويضها إلى حدٍّ ما بمنهج استقرائي صارم، يعتمد الخيال الخلاق المنضبط، ولا يخرج عن حدود الوثيقة المادية المتاحة قيد أنملة.

ولتبيان قيمة الوثيقة الفنية، خاصةً في الكشف عن أفكار الإنسان القديم، ينبغي أن نلفت النظر إلى الفارق الكبير بين النشاط الفني لإنسان العصر الحجري والجماعات البدائية عامة، والنشاط الفني للإنسان الحديث، وذلك من حيث بواعث ذلك النشاط ومضامينه ونتائجه. فالفن التشكيلي لدى المجتمعات القديمة، والتقليدية الحديثة، ليس إبداعًا فرديًّا يُعبر عن رؤيا جمالية خاصة وموقف ذاتي من العالم، كما هو الحال في مجتمعاتنا الحديثة، بل هو إبداعٌ جمعي يستلهم قيمًا جمالية جمعية، ويُعبِّر عن مواقف فكرية مشتركة. والفنان البدائي عندما يعكف على تشكيل عمله الفني، لا يقصد إلى إنتاج قطعة جميلة يقتنيها شخصٌ آخر، وإنما إلى انتقاء أشكال تُعبِّر عن السيكولوجيا الجمعية والتوجهات الفكرية للجماعة، وغالبًا ما يكون لهذه الأشكال معانٍ تتجاوز الموضوعات المادية الممثَّلة؛ لتغدو رموزًا تلتقي عندها القوى الدينية والسحرية والأيديولوجية الفاعلة في الوسط الجمعي المشترك. فالفن البدائي، والحالة هذه، عبارة عن لغة اجتماعية يفهمها الجميع ويتواصلون من خلالها، والأعمال الفنية تحمل على الدوام قيمًا دلالية تتعدى حدود صانعيها لتغدو شاهدًا على حقبة وعصر؛ فما الذي تنقله شواهد العصر الحجري القديم إلينا؟

(١) الباليوليت الأدنى: القاع السحيق

تُشكل حقبة العصر الحجري ما يزيد عن ٩٩٪ من تاريخ الإنسان. ويؤلف معظم هذه الحقبة العصر الذي ندعوه بالحجري القديم أو الباليوليتي (= Paleolithic). يُقسَّم العصر الباليوليتي عادةً إلى ثلاث مراحل؛ الباليوليت الأدنى، والباليوليت الأوسط، والباليوليت الأعلى. يمتد الباليوليت الأدنى من البدايات الأولى لظهور الهيئة البشرية بين الرئيسيات العليا، وإلى ما قبل مائة ألف عام من يومنا هذا؛ ففي هذا العصر الذي يمتد إلى ما وراء المليون الأول من عصور الكتابة، اتخذت الجماعات التي ندعوها بالأناسي، أو أشباه الإنسان (= Hominids)، الملامح والخصائص العامة التي ميَّزت جِنسنا منذ ذلك الوقت؛ فلقد غادرت الأشجار وعاشت على الأرض، وسارت على قدمين منتصبة الجذع، وتطوَّرت لديها قدرات عقلية وعصبية عالية، واتخذت العينان مكانًا يسمح لهما بتركيز رؤية واسعة مجسمة. ونظرًا لفقدانها للأنياب، التي تملكها القِرَدة والسعادين، فقد اعتمدت على الكفَّين بشكل متزايد، وتطورت لديها حركة الإبهام المقابل للأصابع بشكل يسمح بإمساك الأدوات واستخدامها. وقد صنع هؤلاء الأسلاف الأولون أولى الأدوات المعروفة أركيولوجيًّا باسم الأدوات الأولدوفية واستخدموها بكفاءة؛ وبذلك فقد ساروا أولى الخطوات نحو تكوين ما ندعوه «ثقافة» (= Culture). والثقافة في أبسط تعريفاتها تعني نمط حياة يجري اكتسابه اجتماعيًّا لا غريزيًّا، ويتم نقله بين الأجيال بالتعلم. وبدءًا من ٥٠٠٠٠٠ عام من عصرنا هذا، أخذ الأناسي باستعمال النار، وبدأت أشكالها تنحو نحو الشكل النياندرتالي، وهو أول شكل إنسي قريب منا إلى حدٍّ بعيد.

وفي الواقع، فإنه من غير المُجدي التفتيشُ عن دلائل الحياة الدينية لبشر ذلك الزمان؛ بسبب غموض الوثائق وتبعثرها، وصعوبة الربط بينها؛ فإذا أردنا البقاء في حدودِ ما تسمح به الوثيقة المادية من تفسير، يتوجب علينا القول بأن إنسان الباليوليت الأدنى لم يتمتع بحياةٍ دينية من أي نوع، وإن وسطه الفكري لم يتطور عن أسلافه من الرئيسيات العليا، رغم صناعته للأدوات واستخدامها للتحكم بوسطه المادي. غير أن البوادر الأولى لقيام الأناسي بتكوين هذا النوع من الثقافة الأولية، يُغرينا بافتراض امتلاكهم نوعًا من الحياة الروحية، التي لم تكن من الوضوح بحيث تعلن عن نفسها من خلال اللقى الأثرية التي اقتصرت على الأدوات، وهي فرضية لا يمكن الدفاع عنها في الوضع الحالي لمعلوماتنا عن الباليوليت الأدنى. إن كل ما أستطيع قوله هنا هو أن الحياة الروحية المتطورة نسبيًّا لإنسان النياندرتال اللاحق، لا يمكن أن تكون قد انبثقت فجأة ومن العدم، بل لا بد من وجود جذور لها في ذلك القاع السحيق للثقافة الإنسانية.

(٢) الباليوليت الأوسط وبزوغ الإنسان

تمتدُّ فترة الباليوليت الأوسط من حوالَي ١٠٠٠٠٠ إلى حوالَي ٤٠٠٠٠ عامًا قبل عصرنا. وقد ساد خلال هذه الفترة في أوروبا وآسيا وأفريقيا الكائن البشري المعروف بالنياندرتال. يتميز النياندرتال النموذجي، الذي استوطن أوروبا بشكل خاص، بضخامة الرأس وبروز عظمَي الحاجبين، وضيق الجبهة، وضمور الذقن. ويبدو أن هذا الكائن البشري هو الحلقة الأخيرة التي تسلسل منها الإنسان الذي يعمر الأرض حاليًّا، والذي اكتمل شكله منذ ما يُقارب الأربعين ألف سنة من الآن. وعندما اكتُشفت الهياكل العظمية الأولى للنياندرتال في منطقة نياندر بألمانيا قُرب دوسلدورف، اعتقد الباحثون بوجود هُوَّة كبيرة بينه وبين الإنسان العاقل الذي ورثه على الأرض، إلا أن اكتشاف المزيد من آثار النياندرتال، قد أظهر مدى ضِيق الفجوة بينه وبين الإنسان العاقل، حتى لقد اعتُبر نوعًا متقدمًا من أنواعه، وتم الاصطلاح مؤخرًا على تسميته بالإنسان العاقل النياندرتالي (= Homo Sapien Niandertalenisis).

لم يترك لنا إنسان النياندرتال شاهدًا واحدًا على ميله للتعبير بواسطة الفن التشكيلي عن أفكاره وإحساسه بمحيطه، وذلك باستثناء تنفيذه لبعض الحزوز على أدواته العظمية لغاية جمالية بحتة. غير أننا نستطيع البحث عن ملامح ثقافته غير المادية في مدافنه التي تم اكتشاف عدد لا بأس به منها حتى الآن. فالنياندرتال كان أول نوع بشري عُني بدفن موتاه في القبور، وأظهر في ذلك حرصًا كبيرًا، كما أن التقاليد التي اتبعها في دفن الموتى تدل على تمتُّعه بحياة روحية لم يتمتع بها سابقوه، وتُنبي عن وسط فكري غني بالتأمل والأفكار المجردة. وسأورد فيما يلي نماذج من أساليب الدفن التي تميزت بالتنوع لدى إنسان النياندرتالي، ثم أُظهر الروابط التي تجمعها والمعاني الكامنة خلفها.

في جنوب فرنسا، عُثر على كهف استُخدم كمقبرة لأربعة أفراد نياندرتاليين، كان الهيكل الأول لامرأة وُضعت ضمن حفرة في وضعية الجثو، حيث تلامس الركبتان البطن وتنطوي الذراعان نحو الصدر؛ والهيكل الثاني لرجل مسجًّى على الأرض في وضع التمدد وقد ثُنيت ساقاه، وتمَّت حماية رأسه وكتفَيه بألواح حجرية، أما الهيكلان الباقيان فلِطفلَين وُضعا في حفرتين ضحلتين في وضعية الاستلقاء، وإلى جانب هذه القبور حفرةٌ مليئة برماد وعظام ثور بري. وقد عُثر في المنطقة نفسها على عدد آخر من قبور النياندرتال، منها قبر لفتًى يافع دُفن في وضع جانبي متوسدًا ذراعه الأيمن، وتحت رأسه كومة من شظايا الصوان، وحوله رُصفت قِطع من عظام السوائم البرية، وقرب يده مقبضُ فأس حجرية. وفي قبر آخر دُفن رجل في الخمسين من عمره ضِمن حفرة طبيعية، حيث تم توجيه جثته وفق محور شرق غرب، ووجد مع الهيكل أصداف وبقايا عظام لكركدن وحصان بري وأيل وبيسون.٢ وتظهر قبور النياندرتاليين في المشرق العربي تقاليد دفن مشابهة، خصوصًا فيما يتعلق بطيِّ الجثة ضمن حفرة صغيرة، وتوجيه الجسم وفق محور شرق غرب.
تُظهر الهياكل العظمية لإنسان النياندرتال المشرقي بوادر ابتعاد مورفولوجي (المورفولوجيا هو علم شكل الأحياء) عن الهيئة الكلاسيكية للنياندرتال النموذجي في أوروبا، واقترابًا من هيئة الإنسان العاقل. وبشكل خاص تظهر لنا الهياكل المكتشَفة في فلسطين آخر تبدل في الهيئة النياندرتالية قبل تحولها إلى شكلنا الحالي.٣ وقد مارَس النياندرتاليون في فلسطين عادة الدفن في اتجاه شرق-غرب، بحيث يكون الرأس في اتجاه المشرق والعقب في اتجاه المغرب، ومعظم الهياكل المكتشفة كانت مسجاة على جانبها الأيمن، ومطوية بشدة ضمن حُفر صغيرة، بطريقة تجعل الركبتَين مضمومتين إلى الصدر.٤ وقد عُثر على أكبر تجمع للقبور النياندرتالية الفلسطينية في مغارة السخول بجبل الكرمل، التي احتوت على عشرة هياكل عظمية تراوحت أعمار أصحابها بين الثلاثة أعوام والخمسين عامًا، دُفنت في حُفَر قليلة العمق في وضعية الانطواء ودون هدايا جنائزية مرافقة، وذلك فيما عدا أكثر المدفونين سنًّا الذي كان يقبض على عظم فك لخنزير برِّي. فإذا غادرنا فلسطين وتوغَّلنا شرقًا، تعرَّفنا على عادات دفن جديدة وأكثر إثارة؛ ففي أوزبكستان يُحاط جسد الميت بقرون ماعز مغروسة في الأرض، بلغ عددها في حالة طفل نياندرتالي ستة أزواج من قرون ماعز جبلي، متصلة بجزء من جمجمتها الأصلية ومغروسة حوله في انتظام.٥ وفي موقع شانيدار بالعراق، لدينا دلائل على عادة إحاطة جسد الميت بأنواع معينة من البراعم والأزهار، تبين للدارسين أنها من النوع الذي يُستعمل اليوم لتحضير أنواع معينة من الأدوية والعقاقير، كما عُثر في العديد من المقابر النياندرتالية المشرقية على هدايا جنائزية كالأدوات وعظام الحيوانات، ووُجدت الأدوات حتى في قبور المواليد الجُدد الذين لم يعرفوا بعدُ كيفية استخدامها.٦
ومن موقع شانيدار في العراق أيضًا، لدينا اكتشاف على جانب كبير من الأهمية، يُطلعنا على مدى تماسُك الجماعة النياندرتالية، وتعاطُف أفرادها وتعاونهم وحسِّهم الأخلاقي العالي؛ فقد عُثر على هيكل رجل في الأربعين من عمره، تبيَّن من الدراسة الدقيقة لعظامه أن صاحبه قد عاش طيلة حياته مشلول الجزء الأيمن من الجذع، وأنه غالبًا ما استعان بأسنانه لتعويض حركة ذراعه الأيمن، ومع ذلك فقد وصل إلى هذه السن المتقدمة، بمعيار ذلك العصر، بفضل مساعدة الآخرين وحدبهم، وتم دفنه بكل عناية كما يدفن بقية الأفراد العاديين. وفي هذا ما يدل على درجة عناية الجماعة بأفرادها حتى المعوقين منهم وغير القادرين على بذل مجهود مساوٍ في تحصيل القوت، وهي عناية قد لا تتوفر في بعض المجتمعات الحديثة والمتطورة.٧

والآن، ما هي النتائج التي يمكن أن توصلنا إليها الدراسة المتأنية لبقايا مدافن النياندرتال، والفرضيات التي يمكن صياغتها حول الحياة الروحية لذلك العصر؟ قبل المغامرة بتقديم الفرضيات، لا بد لنا من تصنيف هذه البقايا لمعرفة ما إذا كانت تُبدي تكرارًا يجعل منها شعيرة أو طقسًا ثابتًا. فأولًا: في أغلب الحالات كانت الجثث مطوية بشدة ضِمن حُفر صغيرة وفي قبور إفرادية. وثانيًا: تم توجيه الأجساد وفق محور شرق غرب في بعض الحالات لدى النياندرتال الأوروبي، وفي أغلب الحالات لدى النياندرتال المشرقي الأكثر تطورًا من الناحية المورفولوجية. ثالثًا: هناك العديد من الأمثلة تتم عن عنايةٍ خاصة برأس الميت، حيث تمَّت حمايته بأحجار كبيرة. رابعًا: لدينا حالاتٌ غير شائعة عن إحاطة الجسد ببراعم وأزهار من أنواع معيَّنة منتقاة. خامسًا: هناك شواهد عديدة على قربان حيواني تم عند الدفن، وعلى دفن مُوازٍ لبقايا الحيوانات المذبوحة. سادسًا: لدينا أمثلة كثيرة على هدايا جنائزية مكونة من أدوات أو عظام منتقاة، وقد وُجدت الأدوات حتى في قبور الأطفال أو المواليد الجُدد.

