الفصل السادس

أصل الآلهة

ليس البحث عن أصل فكرة الآلهة في تاريخ الدين بالأمر الجديد، بل هو أقدم بكثير مما يتصوره البعض. ولعل أول مُفكر دوَّن لنا رأيه حول هذا الموضوع، هو الإغريقي يوهيميروس Euhemeros الذي أشار في كتابه: التاريخ المقدس، إلى أن الآلهة كانوا في الماضي البعيد رجالًا بارزين بين الناس، وكانت لهم مكانة ممتازة في حياتهم، ثم قدَّسهم الناس بعد مماتهم.١ وهذه أول إشارة في تاريخ الفكر إلى نشوء الآلهة عن عبادة الأسلاف. وبعد يوهيميروس ببضعة قرون قامَ المفكر السوري فيلو الجبيلي، في أواخر القرن الأول الميلادي، بوضع مؤلَّف عن تاريخ الفينيقيين لم يبقَ منه سوى شذرات أوردها مؤلفون آخرون، ومنها بعض مقاطع حول المعتقدات الدينية للفينيقيين، تعقَّب فيها فيلو الأصل الكنعاني للآلهة الإغريقية، مستشهدًا بكتابات كاهن كنعاني قديم اسمه سانخونياتن، عاش قبل عصر فيلو بألف عام. ويبدو أن هذا الكاهن كان شخصية من اختلاق فيلو نفسه؛ لأننا لا نعثر له على ذكر في المراجع الأقدم. يبدأ فيلو بسرد نظرية التكوين الكنعانية وفق سانخونياتن، فنجد أن النشأة الأولى قد تمت ابتداءً من حركة عناصر مادية أصلية، دون تدخُّل من قدرة إلهية خارقة، فيقول:
«في البدء، لم يكن هناك سوى هواء عاصف وخواء مظلم، ثم إن هذا الهواء قد وقع في حب مبادئه الخاصة وتمازج؛ ذلك التمازج دعي الرغبة، وهي مبدأ خلق جميع الأشياء، ولم يكن للهواء معرفة بما فعل. وقد نتج عن تمازج الهواء «مُت» الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وهو بذرة الخلق وأصل الأشياء جميعًا، ثم استضاء الهواء بالتهاب اليابسة والبحر، وسُيِّرت الرياح والغيوم، وهطل المطر على الأرض مدرارًا. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتتصادم في الجو، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت ذوات الحياة مذعورة، وراحت تنتقل على اليابسة وفي البحر ذكورًا وإناثًا.»٢

تعطينا مقدمة فيلو الجبيلي في التكوين هذه، أول محاولة حدس علمي لكيفية خلق الكون انطلاقًا من حركة مادته الأولية، دونما إرادة خالقة فاعلة. وهي تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ النظريات الكونية الحديثة. لنقرأ على سبيل المثال ما يقوله عالِم الفيزياء الكونية واينبرغ في كتابه: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون:

«في البدء، حدث انفجارٌ ملأ الفضاء كله، وهرب كل جسيم عن كل ما عداه. بعد حوالَي جزء من مائة من الثانية، وهي أقدم لحظة يمكن أن نتحدث عنها بشيء من الاطمئنان والثقة، ارتفعت درجة حرارة الكون إلى ما يقرب من مائة مليار درجة مئوية، وكانت المادة المضطربة أثناء هذا الانفجار مكونة من مختلف أشكال الجسيمات الأولية، والكون مفعمًا بالضياء.»٣

بعد ذلك، ينتقل فيلو إلى سرد تاريخ البشرية ابتداءً من الجيل الأول الذي قدَّس أشجار الأرض وأقام لها الطقوس، فالأجيال اللاحقة التي كان لكل جيل منها فضل اكتشاف هام في تاريخ الحضارة؛ مثل النار وتربية الماشية والزراعة والتعدين وما إليها. ثم يشرح فيلو بالتفصيل كيف بجَّل الناس أصحاب تلك الاكتشافات من الأفراد المتفوقين في حياتهم، وكيف قدَّسوهم بعد وفاتهم ورفعوهم تدريجيًّا آلهة معبودة.

