عتبة الدين، اللاهوت والناسوت في معتقد الباليوليت
إذا كان ثَمة وجود لديانة بدائية صافية لم تتأثر بغيرها، بل خضعت لديناميات نموها الداخلية الخاصة بها، فإن هذه الديانة هي حصرًا ديانة العصر الحجري القديم (= الباليوليتي). من هنا، فإن أية حفريات معرفية في طبقات الدين تستهدف الوصول إلى قاعه الأساسي، يجب أن تهبط أولًا إلى هذا المستوى البدئي لدين الإنسان العاقل. إن سبر معتقدات إنسان عصور ما قبل التاريخ لن تكون أبدًا بالمهمة السهلة، ولكنها، على أية حال، مهمة لا بد من القيام بها. والصعوبة هنا تنشأ من كون الباحث في ديانات العصر الحجري لا يمتلك الأدوات والوسائل التي تُعين، في العادة، زملاءه في حقل الأنتروبولوجيا الاجتماعية أو في حقل تاريخ الأديان؛ فهو لا يستطيع القيام بزيارات ميدانية للجماعات التي يعمل على دراستها للاطلاع المباشر على موضوعات بحثه كما يفعل الأنتروبولوجي الاجتماعي، كما أنه لا يمتلك الوثائق الكتابية التي يعتمد عليها مؤرخ الأديان بشكل أساسي، بل إنه مضطر إلى الاعتماد على الشواهد المادية الصامتة، مثل الأعمال التشكيلية من منحوتات ورسوم جدارية، وبقايا الدفن، وتشكيلات يدوية لا تُنبئ عن قيم استعمالية واضحة. فهو مضطر، والحالة هذه، إلى إعادة بناء الوسط الفكري لجماعات بادت منذ عشرات ألوف السنين، انطلاقًا من مادة صمَّاء، وتبدو لأول وهلة أبعدَ ما تكون عن الترابط وعن أداء معنًى محدَّد وواضح. ولكن الحال في الواقع ليس على هذه الدرجة من السوء وتثبيط الهمة، فهذه المادة التي تبدو صمَّاء للنظرة الأولى، إنما تحمل لنا رسالة على درجة لا بأس بها من الأهمية والوضوح.
ولتبيان قيمة الوثيقة الفنية، خاصةً في الكشف عن أفكار الإنسان القديم، ينبغي أن نلفت النظر إلى الفارق الكبير بين النشاط الفني لإنسان العصر الحجري والجماعات البدائية عامة، والنشاط الفني للإنسان الحديث، وذلك من حيث بواعث ذلك النشاط ومضامينه ونتائجه. فالفن التشكيلي لدى المجتمعات القديمة، والتقليدية الحديثة، ليس إبداعًا فرديًّا يُعبر عن رؤيا جمالية خاصة وموقف ذاتي من العالم، كما هو الحال في مجتمعاتنا الحديثة، بل هو إبداعٌ جمعي يستلهم قيمًا جمالية جمعية، ويُعبِّر عن مواقف فكرية مشتركة. والفنان البدائي عندما يعكف على تشكيل عمله الفني، لا يقصد إلى إنتاج قطعة جميلة يقتنيها شخصٌ آخر، وإنما إلى انتقاء أشكال تُعبِّر عن السيكولوجيا الجمعية والتوجهات الفكرية للجماعة، وغالبًا ما يكون لهذه الأشكال معانٍ تتجاوز الموضوعات المادية الممثَّلة؛ لتغدو رموزًا تلتقي عندها القوى الدينية والسحرية والأيديولوجية الفاعلة في الوسط الجمعي المشترك. فالفن البدائي، والحالة هذه، عبارة عن لغة اجتماعية يفهمها الجميع ويتواصلون من خلالها، والأعمال الفنية تحمل على الدوام قيمًا دلالية تتعدى حدود صانعيها لتغدو شاهدًا على حقبة وعصر؛ فما الذي تنقله شواهد العصر الحجري القديم إلينا؟
(١) الباليوليت الأدنى: القاع السحيق
وفي الواقع، فإنه من غير المُجدي التفتيشُ عن دلائل الحياة الدينية لبشر ذلك الزمان؛ بسبب غموض الوثائق وتبعثرها، وصعوبة الربط بينها؛ فإذا أردنا البقاء في حدودِ ما تسمح به الوثيقة المادية من تفسير، يتوجب علينا القول بأن إنسان الباليوليت الأدنى لم يتمتع بحياةٍ دينية من أي نوع، وإن وسطه الفكري لم يتطور عن أسلافه من الرئيسيات العليا، رغم صناعته للأدوات واستخدامها للتحكم بوسطه المادي. غير أن البوادر الأولى لقيام الأناسي بتكوين هذا النوع من الثقافة الأولية، يُغرينا بافتراض امتلاكهم نوعًا من الحياة الروحية، التي لم تكن من الوضوح بحيث تعلن عن نفسها من خلال اللقى الأثرية التي اقتصرت على الأدوات، وهي فرضية لا يمكن الدفاع عنها في الوضع الحالي لمعلوماتنا عن الباليوليت الأدنى. إن كل ما أستطيع قوله هنا هو أن الحياة الروحية المتطورة نسبيًّا لإنسان النياندرتال اللاحق، لا يمكن أن تكون قد انبثقت فجأة ومن العدم، بل لا بد من وجود جذور لها في ذلك القاع السحيق للثقافة الإنسانية.
(٢) الباليوليت الأوسط وبزوغ الإنسان
لم يترك لنا إنسان النياندرتال شاهدًا واحدًا على ميله للتعبير بواسطة الفن التشكيلي عن أفكاره وإحساسه بمحيطه، وذلك باستثناء تنفيذه لبعض الحزوز على أدواته العظمية لغاية جمالية بحتة. غير أننا نستطيع البحث عن ملامح ثقافته غير المادية في مدافنه التي تم اكتشاف عدد لا بأس به منها حتى الآن. فالنياندرتال كان أول نوع بشري عُني بدفن موتاه في القبور، وأظهر في ذلك حرصًا كبيرًا، كما أن التقاليد التي اتبعها في دفن الموتى تدل على تمتُّعه بحياة روحية لم يتمتع بها سابقوه، وتُنبي عن وسط فكري غني بالتأمل والأفكار المجردة. وسأورد فيما يلي نماذج من أساليب الدفن التي تميزت بالتنوع لدى إنسان النياندرتالي، ثم أُظهر الروابط التي تجمعها والمعاني الكامنة خلفها.
والآن، ما هي النتائج التي يمكن أن توصلنا إليها الدراسة المتأنية لبقايا مدافن النياندرتال، والفرضيات التي يمكن صياغتها حول الحياة الروحية لذلك العصر؟ قبل المغامرة بتقديم الفرضيات، لا بد لنا من تصنيف هذه البقايا لمعرفة ما إذا كانت تُبدي تكرارًا يجعل منها شعيرة أو طقسًا ثابتًا. فأولًا: في أغلب الحالات كانت الجثث مطوية بشدة ضِمن حُفر صغيرة وفي قبور إفرادية. وثانيًا: تم توجيه الأجساد وفق محور شرق غرب في بعض الحالات لدى النياندرتال الأوروبي، وفي أغلب الحالات لدى النياندرتال المشرقي الأكثر تطورًا من الناحية المورفولوجية. ثالثًا: هناك العديد من الأمثلة تتم عن عنايةٍ خاصة برأس الميت، حيث تمَّت حمايته بأحجار كبيرة. رابعًا: لدينا حالاتٌ غير شائعة عن إحاطة الجسد ببراعم وأزهار من أنواع معيَّنة منتقاة. خامسًا: هناك شواهد عديدة على قربان حيواني تم عند الدفن، وعلى دفن مُوازٍ لبقايا الحيوانات المذبوحة. سادسًا: لدينا أمثلة كثيرة على هدايا جنائزية مكونة من أدوات أو عظام منتقاة، وقد وُجدت الأدوات حتى في قبور الأطفال أو المواليد الجُدد.