من تصنيفنا لإجراءات الدفن أعلاه، يتضح أن تكرارها عبر المناطق الواسعة التي انتشرت فيها ثقافة النياندرتال، يوحي بشعائر دفن قائمة على موقف أيديولوجي متماسك من مسألة الموت، ساد من شواطئ الأطلسي إلى أواسط آسيا، ويمكن تلمس خطوطه العامة ببعض الثقة، ووفق الاستقراء الآتي:
  • فأولًا: هناك معتقَد واضح بأن الكائن الحي يتألف من جسدٍ مادي وروح لطيفة، وأن هذه الروح تستقل عن جسد الميت لترحل إلى عالم آخر موازٍ لعالم الأحياء. ويبدو أن الروح في اعتقاد النياندرتالي كانت تكتسب عند استقلالها قوةً غير عادية، تتخذ شكلًا نافعًا أو ضارًّا وفقًا لموقف الأحياء منها. وهذا هو التفسير الذي يقود إليه إجراء ثَنْي ركبتَي الميت في حيِّزه الضيق القصير؛ لأن هذا الوضع من شأنه منع الجسد من التمدد والخروج إلى عالم الأحياء، إذا عاودته الروح التي غدت، بانفصالها، غريبة عن عالم الأحياء ومحمَّلة بالقوى المؤذية.
  • ثانيًا: يتخذ الرأس أهميةً خاصة في معتقد الروح المفارقة والعالم الموازي. ويدلنا على ذلك حماية الرأس بالألواح الحجرية، وكذلك توجيهه نحو الشرق الذي يرمز إلى البعث؛ لأنه بوابة ميلاد أكبر الأجرام السماوية، وهما الشمس والقمر. ونُرجح أن الإنسان النياندرتالي قد اعتقد بأن الرأس هو مقر الروح، خصوصًا وأن مثل هذا الاعتقاد قد وُجد في العصر الحجري الحديث اللاحق.
  • ثالثًا: يبدو أن نثر الأزهار في قبر المتوفى٨ يؤدي معنى البعث الذي يؤديه توجيه رأس الميت نحو المشرق؛ فالأزهار رمز لانبعاث الحياة في الشجر كما هو الشرق رمز لانبعاث الجرمَين العظيمين. وقد كان ظهور الأزهار الربيعية بشارة سارَّة للإنسان النياندرتالي؛ لأنه كان يعتمد في غذائه على جمع ما تجود به الأشجار إضافة إلى حصيلته من لحوم الطرائد.
  • رابعًا: يبدو أن دماء الحيوانات المذبوحة عند الدفن، كانت في اعتقادهم تطلق طاقة من نوع خاص، تُعين التوءم الروحي للمتوفى على عبور البرزخ الفاصل بين العالم المادي والعالم الموازي. ولعل مما يرجح هذا الافتراضَ أن الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى اللاحق، كان يعتقد بوجود قوة حيوية في الدم، ويقوم بطلاء أجساد المتوفين وجدران قبورهم بمادة حمراء تُشبه لون الدم، للإيحاء رمزيًّا بطاقة الحياة. وربما كان النياندرتاليون يقيمون وليمة جنائزية عند الدفن، يأكلون فيها لحوم حيوانات القربان، ويتركون بعضها للتوءم الذي يستعد لرحلته الطويلة.
  • خامسًا: استهل النياندرتال عادة الهدايا الجنائزية التي استمرت حتى العهود التاريخية المتأخرة، وقد تألفت هدايا النياندرتال من الأدوات الحجرية، وقِطع معينة من عظام الحيوانات. ولما كانت الأدوات قد وُجدت في قبور المواليد الجُدد، فإن من المستبعَد أن تكون لغاية استخدام التوءم الروحي؛ لأن هؤلاء المواليد لم يكونوا قد تعلموا بعدُ استخدام الأدوات؛ ولذلك نُرجح أن يكون لها وظيفة سحرية ورمزية من نوع خاص، ولا نستطيع تكوين فرضية عنها الآن. أما الهدايا الجنائزية المؤلفة من العظام التي يجري توزيعها حول جسد الميت أو يقبض بيده على بعضها، فإنها مختلفة عن عظام الذبيحة، وجرى اختيارها بشكل انتقائي لتحمل قيمةً رمزية تشير إلى ما وراءها، فهي على الأغلب مقر لقوة من نوعٍ ما تتصل بالعالم الموازي الذي يرحل إليه الميت. وبشكل خاص فإن قرون الماعز التي زُرعت حول هيكل طفل نياندرتالي في أوزبكستان، تردِّد أصداءً بعيدة لطقوس ومعتقدات من العصر النيوليتي اللاحق، تدور حول قرون الماعز أو الثور، والتي اعتُبرت رمزًا لقوةٍ ما ورائية عظمى ومقرًّا لها.

لقد استعملتُ منذ قليل مصطلح «قربان حيواني» لوصف الحيوانات المذبوحة عند الدفن، وهو اصطلاح ينبغي ألا يؤخذ بحرفيته عند وصف أي طقس يتعلق بذبح الحيوانات في العصر الباليوليتي. ففكرة القربان أو الأضحية هي فكرة متأخرة، وطقس الذبائح بمضمونه المعتاد، أي تقديم ذبيحة من أجل استرضاء إله ما، هو طقس متصل بديانات العصور التاريخية بشكل رئيسي، ولا أكاد ألمح له وجودًا حتى المراحل المتأخرة من العصر الحجري الحديث (النيوليتي). أما إذا صادفتنا ذبائح طقسية من نوعٍ ما لدى إنسان العصر الباليوليتي ومطالع النيوليتي، فينبغي أن تُفسَّر ضِمن السياق الداخلي للمعتقدات والممارسات القديمة، لا استنادًا إلى ما نعرفه عن الأديان السائدة اليوم أو أديان العصور التاريخية السالفة. إن مفهوم القربان مرتبِط بمفهوم الآلهة المشخصة، أو الكائنات الروحية المقدسة التي صارت إلى ما يشبه الآلهة، مثل أرواح الأسلاف لدى بعض الثقافات. أما عند عتبة الدين هذه، فإن فكرة الإله الذي يعلو على مظاهر الطبيعة ويتحكم فيها باعتباره كيانًا روحيًّا مستقلًّا، لم تتشكل بعد، ولم يكن الأسلاف المؤلهون قد حازوا تلك المكانة العُليا التي سنواجهها لدى الثقافات اللاحقة.

إن ما نواجهه عند هذه المرحلة من عتبة الدين هو قوة قدسية غفلة، تنبعث من عالم ما ورائي مجهول، موازٍ لعالم المظاهر الطبيعية المحسوسة المتنوعة الذي يعيشه النياندرتالي. وهذه القوة لا تتجسد في أية شخصية روحية ذات كيان مُعرَّف ومستقل. فلقد اعتقد الإنسان النياندرتالي، وكما تُظهر مخلفات مدافنه، بوجود عالمين متوازيين ومتبادلين في التأثير، يُشكلان وحدةً متكاملة تضم الوجود بأسره؛ فعالم يراه ويعيشه بحواسه، وعالم لا يراه رغم تأثيره فيه وفعاليته في عالمه. وهو يرحل بين هذين العالمين عبر برزخ الموت، الذي يعبره وفق طقوس خاصة، وجدناها متماثلة إلى حدٍّ كبير في كل مكان وُجدت فيه آثار النياندرتال. ولسوف أطلق على هذين العالمين، منذ الآن، اسم عالم اللاهوت وعالم الناسوت، وذلك بصرف النظر عن المدلول الدقيق لهذين المصطلحين في الأدبيات الإسلامية. وفي دراستنا المقبلة للمعتقدات الدينية الإنسانية، سوف نرى أنها تنطلق جميعًا من التعرف على عالم اللاهوت المفارق من جهة، والمنبث عبر عالم الناسوت من جهة أخرى، وأن النشاط الديني على تعدُّد أشكاله عبر العصور واختلاف الثقافات ليس إلا إقامة تواصل بين هذين العالمين.

وهكذا نستطيع الحديث عن «دين نياندرتالي» دون أن نُتعب أنفسنا في البحث عن «آلهة نياندرتالية». ولسوف نتعود منذ الآن على التعامل مع ديانات صغرى أو كبرى لا وجود للآلهة فيها. ولكن يتوجب علينا منذ الآن أيضًا أن نتخلى عن أطُر تفكيرنا الحالية، والطريقة التي ننظر بها إلى الدين من خلال ثقافتنا الخاصة، لنكون أقدر على فهم واستيعاب ثقافات بعيدة ومغايرة، دون أن نُسقط ما نعرفه على كثير مما لا نعرف، وهي آفة يتَّصف بها الفكر الحديث إجمالًا. لقد كان أول سؤال يطرحه الأنتروبولوجيون على أنفسهم وهم يشرعون في دراسة دين شعب بدائي ما، هو: ما هي الآلهة التي يعبدونها؟ فإن لم يجدوا آلهة بالمعنى الذي يفهمونه، ابتكروا لهم آلهة تتفق مع مفاهيمهم الخاصة عن الدين والآلهة. من ذلك مثلًا ما وجده الدارسون الأوائل لدين الهنود الحُمر في أمريكا الشمالية من مفاهيم غريبة عليهم، مثل مفهوم الواكوندا، وهي قوة كونية كبرى لا تتمثل في شخصية إلهية من أي نوع، بل تنبث في الكون وتفعل من داخله، فأطلقوا عليها مصطلح «الروح الكبرى»، واعتبروها بمثابة كبير الآلهة. وما زال المصطلح مستعمَلًا في حقل تاريخ الأديان رغم ضلاله، وتقصيره عن إيصال المضامين الحقيقية لمفهوم الواكوندا.

ولكن، هل عبَّر الإنسان النياندرتالي عن اعتقاده بعالمٍ ما ورائي، بغير ما رأيناه من بقايا مقابره، وكيف عمل على إقامة صلة بينه وبين ذلك العالم؟ لقد ألمحنا سابقًا إلى أن النياندرتاليين لم يُنتجوا أي نوع من أنواع الفن التشكيلي، الذي يمكن لنا من خلاله النفاذ إلى عالمهم الفكري، إلا أن أية عملية ترتيب مقصود لعناصر منتقاة من الوسط الطبيعي لا يتضح هدفها النفعي أو الاستعمالي، يمكن أن تزودنا بمفاتيح مهمة لفكِّ مغاليق الوسط الفكري لأولئك الناس. فلقد وجدنا على سبيل المثال أن غرس قرون الماعز الجبلي حول جسد الميت بطريقة خاصة، هو إجراء يخفي وراءه اعتقادًا باحتواء هذه القرون على قوة من نوع ما. ولكن اكتشافات مثيرة أخرى قد ساعدت على إلقاء ضوء أكثر سطوعًا على المعتقد النياندرتالي.

