الفصل الثالث
اللاهوت والناسوت في معتقد النيوليت
مع نهاية عصر الباليوليت الأعلى، تتوقف معظم أنواع الفنون التشكيلية في أوروبا فيما
يبدو، وكأنه عصر انحطاط شامل لتلك الثقافة. وذلك في الوقت الذي أخذ فيه مركز الثقل
الحضاري يتجه نحو مناطق شرقي المتوسط، التي كانت تتأهب للدخول في عصر حاسم من عصور
البشرية هو العصر الحجري الحديث، أو النيوليتي (Neolithic).
لقد شهد العصر النيوليتي، الذي ابتدأ مع أوائل الألف الثامن قبل الميلاد، جملةً من
التحولات الجذرية العميقة الأثر في مجرى التاريخ الإنساني؛ فخلال هذا العصر استقر
الإنسان الصياد في الأرض وبنى أولى القُرى في تاريخ البشرية، وأخذ بإنتاج الغذاء بدلًا
من جمعه معتمدًا على الزراعة وتأهيل الحيوان، مبتدئًا بذلك حضارتنا الحديثة. وقد قدمت
لثقافة العصر الحجري الحديث (النيوليتي)، ثقافة ازدهرت قبلها في فلسطين وأواسط سوريا،
ابتداءً من الفرات الأوسط وحتى وادي العربة، عُرفت بالثقافة النطوفية، نسبةً إلى وادي
نطوف بفلسطين، أول مواقعها المكتشَفة، واستمرت خلال الألفين العاشر والتاسع قبل
الميلاد. لقد قدمت لنا الثقافة النطوفية أول الدلائل على الاستقرار في الأرض وسكن
المواقع الثابتة في العراء بدل الكهوف. وكان الدافع الأول للاستقرار هو الاستراتيجية
الغذائية التي اتبعها هؤلاء النطوفيون، والتي اعتمدت على الجمع المكثف للحبوب البرية
التي كانت تنمو بكثرة في مناطقهم، وذلك إضافة إلى صيد الحيوانات.
لم تُنتج الثقافة النطوفية فنًّا تشكيليًّا
راقيًا، يمكن مقارنته على أي صعيد بفن الباليوليت الأعلى، وذلك إضافة إلى قلة الأعمال
التشكيلية التي تم العثور عليها، والتي كانت المقابر مصدرها الأساسي. ومع ذلك، فإن هذا
القليل يكفي لمتابعة استقصائنا للأيديولوجية الدينية للعصور الحجرية في منعطفها الجديد.
إن جرد الأعمال الفنية النطوفية التي عُثر عليها حتى
الآن، يُظهر استمرارًا للتقليد الباليوليتي في تصوير الأشكال الحيوانية، إلا أن الرسوم
الجدارية غائبة تمامًا، وكل ما لدينا عبارة عن دُمًى حيوانية بصورة رئيسية. ويبدو أن
الحيوانات المصورة هنا كانت موضوعًا لاختيار أيديولوجي كما هو الحال في الباليوليت
الأعلى؛ لأن ما صوَّره النطوفي من الأنواع الحيوانية أقل بكثير من الحيوانات التي حفلت
بها بيئته الطبيعية، ومن تلك التي اعتمد عليها في صيده واستراتيجية غذائه. فلقد أهمل
النطوفي تمامًا الثور والخنزير البري، وأكد بشكل رئيسي على الغزال والأيل الأسمر. وإذا
كان الغزال من الطرائد المفضَّلة عند النطوفيين ومتوفرًا بكثرة في مناطقهم، فإن الأيل
الأسمر كان من الحيوانات النادرة، ومع ذلك فقد صُور إلى جانب الغزال وإن بنسبةٍ أقل.
هذا ويظهر الدور المتميز للغزال في الوسط الفكري للثقافة النطوفية من خلال التقاليد
الجنائزية، ومن خلال اقتران صورته بالنشاطات الغذائية المتعلقة بجمع الحبوب البرية؛ فقد
تكرَّر ترافق عراقيب الغزلان مع الهياكل العظمية في عدد لا بأس به من القبور، وربما قام
الحصان مقام الغزال في هذا الطقس الجنائزي المُلفت للنظر، وذلك رغم عدم عثورنا على صور
للحصان من العصر النطوفي. أما عن اقتران الغزال بنشاط جمع الحبوب البرية، فقد تم العثور
على العديد من المناجل الصوانية التي زُينت قبضاتها بصور مجسمة للغزال، وهذا ما ينشئ
علاقةً رمزية بين الصيد وبين الحصاد من خلال هيئة الغزال التي ربما رمزت إلى قوة
الخصوبة إجمالًا.
١ أما عن التمثيلات الإنسانية فنادرة جدًّا، إضافة إلى كونها منفَّذة بأسلوب
اختزالي يجعل من الصعب تحديد جنسها، على عكس الدُّمى العشتارية للعصر الباليوليتي
السابق. غير أن ما يلفت نظرَنا هو زيادة عدد الدُّمى الإنسانية في موقع واحد هو عين
الملاحة بفلسطين. ولما كان هذا الموقع هو أكثر المواقع النطوفية قُربًا إلى القرى
المستقرة، فإن استنتاج ترابط الدُّمى الإنسانية في هذا العصر مع درجة الاستقرار له ما
يسوغه.