- فأولًا: هناك معتقَد واضح بأن الكائن الحي يتألف من جسدٍ مادي وروح لطيفة، وأن هذه الروح تستقل عن جسد الميت لترحل إلى عالم آخر موازٍ لعالم الأحياء. ويبدو أن الروح في اعتقاد النياندرتالي كانت تكتسب عند استقلالها قوةً غير عادية، تتخذ شكلًا نافعًا أو ضارًّا وفقًا لموقف الأحياء منها. وهذا هو التفسير الذي يقود إليه إجراء ثَنْي ركبتَي الميت في حيِّزه الضيق القصير؛ لأن هذا الوضع من شأنه منع الجسد من التمدد والخروج إلى عالم الأحياء، إذا عاودته الروح التي غدت، بانفصالها، غريبة عن عالم الأحياء ومحمَّلة بالقوى المؤذية.
- ثانيًا: يتخذ الرأس أهميةً خاصة في معتقد الروح المفارقة والعالم الموازي. ويدلنا على ذلك حماية الرأس بالألواح الحجرية، وكذلك توجيهه نحو الشرق الذي يرمز إلى البعث؛ لأنه بوابة ميلاد أكبر الأجرام السماوية، وهما الشمس والقمر. ونُرجح أن الإنسان النياندرتالي قد اعتقد بأن الرأس هو مقر الروح، خصوصًا وأن مثل هذا الاعتقاد قد وُجد في العصر الحجري الحديث اللاحق.
- ثالثًا: يبدو أن نثر الأزهار في قبر المتوفى٨ يؤدي معنى البعث الذي يؤديه توجيه رأس الميت نحو المشرق؛ فالأزهار رمز لانبعاث الحياة في الشجر كما هو الشرق رمز لانبعاث الجرمَين العظيمين. وقد كان ظهور الأزهار الربيعية بشارة سارَّة للإنسان النياندرتالي؛ لأنه كان يعتمد في غذائه على جمع ما تجود به الأشجار إضافة إلى حصيلته من لحوم الطرائد.
- رابعًا: يبدو أن دماء الحيوانات المذبوحة عند الدفن، كانت في اعتقادهم تطلق طاقة من نوع خاص، تُعين التوءم الروحي للمتوفى على عبور البرزخ الفاصل بين العالم المادي والعالم الموازي. ولعل مما يرجح هذا الافتراضَ أن الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى اللاحق، كان يعتقد بوجود قوة حيوية في الدم، ويقوم بطلاء أجساد المتوفين وجدران قبورهم بمادة حمراء تُشبه لون الدم، للإيحاء رمزيًّا بطاقة الحياة. وربما كان النياندرتاليون يقيمون وليمة جنائزية عند الدفن، يأكلون فيها لحوم حيوانات القربان، ويتركون بعضها للتوءم الذي يستعد لرحلته الطويلة.
- خامسًا: استهل النياندرتال عادة الهدايا الجنائزية التي استمرت حتى العهود التاريخية المتأخرة، وقد تألفت هدايا النياندرتال من الأدوات الحجرية، وقِطع معينة من عظام الحيوانات. ولما كانت الأدوات قد وُجدت في قبور المواليد الجُدد، فإن من المستبعَد أن تكون لغاية استخدام التوءم الروحي؛ لأن هؤلاء المواليد لم يكونوا قد تعلموا بعدُ استخدام الأدوات؛ ولذلك نُرجح أن يكون لها وظيفة سحرية ورمزية من نوع خاص، ولا نستطيع تكوين فرضية عنها الآن. أما الهدايا الجنائزية المؤلفة من العظام التي يجري توزيعها حول جسد الميت أو يقبض بيده على بعضها، فإنها مختلفة عن عظام الذبيحة، وجرى اختيارها بشكل انتقائي لتحمل قيمةً رمزية تشير إلى ما وراءها، فهي على الأغلب مقر لقوة من نوعٍ ما تتصل بالعالم الموازي الذي يرحل إليه الميت. وبشكل خاص فإن قرون الماعز التي زُرعت حول هيكل طفل نياندرتالي في أوزبكستان، تردِّد أصداءً بعيدة لطقوس ومعتقدات من العصر النيوليتي اللاحق، تدور حول قرون الماعز أو الثور، والتي اعتُبرت رمزًا لقوةٍ ما ورائية عظمى ومقرًّا لها.
لقد استعملتُ منذ قليل مصطلح «قربان حيواني» لوصف الحيوانات المذبوحة عند الدفن، وهو اصطلاح ينبغي ألا يؤخذ بحرفيته عند وصف أي طقس يتعلق بذبح الحيوانات في العصر الباليوليتي. ففكرة القربان أو الأضحية هي فكرة متأخرة، وطقس الذبائح بمضمونه المعتاد، أي تقديم ذبيحة من أجل استرضاء إله ما، هو طقس متصل بديانات العصور التاريخية بشكل رئيسي، ولا أكاد ألمح له وجودًا حتى المراحل المتأخرة من العصر الحجري الحديث (النيوليتي). أما إذا صادفتنا ذبائح طقسية من نوعٍ ما لدى إنسان العصر الباليوليتي ومطالع النيوليتي، فينبغي أن تُفسَّر ضِمن السياق الداخلي للمعتقدات والممارسات القديمة، لا استنادًا إلى ما نعرفه عن الأديان السائدة اليوم أو أديان العصور التاريخية السالفة. إن مفهوم القربان مرتبِط بمفهوم الآلهة المشخصة، أو الكائنات الروحية المقدسة التي صارت إلى ما يشبه الآلهة، مثل أرواح الأسلاف لدى بعض الثقافات. أما عند عتبة الدين هذه، فإن فكرة الإله الذي يعلو على مظاهر الطبيعة ويتحكم فيها باعتباره كيانًا روحيًّا مستقلًّا، لم تتشكل بعد، ولم يكن الأسلاف المؤلهون قد حازوا تلك المكانة العُليا التي سنواجهها لدى الثقافات اللاحقة.
إن ما نواجهه عند هذه المرحلة من عتبة الدين هو قوة قدسية غفلة، تنبعث من عالم ما ورائي مجهول، موازٍ لعالم المظاهر الطبيعية المحسوسة المتنوعة الذي يعيشه النياندرتالي. وهذه القوة لا تتجسد في أية شخصية روحية ذات كيان مُعرَّف ومستقل. فلقد اعتقد الإنسان النياندرتالي، وكما تُظهر مخلفات مدافنه، بوجود عالمين متوازيين ومتبادلين في التأثير، يُشكلان وحدةً متكاملة تضم الوجود بأسره؛ فعالم يراه ويعيشه بحواسه، وعالم لا يراه رغم تأثيره فيه وفعاليته في عالمه. وهو يرحل بين هذين العالمين عبر برزخ الموت، الذي يعبره وفق طقوس خاصة، وجدناها متماثلة إلى حدٍّ كبير في كل مكان وُجدت فيه آثار النياندرتال. ولسوف أطلق على هذين العالمين، منذ الآن، اسم عالم اللاهوت وعالم الناسوت، وذلك بصرف النظر عن المدلول الدقيق لهذين المصطلحين في الأدبيات الإسلامية. وفي دراستنا المقبلة للمعتقدات الدينية الإنسانية، سوف نرى أنها تنطلق جميعًا من التعرف على عالم اللاهوت المفارق من جهة، والمنبث عبر عالم الناسوت من جهة أخرى، وأن النشاط الديني على تعدُّد أشكاله عبر العصور واختلاف الثقافات ليس إلا إقامة تواصل بين هذين العالمين.
