إن أول خطوة منطقية في دراسة معتقدات الشعوب
البدائية، هي أن نبدأ بتفحص معتقدات أكثر هذه الشعوب بدائية وبساطة. ولما كان الإجماع
قائمًا بين الباحثين على اعتبار سكان أستراليا الأصليين أكثر الشعوب المعروفة لنا
بدائية وبساطة في التنظيم الاجتماعي، فإن دين هؤلاء سيكون محطتنا الأولى بعد أن
تخطَّينا العصر الحجري الحديث.
(١) المبدأ الطوطمي
يقوم التنظيم الاجتماعي للقبائل الأسترالية
على وحدة مكونة أساسية هي العشيرة (=
clan)، ويتميز
هذا النوع من التنظيم عن غيره من التنظيمات التي تبدو مشابهة لأول وهلة، بأن أفراد
العشيرة يعتبرون أنفسهم أعضاءً في عائلة واحدة تجمعهم قرابة من نوع خاص، تنشأ عن
حملهم جميعًا لاسم واحد اختاروه لأنفسهم، هو في الوقت نفسه اسم لفصيلة من الحيوان
في أغلب الأحيان، أو لفصيلة من النبات في بعضها. وهذا الاسم المختار هو وقف عليهم
فقط لا تشاركهم فيه مجموعة أخرى قريبة أو بعيدة، إنه طوطم العشيرة، والاسم الذي
يتكنى به كل فرد من أفرادها. وعندما نقول إن الطوطم هو اسم لفصيلة، فهذا يعني أن
الطوطم ليس حيوانًا بعينه، كأن يكون هذا الكنغر أو ذاك، بل إنه هذه الفصيلة أو تلك
بمجملها وبكامل أفرادها. وبما أن الفصيلة الحيوانية تبقى قائمة بصرف النظر عن موت
عناصر منها وحلول أخرى بالولادة، كذلك الأمر في العائلة الطوطمية الإنسانية التي
تضم جميع الأفراد الأحياء منهم والأموات، وصولًا إلى الجدود الأُول المؤسسين.
١
ليس التنظيم الطوطمي بالشأن الأسترالي حصرًا، بل تشارك فيه مجتمعات الهنود الحُمر
في أمريكا الشمالية. وفي الواقع، فلقد تم التعرف على ملامح هذا التنظيم الاجتماعي
لأول مرة في أمريكا لا في أستراليا، ومصطلح الطوطم بالذات هو مصطلح مأخوذ من إحدى
لغات الهنود الحمر، وجرى فيما بعدُ تعميمه واستخدامه على نطاق واسع في أمريكا
وأستراليا على حدٍّ سواء. ومع أن المجتمعات الهندية في أمريكا قد قطعت شوطًا واسعًا
في مضمار التقدم عن الجماعات الأسترالية الأقرب إلى مرحلة النياندرتال، فإنها قد
بقيت ضمن الخطوط الأساسية للتنظيم الطوطمي، وهذا ما يدفعنا إلى اعتبار الثقافتين
بمثابة مرحلتين متتابعتين في سياق تطوري واحد للمجتمعات الطوطمية، ويُضفي مشروعية
على بعض المقارنات الضرورية أحيانًا بين الجماعات الأسترالية والجماعية الهندية في
أمريكا الشمالية.