مما لا شك فيه، أن أفكار كلٍّ من يوهيميروس وفيلو الجبيلي قد قامت على تأملات ذهنية مجردة، وحدس معرفي متفوق لم يُبنَ على الاستقراء والدراسة الميدانية لتبديات الظاهرة الدينية عبر التاريخ ولدى جماعات مختلفة من البشر، وهو ما لا نستطيع أن نُطالب به مفكري تلك الحقب البعيدة. ولكن المدهش مع ذلك، أن دارس الظاهرة الدينية في العصر الحديث، المتزود بفيض المعلومات الإثنية والتاريخ-دينية، سوف يجد أن بحثه في أصل فكرة الآلهة إنما يسير بكل منطقية ويُسرٍ إلى النتيجة نفسها، وأن عبادة الأسلاف هي المرحلة الوسيطة في تاريخ الدين، التي قادت الفكر الديني من معتقد القوة السارية إلى معتقد الآلهة المشخصة. ولسوف أتقدم فيما يأتي بوجهة نظري حول هذه المسألة، ولكن بعد أن أستعرض أهم الآراء الحديثة حولها.

في عام ١٨٥١م، نشر الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر مقالته الشهيرة حول دور معتقد الأرواح في تكوين الدين، وهي المقالة التي أُسست لنظرية المانيزم Manism في تفسير الدين. لاحظ سبنسر أن الثقافات البدائية تعتقد بأن لأرواح الموتى دورًا هامًّا في حياة أُسرها السابقة، ومحيطها الذي عاشت فيه إبان حياتها الأولى، كما تعتقد بأن تحرُّر الأرواح من أجسادها يعطيها نوعًا من القوة لا يمتلكها الأحياء، وهي قوة يمكن توجيهها للنفع أو للضر، تبعًا للطريقة التي تعامل بها أرواح الموتى، والطقوس المناسبة التي تُقام لها. وتتسع دائرة تأثير الروح وفق اتساع المحيط الذي كان حاملها ينشط ويتحرك ضمنه؛ فروح الفرد العادي يمكن أن تؤثر بعد الموت في دائرة الأهل والأقارب المباشرين، أما أرواح السحرة والزعماء فيشمل مجال تأثيرها الجماعة كلها. وقد قادته دراسة دور هؤلاء السحرة والزعماء في المجتمعات البدائية، في الحياة وبعد الممات، إلى الاستنتاج بأن الآلهة الأولى التي عبدها الإنسان لم تكن في حقيقة الأمر إلا زعماء أو سحرة متميزين، استمرت قواهم فعالة في محيط الجماعة بعد موتهم، وجرى تأليههم بعد أجيال من موتهم، وأقيمت لهم فروض العبادة.٤ وفي عام ١٨٦٢م نشر سبنسر كتابه المعروف بالمبادئ الأولى، وفيه أعاد صياغة الفكرة نفسها على الوجه الآتي، فيقول:
«كما تُثبت السجلات والتقاليد القديمة، فإن الحكام والزعماء الأوائل قد اعتُبروا شخصيات إلهية، كما اعتُبرت أوامرهم ونواهيهم والأعراف التي استنُّوها في حياتهم بمثابة شرائع مقدسة فرَضها على الناس خلفاؤهم، الذين رُفعوا أيضًا على المرتبة نفسها، وعُبدوا إلى جانب سابقيهم؛ وبذلك تم تشكيل مجمع الآلهة الأولى، بحيث أخذ الزعيم الأقدم دور الإله الأكبر، ومن تلاه دور الآلهة الأدنى.»٥

إن هربرت سبنسر هنا لا يقدم أفكاره حول نشوء الآلهة عن الأسلاف المؤلهين لغرض الإشارة إلى مرحلة في سياق تطور الأفكار الدينية، بل لكي يؤسس لنظريته الأشمل في أصول الدين. وهذه النظرية ترى بأن الدين عند الإنسان قد ابتدأ مع ظهور الآلهة، وأن البشرية قد مرَّت فعلًا بمرحلة مبكرة لم تعرف الدين خلالها أبدًا، ثم أخذت الأفكار الدينية تتشكل تدريجيًّا مع تحول الأسلاف إلى آلهة، فتشكل مجمع الآلهة برئاسة كبيرهم، وتطور مفهوم هذا الإله الأكبر نحو مفهوم الوحدانية في النهاية.