وهكذا نستطيع الحديث عن «دين نياندرتالي» دون أن نُتعب أنفسنا في البحث عن «آلهة نياندرتالية». ولسوف نتعود منذ الآن على التعامل مع ديانات صغرى أو كبرى لا وجود للآلهة فيها. ولكن يتوجب علينا منذ الآن أيضًا أن نتخلى عن أطُر تفكيرنا الحالية، والطريقة التي ننظر بها إلى الدين من خلال ثقافتنا الخاصة، لنكون أقدر على فهم واستيعاب ثقافات بعيدة ومغايرة، دون أن نُسقط ما نعرفه على كثير مما لا نعرف، وهي آفة يتَّصف بها الفكر الحديث إجمالًا. لقد كان أول سؤال يطرحه الأنتروبولوجيون على أنفسهم وهم يشرعون في دراسة دين شعب بدائي ما، هو: ما هي الآلهة التي يعبدونها؟ فإن لم يجدوا آلهة بالمعنى الذي يفهمونه، ابتكروا لهم آلهة تتفق مع مفاهيمهم الخاصة عن الدين والآلهة. من ذلك مثلًا ما وجده الدارسون الأوائل لدين الهنود الحُمر في أمريكا الشمالية من مفاهيم غريبة عليهم، مثل مفهوم الواكوندا، وهي قوة كونية كبرى لا تتمثل في شخصية إلهية من أي نوع، بل تنبث في الكون وتفعل من داخله، فأطلقوا عليها مصطلح «الروح الكبرى»، واعتبروها بمثابة كبير الآلهة. وما زال المصطلح مستعمَلًا في حقل تاريخ الأديان رغم ضلاله، وتقصيره عن إيصال المضامين الحقيقية لمفهوم الواكوندا.
ولكن، هل عبَّر الإنسان النياندرتالي عن اعتقاده بعالمٍ ما ورائي، بغير ما رأيناه من بقايا مقابره، وكيف عمل على إقامة صلة بينه وبين ذلك العالم؟ لقد ألمحنا سابقًا إلى أن النياندرتاليين لم يُنتجوا أي نوع من أنواع الفن التشكيلي، الذي يمكن لنا من خلاله النفاذ إلى عالمهم الفكري، إلا أن أية عملية ترتيب مقصود لعناصر منتقاة من الوسط الطبيعي لا يتضح هدفها النفعي أو الاستعمالي، يمكن أن تزودنا بمفاتيح مهمة لفكِّ مغاليق الوسط الفكري لأولئك الناس. فلقد وجدنا على سبيل المثال أن غرس قرون الماعز الجبلي حول جسد الميت بطريقة خاصة، هو إجراء يخفي وراءه اعتقادًا باحتواء هذه القرون على قوة من نوع ما. ولكن اكتشافات مثيرة أخرى قد ساعدت على إلقاء ضوء أكثر سطوعًا على المعتقد النياندرتالي.
إن تفسير الوثيقة الأقدم والأكثر غموضًا، اعتمادًا على الوثيقة المشابهة الأحدث منها والأكثر وضوحًا، هو إحدى مشكلات دراسات ما قبل التاريخ؛ فهنا يميل الباحثون إلى إعطاء معنًى للوثائق ذات الطابع الديني، عن طريق مقارنتها بما يشبهها في الثقافات الكتابية اللاحقة، أو في الثقافات البدائية الحديثة. وهكذا تمَّت مثلًا مقارنة رءوس الثيران التي كانت موضع تقديس في بعض مواقع العصر الحجري الحديث، كالمريبط وشتال حيوك، بنظائرها في الحضارة الكنعانية اللاحقة أو الكريتية، وأُسقط مفهوم «سيد الحيوانات» المستمد من ثقافات بدائية حديثة، على التشكيلات ذات الطابع الرمزي في الباليوليت الأوسط، أو الوثائق الفنية للباليوليت الأعلى. يضاف إلى ذلك أن مثل هذه المقارنات، رغم ابتعادها عن تقريبنا من الحقيقة لأسبابٍ شرحناها سابقًا، فإنها تجري انطلاقًا من مفاهيمنا الحديثة التي نعتبرها المعيار الأصح والأمثل. إن مثل هذه المحاكمات والمقارنات هي التي تقود إلى ابتكار مفاهيم مثل «سيد الحيوانات»، والبحث عن «آلهة» الإنسان الأول في تلك الأشكال الحيوانية التي كانت مركزًا لطقوسه.
أما عن التقاليد الدينية المصرية التي حافظت على بعض الملامح الحيوانية لبعض من آلهتها، فهذا أمر سوف نتعرض له في حينه، ولا يشكل موضوع مقارنة مشروعة هنا.
إلى ماذا تشير ترتيبات رءوس الدب في مقامات الباليوليت الأوسط إذَن؟ في تفسيرنا لشتات بقايا قبور النياندرتال، قلنا إن ذلك الإنسان كان أول من دفن موتاه بعناية خاصة وفق طقوس ثابتة متكررة، وصاغ لنفسه، ولنا من بعده، أولى التصورات الدينية. واستنتجنا أن تصوراته تلك كانت تدور حول مستوًى لا مرئي، أو مجال قدسي، ترحل إليه أرواح الموتى بعد مغادرتها للمستوى المرئي المعاين والمعاش، وأسمينا المجالَين أو المستويين للوجود بعالم اللاهوت وعالم الناسوت. وإضافة إلى ذلك فإن كل الظواهر الطبيعية الغامضة وغير المفسَّرة، المواتية منها لحياة الإنسان أو المهدِّدة لها، قد فُسرت على أنها أعراضٌ صادرة عن المستوى الموازي القدسي؛ فالزلازل والبراكين والأعاصير وتتابع الفصول وحركة الأجرام السماوية، ليست إلا ظواهر ناجمة عن فعل قوة غفلة وغير مشخصة تنشأ عن عالم اللاهوت لتؤثر في عالم الناسوت، وتعود إلى مصدرها في دورة دائبة، قوة منبثة في العالم المرئي وليست منه في الآن نفسه. من هنا فقد شعر النياندرتالي بالحاجة إلى إقامة صلة مع ذلك العالم، فعمد إلى إفراد بقع مقدسة يتنزل فيها اللاهوت في عالم الناسوت، أو يرتفع منها الناسوت إلى عالم اللاهوت، وكانت تلك المقامات الأولى في أعماق المغاور، بمثابة مقرات للتمارين الدينية الأولى التي مارسها الإنسان. ولكن الإنسان لا يستطيع أن يركن إلى ملاذ عميق في ظلمة الأرض، متأملًا في ذلك العالم غير المرئي، محاولًا النفاذ إليه أو استجلاب قوته، دونما وساطة أو شفاعة، بل كان لا بد له من التفكير في اللامرئي من خلال موضوع مرئي يرمز إليه ويشير، ويتخذ دور الوسيط بين السماء والأرض، وهذا الموضوع المرئي هو شارة قدسية تجعل الغائب حاضرًا أو المجرد ملموسًا. وبالنسبة إلى الإنسان النياندرتالي كانت هذه الشارة القدسية هي رأس الدب الذي يرمز إلى القوة الكونية التي تربط عالم اللاهوت بعالم الناسوت. وقد تم اختيار رأس الدب تحديدًا؛ لأن النياندرتالي قد رأى في الدب نموذجًا أعلى للقوة في المسرح الطبيعي الذي يعيشه، وهو أصلح ما يكون لتمثيل القوة الشمولية الغفلة السارية في الكون.