في جبال الألب، تم اكتشاف ثلاثة كهوف تتوضع على ارتفاعات تتراوح بين السبعة آلاف والثمانية آلاف قدم، وترجع إلى أواخر الباليوليت الأوسط، احتوى كلٌّ منها على جماجم عظام دببة مغاور، تم ترتيبها بشكل اصطناعي مقصود، أطلق عليها بعض الباحثين اسم «مقامات الدب»، ورأوا فيها دليلًا على عبادة منظمة تدور حول الدب، خصوصًا وأن طقوسًا مشابهة ما زالت قائمة لدى بعض الشعوب البدائية في الدائرة القطبية الشمالية. في الكهف الأول والثاني من كهوف الألب، وعلى عمق لا بأس به من المدخل، هناك حائط حجري بارتفاع ٢٣ إنشًا يرسم ما يُشبه الصندوق المفتوح، حُفظت في داخله عدة جماجم لدببة المغاور ورُتِّبت بطريقة خاصة؛ فبعضها قد أحيط بحجارة صغيرة وآخر قد وُضع على ألواح حجرية، وهنالك جمجمة ارتكزت مقدمتها على عظم الساعد وأخرى قد اخترق عظما الساعد محاجر العينين فيها. أما في الكهف الثالث فقد وُجدت خمس جماجم مع عظام الساعد محفوظة فيما يُشبه الخزانة الحائطية. وقد رُصفت أجزاء من هذه الكهوف بأحجار مسطحة، وقامت في بعض جوانبها مناضد حجرية استُخدمت لشطف الصوان، ووُجدت حولها أدوات صوانية من الطراز ما قبل الموستيري.٩
وهناك كهف من الباليوليت الأعلى يُظهر استمرارية لطقوس الدب في الباليوليت الأوسط، ويُلقي ضوءًا عليها، رغم انتماء هذا الكهف إلى فترة الإنسان العاقل؛ فقُرْب منتسبان بفرنسا، اكتُشف كهف يحتوي على قاعة تقع في نهاية ممر طويل، وُجدت فيها دُميةٌ طينية كبيرة لدب في وضعية الربوض، وقد باعد ما بين قائمتَيه الأماميتين، وبينهما جمجمة لدبٍّ ملقاة على الأرض، والدمية منفذة بطريقة فجَّة ودون عناية بالتفاصيل. لقد لفت نظرَ المكتشفين عدمُ وجود رأس للدمية في الأصل؛ فالرقبة منفذة بطريقة لا تشير إلى أنها قد اتصلت برأس مفقود، إضافة إلى وجود ثقب عند سطحها الأعلى، يدل على أن عصًا كانت تُغرَس فيه لحمل ثقل ما يرتكز على الرقبة. وهذا ما قاد إلى نتيجة منطقية واحدة، وهي أن رأسًا لدب مذبوح (أو جمجمة له) كان يُنصب فوق رقبة الدمية، التي لم تكن في الواقع سوى حامل أو قاعدة للرأس الطبيعي، وأن هذه القاعدة العميقة في الكهف لم تكن إلا مقامًا مقدسًا تُقام عنده طقوس ذات علاقة بعبادة الدب.١٠
لقد اعترض بعض الباحثين في عصور ما قبل التاريخ على وجود ترتيب متعمد لجماجم وعظام الدب في كهوف جبال الألب المذكورة أعلاه،١١ ولكني أقف إلى جانب الرأي المخالف الذي يرى في التكوينات التي اشتملت على العظام ترتيبًا مقصودًا بدقة، وإن كانت الدلالات الحرفية لهذه التكوينات غير ممكنة التفسير في الوقت الحاضر. وكل ما أستطيع استنتاجه عند هذه المرحلة من معلوماتنا عن الثقافة النياندرتالية، هو أن لتلك التكوينات وظيفةً رمزية تتصل بالمعتقد الديني، وأنها تتعلق بالنشاط الهادف إلى إقامة علاقة مع المستوى القدسي للوجود، الذي أحسَّ النياندرتالي حضوره في النفس وفي الطبيعة. ومما يدعم رأينا في الوظيفة الرمزية لتكوينات كهوف الدب، أن الترتيب المقصود لرءوس الحيوانات في أماكن مخصصة ذات طابع ديني، قد استمر إلى العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، حيث نجد مقامات مشابهة في مستقرات المزارعين الأوائل في سوريا وجنوب الأناضول، وقد رُتبت فيها رءوس الثيران وقرونها بطريقة خاصة ذات دلالة أيديولوجية دينية، بشكلٍ بدا وكأن الثور قد صار هدفًا لاختيار روحي، على حدِّ تعبير جاك كوفان، الذي درس بعنايةٍ مقامات الثور في تل المريبط بسوريا. ومن ناحية أخرى، فإن كهف منتسبان الذي وُجدت فيه دُمية الدب الطينية، والذي يُعتبر حالة متأخرة لاستمرار طقوس الدب النياندرتالية، لا يمكن تفسير محتوياته إلا باعتبارها أدوات لطقوس تدور حول الدب؛ فهنا كان الصيادون يضعون رأس الطريدة المذبوحة حديثًا على المحور المغروس في رقبة الدمية، ويمارسون حولها طقوسًا خاصة. غير أن ما أختلف فيه عن بقية القائلين بالتفسير الديني لكهوف الدب، هو أن تلك الطقوس لم تكن قائمة على معتقد يؤله هذا الحيوان ويرفعه إلى مستوى المعبود الأعلى، بل إنها تخفي معتقدات من نوع آخر، هي المعتقدات التي قامت عند عتبة الدين قبل ظهور مفهوم الإله، وقبل تشكل عالم الآلهة.
كان الأنتروبولوجي المعروف ليو فوربينيوس أول من صاغ مصطلح «سيد الحيوانات» (= Animal Lord – Animal Master)، وذلك في معرض وصفه لطقوس بعض قبائل الصيادين في الصحراء الأفريقية. وسيد الحيوانات هذا، كما وجده فوربينيوس لدى قبيلة «المحاليبي» التي انقرضت الآن، هو الذي يُمكِّن أفراد القبيلة من صيد الطرائد ويسوقها إليهم. وهو يظهر لهم في هيئة حيوانية لا بشرية، وعلى الألب في هيئة الجاموس البري الذي يصطادونه أكثر من غيره؛ ولذا فإنهم يدعونه أيضًا بالأب الجاموس، وهم يعبدونه ويرفعون إليه الصلاة. وقد وهبهم هذا المعبود قرن جاموس يعينهم في السيطرة على طرائد الصيد، وهم يستخدمونه على الشكل التالي: فقبل شروق الشمس، يقوم المحاليبي برسم صورة على الرمل للطرائد المنوي صيدها، وعند بزوغ الشمس تمامًا تُرش الصور بدم يُراق من قرن الجاموس الطقسي؛ وبذلك يسيطر الصيادون على موضوعات صيدهم وينجحون في الإيقاع بها.١٢ وقد سيطر هذا التفسير فيما بعد على دراسة معتقدات ما قبل التاريخ، وصار مصطلح «سيد الحيوانات» مفتاحًا لتفسير المعتقدات الدينية البدائية منها والأصلية، والتي تتوسل بصور الحيوان من أجل إيصال مضامينها الرمزية. فسيد الحيوان لدى الصيادين، هو الحيوان المؤله الذي ينتمي إلى النوع الذي تصطاده القبيلة أكثر من غيره، ويلعب الدور الأساسي في استراتيجيتها الغذائية.

إن تفسير الوثيقة الأقدم والأكثر غموضًا، اعتمادًا على الوثيقة المشابهة الأحدث منها والأكثر وضوحًا، هو إحدى مشكلات دراسات ما قبل التاريخ؛ فهنا يميل الباحثون إلى إعطاء معنًى للوثائق ذات الطابع الديني، عن طريق مقارنتها بما يشبهها في الثقافات الكتابية اللاحقة، أو في الثقافات البدائية الحديثة. وهكذا تمَّت مثلًا مقارنة رءوس الثيران التي كانت موضع تقديس في بعض مواقع العصر الحجري الحديث، كالمريبط وشتال حيوك، بنظائرها في الحضارة الكنعانية اللاحقة أو الكريتية، وأُسقط مفهوم «سيد الحيوانات» المستمد من ثقافات بدائية حديثة، على التشكيلات ذات الطابع الرمزي في الباليوليت الأوسط، أو الوثائق الفنية للباليوليت الأعلى. يضاف إلى ذلك أن مثل هذه المقارنات، رغم ابتعادها عن تقريبنا من الحقيقة لأسبابٍ شرحناها سابقًا، فإنها تجري انطلاقًا من مفاهيمنا الحديثة التي نعتبرها المعيار الأصح والأمثل. إن مثل هذه المحاكمات والمقارنات هي التي تقود إلى ابتكار مفاهيم مثل «سيد الحيوانات»، والبحث عن «آلهة» الإنسان الأول في تلك الأشكال الحيوانية التي كانت مركزًا لطقوسه.

ولكن ماذا يعني أن يعبد إنسان ما دبًّا أو ثورًا أو كبشًا، أو غير ذلك من شركائنا النبلاء على هذا الكوكب؟ إن الدب أو أي حيوان آخر بالغًا ما بلغ من القوة والجبروت، كان بالنسبة لحضارات الصيد طريدةً سهلة أو صعبة للإنسان؛ فالنياندرتالي الذي قيل عنه إنه يعبد الدب كان في الواقع صيادًا للدب، والإنسان العاقل من أهل الباليوليت الأعلى الذي قيل إنه يعبد الثور كان صيادًا للثور، وهكذا إلى نهاية هذه السلسلة من العابدين والمعبودين المفترَضين. فكيف يؤله الإنسان طريدة من طرائده ويتوجه إليها بالعبادة؟ وحتى لو سلَّمنا جدلًا بأن ثقافةً ما قد عبدت الدب مثلًا، فأي دب عبدت؟ إن الدببة متشابهة، وهي لا تظهر كثيرًا من الفروق الفردية كما هو شأن بني الإنسان، فكيف تم اختيار الدب المعبود من بين هذا الحشد المتشابهة ألوانه وأشكاله؟ أم هل إن الفصيلة كلها كانت موضع عبادة، وإن أي دب يوضع في المقام المقدس يمكن أن ينوب مناب أي دب آخر؟ حول هذه النقطة الأخيرة يورد أحد الباحثين المدافعين عن مفهوم «سيد الحيوانات» النقاش الآتي: «إن الثور العظيم الذي يلعب دورًا بارزًا في التصورات الميثولوجية للصيادين، هو سيد الحيوانات والنموذج الأعلى البدئي لها (= Archetype). وهنا يمكن لنا استخدام تعبير فلسفي ليس بعيدًا جدًّا عن التفكير البدائي كما نتصور، وهو المثال الأفلاطوني. فالثور العظيم هنا يمثل الفكرة الأفلاطونية للنوع، إنه يمتلك بُعدًا لا يملكه بقية أفراد القطيع؛ فهو لا زمني، خالد كفكرة، ولا يمكن القضاء عليه. أما البقية فمجرد ظلال خاضعة لمقولات الزمان والمكان، وبينما يسقط هؤلاء في الشراك ويُقتلون فإنه في منجاة عن الأذى؛ لأنه تعبير عن الجوهر الذي تُخلق منه بقية أفراد نوعه.»١٣ إن مثل هذه الالتفافة البارعة على المشكلة، تُظهر نوع الصعوبات التي تعترض القائلين بتأليه الحيوان وعبادة «سيد الحيوانات». ولرُبَّ قائل يقول بعد ذلك بأن «سيد الحيوانات» ليس إلا صورة للإله وليس الإله المعبود نفسه، وأن الثقافات الأصلية قد تصورت آلهتها في هيئة حيوانية كما بقي المصريون يفعلون حتى الأزمنة التاريخية المتأخرة. وهنا يطرح التساؤل البدهي نفسه، وهو: لماذا فضَّل الإله أن يظهر في صورة الحيوان حصرًا من دون صورة الإنسان، رغم إحساس الإنسان بمكانته المتميزة في مملكة الطبيعة؟ ولماذا لم تظهر صورة الإنسان كاملة في التصوير الديني لعصور ما قبل التاريخ حتى أعتاب الفترات التاريخية؟١٤

أما عن التقاليد الدينية المصرية التي حافظت على بعض الملامح الحيوانية لبعض من آلهتها، فهذا أمر سوف نتعرض له في حينه، ولا يشكل موضوع مقارنة مشروعة هنا.

إلى ماذا تشير ترتيبات رءوس الدب في مقامات الباليوليت الأوسط إذَن؟ في تفسيرنا لشتات بقايا قبور النياندرتال، قلنا إن ذلك الإنسان كان أول من دفن موتاه بعناية خاصة وفق طقوس ثابتة متكررة، وصاغ لنفسه، ولنا من بعده، أولى التصورات الدينية. واستنتجنا أن تصوراته تلك كانت تدور حول مستوًى لا مرئي، أو مجال قدسي، ترحل إليه أرواح الموتى بعد مغادرتها للمستوى المرئي المعاين والمعاش، وأسمينا المجالَين أو المستويين للوجود بعالم اللاهوت وعالم الناسوت. وإضافة إلى ذلك فإن كل الظواهر الطبيعية الغامضة وغير المفسَّرة، المواتية منها لحياة الإنسان أو المهدِّدة لها، قد فُسرت على أنها أعراضٌ صادرة عن المستوى الموازي القدسي؛ فالزلازل والبراكين والأعاصير وتتابع الفصول وحركة الأجرام السماوية، ليست إلا ظواهر ناجمة عن فعل قوة غفلة وغير مشخصة تنشأ عن عالم اللاهوت لتؤثر في عالم الناسوت، وتعود إلى مصدرها في دورة دائبة، قوة منبثة في العالم المرئي وليست منه في الآن نفسه. من هنا فقد شعر النياندرتالي بالحاجة إلى إقامة صلة مع ذلك العالم، فعمد إلى إفراد بقع مقدسة يتنزل فيها اللاهوت في عالم الناسوت، أو يرتفع منها الناسوت إلى عالم اللاهوت، وكانت تلك المقامات الأولى في أعماق المغاور، بمثابة مقرات للتمارين الدينية الأولى التي مارسها الإنسان. ولكن الإنسان لا يستطيع أن يركن إلى ملاذ عميق في ظلمة الأرض، متأملًا في ذلك العالم غير المرئي، محاولًا النفاذ إليه أو استجلاب قوته، دونما وساطة أو شفاعة، بل كان لا بد له من التفكير في اللامرئي من خلال موضوع مرئي يرمز إليه ويشير، ويتخذ دور الوسيط بين السماء والأرض، وهذا الموضوع المرئي هو شارة قدسية تجعل الغائب حاضرًا أو المجرد ملموسًا. وبالنسبة إلى الإنسان النياندرتالي كانت هذه الشارة القدسية هي رأس الدب الذي يرمز إلى القوة الكونية التي تربط عالم اللاهوت بعالم الناسوت. وقد تم اختيار رأس الدب تحديدًا؛ لأن النياندرتالي قد رأى في الدب نموذجًا أعلى للقوة في المسرح الطبيعي الذي يعيشه، وهو أصلح ما يكون لتمثيل القوة الشمولية الغفلة السارية في الكون.

ولتقريب مفهوم الشارة القدسية إلى الأذهان، أقول بأن أكثر أشكال التأمل الديني سموًّا وتجريدًا في ديانات الشرق الأقصى، تبدأ مستعينة عادةً بشارةٍ قدسية ما، برمز من هذا العالم يشير إلى ما وراءه في المستوى الآخر، الذي يحاول المتأمل إقامة صلة معه. من هذه الشارات القدسية، التكوين التشكيلي المعروف باسم المندالا. والمندالا هي دائرة ترتسم في داخلها أشكال تنتظم حول المركز في ترتيب ذي دلالة، فيقوم المتأمل بتركيز بصره عليها، ناظرًا من خلالها إلى أعماق نفسه صعودًا نحو العوالم القدسية. فإذا كان طالب الاستنارة في الديانات الشرقية، وهو أقدر الناس طرًّا على تلمس العوالم التجريدية، راغبًا في شارة من هذا العالم تُعينه على عقد صلة مع لاهوته، فإن الإنسان الأول كان أكثر منه حاجة إلى مثل هذه الشارة. وإذا كانت المندالا شكلًا فنيًّا مُعدًّا بعناية فائقة، ويحمل وراءه تاريخًا طويلًا من التجربة الفكرية والروحية، فإن شارة الإنسان الأول كانت هيئة طبيعية غير مصقولة من عالمه ومن أكثر مجالات الطبيعة قُربًا إليه.