من خلال هذا المفهوم التطوري نفسه، يقوم رائد الأنتروبولوجيا النظرية تيلور بصياغة نظريته في أصل الدين، والمعروفة بالأنيميزم Animism؛ أي الأرواحية، نسبة إلى الأرواح، والتي أثَّرت على أجيال عديدة من الباحثين قبل أن يضعف تأثيرها بعد منقلب القرن العشرين. وقد وصف تيلور نظريته بأنها نظرية الحد الأدنى في تعريف الدين، وشرَحها مفصلًا في كتابه الشهير: المجتمع البدائي Primitive Culture الصادر عام ١٨٧١م.٦

يفترض تيلور بأن أقدم شكل للدين يقوم على الإيمان بوجود الأرواح والأشباح؛ فلقد رفض الإنسان الأول فكرة الموت باعتباره نهاية مطاف الحياة الفردية، واعتقد بأن هذه الحياة سوف تستمر بعد الممات عن طريق استمرار الروح في مستوًى آخر للوجود. وقد تكوَّنت لدى الإنسان فكرة انقسام الكائن إلى جسد وروح من خلال مراقبته لظاهرة الأحلام؛ ففي الأحلام يرى النائم أقارب له وأصدقاء قد ماتوا منذ زمن بعيد، وها هي خيالاتهم حية تتحرك وتتحدث إليه، كما أنه يرحل هو أيضًا أثناء المنام ليزور مناطق نائية أو يتصل بأشخاصٍ غادروه منذ زمن.

ولقد أوصله تأمُّله في هذه الأمور إلى الاعتقاد بأنه اثنان في واحد؛ فبينما يستلقي جسده المادي بلا حراك في مضجعه، فإن توءمه الأثيري يرحل بحريةٍ تامة عبر المسافات ليلتقي بالتوائم الأثيرية الأخرى. فإذا زاره صديق حي في المنام، فلأن روح ذلك الصديق قد تركته مؤقتًا وقامت بالزيارة؛ وإذا رأى نفسه يزور قريبًا مرتحلًا في مكان بعيد، فلأنَّ روحه قد غادرت جسده وقامت بتلك الرحلة؛ وإذا اجتمع بالراحلين من الأموات، فلأن أرواحهم التي انفصلت عن أجسامها نهائيًّا قد أحبَّت لقاءه. وكانت هذه الخصائص الحركية للروح في اعتقاده ناتجةً عن طبيعتها اللطيفة وطاقتها الكبيرة في آنٍ معًا؛ فهي تنسلُّ من فتحة الفم وتتحرك دون قيد في أي اتجاه، وتصل بسرعاتٍ خيالية إلى أقصى الأماكن.

تزداد قوة الروح وتكتسب قدرات وطاقات إضافية عند استقلالها عن الجسد والتحاقها نهائيًّا بعالم الأرواح عقب موت الجسد، وهي إذ تستطيع في حالتها الجديدة أن تسكن في أي موضوع من موضوعات العالم الطبيعي أو الحيوي، فإن سكنها هذا هو فعل اختياري تقوم به بمحض إرادتها، وتستطيع في أي وقت أن تُغيِّر مكان سكنها، أو أن تبقى هائمة دون مقر. فإذا اختارت الاستقرار في جسد إنسان حي، فإنها تُسبب له شتى أنواع الاضطراب النفسي والعقلي، ولا بد من إقناعها بالخروج منه ليستقيم حال المريض. وبشكل عام، تبقى الأرواح المتحررة متصلة بشكلٍ ما بعالم الأحياء، تُقدم لهم العون أو تُسبب الأذى، وذلك تبعًا لنوع علاقاتها السابقة معهم، أو لكيفية تعاملهم معها بعد الموت، وإلى هذه الأرواح يعزو البدائي، في رأي تيلور، كل خير وكل شر. من هنا نشأت عبادة الأرواح؛ لأن الإنسان قد وجد نفسه تدريجيًّا في حال اعتماد مطلق عليها وعلى عالمها الذي صاغه بخياله الخصب. فإذا كانت الأرواح سببًا للمرض أو الصحة، للحظ العاثر أم للحظ الباهر، للنجاح أو للإخفاق، وما إلى ذلك مما يسير في صالح الأحياء أم في غير صالحهم، فإن من الحكمة استرضاءها وتهدئة خواطرها. من هنا أخذ الإنسان بتقريب القرابين وتقديم الذبائح لأرواح الموتى، ويتوجه إليها بالابتهالات، فظهرت الممارسات التي ندعوها اليوم بالدينية. وبما أن أرواح الأسلاف المتميزين من زعماء وقادة وسحرة، هي أقوى الأرواح وأشدها أثرًا، فإن الطقوس قد تركَّزت حول هذه الأرواح أكثر من غيرها.