ولتقريب مفهوم الشارة القدسية إلى الأذهان، أقول بأن أكثر أشكال التأمل الديني سموًّا وتجريدًا في ديانات الشرق الأقصى، تبدأ مستعينة عادةً بشارةٍ قدسية ما، برمز من هذا العالم يشير إلى ما وراءه في المستوى الآخر، الذي يحاول المتأمل إقامة صلة معه. من هذه الشارات القدسية، التكوين التشكيلي المعروف باسم المندالا. والمندالا هي دائرة ترتسم في داخلها أشكال تنتظم حول المركز في ترتيب ذي دلالة، فيقوم المتأمل بتركيز بصره عليها، ناظرًا من خلالها إلى أعماق نفسه صعودًا نحو العوالم القدسية. فإذا كان طالب الاستنارة في الديانات الشرقية، وهو أقدر الناس طرًّا على تلمس العوالم التجريدية، راغبًا في شارة من هذا العالم تُعينه على عقد صلة مع لاهوته، فإن الإنسان الأول كان أكثر منه حاجة إلى مثل هذه الشارة. وإذا كانت المندالا شكلًا فنيًّا مُعدًّا بعناية فائقة، ويحمل وراءه تاريخًا طويلًا من التجربة الفكرية والروحية، فإن شارة الإنسان الأول كانت هيئة طبيعية غير مصقولة من عالمه ومن أكثر مجالات الطبيعة قُربًا إليه.
إن الشكل الحيواني الذي تم تشخيصه في تكوينات الباليوليت الأوسط، ومن بعده في فنون الباليوليت الأعلى وصولًا إلى العصر الحجري الحديث، قد تم استخدامه في وظيفة رمزية بحتة، ولم يكن بأية حال صورةً لإله معبود؛ إنه رداء لقوةٍ ما ورائية يتم استحضارها من خلاله وعقد صلة معها. أما لماذا قامت ثقافة ما باختيار حيوان معين أو أكثر، من بين عشرات الخيارات المتاحة، فأمرٌ يحتمل أكثر من تفسير، ولسوف أتقدَّم بما يبدو أكثرها إقناعًا عند هذه المرحلة من البحث؛ فالإنسان الأول الذي كان يشعر بوحدة عضوية تجمعه إلى كل مظاهر الحياة على الأرض، كان يعقد صلة روحية مع فصيلة معينة من الحيوان، هي غالبًا موضوع صيده الرئيسي ومصدر غذائه. وكان لهذا السبب يحس معها بنوعٍ من المشاركة، وقيام نوع من «العهد» بينهما لا تنفصم عراه، وهو عهدٌ ملزِم لكلا الطرفين بالدرجة والقوة نفسها. لهذا لم يكن صيده لها وتحويلها إلى غذاء بمثابة فعل عادي دنيوي، بل كان طقسًا له من القدسية ما لطقوس الصلوات والعبادة. من هنا، فإن الشارة القدسية سوف تُستمد من أقرب العوالم إلى الصياد؛ من فصيلة حيوانه المفضل أو رفيقه الروحي؛ فهنا تتحول كل الهيئات المتماثلة لأفراد لا حصر لهم من الطرائد لتندمج في هيئة مثالية واحدة، هي في الآن نفسه تجسيدٌ أسمى للفصيلة وشارة قدسية لعالم اللاهوت.
إن الارتباك الحاصل في مجال البحث عن الحياة الروحية لإنسان العصور الحجرية، ينبع من كوننا نبحث في ديانة أي جماعة بشرية عن إله وعن صورة إله، وتغيب عنا حقيقة أن فكرة الإله لم تكن سوى ناتج متأخر نسبيًّا من نواتج الحياة الروحية للإنسان؛ فقبل الإله المشخص الذي يحمل معه تاريخًا وسيرة حياة ومعالم شخصية واضحة ومستقلة، أحسَّ الإنسان بحضور مجال قدسي، بعالم ألوهي لا تحكمه شخصية معينة فاعلة، بل تفيض منه قوة شمولية تتخلل عالم الناسوت، كل زاوية وركن، كل هيئة حية وجامدة. ولم يكن هنالك في الحقيقة أنسب من الصورة الحيوانية لاستخدامها في الرمز إلى تلك القوة الغفلة؛ فالحيوان لا شخصية له، ولا يتمتع بفردية ظاهرة كشأن الإنسان، والدب المفرد هو دب وحسب، بلا اسم وبلا هوية ولا سيرة ذاتية، أما الهيئة الإنسانية فما إن تُصب في قالب تشكيلي حتى يتم التساؤل عن هويتها وأصلها وفصلها وعلائقها. من هنا يمكن القول بأن ابتداء تشكل الآلهة خروجًا من عالم اللاهوت غير المتمايز، قد ترافق مع حلول الشكل الإنساني محل الشكل الحيواني في التصوير الديني. وقد تمَّت هذه العملية ببطءٍ شديد وعبر عشرات الألوف من السنين، ولم تكن الأشكال الإنسانية الأولى التي عبَّرت عن عوالم الألوهة سوى أشكال مفرِطة في الرمزية، ولا تحمل ملامح شخصية محددة؛ الأمر الذي جعل وظيفتها أقرب إلى الوظيفة الرمزية للشكل الحيواني.
سوف نتعرض في الفصل المقبِل لبداية ظهور الشكل الإنساني مع ظهور التكوينات النحتية العشتارية التي يدعوها الأوروبيون بفينوسات العصر الحجري، ولكن بعد وقفة مطوَّلة مع أولى كاتدرائيات الإنسان العاقل، وأعني بها كهوف الرسوم الجدارية.