٢ خصوصًا وأن ظاهرة زيادة المساحة المخصصة للهيئة الإنسانية في الفن
التشكيلي، كلما تقدمنا في العصر النيوليتي، هي ظاهرة مؤكدة.
إنه لمن المغري حقًّا لمن يحاول تفسير الصور المقدسة لعصرٍ ما، أن يبحث في الإطار
الطبيعي الذي انتُزعت منه موضوعات هذه الصور، وعن موقعها في اقتصادياته واستراتيجياته
الغذائية. ولكن العلاقة بين الإنسان وموضوعات تصويره ليست دائمًا على هذه الدرجة من
البساطة؛ فقد يعكس التركيز على الغزال مثلًا في العصر النطوفي وضعًا اقتصاديًّا يعتمد
على صيد الغزال، وهو ما تؤكده الكميات الكبيرة من عظامه في المواقع المكتشَفة، غير أن
قيام الإنسان النطوفي بتصوير حيوانات أخرى لا تدخل في نظامه الغذائي، يدل على أن الوسط
الطبيعي والعلاقة النفعية مع الحيوان لا يقدمان إلا مدخلًا من عدة مداخل محتملة، وأن
الخيار الأخير للحيوان الذي تتحول هيئته الخارجية إلى شارة قدسية هو خيار فكري بالدرجة
الأولى، وعلينا أن نبحث عنه في المجال الاعتقادي لا في المجال الطبيعي. ولا أدل على ذلك
من علاقة الإنسان بالثور البري منذ مطلع العصر النيوليتي.
فمنذ بدايات العصر النيوليتي في تل المريبط على الفرات الأوسط بسوريا، وهو من المواقع
الرائدة للثقافة النيوليتية، لدينا دلائل واضحة على تقديس الثور البري، وذلك في وسط
قروي مستقر يتهيأ للاعتماد على الزراعة في اقتصاده. ففي بعض البيوت التي تتميز ببنية
معمارية خاصة (تشير إلى إفرادها كمقامات مقدسة)، أقيمت مصاطب طينية عُرض في وسطها وبشكل
مقصود عددٌ من جماجم الثيران البرية، بهيئتها الطبيعية ودون إضافات فنية تزيينية،
وتُشكل هذه الجماجم مع ألواح كتف مغروزة بشكل أفقي تكوينًا متماسكًا معروضًا للناظرين
دفعة واحدة. وفي إحدى الحالات كان رأس الثور مفككًا إلى قطع معروضة في صفوف، إضافة إلى
القرنين الكبيرين اللذين تم عرضهما على التوازي. إن هذه الترتيبات المقصودة التي لا
تنبئ عن قيمة استعمالية معينة، والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل العظمي الحيواني،
تعكس ولا شك مدلولات أيديولوجية معينة، سوف نتلمس استمرارها في مواقع نيوليتية أخرى.
٣ إن رأس الثور هنا قد صار مركزًا لإجماع روحي واختيار أيديولوجي يتخطى شكله
الطبيعي؛ ليغدو رمزًا للقوة السارية في الطبيعة، كما أن هذا الاختيار الأيديولوجي لم
يكن مدفوعًا بضغط من الوسط الطبيعي قدر ما كان مدفوعًا بضغط فكري من نوع خاص، والدليل
على ذلك الضغطُ الفكري الحاضر في بقية الوثائق المتوفرة لدينا.
إن علم البقايا الحيوانية التي تم الاستعانة برأي خبرائه في موقع تل المريبط، يؤكد
أن
الفصيلة البقرية كانت نادرة جدًّا في تلك المنطقة خلال السوية الأثرية موضع البحث
(أواخر الألف التاسع)، وأن الفصيلة المهيمنة عدديًّا كانت فصيلة الغزال الذي اصطاده
إنسان المريبط أكثر من غيره إبان تلك المرحلة، أما البقر البري فلم تبدأ أعداده
بالتزايد إلا بعد خمسمائة عام على الأقل من قيام إنسان المريبط بتقديس رءوسها؛ الأمر
الذي يدل بوضوح على أن الثور قد لعب دورًا أساسيًّا في أيديولوجيا المريبط قبل فترة
طويلة جدًّا من هيمنة دوره الغذائي، وهذه واقعة على درجة كبيرة من الأهمية؛ لأنها تُظهر
أن الدين ليس مرآة تعكس الأوضاع المادية والعلاقات الاقتصادية. وبناءً على هذه الواقعة،
يمكن الاستنتاج مع بعض التحفُّظ أن الموقف الفكري من حيوان ما ربما كان الدافع إلى
الدخول معه في علاقة نفعية، وأن تقديس ذلك الحيوان ليس نتيجة لكونه الأكثر تكرارًا في
لائحة الصيد، بل قد يكون العكس هو الصحيح؛ أي أن يساعد التقديس على خلق شروط نفسية
تُشجع على صيد الحيوان؛ ومن ثَم العمل على تأهيله مستقبلًا.