لا يُشكل الطوطم بالنسبة للجماعة اسمًا فحسب، بل هو شارة أو شعار يشبه ما كانت
أُسَر النبلاء في أوروبا العصور الوسطى ترسمه على الدروع والأعلام؛ فزعماء الهنود
الحمر كانوا يمهرون معاهداتهم مع البيض بختم عليه صورة الطوطم، وبعض الجماعات منهم
ترفع طوطمها بيرقًا أثناء القتال، وأخرى ترسمه على التروس والخيام، ولدى الجماعات
المستقرة يُرسم الطوطم على الجدران الداخلية للبيوت. أما في أستراليا فإن مثل هذه
التمثيلات الطوطمية الواضحة ليست على نفس الدرجة من الشيوع؛ لأن الأستراليين لم
يبلغوا درجة من المهارة في التصوير والحفر تمكنهم من تنفيذ رسوم دقيقة لطوطمهم،
فصورة الطوطم عندهم لم تكن أكثر من هيئة اصطلاحية تحتوي على عدد من الخطوط، ويفهمها
الجميع على أنها صورة طوطمهم. وفي الحالات القليلة التي يعمد فيها الأسترالي إلى
رسم طوطمه، فإنه يحفر صورته على الأدوات الطقسية، وهي الحالة الأكثر شيوعًا لظهور
هيئة الطوطم الاصطلاحية. يضاف إلى ذلك حالاتٌ أخرى لوحظت لدى بعض الجماعات، حيث
تُرسم صورة الطوطم على التربة قرب قبر المتوفى بعد دفنه، أو تُحفر على أقرب شجرة
إلى القبر، ولدى البعض الآخر يُحفر الطوطم على جذع الشجرة المجوف الذي يحتوي رفات
الميت. وفي بعض المناسبات الطقسية وخصوصًا طقوس التعدية (=
initiation)، التي تنقل الشباب البالغين من
مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرجولة وتُلقنهم أسرار دينهم، يُرسم الطوطم على أجساد
الشباب المشاركين في الطقس. إن مثل هذه الاستخدامات لصورة الطوطم تبين لنا أن
الطوطم بالنسبة للعشيرة ليس مجرد اسم أو شعار، بل هو في الوقت نفسه شارة ذات بُعد
روحي وديني. وكما سنرى بعد قليل، فإن هيئة الطوطم إنما تشير إلى جوهر العالم القدسي
عند الأستراليين.
تستخدم قبائل وسط أستراليا في أداء طقوسها أدوات خاصة يدعونها ﺑ «التشورينغا»،
وهي عبارة عن قِطع من الخشب أو الحجر المصقول يغلب عليها الشكل البيضوي أو
المستطيل. ولكل جماعة عددٌ من هذه الأدوات قل أو كثر، تُحفر عليها صورة طوطمها
وتنظر إليها بعين القداسة، فإذا أتمَّت طقوسها الدينية حفظت هذه الأدوات في حرزٍ
حريز، قد يكون كهفًا في جبل أو وهدة في مكان مهجور، ويُختم عليها بطريقة لا تسمح
لعابر أن يتبين ما تحت الغطاء من كنز ثمين. ويشع هذا المكان الذي حفظت فيه
التشورينغا هالة من القداسة على ما حوله من الهيئات الطبيعية إلى مسافة كبيرة،
وتشكل الدائرة المحيطة به مكانًا حرامًا لا يجوز في الاقتتال أو الصيد، ومن دخله
صار آمنًا من أعدائه، أما النساء وغير البالغين من الفتيان فيُحظر عليهم الاقتراب
من المكان، كما يُحظر عليهم حتى النظر إلى الأدوات الطقسية عندما يتم إخراجها
لإقامة الطقوس. ويعزو الأسترالي للتشورينغا خصائص فوق طبيعانية متعددة؛ فهي تشفي
الأمراض عن طريق التماس، وتهب قوة خاصة للجماعة الطوطمية، فتشد من عزيمة أفرادها
بينما تفت من عضد أعدائهم. والأهم من ذلك كله أن مصير الجماعة مُعلَّق على هذه
الأدوات، فإن ضاعت لسبب من الأسباب تعرَّضت العشيرة للمصائب والفواجع.
لا تعدو التشورينغا أن تكون قطعًا مادية من الخشب أو الحجر مما هو متوفر في
المحيط الطبيعي، إلا أن ما يميزها عن بقية الموضوعات الدنيوية المادية هو شارة
الطوطم المحفورة أو المرسومة عليها، والتي تعطيها صفة القداسة. أما الطريقة التي
يرسم بها الأسترالي شارة طوطمه على الأدوات الطقسية أو غيرها، فتتميز بالاختزال
الشديد، حيث يكتفي المصور بتنفيذ شكل مكون من خطوط هندسية فجة لا تربطها بالهيئة
الطبيعية لموضوعه إلا أوهى الروابط؛ أي إن ما يتم تنفيذه فعلًا عن التشورينغا أو
الصخور وجذوع الأشجار والجسد الإنساني، لا يعدو أن يكون هيئةً اصطلاحية لا يعرف
معناها سوى أصحاب الطوطم والمعنيِّين بالأمر منهم، وأن الأسترالي لا يرسم طوطمه
لغرض الحصول على صورة دقيقة تُمثله، بل لتجسيد شارة تُبقي الفكرة التي يُمثلها
الطوطم حاضرة أبدًا؛ فصورة الحيوان هنا ليست مقصودة لذاتها، بل لما وراءها من أفكار
تنتمي إلى مستوًى آخر غير منظور، والطوطم الممثل في هيئة مادية ليس إلا رداءً لقوة
غير مادية.