ثم ينتقل تيلور إلى زمرةٍ أخرى من الأرواح غير الإنسانية. فإذا كانت أرواح الموتى من البشر تمارس تأثيرها في المجتمع الإنساني، فإن هناك أرواحًا من نوعٍ آخر تفعل في مظاهر الطبيعة الأخرى، وتتسبب فيما يبدو لنا من دينامية وحركية وتأثير في هذه المظاهر. فالبدائي، كما يرى تيلور، لا يستطيع التفريق بين المواضيع الحية وغير الحية، شأنه في ذلك كشأن الطفل الذي ينظر إلى كل ما حوله نظرته إلى كائن حي؛ لأن خبرته الأولى قد تشكلت عن مواجهته مع الكائنات الحية؛ فهو يعزو إلى الجمادات روحًا كروح البشر ويُسقط عليها تلك الثنائية التي تصورها في الإنسان. من هنا فإنه يجد في الروح الحالَّة في الجمادات السببَ الكامن وراء سلوكها؛ فإذا تحرَّك الهواء فلأن به روحًا تُحركه، وكذلك مجرى الماء ونمو النبات وشروق الشمس وحركة الأجرام العلوية؛ وبذلك وسَّع البدائي نظرته الأرواحية لتشمل العالم من حوله، فصار كونًا حيًّا تسكنه الأرواح من كل نوع وتُحركه وفق مشيئتها، واقترنت ديانة الأرواح مع ديانة الطبيعة في أصولها ومنابتها.

لقد واجهت الأرواحية كثيرًا من النقد منذ بداياتها الأولى. ولسوف أركِّز فيما يلي على النقد الذي وجَّهه إليها إميل دوركهايم؛ لأنني سوف أتبنَّى جانبًا مهمًّا من نقده هذا، وأكمله استنادًا إلى المعلومات الجديدة التي زوَّدتنا بها علومُ ما قبل التاريخ حول معتقدات العصر الحجري الحديث، التي عثرتُ فيها على البدايات التاريخية الأولى لعبادات الأسلاف؛ وذلك لغرض استكمال وجهة نظري المتعلقة بعبادة الأسلاف وأصل الآلهة.

يرى دوركهايم٧ أن الأرواحية قد أدَّت خدمةٍ جُلَّى إلى علم الدين وإلى تاريخ الأفكار بشكل عام؛ لأنها أخضعت فكرة الروح إلى التحليل التاريخي، واستقصت مصادر هذه الفكرة في حركة فكر الإنسان وخبرته المباشرة، بعد أن كانت بدهية من بدهيات الوعي لدى الفلاسفة. ولكنه يرى استنادًا إلى دراسةٍ معمَّقة للأديان البدائية، وخصوصًا ديانة الأستراليين، أن فكرة الروح تأتي كناتج من نواتج الدين، وليست بأي حال من الأحوال المصدرَ الأصلي لنشوء الدين كما يقول تيلور. ويرتكز نقد دوركهايم للدور الذي تعزوه النظرية الأرواحية للأحلام في تكوين فكرة الروح، على عدد من النقاط المنطقية؛ فإذا كان التعليل الأصلي للأحلام قد جاء فعلًا على الصورة التي بيَّنتها الأرواحية، فإن هذا التعليل ينبغي أن يبدو وكأنه الوحيد الممكن بالنسبة للإنسان القديم، أو على الأقل أن يكون الأسهل والأقرب إلى آلية تفكير ذلك الإنسان، الذي لم يكن يلجأ إلى إعمال الذهن إلا مضطرًّا. ولكن الأمر لم يكن كذلك أبدًا؛ فلقد كان من الأهون على العقلية البدائية والأقرب إلى منطقها، أن تفترض في النائم مقدرةً على الاستبصار، فيرى أماكن نائية وأشخاصًا غائبين، دون أن يكون مضطرًّا إلى ابتكار مفهوم مُعقَّد حول انقسام الإنسان إلى صنوَين، ينتزع أحدهما نفسه من قرينه عند النوم لكي يهيم في الأجواء. فإذا فرضنا جدلًا أن الإنسان القديم قد لجأ فعلًا إلى هذا الحل المُعقَّد، الذي لا يطرح نفسه بسهولة على الذهن، فكيف استطاع بالتالي أن يعلل الأحلام التي يرى فيها مجددًا أحداثًا ماضيات، فيتكرر أمامه أمرٌ حصل في الأمس أو في العام الفائت أو ربما في أيام الطفولة؟ وهل تتحرَّك الروح في الزمان جيئة وذهابًا كما تفعل في المكان؟ وإذا كانت رؤيته للأصدقاء والأقارب الأحياء في النوم تأتي بفعل لقاء روحه الهائمة بأرواحهم، كما يعتقد، فهل لم يسأل واحدهم في الصباح صديقًا رآه في منامه، ليكتشف أن هذا الصديق لم يشاركه الحلم ذاته، وأن روحه كانت تجوس في أمكنةٍ بعيدة عنه؟ إن ما تقود إليه هذه التساؤلات هو أن البدائي الذي عزا إليه تيلور هذه المقدرة التحليلية أمام ظاهرة الحلم، لا يمكن أن نعزو إليه في الوقت نفسه هذه البلادة التي تمنعه من الافتراض بأن الأحلام ليست سوى هلوسات وخداع حواس. والنتيجة الأولى التي يتوصل إليها دوركهايم، هي أن فرضية الروح لم تكن الحل الأمثل بالنسبة للبدائي، ولا بد أن يكون الإنسان قد توصَّل إليها عن طريقٍ آخر.