إن الشكل الحيواني الذي تم تشخيصه في تكوينات الباليوليت الأوسط، ومن بعده في فنون الباليوليت الأعلى وصولًا إلى العصر الحجري الحديث، قد تم استخدامه في وظيفة رمزية بحتة، ولم يكن بأية حال صورةً لإله معبود؛ إنه رداء لقوةٍ ما ورائية يتم استحضارها من خلاله وعقد صلة معها. أما لماذا قامت ثقافة ما باختيار حيوان معين أو أكثر، من بين عشرات الخيارات المتاحة، فأمرٌ يحتمل أكثر من تفسير، ولسوف أتقدَّم بما يبدو أكثرها إقناعًا عند هذه المرحلة من البحث؛ فالإنسان الأول الذي كان يشعر بوحدة عضوية تجمعه إلى كل مظاهر الحياة على الأرض، كان يعقد صلة روحية مع فصيلة معينة من الحيوان، هي غالبًا موضوع صيده الرئيسي ومصدر غذائه. وكان لهذا السبب يحس معها بنوعٍ من المشاركة، وقيام نوع من «العهد» بينهما لا تنفصم عراه، وهو عهدٌ ملزِم لكلا الطرفين بالدرجة والقوة نفسها. لهذا لم يكن صيده لها وتحويلها إلى غذاء بمثابة فعل عادي دنيوي، بل كان طقسًا له من القدسية ما لطقوس الصلوات والعبادة. من هنا، فإن الشارة القدسية سوف تُستمد من أقرب العوالم إلى الصياد؛ من فصيلة حيوانه المفضل أو رفيقه الروحي؛ فهنا تتحول كل الهيئات المتماثلة لأفراد لا حصر لهم من الطرائد لتندمج في هيئة مثالية واحدة، هي في الآن نفسه تجسيدٌ أسمى للفصيلة وشارة قدسية لعالم اللاهوت.

إن الارتباك الحاصل في مجال البحث عن الحياة الروحية لإنسان العصور الحجرية، ينبع من كوننا نبحث في ديانة أي جماعة بشرية عن إله وعن صورة إله، وتغيب عنا حقيقة أن فكرة الإله لم تكن سوى ناتج متأخر نسبيًّا من نواتج الحياة الروحية للإنسان؛ فقبل الإله المشخص الذي يحمل معه تاريخًا وسيرة حياة ومعالم شخصية واضحة ومستقلة، أحسَّ الإنسان بحضور مجال قدسي، بعالم ألوهي لا تحكمه شخصية معينة فاعلة، بل تفيض منه قوة شمولية تتخلل عالم الناسوت، كل زاوية وركن، كل هيئة حية وجامدة. ولم يكن هنالك في الحقيقة أنسب من الصورة الحيوانية لاستخدامها في الرمز إلى تلك القوة الغفلة؛ فالحيوان لا شخصية له، ولا يتمتع بفردية ظاهرة كشأن الإنسان، والدب المفرد هو دب وحسب، بلا اسم وبلا هوية ولا سيرة ذاتية، أما الهيئة الإنسانية فما إن تُصب في قالب تشكيلي حتى يتم التساؤل عن هويتها وأصلها وفصلها وعلائقها. من هنا يمكن القول بأن ابتداء تشكل الآلهة خروجًا من عالم اللاهوت غير المتمايز، قد ترافق مع حلول الشكل الإنساني محل الشكل الحيواني في التصوير الديني. وقد تمَّت هذه العملية ببطءٍ شديد وعبر عشرات الألوف من السنين، ولم تكن الأشكال الإنسانية الأولى التي عبَّرت عن عوالم الألوهة سوى أشكال مفرِطة في الرمزية، ولا تحمل ملامح شخصية محددة؛ الأمر الذي جعل وظيفتها أقرب إلى الوظيفة الرمزية للشكل الحيواني.

سوف نتعرض في الفصل المقبِل لبداية ظهور الشكل الإنساني مع ظهور التكوينات النحتية العشتارية التي يدعوها الأوروبيون بفينوسات العصر الحجري، ولكن بعد وقفة مطوَّلة مع أولى كاتدرائيات الإنسان العاقل، وأعني بها كهوف الرسوم الجدارية.

(٣) الباليوليت الأعلى وكاتدرائيات الأعماق

إن النياندرتال الكلاسيكي الذي عرفته أوروبا خلال الباليوليت الأوسط، هو غصنٌ منقطع من شجرة التاريخ الطبيعي للإنسان، وقد انقرض بعد أن بدأت طلائع الإنسان العاقل تفد من مناطق المشرق العربي، وهي طلائع تطوَّرت عن النياندرتال المشرقي. فهياكل النياندرتال التي تم اكتشافها في فلسطين بشكلٍ خاص، تُظهر مرحلةً وُسطى من التطور نحو هيئة الإنسان العاقل، وحالة انسلاخ كان يقوم بها النياندرتالي هنا، عن الهيئة النموذجية المعروفة في أوروبا. إن عظام أطراف الهياكل التي اكتُشفت في مغارة السخول، على سبيل المثال، تُبدي شبهًا كبيرًا جدًّا بعظام أطراف الإنسان العاقل، وكذلك عظم الفك الأسفل والجزء الخلفي من الجمجمة. ويبلغ الشبه درجةً يعتقد علماء الأنتروبولوجيا معها بأن هذه القطع لو اكتُشفت مستقلَّة عن بقية هياكلها، لكان من الصعب التعرف عليها كأجزاء من هياكل نياندرتالية. وهكذا يبدو ظهور الإنسان العاقل في الشرق الأدنى كنتيجة واضحة لتطوُّر محلي، أما في أوروبا فقد ظهر الإنسان العاقل دفعة واحدة، مع أدواته الجديدة التي كانت شائعة في الشرق الأدنى منذ زمن بعيد؛ الأمر الذي يدل على وصوله مع ثقافته المكتملة من المشرق، عن طريق البلقان فأوروبا الوسطى، حيث عُثر على دلائل تشير إلى مثل هذا الارتحال.١٥ ورغم ذلك فإن ثقافة الباليوليت الأعلى التي ابتدرها الإنسان العاقل المشرقي لم تزدهر في مواطنه الأصلية، بل في مواطنه الأوروبية التي ارتحل إليها، بحيث وصلت قمة أوجها وأتمَّت دورتها كاملة في أوروبا. تتميز هذه الثقافة، التي ابتدأت في وقت ما بين ٣٥٠٠٠ و٤٠٠٠٠ قبل عصرنا هذا، عن سابقتها بميزتين رئيسيتين؛ الأولى تسارُع التقدم التكنولوجي، والثانية ولادة الحِس الجمالي عند الإنسان. وتتجلى النهضة الجمالية للباليوليت الأعلى بشكل خاص في التصوير الجداري، الذي اكتُشفت آياته البديعة في كهوف تقع في أعماق بعيدة عن سطح الأرض، أفردها إنسان ذلك العصر لهذه الغاية.
نظرت حضارتنا الحديثة إلى فن التصوير على أنه من الفنون العليا المرتبطة بالمدنيات الكبرى؛ لذلك فقد كان من الصعب على جمهرة المهتمين، وحتى الاختصاصين، أن يقتنعوا بأن ذلك الإنسان المجهز بفأس حجري، كان قادرًا على إنجاز تلك الروائع في فن التصوير، والتي يمكن وضعها جنبًا إلى جنب مع روائع الحضارات العُليا، بما فيه الحضارة الغربية الحديثة. وقد ساعد على خلق هذه الشكوك في بداية الأمر، أن اكتشاف كهوف الرسوم الجدارية قد تم قبل أن يكون الرأي العام والدوائر المعنية في حالة تهيؤ لقبولها؛ ولذا فقد بقيت فترةً طويلة في حالة شك وتجاهل لقيمتها التاريخية. ففي عام ١٨٧٥م، على سبيل المثال، اكتُشف كهف التاميرا في إسبانيا، رحَّالة ودارس آثار هاو، وتردد عليه مرات كثيرة حتى تعرَّف على معظم قاعاته وأروقته. وعندما أعلن هذا الباحث الرائد عن اكتشافه، وعن رأيه بخصوص علاقة رسوم هذا الكهف بإنسان ما قبل التاريخ، قوبل بعاصفة قوية من الاستغراب، وحتى السخرية أحيانًا، ولم يتم الاعتراف بانتساب هذا الكهف إلى العصور الحجرية القديمة حتى عام ١٩٠٢م، وبعد فترة لا بأس بها من موت مكتشِفه. ورغم أن الوسائل الحديثة في تاريخ اللقى الأثرية، قد كشفت تدريجيًّا عن أصالة جميع رسوم الكهوف المعروفة وأحقية الإنسان القديم بها، فإن ظلال الشك لم تنقشع عن بعضها إلى ما بعد فترة الخمسينيات من القرن العشرين.١٦
إضافةً إلى فن الكهوف الذي يمثل قمة النهضة الجمالية لعصور ما قبل التاريخ طرًّا، فقد تمثَّل الحِس الجمالي لذلك العصر أيضًا بصناعة الحلى وقِطع الزينة، مثل الأطواق المصنوعة من أسنان الغزال المزخرَفة بالأشكال المحزوزة والأساور وشبكات الشعر المصنوعة من الخرز، والأقراط التي تتدلى منها أقراص من حجر أو طين مشوي أو من عاج محفور. وقد اكتُشفت قطع الزينة هذه في مقابر بالباليوليت الأعلى؛ فقد كان موتى ذلك العصر من النساء والرجال يُدفنون بكامل لباسهم وزينتهم التي كانت لهم في الحياة، ويظهر لنا من بقايا المقابر أن استخدام قِطع الزينة كان شأنًا مشتركًا بين الجنسين، حتى إن الرجال فاقوا النساء أحيانًا زينة وتبرجًا. وكان الدفن يتم في قبور إفرادية وتحت أرضيات كهوف المعيشة، أو في مواقع المعسكرات المُقامة في السهول المكشوفة. وتميَّزت هذه القبور عن سابقتها النياندرتالية، إضافة إلى الزينة المصطحبة، بأن أجساد الموتى كانت تُطلى باللون الأحمر المصنوع من المغرة الحمراء، إشارة إلى القوة الحيوية الكامنة في الدم، وتمنيًا وإيحاءً ببعث قريب. وهذا ما يقودنا إلى متابعة استكشاف العالم الروحي لإنسان العصر الحجري القديم في آخر حلقاته التي استمرت حتى ١٢٠٠٠ عام من عصرنا هذا، معتمدين على شواهد أوضح ووثائق أكثر غزارة ودلالة، وسنبتدئ برسوم الكهوف.١٧