٤
إضافةً إلى رءوس الثيران التي ساعدتنا على تلمس الوسط الفكري لهذا الموقع الرائد
في
الثقافة النيوليتية، فإن تل المريبط قد أنتج لنا الأمثلة الأولى على فن الدُّمى
العشتارية في العصر النيوليتي، وذلك منذ بدايات الألف الثامن قبل الميلاد؛ أي بعد
انقطاع كامل لهذا النوع من الفن يقارب خمسة الآلاف عام، سواء في أوروبا أم في المشرق
العربي الذي لم يعرف فن الدمى من قبل. وقد اتبع الفنان هنا الأسلوبَين اللذين عرفناهما
في الباليوليت الأعلى؛ وهما الأسلوب التبسيطي المغرِق في الرمزية الذي يكتفي بالإشارة
إلى الهيئة الأنثوية دون التوكيد على تفاصيلها، والأسلوب الثاني الواقعي الذي يعتمد
تضخيم مواطن الخصوبة بشكل مبالغ فيه. ورغم أن بعض الدمى قد نُفذ في وضعية الوقوف إلا
أن
معظمها كان يتخذ وضعية القعود على عجيزة ضخمة، بحيث تتخذ الخطوط العامة للهيئة الأنثوية
شكل المخروط المستقر، وهو التقليد الذي ساد فيما بعد في جميع مواقع الثقافة النيوليتية.
٥
ويبدو أن الفارق بين الشكل المغزلي الباليوليتي والشكل الهرمي النيوليتي للدمية
العشتارية، يعكس اختلافًا في الوظيفة الطقسية. فلقد استنتجنا سابقًا أن الدمية المغزلية
المستدقة الطرفين للعصر الباليوليتي، كانت تُغرس في الأرض في سياق طقوس قد تكون ذات
علاقة بالخصب. أما الدمية المخروطية المستقرة على عجيزتها، فيبدو أنها كانت مُعدة لأن
توضع فوق المحاريب أو المذابح في المقامات المكرسة للطقوس الدينية؛ لأن معظم هذه الدمى
النيوليتية قد وُجدت قُرب هذه المقامات. بشكل خاص، فقد أعطتنا المواقع النيوليتية
الفلسطينية عددًا من هذه المقامات ذات الوظيفة الدينية الواضحة، خصوصًا في موقعَي أريحا
والمنحطة. إن أحد المقامَين اللذين كشفت عنهما المنقبة كاثلين كينيون في أريحا، يكشف
عن
تصميمٍ رائد للمقامات الأخرى المكتشَفة في العصور التاريخية، ويتميز بوجود تجويف طولاني
على هيئة محراب في وسط الجدار الشمالي، في أسفله قاعدة من حجر بركاني، وُجد قربها عمود
من الحجر نفسه يبدو أنه كان منتصبًا عليها. وقد شبهت المنقبة هذا العمود الحجري بالعمود
الذي أقامه الكنعانيون في معابدهم في المناطق نفسها بعد بضعة آلاف تالية من السنين،
والمعروف باسم المازيبوث
Masseboth.
٦ ولعل المقارنة مع المقامات الدينية التي اكتُشفت في أوروبا النيوليتية،
تعطينا فهمًا أفضل لطبيعة الوظيفة الطقسية للدمى الأنثوية المخروطية، علمًا أن العصر
النيوليتي الأوروبي قد جاء متأخرًا عن النيوليت المشرقي بحوالَي ١٥٠٠ عام. وفائدة
المقارنة تأتي بالدرجة الأولى من كون الهياكل النيوليتية الأوروبية قد اكتُشفت في حالةٍ
أسلم من سابقاتها في بلاد الشام، واحتفظت بمعظم أثاثها الثابت الداخلي. وسأتعرض فيما
يأتي باختصار لواحد منها يفي بغرض المقارنة، وهو من موقع ساباتينوفكا بمنطقة
مولدافيا.
يرجع موقع ساباتينوفكا إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وهو عصر ازدهار الثقافة
النيوليتية الأوروبية. وقد تم الكشف في هذا الموقع عن مقام ديني مستطيل الشكل تبلغ
مساحته حوالَي ٥٧ مترًا مربعًا، وللبناء باب جانبي يقع على أحد الضلعين الطويلين
للمستطيل، فُرشت الأرض أمامه بألواح حجرية، أما الأرضية الداخلية فقد فُرشت بالطين
المجفف. حوالَي منتصف المسافة الطولية إلى اليمين، هناك فُرن كبير وُجدت عند قاعدته
دُمية أنثوية، يليه عدد من الأوعية بينها وعاء مليء برماد وعظام ثور محروق، وإلى يسار
وأمام الفرن هناك مجمرتان ربما لغرض حرق البخور. أما في صدر البناء فهناك منصة طينية
(تقوم مقام المذبح في المعابد اللاحقة) أبعادها ٦ × ٢٫٧٥م، عليها ست عشرة دمية أنثوية
في وضعية القعود، منفذة بأسلوب نمطي رمزي موحد. فالساقان مضمومتان وممدودتان وتنتهيان
معًا بطرف مستدق، والعجيزة منتفخة ومضخمة، أما الصدر فضامر، والرأس غائبٌ يحل محله طرف
مدبب، وجميعها بلا ذراعين خلا واحدة فقط تضم إلى صدرها شكلًا قضيبيًّا بالغ الطول. إلى
جانب المذبح عند الزاوية هناك عرش فارغ مصنوع من الطين، تصفه التقارير الأثرية بأنه
كرسي لجلوس الكاهن الذي يرعى الاحتفال الطقسي ويتقبل تقدمات الدُّمى.