إلا أن تقديس الشارة الطوطمية لا يتجاوز صورة الحيوان إلى الحيوان نفسه، والحيوان
الذي اعتُمدت صورته طوطمًا لا يدخل في الطقوس الدينية للعشيرة، رغم تمتعه بمكانة
خاصة تميزه عن بقية الحيوانات. فالحيوان الطوطمي يتمتع بكثير من الاحترام والتبجيل،
ولكن الأمر لا يصل بالجماعة إلى حدِّ تأليهه كما هو الحال في صورته المقدسة. ورغم
أن صيده وأكل لحمه مُحرَّم إلا في مناسبات طقسية معينة، إلا أن هذا التحريم لا
ينسحب على أفراد الجماعات الأخرى التي تجد نفسها حُرة في صيده وأكله، كما أن صيد
الحيوان ممكن لجماعته في حال التعرض للمجاعة، أو في حال الدفاع عن النفس إذا كان من
الكواسر. ومن علائم التمييز بين الحيوان الطوطمي وشارته المقدسة، أن الحيوان يمكن
لمسه ورؤيته من قِبل النساء وغير البالغين من الذكور، على عكس الشارة الطوطمية التي
تحاط بشتى أنواع تابو اللمس والنظر وحتى الاقتراب، وهو يعيش في العالم الدنيوي الذي
يعيش فيه الناس، على عكس صورته المحفورة على الأدوات الطقسية التي تُخفى بعيدًا عن
جو العالم الدنيوي. والأسترالي يجتمع مع أفراد عشيرته أمام شارة الطوطم في
المناسبات الدينية فيرقص حولها ويتعبد لها، ولكنه لا يستبدلها قط بالحيوان الطوطمي
نفسه. وعندما يقوم بتعدية الفِتيان البالغين إلى طور الرجولة وتلقينهم أسرار حياتهم
الدينية، فإنه يفعل ذلك في الحرم المقدس حيث تُحفظ صور الطوطم، لا حيث تسرح جماعات
الحيوان الطوطمي. من هنا، فإن الاعتقاد الساذج بأن الطوطمية هي نوع من عبادة
الحيوان، هو اعتقاد بعيد عن واقع الأمور، وقد جاء نتيجة الكتابات المتعجلة التي
قُدمت إلى الجمهور لتعريفه بالطوطمية خلال الفترات المبكرة لاكتشافها.
ولكن إلى ماذا تشير صورة الحيوان الطوطمي؟ وما الذي يعبده الأسترالي من وراء هذه
الشارة المقدسة؟ إن تحليل المعلومات التي تم جمعها عن حياة المجتمعات الأسترالية
ومعتقداتها وطقوسها الدينية منذ أواسط القرن التاسع عشر، يشير إلى أن ما يقدسه
الأسترالي بالدرجة الأولى هو قوة غفلة غير مشخصة، بلا اسم وبلا شخصية وبلا تاريخ
حياة، تسري في مظاهر الكون المادي جميعًا، لا في هذا المظهر أو ذاك، ولا في هذه
الفصيلة الحيوانية أو تلك. وقد عمد الأسترالي إلى تجسيد هذه القوة الغفلة، من خلال
موضوع مرئي مأخوذ من عالم النبات أو الحيوان، وهذا هو الطوطم الذي يُعبر من خلال
شكله المادي عن الجوهر غير المادي، عن تلك الطاقة المنبثة في كل شيء والجديرة وحدها
بالعبادة والتقديس. ولكن الأسترالي لا ينظر بالدرجة الأولى إلى هذه القوة باعتبارها
قوة غيبية مفارِقة، بل يراها كقوة فعلية تعبِّر عن نفسها بقوة ووضوح من خلال
سيالتها في الموضوعات المادية، وهو يخشى بالفعل من التعامل معها بطريقة مخالِفة
للأصول؛ كي لا تصيبه بنوع من الصدمة التي تشبه ما نعرفه عن الصدمات الكهربائية.
وبالإضافة إلى دور هذه القوى على المستوى الطبيعاني، فإنها تلعب دورًا على المستوى
الاجتماعي؛ لأن الطوطم هو في الوقت نفسه مصدر الحياة الأخلاقية للجماعة؛ ذلك أن كل
أعضاء العشيرة المشتركين بالطوطم الواحد يشعرون برابطة أخلاقية تجمعهم وتنظم حياتهم.