(٣) الباليوليت الأعلى وكاتدرائيات الأعماق
فن الكهوف
وفي كتابٍ معروف في تاريخ الفن، سواء في أصله الألماني أم في ترجمته الإنكليزية والعربية، يصل يقين المؤلف بالتفسير السحري حد العجب، وتُثير الرثاءَ أحكامُه الدوغمائية التي يطلقها حول افتقار إنسان الباليوليت الأعلى إلى الحد الأدنى من الشروط اللازمة لقيام دين بالمعنى الصحيح. يقول أرنولد هاوزر مؤلف الكتاب، مقتفيًا إثر رائد الأنتروبولوجية البريطانية تيلور:
تكمُن أهمية هذا التفسير الجديد في أنه قد أخرج دراسة فن الكهوف من الحلقة المفرغة التي تدور فيها النقاشات بين أصحاب المدرسة السحرية وخصومها، وبالدرجة الأولى في كشفه عن المضامين الدينية لفن الكهوف، والوظيفة الروحية لتلك المقامات المقدسة الأولى. ولكن رغم قيام لامنغ ولوروا غورهان برسم خطوط واضحة للطريق الذي ينبغي أن تسير عليه الدراسات المقبلة لرسوم الباليوليت الأعلى، فإن بعض الباحثين قد آثَر عدم الوقوف إلى جانب أيٍّ من النظريات، وذلك في انتظار معلومات قد لا تظهر أبدًا. فالباحثة ب. م. غراند، وهي من تلامذة آبي برويل اللامعين، تؤكد على وجود رسالة ما متضمَّنة في الرسوم التي تركها لنا إنسان الباليوليت الأعلى، قد تكون مفتاحًا لفكر الإنسان الباليوليتي، ولكنها تأسف لعدم استطاعتنا معرفتها. تقول غراند:
إن كل ما سُقته حتى الآن ينفي أمرَين نفيًا قاطعًا، وهما أن يكون فن الكهوف قد هدف إلى إنتاج آيات فنية بدافع الحِس الجمالي وحده ولغرض إمتاع الحواس، وأن يكون ذلك الفن مدفوعًا بالهاجس الغذائي ومتوسلًا بالتقنيات السحرية إلى الإيقاع بحيوانات الصيد؛ فرغم أن رسوم الكهوف قد نُفذت بتقنيات جمالية شارفت حد الكمال، فإن التمتُّع بالجمال لم يكن واحدًا من أهدافها، ناهيك عن كونه الهدف الأساسي أو الوحيد، وإلا لما وُضعت في أعماق يصعب اكتشافها كما يصعب الوصول إليها في حال اكتشاف بواباتها؛ فهل كان إنسان ذلك العصر مضطرًّا لقطع تلك الأنفاق المعتمة في ظلمة دامسة وبيده مصباح زيتي، منحنيًا معظم المسافة أو زاحفًا على أربع، ومُعرِّضًا نفسه للوقوع في المطبَّات المؤذية، ليصل إلى قاعات الرسوم فيقف أمامها معجَبًا مستمتِعًا؟ أما عن الهاجس الغذائي والتقنيات السحرية، فإن الوقائع الإحصائية لا تؤيدها، ولم يعد من الوارد الحديث عنها. وبالمقابل، فإن كل الدلائل تشير إلى أن هذه الرسوم تحتوي على قيم كبيرة تحاول التعبير عنها، وأن هذه القيم هي قيم روحية دينية تتصل بمعتقدات ذلك العصر. قد يكون من الصعب في الفترة الراهنة رسم صورة كاملة عن ديانة العصر الحجري القديم الأعلى، اعتمادًا على ما وصلنا من رسوم كهوفه؛ لأن ذلك سيكون أشبه بمحاولة يقوم بها علماء من الكواكب الأخرى لدراسة ديانة أوروبا في القرن العشرين اعتمادًا على بقايا الكاتدرائيات، أو ديانة الشرق الأوسط اعتمادًا على البنى المعمارية للمساجد الكبرى. ولكن الأمر الذي نراه ممكنًا هو التعرف على المعتقد الديني في خطوطه العريضة، وذلك من خلال ألف باء اللغة الرمزية المشتركة التي استُخدمت في الكهوف كلها. فهنا يتابع الفنان بحثه من خلال أسلوب متماثل ووحدات تشكيلية متكررة وهاجس جمالي وروحي واحد. إن كل شيء يشير إلى محاولة محمومة للتعبير عن قلق ديني وقيم روحية، فما هي؟
تُشكل الهيئة الحيوانية الموضوع الأول والأخير لرسوم الكهوف، أما الهيئة الإنسانية فلم تُصور إلا مرات قليلة جدًّا، وتمَّت معالجتها بسرعة ولامبالاة، وبأسلوب الخطوط السريعة غير المدروسة، حيث تُركت في وضع مُبهَم غير مكتمل. نستثني من ذلك الهيئات المختلطة التي جمعت بين الإنسان والحيوان في مخلوقٍ واحد، وهي أيضًا قليلة جدًّا؛ فهنا صُوِّر الشكل الإنساني وقد استعار أعضاءً لحيوانات أخرى، كما هو الحال في الرسم المدعو ﺑ «ساحر كهف الإخوة»؛ فهذا المخلوق الهجين يقف في انحناءة خفيفة على ساقَين إنسانيتين، غير أن له وجه البومة وقرنَي وعل وذيل حصان وكف دب، ومن خلف عجيزته تبرز أعضاؤه التناسلية كما الأسد. ونظرًا إلى أن هذا الشكل لم يتكرر أبدًا في أي كهف آخر، فإن أي تفسير له سيكون من باب التخرصات التي لا تقوم على أساس، رغم أن أصحاب المدرسة السحرية قد وجدوا فيه كنزًا ثمينًا، وشبَّهوه بسحَرة القبائل البدائية المتنكِّرين في زيٍّ حيواني. وعلى العكس من الشكل الإنساني، فإن الحيوان قد رُسم بعناية بالغة، وبأسلوب حركي حيوي استنفد كل ما تستطيعه تقنيات التصوير من تعبير عن طاقة الحياة في قمة تدفقها وتفجرها، وذلك في أشكال الحيوانات المنطلقة، أو أقصى حالات احتباسها وهي على وشك الانطلاق، وذلك في أشكال الحيوانات الواقفة الساكنة. ورغم أن الأسلوب يتَّسم بالطبيعية والبعد عن التنميط والخطوط الهندسية، إلا أنه تعبيري في صميمه، ويلجأ إلى التحوير المقصود من أجل إظهار مضامين انتقائية؛ فالقيمة الرمزية هنا أمر مؤكد، وهاجس الصيد لا يشغل بال فنَّان الباليوليت أكثر مما شغل بال رسَّام الأيقونات البيزنطية هاجس الولادة والتكاثر وهو يرسم العذراء الحبلى أو العذراء والطفل الإلهي؛ ففي الحالتَين نحن أمام تكوين رمزي يشير إلى ما وراءه، والشكل الحيواني هنا ليس إلا وعاءً لقوةٍ ما ورائية، وجدت تعبيرها الأمثل في طاقة الحيوان المحسوسة على المستوى الطبيعي.
وهناك أمرٌ ملفت للنظر في اللوحات الجدارية، وهو خلو المشهد الحيواني من أية خلفية طبيعية، أو عنصر آخر يمُت إلى عالم الطبيعة بصلة. فلا وجود لشمس أو قمر، ولا لصخرة أو شجرة أو نهر، ولا لأرض تخطو عليها هذه الهيئات الحيوانية، أو أفُق يحدد موقعها، ورغم ذلك فإنها لا تبدو كمن يسبح في الفراغ، بل متمكنة من نفسها ومتوازنة على خلفية غير مرئية. ومع أن الفنان قد عُني عنايةً فائقة في تظليل الكُتل المرسومة، وإبراز معالمها من خلال تداخل النور والظل، إلا أن هذه الكتل ذاتها لا تلقي ظلًّا على الأرض، وكأنها تتحرك في حيز لا مكان فيه للنور والظلام بمفهومهما المتعارَف عليه. كل ذلك يعطينا الانطباع بأننا لسنا أمام مشهد من مشاهد الطبيعة التي نعرفها، وأن الحيوان المُصور ليس جزءًا من الحياة البرية لإنسان ذلك العصر، ولكنه جزء من مجال آخر وعالم موازٍ آخر. إن جو الجلال والروعة الذي يحيط بهذه الثيران والأفراس المندفعة بقوة لا تنتمي إلى هذا العالم، أو التي تتكتل على نفسها منطويةً على قدرة جبَّارة تُوشك على الانفلات، لترتفع بها أمام أنظارنا اليوم إلى مستوى القداسة التي تشع من الأيقونات البوذية أو المسيحية. أما الجو المحيط بها فيعطينا إحساسًا شبيهًا بإحساسنا عندما ندلف لأول مرة إلى كاتدرائية قوطية. من هنا فإن الحديث عن دين خاص بالباليوليت الأعلى، لا ينبع من أي تخيل أو إسقاط، وإنما ينبع من هذه الأماكن نفسها، ومما توحيه للإنسان العاقل اليوم، الذي لا يختلف في أساسيات بنيته النفسية والفكرية عن الإنسان العاقل الباليوليتي.