فن الكهوف

تشكل المنطقة الفرانكو-كانتربيرية (Franco–Canterbrian)، الممتدة بين جنوب فرنسا وشمال إسبانيا، المنطقةَ التقليدية لكهوف الرسوم الجدارية؛ فهي أغزر المناطق بهذه الكهوف، كما أن الرسوم تُشكل مجموعة متجانسة في روحها وأسلوبها العام، إضافة إلى قِدمها واحتوائها على أعرق نماذج فنون الإنسان العاقل. وقد تم حتى الآن الكشف عن مائة كهف أو يزيد، سواء في المنطقة ذاتها أم في امتداداتها داخل إسبانيا وفرنسا وجنوب إيطاليا. إن أول ما يلفت النظر في الكهوف الكانتربيرية هو تشابه تكوينها الطبيعي وهيئاتها الداخلية، وطريقة توزيع الرسوم في ردهاتها وأروقتها؛ فهذه الكهوف جميعها يمتد إلى أعماقٍ موغِلة في باطن الأرض، قد تصل إلى الميل في بعض الأحيان أو تزيد. أما الأماكن التي اختيرت كمساحات للرسم فبعيدة عن المداخل، ولا يمكن الوصول إليها إلا عبر ممرات طويلة مظلِمة ومتعرِّجة، تعترضها وهداتٌ خطرة، وقد تضيق الممرات في بعض أقسامها إلى درجة لا يمكن معها متابعة التقدم فيها إلا حبوًا أو زحفًا. وعندما تنفتح هذه الممرات الخطرة أخيرًا على القاعة الرئيسية، وتظهر الصور بكل جلالها على أضواء مصابيح اليد الكهربائية، أو فيما مضى على ضوء المصباح الزيتي المتراقِص، يكون المسافر إلى هذه البقع النائية الغامضة، قد غادر الجو العلوي بواقعيته وإيقاعه الزمني، وولج إلى بؤرة مكان سحري ينتمي إلى مستوًى آخر للوجود وزمن آخر. فما الذي تنطوي عليه هذه المقامات السفلى؟
في كهف لاسكو المتعدد الردهات والقاعات، والذي يدعوه البعض بقية سستين العصر الباليوليتي، تيمنًا بقبة سستين الفاتيكان التي نفَّذ صورها مايكل أنجلو، تمتلئ الجدران بأشكال لا حصر لها من الثيران والبيسون والخيول البرية والوعول. ومثله أيضًا كهف الإخوة الثلاثة وغيرهما؛ مئات من صور الحيوانات المفردة تتوضع بعضها قرب بعض، أو يتعدى حيز بعضها على الحيز المجاور، فتتداخل حدود الأشكال وتتراكب. في هذه المساحات المزدحمة بالصور، يصعب على الفاحص تبين مشهد أو تكوين يجمع بين حيوانين أو أكثر، فكل صورة لحيوان منفذة في معزل عن الصورة الأخرى وفي تجاهل تام لوجودها القريب. وقد قام القس آبي برويل A.H. Breuil، وهو أهم دارس لرسوم الكهوف الكانتربيرية، باكتشاف المستويات الزمنية المتتابعة التي نفذت فيها رسوم الكهوف، والتي تبدو لأول وهلة وكأنها رُسمت عبر فترة زمنية واحدة. وقد وجد برويل أن أقدم الصور مرسوم باللون الأسود، يليها زمنيًّا اللون الأحمر؛ فالرسوم من الألوان الثلاثة، وهي الأحمر والأسود والأصفر. كما لاحظ أن بعض الصور قد خضع للترميم والتجديد، على مدى عشرات القرون المتوالية التي بقيت خلالها هذه الكهوف مهوى أفئدة إنسان الباليوليت الأعلى. أما عن الأشكال المتداخلة أو المتراكبة، فيرى بعض الدارسين أن أجزاءً من المساحات الأقدم قد طُليت من قِبل الفنانين في الحقبة الأحدث بأرضية لونية قابلة للتأكسد، ورُسمت فوق الأرضية الجديدة أشكالٌ أخرى، وعندما زالت الأرضية بفعل التأكسد ظهرت المستويات الأسبق إلى جانب المستويات الأحدث.١٨
fig1
انقسم الدارسون الأوائل لرسوم الكهوف إلى فريقين؛ فريق يرى بأن هذا الفن قد أُنجز لغايات فنية جمالية بحتة، وفريق آخر يرى فيه سعيًا لغايات نفعية لا جمالية، وأن الرسوم الجدارية ليست سوى أدوات سحرية استُخدمت في طقوس تستهدف السيطرة على الطرائد والإيقاع بها، وذلك استنادًا إلى مبدأ السحر التعاطفي، حيث الشبيه ينتج الشبيه، وحيث السيطرة الرمزية على صورة الحيوان تؤدي إلى السيطرة الفعلية عليه في حقول الصيد. وقد تراجع الاتجاه القائل بالفن لأجل الفن بسرعةٍ أمام الاتجاه القائل بالسحر، والذي تحوَّل إلى مدرسة رسَّخت أقدامها واستمالت إليها جمهرة الباحثين. ولعل مما ساعد أهلَ المدرسة السحرية على تطوير تفسيراتهم والسير بها إلى نتائجها القصوى، ذلك الفيضُ من المعلومات التي قدَّمتها الإثنولوجيا عن عادات السحر التعاطفي الشائعة بين المجتمعات البدائية المعاصرة، وخصوصًا الممارسات المتعلقة برسم الحيوان الجريح على الأرض قبل الانطلاق لصيده، فعقدوا المقارنات بينها وبين قيام فنان الكهوف برسم حيوانات جريحة تخترقها السهام، أو تسيل الدماء من جروحها المفتوحة، ورسمه أيضًا لإناث الحيوانات في حالة الحمل، أو تصويره لأوضاع المعاشرة الجنسية. والنتيجة التي توصَّلوا إليها هي أن رسوم الكهوف طرًّا ليست إلا تقنيات سحرية تعتمد المبدأ التعاطفي؛ فالحيوان الجريح على جدار الكهف، إنما يمارس تأثيرًا على حيوان البرية عبر وسط تعاطفي يربطه به، وكذلك الفرس الحامل والثيران التي تشب على البقرات، فإنها توحي للقطعان الطليقة بالتكاثر.١٩
لقد ساعدت الدراسات المبكرة التي نشرها آبي برويل، وهو أول دارس جدِّي لرسوم الكهوف وأشهر الاختصاصيين فيها، على الترويج لأفكار المدرسة السحرية منذ عام ١٩٠٢م، عندما انكبَّ منذ الثانية والعشرين من عمره على دراسة واستنساخ المئات من رسوم الكهوف، ووضع فيها مؤلفًا مشهورًا تحت عنوان «أربعمائة قرن من فن الكهوف».٢٠ ومع أن برويل قد تخلى عن تفسيراته الأولى، إلا أن مدرسة السحر استمرَّت بفعل دفعاتها الأولى القوية، وصارت لأكثر من نصف قرن النظريةَ الوحيدة التي تدَّعي تفسيرًا شاملًا لفن الكهوف، وبلغ من سيطرتها أن معظم الباحثين في ثقافات ما قبل التاريخ، وفي تاريخ الأديان خاصة، كانوا يسوقون التفسير السحري وكأنه بدهية لا تتطلب تمحيصًا أو مناقشة. نقرأ في كتابٍ معروف لأحد مؤرخي الديانات، جوزيف كامبل، ما يلي:
«يبدو عدد من الحيوانات وقد غُرست سهام في جنباته، وآخر قد ظهرت على جسده جروحٌ مفتوحة من أثر الحراب. وهنا لا يسع المرءَ إلا أن يقارن مع ممارسات السحر الأسود الذي يستعين بصورة من الشمع للشخص المطلوب إيذاؤه، فيكتب على الصورة اسمه، ثم توخز الصورة بالإبر أو تُترك لتذوب على النار.»٢١

وفي كتابٍ معروف في تاريخ الفن، سواء في أصله الألماني أم في ترجمته الإنكليزية والعربية، يصل يقين المؤلف بالتفسير السحري حد العجب، وتُثير الرثاءَ أحكامُه الدوغمائية التي يطلقها حول افتقار إنسان الباليوليت الأعلى إلى الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح. يقول أرنولد هاوزر مؤلف الكتاب، مقتفيًا إثر رائد الأنتروبولوجية البريطانية تيلور:

«فماذا كان السبب والغرض الكامن من وراء هذا الفن؟ هل كان تعبيرًا عن استمتاع بالحياة يلح على أن يُسجل ويُردد، أم إرضاءً لغريزة التمتع بالتزيين، أم كان له غرض عملي محدد؟ … إن من الواضح أن كل شيء في عصر الحياة العملية الخالصة تلك، إنما يدور حول كسب العيش وحده، وليس هناك ما يسوِّغ القول بأن الفن كان يخدم غرضًا آخر سوى أن يكون وسيلة للحصول على الغذاء. والواقع أن الدلائل جميعها تشير إلى أنه كان أداة لأسلوب سحري، وكانت له بهذا الوصف وظيفة عملية بحتة، تستهدف أغراضًا اقتصادية مباشرة فحسب. ويبدو أنه لم يكن هناك أي عنصر مشترك بين هذا الفن وما نسميه اليوم بالدين، فلم يكن الإنسان وقت ذلك يعرف الصلوات، ولم يكن يعبد قوًى مقدسة، ولم يكن هناك أي نوع من الإيمان يربطه بموجودات روحية تنتمي إلى عالم آخر؛ وبالتالي فقد كان يفتقر إلى ما يوصف بأنه الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح … إن الصورة كانت هي التصوير والشيء المصور في آنٍ واحد، وكانت هي الرغبة وتحقيق الرغبة في الوقت نفسه، ولقد كان صياد العصر الحجري يعتقد أنه قد استحوذ على الشيء ذاته في الصورة، ويظن أنه قد سيطر على الموضوع عندما يصور الموضوع.»٢٢
يمثل هذا المقطع لُباب الفكرة الأساسية التي يدور حولها التفسير السحري لرسوم الكهوف. ورغم أننا نُواجَه في العديد من المؤلفات الحديثة بآراء تعتمد التفسير السحري، إلا أن الموقف الدوغمائي الذي طالعنا أعلاه قد قل مثيله؛ فلقد فضَّل المؤلف الاقتباس الحرفي عن تيلور، الذي غدت أفكاره مجرد تاريخ، بدل الاستنارة بالوقائع الجديدة حول رسوم الكهوف، وما يمكن أن تقوله بخصوص المعتقدات الدينية لإنسان الباليوليت الأعلى. إن المعلومات الإحصائية الناتجة عن دراسة مائة كهف أو تزيد، في المنطقة الكانتربيرية وبعض امتداداتها، تفيد بأن عدد الرسوم التي تمثل حيوانات جريحة أو مطعونة، لا يزيد عن ١٥٪ من مجموع الرسوم التي تُعد بالآلاف.٢٣ ولا أدري كيف استطاعت هذه النسبة الضئيلة أن تأسر انتباه الباحثين، وحتى المعاصرين منهم، وتوجههم إلى صياغة نظرية في تفسير رسوم الكهوف على أساس سحري.
ومن ناحية أخرى، إذا كان فن الباليوليت الأعلى يقوم على السحر التعاطفي، وعلى فكرة ارتباط الأشياء بعلائق ثابتة يمكن معرفتها، وتعلُّم كيفية التأثير فيها دون واسطة من قوًى غير منظورة، فلماذا وُضعت هذه الرسوم على حافة الصمت في أعماقٍ معتمة لا يصل إليها إلا كل راغب وقادر؟ ولماذا أُحيطت بهذا الجو الذي يوحي بكل ما هو فوق طبيعاني، طالما أن «السحر التعاطفي يفترض أن الأحداث في الطبيعة يتلو بعضها بعضًا بشكل حتمي ودون تدخل من قوًى خارجية، وأن الساحر يتوقع امتثال النتائج المرجوة، بالضرورة، للإجراءات الطقسية التي يقوم بها طالما اتبع الوصفة السحرية الصحيحة»، على حدِّ تعبير جيمس فريزر؟٢٤
رغم أن المدرسة السحرية قد أخفقت في تقديم نظرية شاملة، وتعرَّضت مؤخرًا إلى كثير من النقد، إلا أن مساهمتها الكبيرة تكمُن في لفت النظر إلى الطابع غير الاعتيادي لرسوم الكهوف، وإلى وظيفتها التي تتجاوز الشكل الفني الجمالي؛ الأمر الذي ترك الباب مفتوحًا أمام البحث عما وراء الشكل الظاهري لفنون تلك الثقافة المنقطعة الأسباب. وبما أن نقَدة المدرسة السحرية لم يستبدلوا النظرية بأخرى، فقد وقف البحث مدةً طويلة أمام طريق مسدود قبل أن تطلع الباحثة الفرنسية أمبريير لامنغ بأطروحتها المعروفة حول معنى الفن الباليوليتي.٢٥ لقد وضعت لامنغ أسُس اتجاه جديد في التفسير، ينظر إلى الهيئات الحيوانية في رسوم الكهوف، لا في مؤداها الخارجي كحيوانات تنتمي إلى فصائل بعينها، بل في مؤداها الرمزي كمفردات في لغة تشكيلية من نوع خاص. ثم تابع البروفيسور أندريه لوروا غورهان أبحاثه في الاتجاه نفسه، معتمدًا منهجًا معلوماتيًّا يستعين بالحاسوب، بعد أن صارت كل المعلومات التي رتَّبها وصنَّفها الباحث الرائد آبي برويل جاهزة لمثل هذه القفزة، وقدَّم نظريته الثورية في كتابه المشهور عن فنون ما قبل التاريخ.٢٦
ينظر لوروا غورهان إلى رسوم الكهوف الكانتربيرية باعتبارها وحدةً متكاملة، لا نستطيع دراسة أو تفسير رسم مفرد منها دون بقية الرسوم، وفي علاقته معها، سواء في الكهف الواحد أم في بقية الكهوف مجتمعة. ففي السابق، كانت وحدة الدراسة التي يبني عليها الباحث استنتاجه هي رسم مفرد، أو عدة رسوم متقاربة في مساحة واحدة قد تصل أحيانًا إلى جدار كامل في إحدى القاعات. أما عند لوروا غورهان، فقد اتسع حيز الدراسة ليشمل ٦٨ كهفًا كانت بمثابة الوحدة الأساسية للدراسة، بما تحتويه من عددٍ هائل من الرسوم بلغ تعداده ٢١٨٨ رسمًا. كانت نقطة الانطلاق في بحث غورهان، هي تحديد نوع الحيوانات التي تتوضع في منطقة المركز من كل جدار، وعددها، وكذلك نوع وعدد الحيوانات التي تتوضع على الأطراف، أو تحتل الممرات والمداخل والزوايا البعيدة. وبعد معالجة الكم الكبير من المعلومات بواسطة الحاسوب، تبيَّنت له حقيقة على غاية من الإثارة، وهي أن المناطق المركزية يشغلها على الدوام ثلاثة أنواع؛ هي الثور والبيسون والحصان، بينما تحتل بقية الأنواع الحيوانية الأطراف والمناطق الثانوية الأخرى. كما تبين له من دراسة الحالات القليلة التي ترافقت فيها الأشكال الإنسانية مع الأشكال الحيوانية، أن الثور يتخذ قيمةً رمزية أنثوية، ومثله البيسون، أما الحصان فيتخذ قيمةً رمزية ذكرية. ووجد أيضًا أن القيم الرمزية الذكرية تُعادل القيم الرمزية الأنثوية، حيث بلغ عدد المرات التي صُوِّر فيها الثور ٤٦ مرة، والبيسون ١٤٨ مرة، أما الحصان فقد صُوِّر ٨١٩ مرة؛ أي ما يساوي عدد مرات تصوير الثور والبيسون مجتمعَين. وبينما يغادر الحصان مكانه في مركز الجدار ليظهر في أماكن أخرى ثانوية، فإن الثور والبيسون قد بقيا على الدوام في مكانهما المركزي لا يغادرانه. ومن هذا المنظور الجديد أيضًا، تتخذ الحيوانات الجريحة والسهام والحراب الموجهة إليها، دلالات جديدة في هذه المنظومة الرمزية؛ فالجروح ذات قيمة رمزية أنثوية، أما السهام والحراب فذات قيمة رمزية ذكرية. والنتيجة الإحصائية لكل ذلك، أن الرمز الأنثوي يتوضع على الدوام في المركز، أما الرمز الذكري فيتوزع بشكل متساوٍ حول هذا المركز وعلى الأطراف القريبة والبعيدة. أما الاستنتاج الذي يبنيه لورا غورهان على هذه النتائج الإحصائية، فهو قيام أيديولوجيا دينية لدى الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى، تعتمد جدلية المبدأين الذكري والأنثوي في تعارضهما وتكافؤهما.٢٧

تكمُن أهمية هذا التفسير الجديد في أنه قد أخرج دراسة فن الكهوف من الحلقة المفرغة التي تدور فيها النقاشات بين أصحاب المدرسة السحرية وخصومها، وبالدرجة الأولى في كشفه عن المضامين الدينية لفن الكهوف، والوظيفة الروحية لتلك المقامات المقدسة الأولى. ولكن رغم قيام لامنغ ولوروا غورهان برسم خطوط واضحة للطريق الذي ينبغي أن تسير عليه الدراسات المقبلة لرسوم الباليوليت الأعلى، فإن بعض الباحثين قد آثَر عدم الوقوف إلى جانب أيٍّ من النظريات، وذلك في انتظار معلومات قد لا تظهر أبدًا. فالباحثة ب. م. غراند، وهي من تلامذة آبي برويل اللامعين، تؤكد على وجود رسالة ما متضمَّنة في الرسوم التي تركها لنا إنسان الباليوليت الأعلى، قد تكون مفتاحًا لفكر الإنسان الباليوليتي، ولكنها تأسف لعدم استطاعتنا معرفتها. تقول غراند:

«إن الصور الجدارية تضعنا في حالة مشحونة بعاطفة فائقة، تجعلنا ننظر إليها بعين القداسة … وبعيدًا عن كهف لاسكو الذي يوليه البعض أهمية خاصة، فإن كل كهوف الصور الجدارية تُشارك بدرجات متفاوتة في هذا الجو الجليل الذي يغمر المكان، كما أن رسومها تُشكل كلًّا منسجمًا يخضع للقوانين الداخلية نفسها، ويبين عن مصدر إلهام واحد. إن التكرار الذي يتبدى في الرسوم والخصائص المميزة لها، ينطوي على همٍّ أساسي تحاول الرسوم التعبير عنه بإلحاح، وتتخذ هذه المحاولة في التعبير، في كل كهف، حالة هاجس مسيطر. وهكذا فإن الصور الجدارية تضعنا أمام أحاسيس متضاربة؛ فهناك إحساس عنيف يغمرنا بوجود قيم كبيرة تحاول هذه الرسوم نقله إلينا، وفي الوقت نفسه هناك اعتراف ضمني بعجزنا عن فهم ما تود نقله … قد تكون رسوم الكهوف جزءًا من ميثولوجيا كبرى تحتل أقوى الحيوانات العاشبة فيها مركز الصدارة، إلا أن مفاتيحنا إلى حقبة الصيد العظيمة تلك قد ضاعت. إن كل ما لدينا من تلك الحقبة هو صور وشارات، قد تعيننا على صياغة فرضيات لا بد من صياغتها، غير أن الوقت لم يحن بعد لتحديد العلائق الميتافيزيقية المتضمنة فيها.»٢٨

إن كل ما سُقته حتى الآن ينفي أمرَين نفيًا قاطعًا، وهما أن يكون فن الكهوف قد هدف إلى إنتاج آيات فنية بدافع الحِس الجمالي وحده ولغرض إمتاع الحواس، وأن يكون ذلك الفن مدفوعًا بالهاجس الغذائي ومتوسلًا بالتقنيات السحرية إلى الإيقاع بحيوانات الصيد؛ فرغم أن رسوم الكهوف قد نُفذت بتقنيات جمالية شارفت حد الكمال، فإن التمتُّع بالجمال لم يكن واحدًا من أهدافها، ناهيك عن كونه الهدف الأساسي أو الوحيد، وإلا لما وُضعت في أعماق يصعب اكتشافها كما يصعب الوصول إليها في حال اكتشاف بواباتها؛ فهل كان إنسان ذلك العصر مضطرًّا لقطع تلك الأنفاق المعتمة في ظلمة دامسة وبيده مصباح زيتي، منحنيًا معظم المسافة أو زاحفًا على أربع، ومُعرِّضًا نفسه للوقوع في المطبَّات المؤذية، ليصل إلى قاعات الرسوم فيقف أمامها معجَبًا مستمتِعًا؟ أما عن الهاجس الغذائي والتقنيات السحرية، فإن الوقائع الإحصائية لا تؤيدها، ولم يعد من الوارد الحديث عنها. وبالمقابل، فإن كل الدلائل تشير إلى أن هذه الرسوم تحتوي على قيم كبيرة تحاول التعبير عنها، وأن هذه القيم هي قيم روحية دينية تتصل بمعتقدات ذلك العصر. قد يكون من الصعب في الفترة الراهنة رسم صورة كاملة عن ديانة العصر الحجري القديم الأعلى، اعتمادًا على ما وصلنا من رسوم كهوفه؛ لأن ذلك سيكون أشبه بمحاولة يقوم بها علماء من الكواكب الأخرى لدراسة ديانة أوروبا في القرن العشرين اعتمادًا على بقايا الكاتدرائيات، أو ديانة الشرق الأوسط اعتمادًا على البنى المعمارية للمساجد الكبرى. ولكن الأمر الذي نراه ممكنًا هو التعرف على المعتقد الديني في خطوطه العريضة، وذلك من خلال ألف باء اللغة الرمزية المشتركة التي استُخدمت في الكهوف كلها. فهنا يتابع الفنان بحثه من خلال أسلوب متماثل ووحدات تشكيلية متكررة وهاجس جمالي وروحي واحد. إن كل شيء يشير إلى محاولة محمومة للتعبير عن قلق ديني وقيم روحية، فما هي؟

تُشكل الهيئة الحيوانية الموضوع الأول والأخير لرسوم الكهوف، أما الهيئة الإنسانية فلم تُصور إلا مرات قليلة جدًّا، وتمَّت معالجتها بسرعة ولامبالاة، وبأسلوب الخطوط السريعة غير المدروسة، حيث تُركت في وضع مُبهَم غير مكتمل. نستثني من ذلك الهيئات المختلطة التي جمعت بين الإنسان والحيوان في مخلوقٍ واحد، وهي أيضًا قليلة جدًّا؛ فهنا صُوِّر الشكل الإنساني وقد استعار أعضاءً لحيوانات أخرى، كما هو الحال في الرسم المدعو ﺑ «ساحر كهف الإخوة»؛ فهذا المخلوق الهجين يقف في انحناءة خفيفة على ساقَين إنسانيتين، غير أن له وجه البومة وقرنَي وعل وذيل حصان وكف دب، ومن خلف عجيزته تبرز أعضاؤه التناسلية كما الأسد. ونظرًا إلى أن هذا الشكل لم يتكرر أبدًا في أي كهف آخر، فإن أي تفسير له سيكون من باب التخرصات التي لا تقوم على أساس، رغم أن أصحاب المدرسة السحرية قد وجدوا فيه كنزًا ثمينًا، وشبَّهوه بسحَرة القبائل البدائية المتنكِّرين في زيٍّ حيواني. وعلى العكس من الشكل الإنساني، فإن الحيوان قد رُسم بعناية بالغة، وبأسلوب حركي حيوي استنفد كل ما تستطيعه تقنيات التصوير من تعبير عن طاقة الحياة في قمة تدفقها وتفجرها، وذلك في أشكال الحيوانات المنطلقة، أو أقصى حالات احتباسها وهي على وشك الانطلاق، وذلك في أشكال الحيوانات الواقفة الساكنة. ورغم أن الأسلوب يتَّسم بالطبيعية والبعد عن التنميط والخطوط الهندسية، إلا أنه تعبيري في صميمه، ويلجأ إلى التحوير المقصود من أجل إظهار مضامين انتقائية؛ فالقيمة الرمزية هنا أمر مؤكد، وهاجس الصيد لا يشغل بال فنَّان الباليوليت أكثر مما شغل بال رسَّام الأيقونات البيزنطية هاجس الولادة والتكاثر وهو يرسم العذراء الحبلى أو العذراء والطفل الإلهي؛ ففي الحالتَين نحن أمام تكوين رمزي يشير إلى ما وراءه، والشكل الحيواني هنا ليس إلا وعاءً لقوةٍ ما ورائية، وجدت تعبيرها الأمثل في طاقة الحيوان المحسوسة على المستوى الطبيعي.

fig2

وهناك أمرٌ ملفت للنظر في اللوحات الجدارية، وهو خلو المشهد الحيواني من أية خلفية طبيعية، أو عنصر آخر يمُت إلى عالم الطبيعة بصلة. فلا وجود لشمس أو قمر، ولا لصخرة أو شجرة أو نهر، ولا لأرض تخطو عليها هذه الهيئات الحيوانية، أو أفُق يحدد موقعها، ورغم ذلك فإنها لا تبدو كمن يسبح في الفراغ، بل متمكنة من نفسها ومتوازنة على خلفية غير مرئية. ومع أن الفنان قد عُني عنايةً فائقة في تظليل الكُتل المرسومة، وإبراز معالمها من خلال تداخل النور والظل، إلا أن هذه الكتل ذاتها لا تلقي ظلًّا على الأرض، وكأنها تتحرك في حيز لا مكان فيه للنور والظلام بمفهومهما المتعارَف عليه. كل ذلك يعطينا الانطباع بأننا لسنا أمام مشهد من مشاهد الطبيعة التي نعرفها، وأن الحيوان المُصور ليس جزءًا من الحياة البرية لإنسان ذلك العصر، ولكنه جزء من مجال آخر وعالم موازٍ آخر. إن جو الجلال والروعة الذي يحيط بهذه الثيران والأفراس المندفعة بقوة لا تنتمي إلى هذا العالم، أو التي تتكتل على نفسها منطويةً على قدرة جبَّارة تُوشك على الانفلات، لترتفع بها أمام أنظارنا اليوم إلى مستوى القداسة التي تشع من الأيقونات البوذية أو المسيحية. أما الجو المحيط بها فيعطينا إحساسًا شبيهًا بإحساسنا عندما ندلف لأول مرة إلى كاتدرائية قوطية. من هنا فإن الحديث عن دين خاص بالباليوليت الأعلى، لا ينبع من أي تخيل أو إسقاط، وإنما ينبع من هذه الأماكن نفسها، ومما توحيه للإنسان العاقل اليوم، الذي لا يختلف في أساسيات بنيته النفسية والفكرية عن الإنسان العاقل الباليوليتي.

لقد كان إنسان الباليوليت الأعلى في هذه البُقع القصية المظلمة، يبحث عن تواصل مع المجال الآخر، مع عالم اللاهوت، من خلال شارات قدسية تربط بين العالمَين. وكما فعل إنسان الباليوليت الأوسط، فقد اختار إنسان الباليوليت الأعلى شارته المقدسة من العالم الحيواني، لا ليعبدها بذاتها، بل ليستحضر من خلالها قوة العالم الموازي. وتحوَّلت كهوف الدب المتواضعة، التي اتخذها النياندرتال مقامات مقدسة، إلى كاتدرائيات نحتتها الطبيعة في الأعماق على حدود أوقيانوس المظلمة، وأقام فيها الإنسان العاقل نقاط تواصل مع المجال الآخر، من خلال هيئات حيوانية تلخصت بشكل رئيسي في الثور والبيسون والحصان. إن الجو فوق الطبيعاني الذي يملأ كهوف الرسوم الجدارية، والذي ما زلنا إلى اليوم نستشعر حضوره، قد خلقه إحساس الإنسان الباليوليتي الصافي بعالم اللاهوت؛ بذلك المجال القدسي الذي ينبث في الطبيعة الناسوتية، مثلما تنطلق هذه الحيوانات الحرة مُعبرةً عن قدرة طاغية لا حدود لها.

ومما يؤكد الأغراضَ غير النفعية للكهوف، أن كل ما فيها يشير إلى أنها لم تُستخدم قط لأي غرض دنيوي؛ فهنا لا وجود لعظام الطرائد التي يعثُر عليها الآثاريون عادةً في الكهوف السكنية، ولا أثر لنار المواقد، ولا دلالة على بقايا دفن. كل ما أمكن العثور عليه هو بقايا من أدوات الرسم مثل أقلام المغرة الحمراء، وبعض المصابيح الزيتية التي كان الفنان يرسم على ضوء فتيلها الباهت المتراقص. أما عن الطقوس التي كان يمارسها هنا، فأمر لن يمكننا معرفته أبدًا. ربما كان يتأمل الشارة القدسية التي تكشف أمام عينَيه القوة السارية، أو يقوم بحركات درامية من شأنها استمالة هذه القوة والتأثير عليها لتحقيق أغراضه، أو يأتي إليها بالجيل الجديد من الفتيان البالغين لتلقينهم أسرار الحياة الروحية للجماعة، وهم محاطون بأنسب جو لمثل هذه العملية. فإلى جانب الرسوم الجدارية المشبعة بالجلال والمشعة بالروعة، فإن الكهف في حد ذاته هو مكان موحٍ بكل المشاعر والأحاسيس غير الدنيوية، والرحيل إلى تلك الأعماق التي تكاد أن تلامس رحم الأرض، يصحبه سفرٌ روحي يُودِّع معه المتعمقُ داخل الأنفاق صخبَ الحياة، ويقترب من بؤرة اتصال بعوالم سرانية غير منظورة. لقد كان إنسان الحضارات العليا بما اكتسبه من تقنيات معمارية قادرًا على تصوُّر وبناء هياكل كبرى، تستقطب أجواؤها التي يصطنعها معماريًّا انفعالاته الدينية وتعكس إحساسه بالمجال القدسي. أما إنسان العصور الحجرية، فقد كان يبحث عن هياكله الطبيعية في الأماكن التي تشع منها رهبة لا تصطنعها قباب أو سلاسل عقود عالية. ولعله كان يرتاد مثل هذه الأماكن بشكل عرَضي وغير منتظم عندما فرضت عليه أجواؤها فكرة الرسوم الجدارية، وتحوَّلت تدريجيًّا إلى مقامات مقدسة.