٧
يقدم لنا هذا الشاهد الأثري الهام أوضح مثال عن الطقوس النيوليتية، التي تدور حول
معتقد المجال والقوة؛ فالدمى المتناثرة على المذبح هنا لم تكن موضع عبادة بذاتها، بل
وسيلة لاستحضار عالم اللاهوت، ووجودها بهذا الكم الكبير يشير إلى أن المشاركين في الطقس
كانوا يضعونها تقدمة على المصطبة-المذبح، مثلما كانت توضع المصابيح الزيتية في المعابد
اللاحقة، أو الشموع التي توقد اليوم أمام تمثال العذراء، ولكن مع فارق هام، وهو أن
تمثال السيدة هنا غائب تمامًا، رغم أنها حاضرة على العرش الفارغ الذي يُعبِّر عن السلطة
الشاملة.
إن الأساليب الفنية التي اتبعها الفنان النيوليتي في تشكيل هذه الهيئات الأنثوية،
تدل
بوضوح على أنه لم يكن يفكر في تمثيل هيئة لكائن إلهي معين ذي شخصية محددة الملامح؛
فالدمى التي نُفذت بالأسلوب التبسيطي، ليست في الواقع سوى فكرة مجردة وجدت تعبيرها
بطريقة تشكيلية، ومثلها تلك الدمى التي لم تحتفظ من الشكل الأنثوي إلا بانتفاخ في منطقة
الردف ونهايتين مستدقتين، أو تلك المؤلفة عن عجيزة ضخمة فقط ورأس مدبب مع إشارة خفيفة
إلى الثديين. وأما الدمى التي نُفذت بالأسلوب الواقعي المضخم وفي وضعية القعود الأكثر
شيوعًا، فإن الصلة بينها وبين الهيئة الأنثوية معدومة تقريبًا، وكذلك الصلة بينها وبين
أية شخصية يمكن أن تتمتع بكيان محدد؛ إنها رسالة بصرية مكثفة ومفعمة بالرمز، ورداء لقوة
إلهية سوف تجد منذ الآن تعبيرها في الشكل الإنساني المُرمز، الذي يتحول إلى موطن خيالي
مفعم بالنفسية الجمعية للعصر، وتبتعد تدريجيًّا عن الشكل الحيواني الذي ساد في الفترات
الأسبق. وفي العصور التالية، وعندما تنبعث الآلهة من هذه القوة الغفلة غير المتمايزة
في
المعتقدات الأولى، سوف يقوم الإنسان باستلهام صور هذه الآلهة من مخزونه القديم لصور
الشارات المقدسة، وتأخذ الأم الكبرى للفترات التاريخية الشكل العام للشارة الأنثوية
للقوة السارية. فالصور المقدسة تتمتع بثبات نسبي عبر فترة طويلة من الزمن، رغم التغيرات
الجذرية التي تطرأ على مضمونها. وقد يستفيد مضمون اعتقادي جديد من هيئة قديمة تمتَّعت
بالقداسة فترة طويلة، ويحلُّ فيها بعد تغييرات قليلة أو كثيرة عليها؛ وبذلك تستمر
الصورة في أساسياتها ويتغير محتواها تدريجيًّا حتى يتلاشى المحتوى القديم تمامًا. إن
الرمز الواحد لا يحمل بالضرورة مضامين ودلالات واحدة لدى تكراره في عصور مختلفة وأمكنة
متباعدة، وذلك حتى في حال توارثه وتداوله بحرفيته الشكلية. فرمز الصليب الذي كان ذا
دلالة أيديولوجية وطقسية منذ العصور الحجرية، لا تربطه بصليب المسيحية صلة، ورمز
السواستيكا (الصليب المعقوف)، الذي توارثته الأقوام الجرمانية عن العصور الحجرية، لا
يمُت بصلة إلى السواستيكا البوذي أو الهندوسي، ناهيك عن صلته بالأيديولوجية الفاشية
التي تبنَّته إبان صعود النازية في ألمانيا.