استنادًا إلى المعلومات الموثقة عن الميلانيزيين والأستراليين، يرى دوركهايم أن فكرة انتقال الروح أثناء الحلم موجودة لدى الشعوب البدائية، إلا أن هؤلاء الناس يميزون بين الأنواع العديدة لأحلامهم، وهم لا يُفسرونها دومًا بالطريقة نفسها؛ فالميلانيزي يعزو نوعًا معينًا من أحلامه فقط إلى تجوال الروح خارج الجسد، وهو النوع الذي يُلهب الخيال بقوة وعنف، أما بقية الأحلام فله فيها تفسيراتٌ أخرى. والأسترالي يُفرق بين الأحلام العادية التي يعتبرها من تهيؤات الخيال، وتلك التي يعرض له خلالها شبحُ صديقٍ ميت، ويعتبرها نتاج تدخُّل من قوة غير مرئية، ويعتقد فعلًا أن روح الميت قد غادرت واقتحمت عالم الأحياء. غير أن هذا التعليل الذي يقول به البدائي ليس الأساس الذي قامت عليه فكرة الروح عنده، بل العكس هو الصحيح؛ إذَن لا بد من وجود أفكار سابقة وراسخة عن الروح وعن عالم الأموات ليستند إليها في تفسيره لهذا النوع من الأحلام، ولا بد أنه قد توصَّل إلى معتقد الأرواح عن طريق خبرات عاطفية وتأملات ذهنية مختلفة تمامًا عن خبرة الأحلام.

ثم ينتقل دوركهايم بعد ذلك إلى بحث حجر الزاوية في النظرية الأرواحية، وهو قدسية عالم الأرواح، ويتساءل عن مصدر القداسة التي أُسبغت على الروح وعلى عالم الأرواح. إن مفهوم الروح الفردية التي عاشت في جسدٍ ما ثم استقلت عنه عند الموت، لا يكفي في حد ذاته لتأسيس عبادة الأسلاف، فمن أين اكتسبت الروح هذه القدسية التي تُسبغها عليها المعتقدات الأرواحية؟ ومن أين جاءتها هذه القوة الخارقة للمعتاد؟ يقول أتباع النظرية الأرواحية بأن الموت هو سبب التحولات العميقة التي طرأت على الروح المتحررة. ولكن بأية قدرة يستطيع الموت إحداث هذا التغيير الجذري في طبيعة الروح، فينقلها من شبحٍ حيوي يتجول على هواه أثناء النوم، إلى شيء ذي طبيعة قدسية، ومركز لإثارة عواطف دينية قوية؟ إن الروح، وقد حرَّرها الموت من جسدٍ معين، سوف تنشط بالطريقة التي كانت تنشط بها ليلًا عندما كانت قرينةَ جسدٍ مادي، مع بعض الحرية التي اكتسبتها بالاستقلال، وسوف تبقى خصائصها وأفعالها من نوع وطبيعة خصائصها وأفعالها السابقة؛ لأن واقعة الموت لم تُدخل في الحقيقة أيَّ تعديل جوهري عليها، فلماذا اعتبر الأحياء تلك الأشباح التي سكنت أجساد رفاقهم السابقين، كائنات فوق مستواهم والمستوى الطبيعي عامة؟