٢
غير أن المجتمعات الطوطمية في طورها المتقدم الذي نواجهه في أمريكا الشمالية، قد
سارت بمفهوم المبدأ الطوطمي، الذي تتركز حوله المعتقدات الدينية للأستراليين، نحو
شكل أكثر شمولية ونقاء. فلدى القبائل الهندية التي تنتمي إلى فخذ السيواكس
Sioxs (ومنهم الوماها والبونكا وكنساس وداكوتا)
عدد من الكائنات الإلهية التي تتركز حولها الطقوس الدينية، إلا أنه فوق هذه
الكائنات هناك قوة شمولية غير مشخصة تستمد منها هذه الكائنات الإلهية وجودها
وفعاليتها، وتُسمى واكان
Wakan. وقد تُرجم هذا
الاسم خطأً من قِبل المبشرين الأوائل والرحالة ﺑ «الروح الكبرى». ووجهُ الخطأ هنا
أن مفهوم الروح مرتبط دومًا بالتشخيص الغريب كل الغرابة عن مفهوم الواكان؛ فالواكان
هو السر المحرك للكون، وليست مظاهر الطبيعة كالأرض والرياح الأربعة والشمس والقمر
والنجوم إلا تمظهرات لهذه القوة المحركة الشمولية المتخللة في كل شيء، والتي
تُشبَّه أحيانًا بنسمة الهواء التي تتمفصل مع الكون عند الجهات الأربع وتتسبب في
تحريك كل متحرك. إن خصائص الواكان لا تتبدى في مقدرته على إتيان هذا الفعل أو ذاك،
ولكنه القوة بالإطلاق، والمبدأ الذي به يقوم كل شيء، الطاقة التي تغذي كل قدرة
متبدية في هذا العالم؛ ففي الأساس من كل ظاهرة، هناك مقادير من هذه الطاقة غير
متكافئة، وليس الاستقرار الكوني إلا نتاج تقابل هذه القوى غير المتكافئة وتحييدها
لبعضها بعضًا.
٣
ونجد الاعتقاد نفسه لدى جماعات الهنود الحمر الأخرى مع اختلاف التسميات. فلدى
هنود ميامي وأوتاوا وإلينوي، يقوم المعتقد الديني على الإيمان بقوة شمولية كلية
السلطان وكلية الحضور يدعونها مانيتو، يتجلى حضور هذه القوة من خلال دورة الأيام
والفصول وخصب الأرض وطاقة الحركة في الأحياء وأفعال الأرواح غير المرئية، وهو حضور
لا يمكن حصر آثاره لأنه أساس كل التحولات الجارية في العالم. وإضافة إلى هذا التجلي
للمانيتو على المستوى الطبيعي، فإن له تجليًا آخر على المستوى الاجتماعي؛ فعن طريق
الأحلام يتلقى القادة عون القوة على اتخاذ القرارات، ومنها يتم استلهام أغانٍ
ورقصات جديدة، وما إلى ذلك من فنون وطقوس تعيد شحن الحياة الثقافية للجماعة؛ فهي
مصدر الوحي والحياة الفكرية والروحية والجمالية للإنسان. وهم يطلقون التسمية مانيتو
بصيغة المفرد للدلالة على القوة الموحِّدة والجامعة للأجزاء، وأيضًا بصيغة الجمع
للدلالة على جملة الأرواح الكائنة في هذه القوة الموحدة.
٤
ويطلق هنود الأراضي السهلية على القوة تسميات معادلة للمانيتو، منها زوبي
Xube وواكان
Wakan
وبوها
Puha. ورغم أن هذه الكلمات قد تُرجمت
إلى «الروح الكبرى» أو «السر الأعظم»، وبما يتفق مع مفاهيم الرجل الأبيض، إلا أن
الدراسات الحديثة تفيد الآن بضرورة استخدام تعابير أكثر دقة؛ فكلمة واكان مثلًا
ينبغي أن تُترجم إلى «كلي القداسة»، وهي ترمز أحيانًا إلى ست عشرة شخصية إلهية.