لقد كان إنسان الباليوليت الأعلى في هذه البُقع القصية المظلمة، يبحث عن تواصل مع المجال الآخر، مع عالم اللاهوت، من خلال شارات قدسية تربط بين العالمَين. وكما فعل إنسان الباليوليت الأوسط، فقد اختار إنسان الباليوليت الأعلى شارته المقدسة من العالم الحيواني، لا ليعبدها بذاتها، بل ليستحضر من خلالها قوة العالم الموازي. وتحوَّلت كهوف الدب المتواضعة، التي اتخذها النياندرتال مقامات مقدسة، إلى كاتدرائيات نحتتها الطبيعة في الأعماق على حدود أوقيانوس المظلمة، وأقام فيها الإنسان العاقل نقاط تواصل مع المجال الآخر، من خلال هيئات حيوانية تلخصت بشكل رئيسي في الثور والبيسون والحصان. إن الجو فوق الطبيعاني الذي يملأ كهوف الرسوم الجدارية، والذي ما زلنا إلى اليوم نستشعر حضوره، قد خلقه إحساس الإنسان الباليوليتي الصافي بعالم اللاهوت؛ بذلك المجال القدسي الذي ينبث في الطبيعة الناسوتية، مثلما تنطلق هذه الحيوانات الحرة مُعبرةً عن قدرة طاغية لا حدود لها.
ومما يؤكد الأغراضَ غير النفعية للكهوف، أن كل ما فيها يشير إلى أنها لم تُستخدم قط لأي غرض دنيوي؛ فهنا لا وجود لعظام الطرائد التي يعثُر عليها الآثاريون عادةً في الكهوف السكنية، ولا أثر لنار المواقد، ولا دلالة على بقايا دفن. كل ما أمكن العثور عليه هو بقايا من أدوات الرسم مثل أقلام المغرة الحمراء، وبعض المصابيح الزيتية التي كان الفنان يرسم على ضوء فتيلها الباهت المتراقص. أما عن الطقوس التي كان يمارسها هنا، فأمر لن يمكننا معرفته أبدًا. ربما كان يتأمل الشارة القدسية التي تكشف أمام عينَيه القوة السارية، أو يقوم بحركات درامية من شأنها استمالة هذه القوة والتأثير عليها لتحقيق أغراضه، أو يأتي إليها بالجيل الجديد من الفتيان البالغين لتلقينهم أسرار الحياة الروحية للجماعة، وهم محاطون بأنسب جو لمثل هذه العملية. فإلى جانب الرسوم الجدارية المشبعة بالجلال والمشعة بالروعة، فإن الكهف في حد ذاته هو مكان موحٍ بكل المشاعر والأحاسيس غير الدنيوية، والرحيل إلى تلك الأعماق التي تكاد أن تلامس رحم الأرض، يصحبه سفرٌ روحي يُودِّع معه المتعمقُ داخل الأنفاق صخبَ الحياة، ويقترب من بؤرة اتصال بعوالم سرانية غير منظورة. لقد كان إنسان الحضارات العليا بما اكتسبه من تقنيات معمارية قادرًا على تصوُّر وبناء هياكل كبرى، تستقطب أجواؤها التي يصطنعها معماريًّا انفعالاته الدينية وتعكس إحساسه بالمجال القدسي. أما إنسان العصور الحجرية، فقد كان يبحث عن هياكله الطبيعية في الأماكن التي تشع منها رهبة لا تصطنعها قباب أو سلاسل عقود عالية. ولعله كان يرتاد مثل هذه الأماكن بشكل عرَضي وغير منتظم عندما فرضت عليه أجواؤها فكرة الرسوم الجدارية، وتحوَّلت تدريجيًّا إلى مقامات مقدسة.
إن أول الأفكار الدينية قد تولدت عند الإنسان الأول من إحساسه بحضور بُعدٍ آخر للوجود يتخلل عالمنا ويفارقه في الآن نفسه. ويُعبر هذا البعد فوق الطبيعاني عن نفسه في الطبيعة، من خلال فيض قوة مقدسة تصدر عنه وتنبث في كل مظهر طبيعاني، وهذه القوة هي أقرب إلى السيالية الطاقية التي تتجلى آثارها بشكل مادي وتتبدى تحت العديد من الأقنعة، وفيها نجد تفسير كل حركة في الكون وكل طاقة ظاهرة آثارها. وهكذا فنحن هنا أمام مفهوم ديني ذي شقَّين؛ فهناك أولًا البعد القدسي للوجود، عالم اللاهوت المُوازي لعالم الناسوت، وهناك قوة عالم اللاهوت التي تجمع وتوحد بين العالمَين. فإذا أخذنا اكتشاف لوروا غورهان عن جدلية الرموز الأنثوية والذكرية بعين الاعتبار، قلنا إن القوة السارية في العالم الفيزيائي هي ذات طبيعتين؛ طبيعة مؤنثة وطبيعة مذكرة، وإن الجدل بين هاتين الطبيعتين هو الذي يعطي القوة السارية فعاليتها. وهذا ما يضعنا أمام النموذج الأصلي لتصورات القوة في بعض الحضارات الكبرى اللاحقة، وخصوصًا الحضارة الصينية. لقد وجد الفكر الصيني أن في الكون محرِّكًا أولًا قوامه قوتان متعارضتان ومتعاونتان في آنٍ معًا، هي قوة اﻟ «يانغ» الموجبة، وقوة اﻟ «ين» السالبة، ورأى أن كل مظهر مادي ليس إلا تفاعلًا بين كميات محددة بدقة من هاتين القوتين. وهذه الفكرة في الحضارة الصينية متجذرة في تاريخها البعيد، وعبَّرت عن نفسها في الفكر الديني والدنيوي منذ مطالع التاريخ الصيني المعروف.