ويوجه دوركهايم النقد ذاته لمفهوم حيوية الطبيعة والأرواح الحالَّة في موضوعاتها، وما يتبع ذلك من تفسير عبادة قوى الطبيعة، باعتبارها إسقاطًا لفكرة الروح (التي تم تأسيسها في المجال الإنساني) على المجال الطبيعي؛ فهذا النبع أو ذاك النهر أو تلك الشُّعلة، هي بطريقةٍ ما صنوٌ للإنسان، طالما أنها مؤلَّفة مثله من جسد وروح، فما الذي دفعه إلى إعلاء بعضها واعتبار البعض الآخر كائنات فوق طبيعانية؟ ثم ينتهي دوركهايم إلى النتيجة المنطقية لنقده، وهي أن القداسة التي تمتعت بها الروح لدى البدائي قد جاءت من مصدر آخر خارج عنها، والجماعات الإنسانية الأولى لا بد وأنها كوَّنت لنفسها مفهومًا واضحًا عن القداسة وعن العوالم القدسية، قبل أن تنتقل إلى تقديس الروح؛ أي إن العوالم الدينية قد سبقت معتقد الأرواح، وهي التي أعطت هذا المعتقد صفته الدينية.

عند هذه النقطة من تفكير دوركهايم الصائب وبصيرته الثاقبة، وهي النقطة التي أتفقُ حولها معه تمامًا، فإني أفترقُ عنه في تفسيره المجتمعي لفكرة المقدس،٨ ومع الآخرين من أصحاب النظريات التي اعتمدت دراسة الثقافات البدائية الحديثة، وأتابع اختبار أطروحة نشوء فكرة الآلهة عن عبادة الأسلاف، اعتمادًا على المعلومات الموثَّقة عن ثقافة العصر الحجري، وهي الثقافة الوحيدة التي تستحق صفة الثقافة البدائية الأصلية.

•••

لقد لفتنا النظر في حينه إلى طقوس الدفن عند الإنسان النياندرتالي إبَّان الباليوليت الأوسط، ورأينا كيف أشارت هذه الطقوس إلى اعتقاد بوجود الروح، وبانقسام الأحياء إلى جسد مادي وشبح أثيري يَعبُر من القبر إلى مستوًى آخر الوجود. كما وجدنا في بعض ترتيبات الدفن النياندرتالية تعبيرًا عن الخوف من عودة الروح إلى جسد المتوفى؛ لأن الروح قد تزوَّدت بقوة تفوق قوى الأحياء بعد عبورها إلى المستوى الآخر؛ ولذا فإن عودتها إلى جسد صاحبها سوف تخل، بشكل أو آخر، بالنظام الطبيعي وبالعلاقات ضمن الجماعة. كما لاحظنا أيضًا استمرار طقوس الدفن هذه وتنوُّعها خلال الباليوليت الأعلى؛ عصر الإنسان العاقل، وأكَّدنا على أهمية استخدام مادة المغرة الحمراء بالنسبة لمعتقد استمرار الحياة فيما وراء القبر، فهذه المادة التي طُليت بها أجساد الموتى وبعض الأثاث الجنائزي داخل القبر، ترمز إلى الدم الذي هو شعار الحياة، وتزود الروح بقوة تساعدها على عبور البرزخ بين العالمين إلى الحياة الخالدة. ولعل ما يؤكد هذه القيمة الرمزية للمغرة الحمراء، استمرارها إلى اليوم لدى الشعوب البدائية؛ فسكان أستراليا الأصليون ما زالوا إلى اليوم يعقدون صلة بين هذه المادة وطاقة الحياة في الإنسان. وقد نال الرأس عناية خاصة في شعائر الدفن، سواء لدى النياندرتال أو الإنسان العاقل؛ فقد نجده مُتوسدًا كومة من الأصداف والقواقع، أو محميًّا بحجر كبير مُلاصق، أو موضوعًا ضمن صندوق مؤلَّف من لوحين حجريين جانبيين ولوح أفقي فوقهما، أو محاطًا بدائرة من الأحجار التي تمنع إيذاء الجمجمة في حال سقوط ثقل ما فوقها. وهناك حالات نادرة تدل على اللجوء أحيانًا إلى الاحتفاظ بجمجمة الميت، وعرضها في مكان بارز في كهف السكن.