لم تتقطع التقاليد الباليوليتية للتصوير الجداري تمامًا خلال العصر النيوليتي؛ فلدينا
من شتال حيوك، الموقع النيوليتي الهام في جنوب الأناضول، مثال على استمرار هذه
التقاليد. إلا أن التصوير هنا لم يُنفذ على جدران الكهوف الطبيعية، بل على جدران
المقامات الدينية التي عُثر على أربعين منها في الجزء المكتشف من الموقع، موزعة على عشر
طبقات أثرية، وغالبًا ما توضعت هذه المقامات بعضها فوق بعض عبر الطبقات الأثرية
المتعاقبة، واحتوت على العناصر الفنية ذاتها؛ الأمر الذي يشير إلى استمرار في المعتقد
الديني لهذه الثقافة خلال مئات الأعوام. وفي الحقيقة، فإننا في شتال حيوك نشهد تلك
النقلة من المقام الديني الصغير إلى ما يشبه المعبد، وذلك من حيث سعته وتنوع أثاثه
الطقسي.
تتقلص قائمة الحيوانات التي صوَّرها الفن الباليوليتي في الماضي، إلى بضعة حيوانات
لا
تتجاوز أصابع اليد الواحدة في هذا الموقع النيوليتي، يتخذ الثور بينها مكان الصدارة؛
فهنا نجد رءوس الثيران المُشكَّلة بالجص في بؤرة التكوين الفني على معظم جدران المعابد،
وقد تُستخدم القرون الطبيعية في هذه الرءوس المنحوتة، غير أن القرون المُشكَّلة هي
الحالة الغالبة لأنها تسمح بالمبالغة التي قصدها الفنان، وتعطي انطباعًا أكثر تأثيرًا
بالقوة والعظمة التي أراد التوكيد عليها، حتى إن طول القرن الواحد قد بلغ في بعض
الحالات ما يقارب المتر. وقد تغيب رءوس الثيران لتحل محلها قرون ضخمة مصطفة في رتل،
وينتظمها تكوين قوي يعطي الناظر إحساسًا بالرهبة والخشوع أمام قوة غير منظورة، كما يظهر
ضمن هذه التشكيلات أحيانًا رمز البوكرانيا، الذي يتألف من نصب قصير عليه قرنا ثور. وفي
بعض الأحيان تتوزع رءوس الكِباش حول المساحة التي يشغلها رأس الثور. وقد تتوضع تحت
الرأس صفوف من الأثداء الأنثوية، كما تظهر رءوس الأيل منفردة أو كجزء من التكوين. وفي
بعض الهياكل، صُورت على الجدران المقابلة لرءوس الثيران نسورٌ عملاقة باسطة أجنحتها،
وأمامها أشكال بشرية صغيرة منفذة بأسلوب تبسيطي وبدون رأس، وعلى بعض الجدران صور حيوان
الفهد بطريقة النحت النافر الملون.
وإضافة إلى هذه التشكيلات الجدارية، فقد عثر المنقبون في الهياكل على الدمى الأنثوية
المصنوعة وفق التقليد النيوليتي نفسه، ولكن باستخدام الرخام والحجر إلى جانب مادة
الطين، وبتقنيات تُقرب هذه الدمى من فن النحت المعروف في الحضارات اللاحقة، خصوصًا وأن
أطوالها قد بلغت في بعض الأحيان ستة عشر سنتم. والهيئة الأنثوية هنا مصورة في وضعية
القعود على عجيزة ضخمة جدًّا ومكتملة الأعضاء، ورغم العناية بإظهار الرأس كاملًا إلا
أن
ملامح الوجه ممسوحة وشبه غائبة، وإلى جانب هذه الدمى التي يبدو أنها كانت تُستخدم
لأغراض طقسية دورية فتُجلب إلى المعبد من خارجه، فإن الهيئة الأنثوية قد صُورت بالأسلوب
الرمزي التبسيطي، وترافقت مع رءوس الثيران في التكوينات الجدارية اعتبارًا من الطبقة
الآثارية السابعة. فهنا يُصوَّر الشكل الأنثوي على شكل جذع مستقيم تتفرغ منه أربعة
أطراف عديمة التفاصيل تمامًا. ولا نكاد نتعرف على الهيئة الأنثوية في هذه الهيئات
النمطية لولا وجود النهدين الصغيرين.