ولكن، هل عقلنَ الإنسان الأول ما ننسبه إليه من نظرات وأفكار؟ وهل قام بتداولها بالطريقة التي نصوغها هنا؟ والجواب على ذلك هو أن هذه الخبرات الدينية الأولية سابقة لكل تفكر وتدبر في العالم، والمواجهة بين الإنسان وعالم اللاهوت لا تنجم عن تجربة عقلية؛ لأنها في الأساس خبرة وجودية تفرض نفسها عليه بسبب استعداد فطري لتلقي الأثر الدينامي للمجال الآخر، بعيدًا عن المفاهيم والصياغات العقلية. من هنا، فإن ناتج المواجهة يتحول إلى اختبار نفساني لوحدة وتكامل الوجود المدرك وغير المدرك، وهي وحدة لا تُنبي عن نفسها للتأمل الذهني بل للعواطف والمشاعر. أما التعبير عن هذا الاختبار النفسي، فإنه قد تم ولا شك من خلال صياغات شتى؛ فلقد استخدم الإنسان الأول كما رأينا إمكانات الفن إلى أقصى مدًى، وبطريقة قلما عُرفت لاحقًا، من أجل توصيل ذلك الإحساس بالمجال القدسي. أما الطقوس التي كانت تجري في كاتدرائيات الأعمال تلك، وأما الصياغة التواصلية للمعتقدات، فأمور لا يمكن حتى التفكير بإعادة بنائها.
الدُّمى العشتارية والقوة المؤنثة
لم تكن رسوم الكهوف هي الشواهد الوحيدة على التصورات الدينية للباليوليت الأعلى؛ فإلى جانب هذه الأعمال الفنية التي حُفظت في حرزٍ حريز، فقد عمد الإنسان الأول إلى إنتاج أعمال فنية من نوع آخر، عُثر عليها في مواقع عمله وسكنه تمثَّلت في الدُّمى الحيوانية، وفي الدُّمى الأخرى الأنثوية ذات الشكل البشري، وفي منحوتاتٍ بارزة على الصخر تحت سقوف صخرية مُضاءة بنور الشمس.
إن ما حاول فن الدُّمى العشتارية أن يستحضره أمام عين المشاهد، شبيه بما حاول استحضاره فن الكهوف في رسومه الحيوانية؛ فهو ينقل إحساس إنسان الباليوليت بعالم اللاهوت وقوته السارية في عالم الناسوت، رغم حلول الشكل الشبيه بالإنساني محل الشكل الحيواني. إن الشكل الشبيه بالإنساني هنا يحقق الغاية نفسها التي للشكل الحيواني؛ فالأنثى المرموزة الغائبة الشخصية، المحرومة من الملامح التي تدل على هيئة صاحبها، ليست شخصًا بعينه؛ إلهًا ما أو كائنًا روحانيًّا ما ورائيًّا، بقدر ما هي شارة مجردة. وبكلمة أخرى، إننا أمام تعبير عن الألوهة لا أمام رسم لصورة إله. لقد كان الفنان الباليوليتي، بقدراته الفنية التي أثبتها في رسم الحيوان، قادرًا بلا شك على تصوير ملامح الوجه الإنساني على أكمل وجه، ولكنه لم يفعل، بل لقد آثر أحيانًا إلغاء الرأس برمته ليكون عمله أقدر على صرف عين الناظر وقلبه عن تصور أية شخصية محددة، والتركيز على الفكرة المجردة للألوهة غير المشخصة، من خلال رسالة بصرية ذات شيفرة خاصة بذلك العصر.
إن تعثرنا في فهم الرسائل البصرية للعصور القديمة، نابع من كون حضارتنا هي حضارة لغة متطورة وكتابة متطورة. فنحن لكي نفهم أمرًا ما، يجب أن نكون قادرين على شرحه بالكلمات وعلى تلقيه بالكلمات، وبأكبر قدر من الوضوح والتفصيل. وهذا من شأنه أن يقيم حاجزًا بيننا وبين أنماط التعبير التصويرية التي تركتها لنا ثقافات ما قبل الكتابة، عندما لم تكن اللغة قد بلغت شأوًا من التطور يجعلها قادرة على التعبير عن لطائف المجردات. على أن إدراك الفرق بين الأسلوبين التوصيليين من شأنه تقديم عون كبير لنا على التواصل مع الماضي السحيق؛ فالرسالة البصرية ليست مطردة؛ أي إنها لا تكشف عن محتواها بشكل متتابع وإنما دفعة واحدة، أما الرسالة الكلامية فتكشف عن محتواها بشكل تفصيلي مترابط الحلقات خطوة فخطوة. من هنا، فإن فهم الرسالة الكلامية (= اللغوية) يأتي تباعًا، أما فهم الرسالة البصرية فيتم بإدراك الكل دفعة واحدة؛ أي إنه لا يتأتى عقليًّا بل شعوريًّا.
رغم وحدة الرسالة المتضمنة في الرسوم الجدارية للكهوف السفلى، وفي الدُّمى العشتارية، إلا أن الوظيفة الدينية لكل شارة من هاتين الشارتين مختلفة تمامًا عن الأخرى؛ فرسوم الكهوف النائية لم تكن بمتناول الأفراد في كل وقت وحين، وأغلب الظن أنها كانت مركزًا لطقوس دورية سنوية، أو لمناسبات طقسية متباعدة ذات طابع تكراري، مثل طقوس العبور والتلقين. أما الدُّمى الأنثوية الصغيرة والخفيفة الحمل، فلا بد أنها كانت جزءًا من أدوات طقسية تُستخدم في شعائر ذات طبيعة مختلفة تمامًا عن شعائر الكهوف، وربما تعلقت بمفاهيم الخصب بشكل أساسي، خصوصًا وأن شكلها المغزلي يدل على أنها كانت تُغرس في الأرض بوضع عمودي، ضمن سياق طقسي، يستهدف إحلال الخصب في الأرض التي تفيض بثمارها على ذلك الإنسان اللاقط وبعشبها على حيوانات صيده، أو تُستخدم في طقوس أخرى تستهدف التأثير في القوة السارية لتحصيل منافع أخرى منها، أو لاستبعاد أذاها؛ ذلك أن القوة وفق فهم الإنسان الأول لها ليست كائنًا ذا إرادة وتدبير، بل سيالة غفلة تسري في الطبيعة، وتفعل فيها دونما حِس أخلاقي بالخير والشر بمفهومهما الإنساني المعتاد.
ولكن، هل تصورت ثقافة الدُّمى العشتارية القوة على أنها قوة أنثوية صرفة، في مقابل ثقافة الكهوف التي رأت في القوة جدلية أنثوية ذكرية؟ قد يصعب البتُّ في هذا الرأي الآن، ولكنه مرجَّح نظرًا إلى طغيان الدُّمى الأنثوية على غيرها من الدُّمى الحيوانية أو الذكرية، التي لم يتم تنفيذها بنفس العناية والإتقان. يضاف إلى ذلك أننا في الوضع الحالي للوثائق لا نملك معلومات إحصائية مؤكدة حول العدد النسبي لدمى كل نوع حيواني، ولا دراسة تماثل دراسة لوروا غورهان حول قيمها الرمزية مقابلة بالقيمة الرمزية للشكل الأنثوي؛ إلا أن بعض المقارنات مع الثقافات العليا اللاحقة، التي رأت في القوة جوهرًا أنثويًّا صرفًا، مثل الثقافة الهندية، قد يلقي ضوءًا على هذه المسألة؛ فالديانة الهندوسية التي تمتلئ معتقداتها بالآلهة والإلهات من كل نوع، يمكن في النهاية تلخيص معتقدها الأساسي إلى الإيمان بقاع قدسي للوجود، هو المطلق الكلي المدعو شيفا، وبقوة أنثوية تصدر عنه تُدعى شاكتي، وهذه القوة هي مصدر كل نشاط وفعالية على المستوى الطبيعي. ولسوف يكون لنا وقفة مطولة مع هذا المعتقد لاحقًا.