يضع كثير من علماء العصر الحجري ومؤرخي الأديان هذه الشعائر الجنائزية تحت عنوان عبادة الأموات، ويستنتجون أن نوعًا ما من عبادة الأموات كان معروفًا خلال الباليوليت الأعلى. ولكن المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن لا تدعم هذا الاستنتاج؛ فلِكي يكون لدينا عبادة (= Cult) بالمفهوم الديني لهذه الكلمة، يجب أن تتوفر في الطقوس الممارسة خاصية التكرار الدوري عبر فترات منتظمة، وذلك بغرض توكيد وتدعيم صلة الجماعة مع القوى أو الكائنات القدسية التي تؤمن بها وتعتمد عليها، أما ما نراه من طقوس متفرقة تمارس كلما دعت الحاجة إليها، فلا تُشكل عبادة بالمعنى الاصطلاحي الدقيق. من هنا فإن الطقوس المرتبطة بدفن الموتى لا يمكن أن ترقى إلى مرتبة العبادة إلا إذا استمرت إلى ما بعد الدفن، وجرت ممارساتها بشكل منتظم وكجزء من عملية شاملة لتقديس المتوفى والإبقاء على ذكراه، وصارت بذلك جزءًا من الحياة الروحية لسُلالة المتوفى. ونحن لن نلاحظ البدايات المنتظمة الأولى لمثل هذه العبادة إلا إبان العصر النيوليتي في سوريا، حيث بدأنا نلاحظ طقوسًا حقيقية تتعلق بجماجم الموتى؛ فمع أوائل الألف الثامن قبل الميلاد، نستطيع التحدث بكثير من الثقة عن ظهور البدايات الأولى لتقديس الموتى وعبادة الأسلاف.
منذ العصر النطوفي الذي مهد للثورة النيوليتية في سوريا القديمة، نلاحظ عادةً دفن جماجم الموتى في استقلال عن هياكلها العظمية. ففي موقع عرق الأحمر بفلسطين، لم يعثر المنقِّبون إلا على هيكل عظمي كامل واحد، بينما احتوت بقية القبور على جماجم مدفونة بشكل جماعي، وكل جمجمة بجانبها سن حصان. أما في المواقع النطوفية التي وُجدت في مقابرها هياكل عظمية كاملة، فقد لاحظ المنقبون استمرار عادات الدفن القديمة التي سادت في الباليوليت الأعلى والأوسط، فالهياكل مثنية بقوة في حُفر صغيرة، والرأس يستند على وسادة حجرية، بينما وُضعت على المفاصل أحجارٌ ثقيلة، وهناك آثار لطلاء أحمر.٩ وسوف تتوضح أمامنا بالتدريج، كلما تقدَّمنا نحو العصر النيوليتي، الأهمية الخاصة للرأس في شعائر الدفن التي تدور حول معتقد يرى في الرأس مستودعًا لقوة قدسية.
في مستوى النيوليت ما قبل الفخار في موقع أريحا بفلسطين (مطلع الألف الثامن) عُثر على عدد من القبور يحتوي كلٌّ منها على جماجم مرتبة في مجموعات، تضم كل مجموعة خمس أو ثلاث جماجم مرصوفة على شكل دائرة وجوهُها تتجه نحو المركز، وفي حالة خاصة عُثر على هيكل لطفل تصحبه مجموعة من جماجم الأطفال.١٠ وهناك دلائل تشير إلى أن بعض الأُسر كانت تدفن جمجمة أحد أسلافها تحت المنزل الجديد، كنوع من حجر التأسيس للبناء، فتوضع في الزاوية عند التقاء جدارين. ويبدو أن الهدف من هذه العادة هو الاحتفاظ بالقوة الروحية لذلك السلف في البيت.١١ أما من موقع تل المريبط على الفرات الأوسط، فإن عبادة الجماجم تعلن عن نفسها لأول مرة بكل قوة ووضوح؛ فأجسام الموتى كانت مدفونة تحت أرضيات المساكن، بينما فُصلت جماجمها ووُزعت ضمن المسكن على امتداد الجدران، وكل جمجمة ترتكز على قاعدة طينية خاصة بها، وذلك كنوع من الأثاث الجنائزي المعروض باستمرار أمام الأنظار.١٢
fig13
جماجم مُشكَّلة الملامح من تل الرماد.
وفي مستويات النيوليت الفخاري بأريحا، لم يكتفِ الإنسان النيوليتي هنا بعرض جماجم الموتى بشكلها الخام الطبيعي، بل لقد عمد إلى إعادة تشكيل ملامح أصحابها، بحيث تغدو الجمجمة المعروضة وكأنها صورة شخصية (بورتريه) للسلف المبجل، واستُخدم في عملية التشكيل عجينة من كلس وطين، وملئت مَحاجر العيون بأصداف تعطي شكل البؤبؤ، ثم طُلي الوجه بلون يماثل لون البشرة الإنسانية، وتم حشو الجمجمة من الداخل بالطين المدكوك لأجل تقويتها. ويُنبي تشكيل الملامح عن حرفة فنية عالية ورهافة لا يتوقعها الكثيرون من إنسان ذلك العصر. وقد وُجدت هذه الجماجم معروضة ضمن البيوت في مجموعات مؤلفة من خمس أو اثنتين وأحيانًا واحدة. تستمر شعيرة الجماجم هذه في موقع أريحا خلال عصورها اللاحقة، إلا أن الصنعة الفنية تميل تدريجيًّا نحو التنميط، وتبتعد عن رصد الملامح الفردية المتنوعة، كما يتم تشكيل الجمجمة باعتبارها جزءًا من تمثال نصفي أو ربما بالحجم الطبيعي؛ لأن ما تم تجميعه من كسرات هذه التماثيل لم يكفِ لإعادة بناء هيئة كاملة.١٣
fig14
جماجم مُشكَّلة الملامح من أريحا.
ويُقدم لنا موقع تل الرماد قرب دمشق، في سوية الألف السابع، دلائل على شعائر مشابهة لشعائر أريحا، إلا أن تقنيات تشكيل الجماجم هنا لم تصل إلى المستوى الرفيع لتقنيات أريحا. وقد وُجدت الجماجم المُشكَّلة الوجوه باللدائن نفسها في مجموعات ضمن البيوت، وإلى جانبها قواعد طينية بارتفاع عشرين سنتم على هيئة جذع، كانت تُستخدم كقواعد لعرض الجماجم. كما وُجدت في الفترة نفسها في شتال حيوك بجنوب الأناضول جماجم على أرضيات أو مصاطب الهياكل (انظر التشكيلات الجدارية في الفصل الثالث). ورغم أن هذه الجماجم لم تكن مُشكَّلة الملامح مثل جماجم تل الرماد، إلا أنها كانت جزءًا من أثاث جنائزي معروض باستمرار. وهناك أمثلة أخرى متفرقة على شعائر الجماجم من مواقع أخرى في سوريا وفلسطين، إلا أن ما يلفت النظر في بعض الحالات هو العثور على مقابر تضمُّ هياكل بلا رءوس، وعدم العثور على رءوسها في أي مكان من الموقع؛ الأمر الذي يدل على أن السكان ربما حملوا جماجم أسلافهم عندما هجروا المكان.١٤