ولعلنا واجدون في القيمة الروحية لمواقع الكهوف في الحضارات اللاحقة، ما يلقي ضوءًا على المعاني التي أوحت بها تلك الكهوف العميقة لإنسان العصر الحجري؛ ففي ميثولوجيات العديد من الثقافات التاريخية، يقوم الكهف رمزًا للخلق والولادة؛ فهو المكان الذي صدرت منه الأجرام السماوية والجماعات البشرية الأولى، وبقعة مقدسة تُشكل معبرًا بين العوالم الدنيوية والعوالم القدسية. ولدينا بعض الأمثلة التي تدل على استمرار تقديس بعض الكهوف القديمة التي تعود إلى عصر ما قبل التاريخ، عبر الفترات التاريخية اللاحقة، وبقاء مواقعها بمثابة نقاط لاتصال السماء بالأرض. فهرم الشمس الأكبر بموقع Teotihucan القديم بالمكسيك، وهو أضخم بنية معمارية في أمريكا الوسطى القديمة، قد تبين أنه بُني فوق مقام ديني بدائي، وأن هذا المقام بدوره قد بُني فوق كهف قديم ذي وظيفة دينية يتخذ شكل تويج رباعي، ويقع تحت مسقط رأس الهرم الأكبر تمامًا. ومن دلائل استمرارية التاريخ الروحي بين الكهف القديم والهرم الذي ورثه، هو شيوع عنصر التويج الرباعي في الزخارف المنقوشة على الهرم، وهو الهيئة الطبيعية التي كانت للكهف، والتي بقيت في ذاكرة المعماري. ومن الممكن جدًّا أن أساطير شعب الآزتيك التي تروي عن صدور الشمس والقمر من أحد الكهوف، إنما تشير إلى هذا الكهف بالذات.٢٩

إن أول الأفكار الدينية قد تولدت عند الإنسان الأول من إحساسه بحضور بُعدٍ آخر للوجود يتخلل عالمنا ويفارقه في الآن نفسه. ويُعبر هذا البعد فوق الطبيعاني عن نفسه في الطبيعة، من خلال فيض قوة مقدسة تصدر عنه وتنبث في كل مظهر طبيعاني، وهذه القوة هي أقرب إلى السيالية الطاقية التي تتجلى آثارها بشكل مادي وتتبدى تحت العديد من الأقنعة، وفيها نجد تفسير كل حركة في الكون وكل طاقة ظاهرة آثارها. وهكذا فنحن هنا أمام مفهوم ديني ذي شقَّين؛ فهناك أولًا البعد القدسي للوجود، عالم اللاهوت المُوازي لعالم الناسوت، وهناك قوة عالم اللاهوت التي تجمع وتوحد بين العالمَين. فإذا أخذنا اكتشاف لوروا غورهان عن جدلية الرموز الأنثوية والذكرية بعين الاعتبار، قلنا إن القوة السارية في العالم الفيزيائي هي ذات طبيعتين؛ طبيعة مؤنثة وطبيعة مذكرة، وإن الجدل بين هاتين الطبيعتين هو الذي يعطي القوة السارية فعاليتها. وهذا ما يضعنا أمام النموذج الأصلي لتصورات القوة في بعض الحضارات الكبرى اللاحقة، وخصوصًا الحضارة الصينية. لقد وجد الفكر الصيني أن في الكون محرِّكًا أولًا قوامه قوتان متعارضتان ومتعاونتان في آنٍ معًا، هي قوة اﻟ «يانغ» الموجبة، وقوة اﻟ «ين» السالبة، ورأى أن كل مظهر مادي ليس إلا تفاعلًا بين كميات محددة بدقة من هاتين القوتين. وهذه الفكرة في الحضارة الصينية متجذرة في تاريخها البعيد، وعبَّرت عن نفسها في الفكر الديني والدنيوي منذ مطالع التاريخ الصيني المعروف.

ولكن، هل عقلنَ الإنسان الأول ما ننسبه إليه من نظرات وأفكار؟ وهل قام بتداولها بالطريقة التي نصوغها هنا؟ والجواب على ذلك هو أن هذه الخبرات الدينية الأولية سابقة لكل تفكر وتدبر في العالم، والمواجهة بين الإنسان وعالم اللاهوت لا تنجم عن تجربة عقلية؛ لأنها في الأساس خبرة وجودية تفرض نفسها عليه بسبب استعداد فطري لتلقي الأثر الدينامي للمجال الآخر، بعيدًا عن المفاهيم والصياغات العقلية. من هنا، فإن ناتج المواجهة يتحول إلى اختبار نفساني لوحدة وتكامل الوجود المدرك وغير المدرك، وهي وحدة لا تُنبي عن نفسها للتأمل الذهني بل للعواطف والمشاعر. أما التعبير عن هذا الاختبار النفسي، فإنه قد تم ولا شك من خلال صياغات شتى؛ فلقد استخدم الإنسان الأول كما رأينا إمكانات الفن إلى أقصى مدًى، وبطريقة قلما عُرفت لاحقًا، من أجل توصيل ذلك الإحساس بالمجال القدسي. أما الطقوس التي كانت تجري في كاتدرائيات الأعمال تلك، وأما الصياغة التواصلية للمعتقدات، فأمور لا يمكن حتى التفكير بإعادة بنائها.

الدُّمى العشتارية والقوة المؤنثة

لم تكن رسوم الكهوف هي الشواهد الوحيدة على التصورات الدينية للباليوليت الأعلى؛ فإلى جانب هذه الأعمال الفنية التي حُفظت في حرزٍ حريز، فقد عمد الإنسان الأول إلى إنتاج أعمال فنية من نوع آخر، عُثر عليها في مواقع عمله وسكنه تمثَّلت في الدُّمى الحيوانية، وفي الدُّمى الأخرى الأنثوية ذات الشكل البشري، وفي منحوتاتٍ بارزة على الصخر تحت سقوف صخرية مُضاءة بنور الشمس.

في منطقة لوسيل Laussel بجنوب فرنسا وتحت سقف صخري، يطالعنا حرمٌ مقدَّس من نوع جديد. في الوسط من الحائط الصخري الرئيسي نحتٌ بارز يمثل هيئة أنثوية ترفع بيدها اليمنى وعلى مستوى الكتف قرنًا لثور البيسون، أما اليد اليسرى فترتكز بكفها على البطن الممتلئ، وعلى النحت بقايا من مغرة حمراء كانت تلونه منذ أكثر من ثلاثين ألف سنة. وهذه الهيئة الأنثوية لا تشبه من قريب أو بعيدٍ الهيئة التي نعرفها لإنسان الباليوليت الأعلى من بقايا هياكله العظيمة؛ فمنطقة الحوض والبطن منتفخة بشكل غير اعتيادي، وكذلك الفخدان، والرأس يتخذ شكل كتلة مكورة لم تصور عليها أية ملامح، أما الأطراف فدقيقة بشكل غير متناسب مع كتلة الجسم. بالقرب من هذا الشكل المركزي على الحائط الرئيسي، عُثر على عدد من الهيئات الأنثوية الأخرى منقوشة على قطع متكسرة ومتناثرة من الصخر، اثنتان منها تشبهان الهيئة المركزية وترفعان باليد شيئًا لم يمكن التعرف عليه، وثالثة في وضع الولادة، وأخرى لرجل في وضع رامي الرمح، وشذرتان لضبع وحصان، إضافة إلى ألواح صخرية حزت عليها أشكال للعضو الجنسي الأنثوي.٣٠ فهل نحن هنا، وفي هذا الحرم المقدس المختلف، نقف أمام تعبيرات عن معتقدات مغايرة لما وجدناه في المقامات السفلية المظلمة؟ قبل معالجة هذا التساؤل، دعونا نتتبع التعبيرات الفنية المشابهة، والتي انتشرت في ذلك العصر على رقعة واسعة من أوروبا.
fig3
إذا كان فن الكهوف قد ازدهر بشكل رئيسي في المنطقة الفرانكو-كانتربيرية، واستطالاتها على طول محور عمودي يخترق أفريقيا، فإن الأشكال النحتية الأنثوية قد انتشرت على محور أفقي من جنوب روسيا إلى أوروبا الوسطى فأطراف جبال البيرنيه. حتى الآن وفيما عدا النحت البارز لعشتار لوسيل الآنف الذِّكر، والذي لا ينتمي إلى فن الدُّمى العشتارية بل إلى ما يشبهه، فإن المنطقة الفرانكو-كانتربيرية قد خلت من الدُّمى العشتارية بشكل ملفت للنظر، وبطريقة تجعلنا نعتقد بأن فن الرسوم الجدارية قد استنفد كل الطاقة الإبداعية لإنسان تلك المنطقة. أما منطقة الدُّمى العشتارية، فلم يُعثر فيها إلا على كهف واحد في جنوب روسيا مماثل للكهوف المعروفة، وزاخر مثلها برسوم جدارية على النمط نفسه.٣١ الأمر الذي يدل على أننا أمام ثقافة باليوليتية واحدة ركَّزت في كل منطقة على أسلوب في التعبير دون أن تهمل تمامًا الأسلوب الآخر.
فيما عدا دُمية واحدة منفذة بسرعة ودون اعتناء تمثل شكلًا ذكريًّا، عُثر عليها بين هدايا جنائزية في أحد القبور، فإن بقية الدمى التي تم العثور عليها على المحور الأفقي الذي يعبُر أوروبا من شرقها إلى غربها، فيما بين ضِفاف الدون والسفوح الشرقية لجبال البيرنيه، هي تماثيل أنثوية صُنعت من مواد طبيعية متنوعة، بينها عاج الماموت والحجر الكلسي والكالسيت والطين المشوي.٣٢ ورغم آلاف الكيلومترات التي تفصل بين مواقع الباليوليت الأعلى التي وُجدت فيها هذه الدُّمى العشتارية، فإنها تبدو وكأنها نتاج موقع واحد، وعدد من الفنانين الذين أتقنوا أسلوبًا واحدًا متماثلًا. فكتلة الجسد تتخذ شكلًا مغزليًّا مستدق الطرفين عند الرأس والقدمين، منتفخ الوسط عند منطقة البطن والورك، ويتخذ الرأس شكل كتلة غير متمايزة، وبدون وجه أو ملامح، مع الإشارة إلى الشعر أحيانًا بواسطة حزوز، وقد تنكمش كتلة الرأس هذه لتغدو انتفاخًا يُشبه رأس الحية. أما عن الأطراف، فإن الساقَين تستدقَّان تدريجيًّا بعد الركبة حتى تنتهيا معًا إلى طرف مُدبَّب، مع غياب كامل للقدمين، بينما تُهمَل الذراعان إلى درجة لا نكاد معها تبينهما في بعض هذه الدُّمى، فإذا عرفنا أن أصغر هذه التمثيلات لا يتجاوز الإنشَين في ارتفاعه، وأكبرها لا يتجاوز القدم الواحدة، عرفنا لماذا دُعيت بالدُّمى لا بالتماثيل. كل هذه السمات تشير بوضوح إلى أن الفنان لم يكن يصور جسدًا أنثويًّا مما يراه في عالم الطبيعة الإنسانية، وإنما كان يستدعي رموزًا أنثوية يستعين بها من أجل التعبير عن حقيقة تتجاوز الجسد الأنثوي إلى ما وراءه. وإني أرى أن الفنان هنا كان يُجسد القوة السارية في شارة قدسية، تعادل من حيث الجوهر الشارةَ القدسية الحيوانية، وأنه كان يتوسل بالسمات الأنثوية المحورة والمرمزة، من أجل إنتاج هيئة تُمثل التركيز الأقصى للقوة السارية في الطبيعة، والتي تبدو هنا متجمعة في مناطق الخصب الأنثوية حتى لتكاد تفيض بما فيها، تمامًا كما رأيناها متجمعة في تلك الأشكال الحيوانية الساكنة، التي نشعر بها على وشك الانفلات من عقالها.
fig4

إن ما حاول فن الدُّمى العشتارية أن يستحضره أمام عين المشاهد، شبيه بما حاول استحضاره فن الكهوف في رسومه الحيوانية؛ فهو ينقل إحساس إنسان الباليوليت بعالم اللاهوت وقوته السارية في عالم الناسوت، رغم حلول الشكل الشبيه بالإنساني محل الشكل الحيواني. إن الشكل الشبيه بالإنساني هنا يحقق الغاية نفسها التي للشكل الحيواني؛ فالأنثى المرموزة الغائبة الشخصية، المحرومة من الملامح التي تدل على هيئة صاحبها، ليست شخصًا بعينه؛ إلهًا ما أو كائنًا روحانيًّا ما ورائيًّا، بقدر ما هي شارة مجردة. وبكلمة أخرى، إننا أمام تعبير عن الألوهة لا أمام رسم لصورة إله. لقد كان الفنان الباليوليتي، بقدراته الفنية التي أثبتها في رسم الحيوان، قادرًا بلا شك على تصوير ملامح الوجه الإنساني على أكمل وجه، ولكنه لم يفعل، بل لقد آثر أحيانًا إلغاء الرأس برمته ليكون عمله أقدر على صرف عين الناظر وقلبه عن تصور أية شخصية محددة، والتركيز على الفكرة المجردة للألوهة غير المشخصة، من خلال رسالة بصرية ذات شيفرة خاصة بذلك العصر.

إن تعثرنا في فهم الرسائل البصرية للعصور القديمة، نابع من كون حضارتنا هي حضارة لغة متطورة وكتابة متطورة. فنحن لكي نفهم أمرًا ما، يجب أن نكون قادرين على شرحه بالكلمات وعلى تلقيه بالكلمات، وبأكبر قدر من الوضوح والتفصيل. وهذا من شأنه أن يقيم حاجزًا بيننا وبين أنماط التعبير التصويرية التي تركتها لنا ثقافات ما قبل الكتابة، عندما لم تكن اللغة قد بلغت شأوًا من التطور يجعلها قادرة على التعبير عن لطائف المجردات. على أن إدراك الفرق بين الأسلوبين التوصيليين من شأنه تقديم عون كبير لنا على التواصل مع الماضي السحيق؛ فالرسالة البصرية ليست مطردة؛ أي إنها لا تكشف عن محتواها بشكل متتابع وإنما دفعة واحدة، أما الرسالة الكلامية فتكشف عن محتواها بشكل تفصيلي مترابط الحلقات خطوة فخطوة. من هنا، فإن فهم الرسالة الكلامية (= اللغوية) يأتي تباعًا، أما فهم الرسالة البصرية فيتم بإدراك الكل دفعة واحدة؛ أي إنه لا يتأتى عقليًّا بل شعوريًّا.