٥
وفي الحقيقة، فإن تأثير الثقافة الأوروبية قد أدَّى إلى إدخال تحويرات عميقة على
المعتقدات الدينية للهنود الحمر، ومنها إلى ظهور مفهوم الشخصيات الإلهية الخالقة،
وهو مفهوم لم يكن له وجود، أو أنه قد وُجد بشكل جنيني غير واضح في بعض الأحيان.
فلدى هنود كاليفورنيا الذين وُجدت لديهم ميثولوجيات متأخرة تدور حول شخصيات إلهية
مكتملة، كان المعتقد الأصلي يتركز حول مفهوم للقوة الكونية غير المشخصة تتخلل
الكون، فهي أقرب ما تكون إلى ساحٍ دينامي ينطوي على كل الممكنات ويُنتج كل الأشياء،
وذي طبيعة حيادية بعيدة عن المعايير الأخلاقية.
٦ أما لدى هنود الجنوب الغربي، فيسود الاعتقاد بقوة هي أقرب إلى السيالة
الروحية التي تتبدى تحت العديد من الأقنعة، وتتمثل في موجودات العالم الطبيعي وفوق
الطبيعي؛ أي إنها قوة غير محددة الملامح، ولكنها تتحول إلى مظاهر مادية مثل
النباتات والحيوانات والأجرام السماوية، وإلى مظاهر غير مادية أيضًا مثل الشخصيات الإلهية.
٧
استنادًا إلى ما تقدم، يمكن القول بأن الطوطمية الأسترالية قد رأت الألوهة في
قوتها السارية فقط، ولم تتأمل في المجال القدسي الذي صدرت عنه هذه القوة. أما
الطوطمية في أمريكا الشمالية فقد رأت فيما دعوناه تجاوزًا بالروح الكبرى مجالًا
قدسيًّا وقوة سارية في الآن نفسه.
لا يقتصر هذا الشكل من المعتقد الديني البدائي على المجتمعات الطوطمية، البسيط
منها والمتطور، وإنما يتجاوزها إلى معظم المجتمعات البدائية التي عاشت على هامش
الخط الرئيسي لتطور الحضارة العالمية. وبشكل خاص فإننا نواجه مفهوم القوة في أساس
معتقدات ثقافات المحيط الهادي البولينيزية منها والميلانيزية؛ فمن ميلانيزيا جاءنا
مصطلح المانا الذي تم استخدامه منذ التعرف عليه للدلالة على معتقد القوة أينما وُجد
لدى بقية الثقافات البدائية. وقد قدم مصطلح المانا لأول مرة إلى الحلقات
الأنتروبولوجية المبشر كوردينغتون Cordington في
كتابه عن جزر ميلانيزيا وثقافاتها، والصادر عام ١٨٩١م تحت عنوان The
Melanesians، يقول كوردينغتون:
«هناك اعتقاد لدى الميلانيزيين بوجود قوة حيادية أخلاقيًّا وغير مادية يطلقون
عليها اسم مانا. ورغم أن هذه القوة غير مادية وفوق طبيعانية، إلا أنها تتبدى بشكل
مادي وتُحدث آثارًا مادية، وهي لا تتركز في موضوعات معينة، بل تتخلل كل شيء. وتدور
ديانة ميلانيزيا حول طريقة التعامل مع هذه القوة وتوجيهها من أجل الإفادة من
آثارها. غير أننا يجب أن نحذر من النظر إلى المانا باعتبارها شخصية إلهية عُليا؛
لأن فكرة الإله الأعلى هي فكرة غريبة عن العقل الميلانيزي.»
٨
انطلاقًا من ملاحظات كوردينغتون عن الديانة الميلانيزية، توسَّع باحثون آخرون في
دراسة مفهوم المانا في ديانات جزر المحيط الهادي، وأهم هؤلاء الفيلسوف
والأنتروبولوجي البريطاني ماريت
R. Marett. يرى
ماريت في كتابه
The Threshold of Religion، الصادر
في لندن عام ١٩٠٩م، أن الميلانيزي يحس بحضور عالم فوق طبيعاني يتجلى كشيء خارق وغير
مفهوم، يستثير الإحساس بالروع، ويجد الإنسان نفسه معه في علاقة غير اختيارية ولا
يمكن دفعها. وهو يميز بين حالين للمواجهة مع العالم فوق الطبيعاني؛ حال إيجابي وحال
سلبي، فيدعو الأول بالمانا، وهو الإحساس بفعالية ذلك العالم وآثاره في الإنسان
ومظاهر الطبيعة، ويدعو الثاني بالتابو، وهو الإحساس بالجوانب الخطرة لتلك الفعالية
واحتمالات الأذى الكامن فيها، وضرورة مراقبتها بحذر.