٨
في شتال حيوك نحن أمام قمة من قمم الفن النيوليتي لن يصل إليها بعد ذلك أبدًا، ولكننا
في الوقت نفسه أمام المعتقدات النيوليتية في أكثر تعبيراتها وضوحًا وتنظيمًا. لقد تحولت
جماجم الثيران المأخوذة مباشرةً من الطبيعة والمغروسة في مصاطب تل المريبط الطينية، إلى
أعمال نحتية مصنوعة بعناية لتؤدي الرسالة البصرية نفسها، وإنما بشكل أكثر تأثيرًا وأقدر
على نقل إحساس الفنان بحضور تلك القوة السارية في الطبيعة. والموضوعات المصورة هنا
والمنتزعة من الوسط الطبيعي، قد فقدت صلتها بروابطها في الحياة اليومية بعد أن غدت
موضوعًا لاختيار روحي. إنها الآن بؤر رمزية يتجلى من خلالها ذلك المستوى الآخر للوجود،
ويعلن عن قوته. لقد صار الثور والكبش والأيل والنَّسر والفهد موضوعات لإعلاء ديني من
نوع خاص، لا في عالمهم الطبيعي الذي ينتمون إليه، بل في المقام الديني الذي جعل من
صورهم ظهورات لقوةٍ ما ورائية شمولية، وحوَّلها إلى مواطن خيال تشف عن النفسية الجمعية
لثقافةٍ ما زالت تتوسل بصور الحيوان لكي تعقد صلة مع عالم اللاهوت. أما التمثيلات
النسائية فما زالت هنا تُعبِّر عن فكرةٍ أكثر من تعبيرها عن شخصية؛ فالتشكيلات
التخطيطية للشكل الأنثوي التي تظهر مترافقة مع رءوس الثيران أو مستقلة عنها، لا يمكن
بحال من الأحوال أن تكون تجسيدًا لشخصية إلهية، إنها مجرد شارة أنثوية بلا هيئة بلا
تفاصيل بلا ملامح وجه. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالتماثيل الأنثوية الصغيرة التي نُفِّذت
وفق أسلوب المبالغة والتضخيم لمواطن الخصوبة، وفي وضعية القعود، فهذه التماثيل لم تكن
جزءًا من التكوينات الفنية الجدارية، بل وُجدت ملقاة هنا وهناك؛ الأمر الذي يشير بوضوح
إلى أنها لم تدخل في الأثاث الثابت للمعبد، بل استُخدمت لأغراض طقسية.
وفي الحقيقة، فإنه من الصعوبة بمكان أن نُعطي تفسيرًا أكثر دقة وتفصيلًا لديانة شتال
حيوك، وللتكوينات الفنية التي نُفِّذت على جدران هياكلها، غير أنه من المغري حقًّا أن
نجد في هذه التكوينات، كما وجد لوروا غورهان في رسوم الكهوف، تعبيرًا عن جدلية الأنوثة
والذكورة في تجلي وفعالية القوة. فهل يتخذ رأس الثور هنا قيمة رمزية ذكرية في مقابل
القيمة الرمزية للشكل الأنثوي التخطيطي الذي يعلوه، أو الأثداء التي تصطف تحته؟ وهل
يتخذ النسر قيمةً رمزية أنثوية كما هو حاله في حضارات الكتابة اللاحقة، بينما يتخذ
الفهد قيمة رمزية ذكرية؟ هذه الأسئلة، وغيرها كثير، لا نستطيع الإجابة عنها في الوضع
الحالي لمعلوماتنا عن شتال حيوك والعصر النيوليتي عمومًا، إلا أن ما أود التوكيد عليه
مجددًا، وبقوةٍ أكثر هذه المرة، هو أن التشكيلات الجدارية في شتال حيوك وتماثيلها
الأنثوية المتفرقة، لا تضعنا أمام «بانثيون» للآلهة تتربَّع فوقه
الأم الكبرى الأناضولية، وهو التفسير الذي طرحه جيمس
ميلارت مكتشِف الموقع، بل إننا ما زلنا هنا أمام شكل أكثر تقنينًا وتنظيمًا للمعتقد
النيوليتي. أما الآلهة، فما زال أمامها وقت طويل حتى تظهر على مسرح التاريخ الاعتقادي
للإنسان، ولسوف تلبس حين تظهر لبوس القوة وتستلم شاراتها.
مما لا شك فيه أن المعتقد النيوليتي قد تميز عن المعتقد الباليوليتي باستيعابه لأفكار
جديدة تدور حول خصوبة الأرض الزراعية، وأن مفهوم الخصوبة العام والغائم جدًّا قد غدا
الآن أكثر تركيزًا وتخصيصًا، وأخذت الفعالية الإخصابية للقوة تأخذ حيزًا أوسع من تفكير
الإنسان ومن طقوسه. غير أننا يجب ألا نسير بعيدًا وراء التصورات التقليدية عن الأساس
النفعي للمعتقدات الدينية الأولى، وعن الدور الحاسم لأفكار الخصوبة في تكوينها؛ ذلك أن
المضامين الجديدة المتعلقة بخصوبة الأرض المزروعة والقطعان المؤهلة، قد تكوَّنت على
أرضية أقدم لمعتقدات أكثر تجذرًا في البنية النفسية للإنسان. ومن ناحية أخرى يمكن القول
بأن البحث عن الغذاء لم يكن ذلك الهاجس المسيطر عند الإنسان، سواء في عصوره
الباليوليتية أم النيوليتية؛ فلقد أثبت بعض الباحثين مثل م. سالهينز