عند هذه المرحلة من دراستنا، أعتقد أن تفريقنا الأساسي بين الإله وبين الألوهة أو المجال القدسي قد غدا واضحًا في ذهن القارئ؛ فالإله كائنٌ فوق طبيعاني، يتمتع بشخصية ذات ملامح واضحة، ووعي وإدراك مستقلين، وإرادة حرة، ورغبات وأهواء خاصة به، وله سيرة حياة، وربما تاريخ ميلاد أيضًا، وقد يموت كما يموت البشر. ورغم أن الآلهة تنتمي إلى بعدٍ آخر للوجود، إلا أن حياتها متداخلة مع حياة الناس بشكل لا تنفصم عراه، حتى إن معاشها يعتمد على ما يقدمه إليها البشر من قرابين، وغالبًا ما تسكن في مكان قريب إليهم مثل قمم الجبال العالية. من هنا، فإن علاقة البشر بالآلهة هي علاقة استمالة واسترضاء من قِبل البشر، وعطف ومِنَّة من قِبل الآلهة؛ فالبشر يقيمون لها المعابد، ويرفعون الصلوات، ويتضرعون إليها، ويتضعون أمامهم، وقبل كل شيء يُقربون إليها القرابين من أفضل حيواناتهم أو محاصيلهم، بل ربما عمدوا أيضًا إلى الأضاحي البشرية، وبالمقابل فإن الآلهة تلبِّي لهم مطالبهم وتمنُّ عليهم على قدر تقربهم. أما المستوى القدسي، فهو البُعد غير المرئي للوجود المادي، والقاع الماورائي الذي يستند إليه عالم الظواهر المرئية الذي يعيش فيه الإنسان؛ إنه مجال لا شخصي، ولا يمكن لأية شخصية بالغًا ما بلغ تنزيهها أن تُعبِّر عنه. والإنسان لا يدخل مع هذا المجال في علاقة أنا-أنت كما يفعل مع الآلهة، بل في علاقة أنا-هو؛ ذلك أنه اﻟ «هو» المجهول، والحضور الشامل الغامر رغم غيابه الظاهر، إنه تلك الوحدة اللامتمايزة التي يصدر عنها كل متمايز ويذوب، في الآن نفسه. و«هو» فقط يكون بلا إرادة موجهة، بلا رغبات، بلا عواطف وأهواء، بلا روابط، بلا تاريخ وسيرة حياة، يعلن عن حضوره في قلب الإنسان بلا وسيط أو شفيع، ويعلن عن فعاليته في الطبيعة من خلال قوته السارية فيها. وقوة المجال القدسي المنبثة في المادة الدنيوية، هي طاقة حيادية لا تلتزم المعيار الخلقي، بمعنى أنها تفعل الخير كما تفعل الشر، تمامًا كالتيار الكهربائي الذي يشعل المصباح، وفي نفس الوقت يحدث صاعقة مدمرة وحريقًا. من هنا فإن علاقة الإنسان بهذه القوة السارية، لم تكن علاقة استمالة واسترضاء لإرادة واعية، بل علاقة مؤثر بمتأثر. والمؤثر هنا هو الإنسان، أما المتأثر فهو القوة الغفلة التي لا تتمتع بإرادة واعية، وإنما تخضع للتوجيه في مسارات تتحكم بها تقنيات طقسية معينة، يمكن أن تحولها لصالح الإنسان أو تدفع أذاها عنه. أما عن تقنيات التأثير هذه، فرغم أننا لا نعرف عن أشكالها الأولى شيئًا، إلا أننا نستطيع تقريبها من تقنيات السحر الذي يقوم على مبدأ مشابه؛ أي على وسط أو قوة غفلة تربط بين الأشياء وتساعد على نقل الفعل والتأثير المتبادل فيما بينها. وفي الحقيقة، فإن الدراسات الحديثة لتقنيات السحر ومبادئه تجعلني أعتقد بأن السحر إنما يقوم على المعتقد الباليوليتي نفسه، ولكنه قد ضاع عن أصله، ولم يبقَ منه سوى طقوس لا نستطيع تبين معتقدها إلا بصعوبة بالغة.
في الممارسات السحرية كما عرفناها عبر التاريخ المكتوب، وكما هي شائعة لدى القبائل البدائية، لدينا جملتان فيزيائيتان تتبادلان التأثير في بعضهما عن بُعد، ولكن من خلال وسط غامض يربط بينهما. أما الجملة الأولى فمصطنَعة؛ أي أنها مؤلفة من بضعة أفعال أو أحداث نقوم بها بشكل قصدي، لغاية التأثير في الجملة الثانية التي تؤلفها أحداث طبيعية مترابطة. ولنأخذ مثالًا على ذلك صناعةَ المطر، وهو مصطلح أنتروبولوجي حديث يشير إلى الطقوس التي يقوم بها ساحر القبيلة لجلب الأمطار في مواسم الجفاف. إن سقوط المطر في معتقدات الأديان التي تؤمن بالآلهة المشخصة، هو جملة فيزيائية مؤلفة من أحداث يمسك بزمامها إلهٌ موكَّل بالمطر، حيث يخرج هذا الإله من مسكنه في قمم الجبال العالية، فيركب الغيوم التي تُكلل مقره، ثم يوجهها حيث يشاء ليسقي بها أرضًا دون أخرى. أما في المعتقدات الدينية الخلوة من الآلهة، فإن التأثير في الجملة الفيزيائية التي تنتهي بسقوط المطر يتم باصطناع حركات وأصوات وإيقاعات معينة بينها تقليد لصوت هطول المطر، فتتصل هذه الأفعال المصطنعة بالجملة الأخرى عبر وسط واصل بينها ويهطل المطر. وهذا الوسط الواصل بين الجملتين هو القوة السارية التي توجهت الطقوس إليها بالدرجة الأولى وحفزتها على إتيان الفعل. وهذا ما ندعوه اليوم بالطقس السحري.
لقد دُرست أمثال هذه الطقوس السحرية على أوسع نطاق من قِبل علماء الأنتروبولوجيا والإثنولوجيا، وصُنفت في زمر رئيسية وزمر ثانوية؛ من سحرٍ تعاطفي إلى سحرٍ تشاكلي، إلى آخر ما هنالك من تصنيفات. ولكن هؤلاء الباحثين لم يُعنوا بالتفتيش عن المعتقد الذي تقوم عليه هذه الممارسات، بل ساروا مع جيمس فريزر الذي قال بأن الفكر السحري يرى في الطبيعة اطرادًا في الأحداث لا يحتاج إلى وساطة الآلهة. والحقيقة أن مؤسسة السحر بكاملها تقوم على مفهوم القوة السارية، معتقد الإنسان الباليوليتي، الذي راكم الزمان فوقه غبار النسيان، ولم يبقَ منه سوى طقوس معلقة في الفراغ.
انظر أيضًا ترجمة الأستاذ قاسم طوير للكتاب أعلاه تحت عنوان الوحدة الحضارية لبلاد الشام بين الألفين التاسع والثامن قبل الميلاد، ص١٣٧.
انظر: C. G. Starr, Early Man, Oxford, 1973, p. 18.
A. Leroi Gourhan, Les Religions de la Prehistoire, Presses Universitaires de France, Paris 1964.
انظر أيضًا الترجمة العربية تحت عنوان: الفن والمجتمع عبر التاريخ، ترجمة فؤاد زكريا، القاهرة ١٩٦٩م، ص١٧–١٨.