٩
فإذا انتقلنا من جزر المحيط الهادي إلى أفريقيا السوداء، وجدنا أن الديانات
الأفريقية رغم احتكاكها المبكر بديانات الحضارات الكبرى منذ عهد الفراعنة، وتلقيها
لمؤثرات غريبة كثيرة، فقد حافظت على الملامح الأساسية للمعتقد الديني البدائي. ونحن
نستطيع بالفعل أن نعثر في أساس كل الديانات الأفريقية على معتقد جوهري تقوم عليه
بنية الدين الأفريقي المعقدة والمتشابكة الفروع والأغصان، وهذا المعتقد يتماشى
ومصطلحَينا اللذين اعتمدناهما حتى الآن؛ أي المجال القدسي والقوة السارية.
في جميع الديانات الأفريقية التقليدية، هناك اعتقاد بوجود عنصر غير مادي يسكن في
الأشياء والكائنات المرئية كانت أم غير المرئية، هو نوع من القوة الحيوية التي
تتوزع بهذا المقدار أو ذاك على كل عنصر من عناصر العالم. وهذه المقادير من القوى هي
أجزاء متفرقة من قوة كونية عظمى تنبث فيما لا يحصى من الموضوعات. إن هذا الإيمان
يجعل الأفريقي ينظر إلى الكون بمستويَيه المنظور والغائب باعتباره كلًّا مترابطًا
ترابطًا محكمًا من خلال نسيج القوى الذي يشده كشبكة مترابطة متماسكة؛ فلا شيء في
هذا العالم يتحرك دون أن يؤثر بحركته على القوى الكامنة في الأشياء الأخرى، والقوى
في توزُّعها غير المتساوي في الأشياء هي في حالة تعارض وتناقض دائم فيما بينها، إلا
أن هذا التعارض لا يقود إلى اختلال النظام في العالم، بل إلى نوع من التوازن
الدينامي الذي يقوم على الفعل المتبادل بين القوى المنبثة في العالم
المادي-الروحاني. ولكن التوازن يضطرب أحيانًا، خصوصًا على يد الإنسان عندما يرتكب
خطيئة أو رجسًا طقسيًّا، وهنا يمكن إصلاح الخلل عن طريق التحكم الطقسي بمقادير
الطاقة المتوزعة، وذلك بالأضاحي الدموية التي تُحرر القوى الحيوية من الأضحية.
١٠
إن كل عنصر في العالم هو متلقٍّ ومخزِّن ومرسِل للقوة. ويمتلك السحَرة بشكل خاص
مقدارًا عاليًا من هذه القوة؛ وذلك بسبب إمكانياتهم الفطرية أو المكتسَبة على
اجتذاب القوة واستخدامها في سبيل الخير أو الشر. ومثل السحرة أيضًا الملوك والزعماء
وبعض الشخصيات الاستثنائية، فهؤلاء يمتلكون مقدارًا أكبر من القوة يجعلهم في وضع
متميز. هذه الفكرة الأفريقية عن هرمية القوى في الكون وتوازنها الناجم عن دينامية
داخلية، تعارض المفهوم المتعارف عليه في الحضارات الكبرى عن عالم مستقر تم تنظيمه
على يد خالق ضليع في عمليات الحساب، وهي تقترب كثيرًا من المفاهيم الحديثة عن
المادة باعتبارها تجمعًا لقوًى عرفنا كيف نحررها ولم نتعلم بعدُ السيطرة
عليها.