٩ أن اقتصاد الجماعات البشرية التي تعيش على الصيد والالتقاط في مناطق طبيعية
غنية، لا يتطلب إلا مقدارًا قليلًا من العمل، وذلك خلافًا للأحكام الرومانسية المسبقة
التي جعلت من الإنسان الصياد إنسانًا بائسًا همه الركض وراء الغذاء. كما بيَّن الباحث
هارلان بالتجربة العملية
١٠ أن جامع الحبوب البرية لم يكن بحاجة إلا إلى ثلاثة أسابيع عمل تكفي حصيلتها
لإعالته على مدار السنة. ففي إحدى مناطق جنوب تركيا، حيث تنمو بعض أنواع الحبوب البرية
إلى الآن، تزوَّد هارلان بمنجل صواني من النوع الذي استخدمه جامعو الحبوب عند أعتاب
العصر النيوليتي، وقام بنفسه بعمل الحصاد على الطريقة القديمة، فاستطاع جمع ما مقداره
٢٫٤٥كغ من السنابل في ساعة واحدة، وهذه الكمية تعطي كيلوغرامًا واحدًا من الحبوب
الجاهزة للطحن، وهذا يعني أن أسرة من الجامعين لن تحتاج إلا إلى بضعة أسابيع عمل في
السنة، لتحصل على مئونة سنوية كافية من الخبز. أما مزارعو القرى النيوليتية الأولى، فلم
يكونوا في وضع يختلف كثيرًا عن وضع جامعي الحبوب؛ ذلك أن بضعة أسابيع أخرى كانت تلزمهم
في السنة لبذر الحبوب، وما عليهم بعد ذلك سوى انتظار المطر؛ وبذلك وجد الإنسان القديم
أمامه متسعًا من الوقت للتفكير في أمور لا تمُت إلى سعيه المعاشي بصلة مباشرة. لقد ربط
ذلك الإنسان ولا شك بين هاجسه الغذائي وهاجسه الديني، ووجد في القوة الإخصابية الكونية
شرطًا لنمو النبات وتكاثر الحيوان. إلا أن ما أودُّ التوكيد عليه هنا، هو أن
الأيديولوجيا الدينية للجماعات الأولى، صيادة كانت أم مستقرة، لم تكن مشروطة
باستراتيجياتها الغذائية، وأن الأفكار حول الخصوبة وعلاقة القوة السارية بالإخصاب قد
نمَت في وسط فكري مجهَّز مسبقًا لنمو مثل هذه الأفكار، وأن هذا الوسط الفكري هو حصيلة
عوامل نفسية بالدرجة الأولى. إن عالمًا من الصور الذهنية الدينية التي تنمو من خلال
مواجهة نفسانية كلانية مع العالم، هو أسبق من أية صلة عملية له مع ظواهر معينة من مجال
الطبيعة.
لقد بينَّا سابقًا أن تركيز الجماعة على صيد نوع معين من الحيوان أكثر من غيره، ينجم
عن خيار فكري لا عن عوامل طبيعية قاهرة. ويبدو لنا الآن أن الخيارات الفكرية إنما تسبق
ضغوطات البيئة في توجيه سلوك الإنسان في مجالات هامة أخرى تتعلق بحياته. فالزراعة، التي
أحدثت انقلابًا ثقافيًّا لا يعادله انقلاب في تاريخ البشر، إنما نشأت عن خيار فكري
بالدرجة الأولى، والجماعات النيوليتية الرائدة في المشرق العربي، لم تعدل استراتيجياتها
الغذائية نحو الاعتماد المتزايد على الزراعة من أجل تلاؤم الجماعة مع وسطها الطبيعي،
بل
من أجل تلاؤمها مع نفسها.
والأدلة الأثرية في تلك المواقع الزراعية الرائدة، مثل أريحا في فلسطين والمريبط
في
سوريا، تُقدم برهانًا ساطعًا على ذلك؛ فقد تبيَّن للبروفيسور جاك كوفان، الذي نقب في
موقع المريبط وفي غيره، وبالتعاون الوثيق مع علماء نباتات ما قبل التاريخ وعلماء تحليل
غبار الطلع، أن المواقع الزراعية الرائدة كانت غنية بالحبوب البرية التي يمكن جنيها
والاعتماد عليها في اقتصاديات الجماعة، دون اللجوء إلى مجهود الزراعة المنظمة، وهذا
يعني أن تعديل الاستراتيجية الغذائية للإنسان هنا لم يكن مدفوعًا بشحِّ البيئة الطبيعية
وتراجع حقول الحبوب البرية التي أمدَّته سابقًا باحتياجاته. وقد ترافق هذا الخيار
الزراعي مع خيارات أخرى تتعلق بأنواع الحيوانات التي اصطفاها من وسطه الغني لتكون
موضوعًا لصيده الجديد دون غيرها (وفي حالة تل المريبط كان الحمار الوحشي والثيران)، ومع
تغيير جذري في نمطه المعماري الذي تحوَّل من البيت المستدير إلى البيت المستقيم الزوايا
(مربع أو مستطيل)؛ الأمر الذي يدل على نضوج أفكار معينة قادت عملية تغيير اجتماعي
واقتصادي شامل. وهذه الحقائق إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الظاهرة الفكرية لم تسبق
التغييرات على الصعيد المادي فقط، وإنما كانت المُحرض على حدوث هذه التغييرات.