رغم وحدة الرسالة المتضمنة في الرسوم الجدارية للكهوف السفلى، وفي الدُّمى العشتارية، إلا أن الوظيفة الدينية لكل شارة من هاتين الشارتين مختلفة تمامًا عن الأخرى؛ فرسوم الكهوف النائية لم تكن بمتناول الأفراد في كل وقت وحين، وأغلب الظن أنها كانت مركزًا لطقوس دورية سنوية، أو لمناسبات طقسية متباعدة ذات طابع تكراري، مثل طقوس العبور والتلقين. أما الدُّمى الأنثوية الصغيرة والخفيفة الحمل، فلا بد أنها كانت جزءًا من أدوات طقسية تُستخدم في شعائر ذات طبيعة مختلفة تمامًا عن شعائر الكهوف، وربما تعلقت بمفاهيم الخصب بشكل أساسي، خصوصًا وأن شكلها المغزلي يدل على أنها كانت تُغرس في الأرض بوضع عمودي، ضمن سياق طقسي، يستهدف إحلال الخصب في الأرض التي تفيض بثمارها على ذلك الإنسان اللاقط وبعشبها على حيوانات صيده، أو تُستخدم في طقوس أخرى تستهدف التأثير في القوة السارية لتحصيل منافع أخرى منها، أو لاستبعاد أذاها؛ ذلك أن القوة وفق فهم الإنسان الأول لها ليست كائنًا ذا إرادة وتدبير، بل سيالة غفلة تسري في الطبيعة، وتفعل فيها دونما حِس أخلاقي بالخير والشر بمفهومهما الإنساني المعتاد.

ولكن، هل تصورت ثقافة الدُّمى العشتارية القوة على أنها قوة أنثوية صرفة، في مقابل ثقافة الكهوف التي رأت في القوة جدلية أنثوية ذكرية؟ قد يصعب البتُّ في هذا الرأي الآن، ولكنه مرجَّح نظرًا إلى طغيان الدُّمى الأنثوية على غيرها من الدُّمى الحيوانية أو الذكرية، التي لم يتم تنفيذها بنفس العناية والإتقان. يضاف إلى ذلك أننا في الوضع الحالي للوثائق لا نملك معلومات إحصائية مؤكدة حول العدد النسبي لدمى كل نوع حيواني، ولا دراسة تماثل دراسة لوروا غورهان حول قيمها الرمزية مقابلة بالقيمة الرمزية للشكل الأنثوي؛ إلا أن بعض المقارنات مع الثقافات العليا اللاحقة، التي رأت في القوة جوهرًا أنثويًّا صرفًا، مثل الثقافة الهندية، قد يلقي ضوءًا على هذه المسألة؛ فالديانة الهندوسية التي تمتلئ معتقداتها بالآلهة والإلهات من كل نوع، يمكن في النهاية تلخيص معتقدها الأساسي إلى الإيمان بقاع قدسي للوجود، هو المطلق الكلي المدعو شيفا، وبقوة أنثوية تصدر عنه تُدعى شاكتي، وهذه القوة هي مصدر كل نشاط وفعالية على المستوى الطبيعي. ولسوف يكون لنا وقفة مطولة مع هذا المعتقد لاحقًا.

عند هذه المرحلة من دراستنا، أعتقد أن تفريقنا الأساسي بين الإله وبين الألوهة أو المجال القدسي قد غدا واضحًا في ذهن القارئ؛ فالإله كائنٌ فوق طبيعاني، يتمتع بشخصية ذات ملامح واضحة، ووعي وإدراك مستقلين، وإرادة حرة، ورغبات وأهواء خاصة به، وله سيرة حياة، وربما تاريخ ميلاد أيضًا، وقد يموت كما يموت البشر. ورغم أن الآلهة تنتمي إلى بعدٍ آخر للوجود، إلا أن حياتها متداخلة مع حياة الناس بشكل لا تنفصم عراه، حتى إن معاشها يعتمد على ما يقدمه إليها البشر من قرابين، وغالبًا ما تسكن في مكان قريب إليهم مثل قمم الجبال العالية. من هنا، فإن علاقة البشر بالآلهة هي علاقة استمالة واسترضاء من قِبل البشر، وعطف ومِنَّة من قِبل الآلهة؛ فالبشر يقيمون لها المعابد، ويرفعون الصلوات، ويتضرعون إليها، ويتضعون أمامهم، وقبل كل شيء يُقربون إليها القرابين من أفضل حيواناتهم أو محاصيلهم، بل ربما عمدوا أيضًا إلى الأضاحي البشرية، وبالمقابل فإن الآلهة تلبِّي لهم مطالبهم وتمنُّ عليهم على قدر تقربهم. أما المستوى القدسي، فهو البُعد غير المرئي للوجود المادي، والقاع الماورائي الذي يستند إليه عالم الظواهر المرئية الذي يعيش فيه الإنسان؛ إنه مجال لا شخصي، ولا يمكن لأية شخصية بالغًا ما بلغ تنزيهها أن تُعبِّر عنه. والإنسان لا يدخل مع هذا المجال في علاقة أنا-أنت كما يفعل مع الآلهة، بل في علاقة أنا-هو؛ ذلك أنه اﻟ «هو» المجهول، والحضور الشامل الغامر رغم غيابه الظاهر، إنه تلك الوحدة اللامتمايزة التي يصدر عنها كل متمايز ويذوب، في الآن نفسه. و«هو» فقط يكون بلا إرادة موجهة، بلا رغبات، بلا عواطف وأهواء، بلا روابط، بلا تاريخ وسيرة حياة، يعلن عن حضوره في قلب الإنسان بلا وسيط أو شفيع، ويعلن عن فعاليته في الطبيعة من خلال قوته السارية فيها. وقوة المجال القدسي المنبثة في المادة الدنيوية، هي طاقة حيادية لا تلتزم المعيار الخلقي، بمعنى أنها تفعل الخير كما تفعل الشر، تمامًا كالتيار الكهربائي الذي يشعل المصباح، وفي نفس الوقت يحدث صاعقة مدمرة وحريقًا. من هنا فإن علاقة الإنسان بهذه القوة السارية، لم تكن علاقة استمالة واسترضاء لإرادة واعية، بل علاقة مؤثر بمتأثر. والمؤثر هنا هو الإنسان، أما المتأثر فهو القوة الغفلة التي لا تتمتع بإرادة واعية، وإنما تخضع للتوجيه في مسارات تتحكم بها تقنيات طقسية معينة، يمكن أن تحولها لصالح الإنسان أو تدفع أذاها عنه. أما عن تقنيات التأثير هذه، فرغم أننا لا نعرف عن أشكالها الأولى شيئًا، إلا أننا نستطيع تقريبها من تقنيات السحر الذي يقوم على مبدأ مشابه؛ أي على وسط أو قوة غفلة تربط بين الأشياء وتساعد على نقل الفعل والتأثير المتبادل فيما بينها. وفي الحقيقة، فإن الدراسات الحديثة لتقنيات السحر ومبادئه تجعلني أعتقد بأن السحر إنما يقوم على المعتقد الباليوليتي نفسه، ولكنه قد ضاع عن أصله، ولم يبقَ منه سوى طقوس لا نستطيع تبين معتقدها إلا بصعوبة بالغة.

في الممارسات السحرية كما عرفناها عبر التاريخ المكتوب، وكما هي شائعة لدى القبائل البدائية، لدينا جملتان فيزيائيتان تتبادلان التأثير في بعضهما عن بُعد، ولكن من خلال وسط غامض يربط بينهما. أما الجملة الأولى فمصطنَعة؛ أي أنها مؤلفة من بضعة أفعال أو أحداث نقوم بها بشكل قصدي، لغاية التأثير في الجملة الثانية التي تؤلفها أحداث طبيعية مترابطة. ولنأخذ مثالًا على ذلك صناعةَ المطر، وهو مصطلح أنتروبولوجي حديث يشير إلى الطقوس التي يقوم بها ساحر القبيلة لجلب الأمطار في مواسم الجفاف. إن سقوط المطر في معتقدات الأديان التي تؤمن بالآلهة المشخصة، هو جملة فيزيائية مؤلفة من أحداث يمسك بزمامها إلهٌ موكَّل بالمطر، حيث يخرج هذا الإله من مسكنه في قمم الجبال العالية، فيركب الغيوم التي تُكلل مقره، ثم يوجهها حيث يشاء ليسقي بها أرضًا دون أخرى. أما في المعتقدات الدينية الخلوة من الآلهة، فإن التأثير في الجملة الفيزيائية التي تنتهي بسقوط المطر يتم باصطناع حركات وأصوات وإيقاعات معينة بينها تقليد لصوت هطول المطر، فتتصل هذه الأفعال المصطنعة بالجملة الأخرى عبر وسط واصل بينها ويهطل المطر. وهذا الوسط الواصل بين الجملتين هو القوة السارية التي توجهت الطقوس إليها بالدرجة الأولى وحفزتها على إتيان الفعل. وهذا ما ندعوه اليوم بالطقس السحري.

لقد دُرست أمثال هذه الطقوس السحرية على أوسع نطاق من قِبل علماء الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا، وصُنفت في زمر رئيسية وزمر ثانوية؛ من سحرٍ تعاطفي إلى سحرٍ تشاكلي، إلى آخر ما هنالك من تصنيفات. ولكن هؤلاء الباحثين لم يُعنوا بالتفتيش عن المعتقد الذي تقوم عليه هذه الممارسات، بل ساروا مع جيمس فريزر الذي قال بأن الفكر السحري يرى في الطبيعة اطرادًا في الأحداث لا يحتاج إلى وساطة الآلهة. والحقيقة أن مؤسسة السحر بكاملها تقوم على مفهوم القوة السارية، معتقد الإنسان الباليوليتي، الذي راكم الزمان فوقه غبار النسيان، ولم يبقَ منه سوى طقوس معلقة في الفراغ.

١  Jacques Cauvin, Les Premiers Villages, Maison de l’Orient, Lyon 1976, pp. 106–107.
انظر أيضًا ترجمة الأستاذ قاسم طوير للكتاب أعلاه تحت عنوان الوحدة الحضارية لبلاد الشام بين الألفين التاسع والثامن قبل الميلاد، ص١٣٧.
٢  Grahame Clark, Prehistoric Societies, Knopf, New York 1968, pp. 61–62 Joseph Campbell, Primitive Mythology, Penguin, London 1978, p. 342.
٣  R. J. Braidwood, Prehistoric Man, Scott, Illionois 1975, p. 28–.
٤  Encyclopedia of Religion, Vol. 11. p. 151–152.
٥  Grahame Clark, op., cit, p. 63.
٦  Encyclopedia of Religion. Vol. 11. p. 152–.
٧  Grahame Clark, op. cit, p. 67.
٨  تم اكتشاف هذا الأمر صُدفةً عندما كانت عالمة فرنسية في نباتات ما قبل التاريخ تقوم بتحليل عينة من تراب أحد قبور شانيدار، حين اكتشفت كميةً كبيرة من غبار الطلع لأزهارٍ برية تنمو في تلك المنقطة إبَّان شهر أيار. ولم يكن ممكنًا تفسير هذه الكمية من غبار الطلع إلا بأن كمية كبيرة من أزهاره قد نُثرت فوق الميت عند الدفن.
انظر: C. G. Starr, Early Man, Oxford, 1973, p. 18.
٩  Joseph Campbell, Primitive Mythology, op. cit, pp. 339–345.
١٠  Ibid, pp. 345–346.
١١  انظر اعتراضات لوروا غورهان في كتابه:
A. Leroi Gourhan, Les Religions de la Prehistoire, Presses Universitaires de France, Paris 1964.
١٢  Andreas Lommel, Prehistoric and Primitive Man, Hamlyn, London 1976, p. 43.
١٣  Joseph Campbell, Primitive Mythology, op. cit, p. 292.
١٤  إن الدُّمى العشتارية المدعوة بالفينوسات التي عثر عليها في مواقع الباليوليت الأعلى لا يمكن اعتبارها تصويرًا للإنسان؛ لأنها أعمال فنية مفرِطة في الرمزية، ولا تختلف من حيث الجوهر عن تصاوير الحيوان، وهذه نقطة سوف أشرحها بتفصيل أكثر في موضع لاحق.
١٥  Grahame Clark, op. cit, pp. 65, 70–71.
١٦  P. M. Grand, Prehistoric Art, Studio Vista, London 1967, pp. 16–17.
١٧  المادة المعلوماتية عن رسوم الكهوف، في حالة عدم الإشارة إلى مرجعها، تستند إلى P. M. Grand. انظر المرجع السابق.
١٨  P. M. Grand, op. cit p. 24. See also: A. H. Breuil, The Paleolithic Age (in: Larrousse Encyclopedia of Prehistoric and Ancient Art, Hamlyn, London 1970, pp. 30–36).
١٩  For further argument on the principles of magic, see James Frazer, The Golden Bough, op. cit, ch.
٢٠  A. H. Breuil, Four Hundred Centuries of Cave Art, Dordogne, Centre d’Etudes et de Documentation Prehistorique.
٢١  Joseph Campbell, Primitive Mythology, op. cit, p. 305.
٢٢  Arnold Hauser, The Social History of Art, Vintage, Part One, ch. 1.
انظر أيضًا الترجمة العربية تحت عنوان: الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة فؤاد زكريا، القاهرة ١٩٦٩م، ص١٧–١٨.
٢٣  P. M. Grand, op. cit, p. 34.
٢٤  James Frazer, op. cit, p 34.
٢٥  Emperaire Laming, La Signification de l’Art Rupestre Paleolithique, Paris, Picard 1962.
٢٦  A. Leroi Gourhan, Prehistorie de l’Art Occidental, Paris, Mazenod, 1971.
٢٧  إلى جانب كتاب لوروا غورهان في المرجع السابق. انظر أيضًا ملخصًا لأفكاره بقلمه في مجلة العلوم الأمريكية. American Scientific, February 1968, p. 61.
٢٨  P. M. Grand, op, cit, pp. 24, 34.
٢٩  D. Hyden, Caves (in: Encyclopedia of Religion, V. 01. 1, pp. 127–128).
٣٠  P. M. Grand op. cit, pp. 55, 62–64.
٣١  Grahame Clark, op. cit, pp. 80–84.
٣٢  Ibid, pp. 82–83.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