في الكونغو، تُسمي شعوب منعطف النهر هذه القوة إيليما، وهم يعتقدون أنها موجودة
في كل مكان، ولكنها توجد بشكل خاص في بعض الأماكن المقدسة، كما أنها تتوضع في أماكن
معينة من جسم الإنسان مثل الشعر والعين والكبد، وبصورة خاصة في الدم. كما تتركز
القوة في الاسم، ومن هنا تلك الهالة السحرية التي تحيط بالاسم عند الأفريقي؛ فقد
بلغ الأمر لدى بعض القبائل حد إبقاء الاسم الحقيقي لكل فرد طي الكتمان حتى لا يطاله
ساحرٌ شِرير بالأذى. وتطلق شعوب البامبا والدوغون على القوة اسم نياما، وهم يعتقدون
أنها تكمن في الأضحية. وترى شعوب الديولا إلى العالم على أنه هرم من القوى يأتي
الإله الأكبر في قمته بينما يحتل البشر قاعدته، ويلعب حشد الجن دور الوسيط حيث
ينظمون سريان القوة بين العالمين، وهذا يعني أن الديانات الأفريقية لا تستبعد
الآلهة المشخصة أو الكائنات الروحية الأخرى؛ وذلك بسبب احتكاكها المبكر بالحضارات
الكبرى التي تلعب الكائنات الإلهية فيها دورًا واضحًا، غير أن الآلهة الأفريقية
بقيت أقرب إلى القوى غير المشخصة، فهي حيادية من الناحية الأخلاقية، ويمكن للطقوس
التي يمارسها الاختصاصيون أن تجبرها على تحقيق الغرض الذي من أجله أُقيم الطقس، لا
نستثني من ذلك الإله الأكبر نفسه، الذي يبدو كقوة عمياء لا كأب عادل مُنصف؛ فالخير
والشر والعدالة ليست من اختصاص الآلهة، والديانات الأفريقية لا تتصل
بالأخلاق.
•••
إن ما أوردناه أعلاه من أمثلة عن معتقدات شعوب بدائية تنتمي إلى أربع قارات، كافٍ
لإظهار أوجه التقارب والتشابه بين المعتقد البدائي الحديث ومعتقد العصر الحجري. لقد
اعتقد الباحثون طويلًا أن إنسان ما قبل التاريخ (ومثله إنسان الثقافات البدائية)
كان محكومًا بحواسه، وأن علاقته مع العالم لم تكن تخرج عن حدود مجابهته الحسية
المباشرة مع ظواهره، وبنوا على هذا أن تصور الإنسان لعالم الإلهيات قد ابتدأ مع خلق
ألوهات مشخصة أو كائنات روحية متفوقة. ولكننا استطعنا، حتى الآن، أن نثبت أن الدين
لا يبتدئ مع الآلهة، وأن المعتقدات الأولى التي كوَّنها الإنسان نتيجة إحساسه
بالعوالم القدسية غير المنظورة، إنما تدور حول مفاهيم عالية التجريد، وشديدة
الاتصال بالواقع في الوقت نفسه. يقول أحد حكماء قبائل الداكوتا في معرض شرحه لمعتقد
الواكان، للباحثة فليتشر، ما يلي:
«إن كل متحرك لا بد له من التوقف هنا أو هناك؛ فالطائر في طيرانه يتوقف ليصنع له
عشًّا، والإنسان عندما يمشي يتوقف أينما أراد، وكذلك الواكان كان له توقفات؛ الشمس
البهية المضيئة نجمت عن مكانٍ توقف عنده الواكان، وكذلك الأشياء الأخرى من حيوانات
وأشجار وما إليها، كلها نجمت عن مكان توقف عنده الواكان. وإن الهندي عندما يرسل
صلاته يفكر في هذه الأمكنة التي توقف عندها الواكان من أجل الحصول على العون والبركة.»
١١
وبكلمات أخرى، فإن القوة السارية تتحرك في العالم جيئة وذهابًا لتصنع المكان،
وليست الموجودات جميعًا إلا مظاهر لتكشُّف هذه الطاقة التي تجمع عالم اللاهوت وعالم
الناسوت إلى وحدة تضمهما معًا رغم التمايز الوهمي بينهما.
ستكون الخطوة الرئيسية التالية أن نعمد إلى دراسة معتقدات الحضارات الكبرى؛ لكي
نختبر صحة استنتاجاتنا حول الحد الأدنى الاعتقادي، أو المعتقد الجوهري الذي تقوم
عليه الظاهرة الدينية عند الإنسان. فهل ستُظهر لنا معتقدات الحضارات الكبرى ما
وجدناه في معتقدات الإنسان الأول والبدائي؟
قبل الشروع في هذه الخطوة الجديدة من دراستنا، سوف نتقدم باستطرادَين لا بد منهما
عند هذه المرحلة التي وصلنا إليها؛ الاستطراد الأول حول علاقة السحر بالدين؛
والثاني، وهو الأهم، حول ظهور الآلهة المشخصة في تاريخ الدين، وعلاقة معتقد الآلهة
المشخصة بمعتقد المجال القدسي وقوته السارية.