١١
إن السير في مناقشة هذه المسألة إلى أبعد من ذلك سوف يُخرج بحثنا عن خطه المرسوم،
وكل
ما يهمني هنا هو التوكيد على أن المعتقد الديني باعتباره ظاهرة فكرية، يتمتع باستقلالية
كافية عن ضغوط البيئة الطبيعية، وأن الظاهرة الدينية في أصولها هي ظاهرة مستقلة عن
الظاهرة الاقتصادية ومتقاطعة معها. أما التأثيرات المتبادلة لهاتين الظاهرتين، والتي
يمكن متابعتها عبر تاريخ الحضارة، فليست دليلًا على تبعية إحداهما للأخرى بقدر ما هي
دليل على قوة واستقلال كلٍّ منهما عن الأخرى. وأنا هنا أقف على الطرف النقيض من كارل
ماركس وماديته التاريخية.
•••
لقد زوَّدتنا حتى الآن دراستنا لمعتقدات العصر الحجري بشِقَّيه القديم والحديث بعدد
من الأفكار والمفاهيم الدينية الأساسية، التي تميز المعتقد الديني للإنسان العاقل في
أصوله وجذوره التحتية. ولما كان الدين، كما بينَّا، هو ظاهرة فكرية ونفسانية لا تخضع
لتطور ولا تسري عليها قوانين الارتقاء، فإننا يجب أن نعثر على هذه الأفكار والمفاهيم
في
صلب وأساس كل المعتقدات الدينية للإنسان، بصرف النظر عن الزمان والبيئة والمكان. وبشكل
خاص، لا بد من العثور عليها بشكل أكثر وضوحًا في معتقدات الثقافات البدائية التي عاشت
على هامش الخط الرئيسي لتطور الحضارة العالمية، وحافظت على أحوال معاشية وأنماط فكرية
أقرب إلى أحوال وأنماط ثقافات العصر الحجري، وهذا ما سنتعرض له في الفصل القادم، وبعد
أن أُقدم فيما يأتي ملخصًا لما توصَّلنا إليه حتى الآن في القسم الحالي من
دراستنا.
لقد اخترنا في البداية أن نستكشف عالم الديانات البدائية البسيطة (والبساطة هنا ليست
صفة سلبية بل إيجابية) بحثًا عن المعتقد الأصلي الذي يكمن في أساس كل الديانات، ووجدنا
أنه إذا كان هنالك فعلًا ديانة بدائية في حالتها الصافية التي لم تُهِل الحضارة فوقها
ركامًا فكريًّا مصطنعًا، فإن هذه الديانة هي ديانة العصر الحجري، ثم توصلنا من خلال
تحليلنا للشواهد التشكيلية وبقايا المغاور والمدافن، إلى إعادة بناء المعتقدات والطقوس
الدينية للإنسان الأول. فمنذ بزوغ عصر النياندرتال، أحسَّ الإنسان في أعماق نفسه وفي
آفاق العالم الطبيعي بحضورٍ إلهي كلي يُنبي عن نفسه للمشاعر والأحاسيس قبل العقل. وكما
يهزُّ هذا الحضور الإلهي أركان النفس بقوة لا نستطيع لها دفعًا، كذلك يُعبِّر عن نفسه
في شتى مظاهر الطبيعة من خلال قوة تصدر عنه وتُنتج كل حركة وحياة في الكون. ولقد صاغ
الإنسان هذا الإحساس في معتقد يقسم الوجود إلى مستويين؛ مستوًى طبيعاني مُعايَن،
ومستوًى قدسي فوق طبيعاني لا مرئي يتخلل بقوته المستوى الأول ويجمعه إليه.
والمستوى القدسي لا يتلخص في شخصية إلهية تسكن السماء أو أية جهة من جهات الكون. إنه
عالم موازٍ أو مجال غير معين، وقوته هي أيضًا قوةٌ غفلة غير مشخصة أقرب إلى السيالة
الطاقية بالمفهوم العلمي الحديث. ولما وجد الإنسان في الطقوس الدينية وسيلةً تضعه في
تناغم مع عالم اللاهوت، وتعمِّق إحساسه بوحدة مستويَي الوجود، فقد كان لا بد له من شارة
مقدسة ترمز إلى الألوهة وتجعلها حاضرة في عالمه، يتوسل من خلالها إلى الحقيقة الكبرى
التي لا تؤطرها هيئةٌ مادية، فاختار شاراته المقدسة من وسطه الطبيعي، ومن فصيلة الحيوان
التي عقد معها نوعًا من القرابة الروحية. وقد أوضحنا أن ما يُدعى ﺑ «عبادة الحيوان» هو
أمر من ابتكار مخيلة بعض مؤرخي الأديان، ونفينا أن يكون الإنسان قد تعبَّد للحيوان في
أي عصر من عصوره الغابرة، كما أنه لم يتعبد لأية ظاهرة طبيعية إلا بمقدار ما تشفُّ هذه
الظاهرة عن القوى الكبرى.