وهكذا تُثبت المعلومات الأكيدة المستمدة من علم آثار ما قبل التاريخ، أن عبادة الأسلاف لم تنشأ عند جذور الدين كما قال سبنسر وأتباع المدرسة الأرواحية، بل بعد مائة أو مائتَي ألف عام من ظهور الشواهد على حياة دينية منظمة لدى الإنسان الأول؛ ذلك أن عقيدة الجماجم، وهي المؤشر الأول في تاريخ الدين على عبادة الموتى، لا تظهر وتأخذ أبعادها كاملة إلا في وسط قروي مستقر يتمتع بحياة دينية منظمة، تحمل وراءها عشرات ألوف السنين من التفاعل ضمن البيئة الاجتماعية. فهذه العقيدة التي تقوم على الإيمان بقوة الأرواح وقداستها لم تنشأ في فراغ ديني، بل انبثقت عن معتقدات أقدم منها متوارثة عن الباليوليت الأعلى، وتعايشت معها دون أن تحل محلها. ففي تل المريبط نجد الجماجم المنصوبة على حواملها، قائمة في بيوت الناس الذين تعبدوا للقوة السارية من خلال رءوس الثيران المعروضة على المناصب الطينية. وفي شتال حيوك تُوضع الجماجم بشكل ظاهر في الهياكل التي أقيمت أصلًا لرءوس الثيران وتمثيلات الألوهة المؤنثة. وفي أريحا تُرصَف مجموعات الجماجم المشكلة الملامح في البيوت السكنية للناس الذين بنوا هياكل دينية أقاموا فيها الطقوس للتواصل مع القوة الكونية الوحيدة التي عرفها الإنسان في ذلك العصر؛ قوة المجال القدسي.

fig15
جمجمة مُشكَّلة الملامح من أريحا/مع قاعدة.

أي إن قدسية الأرواح، وبشكل خاص قدسية الأسلاف المبجلين، إنما تُستمد من مفهوم سابق، مؤسس وراسخ، للقداسة، ومن أفكار دينية ناضجة عن المقدس وعن الدنيوي. وإنسان العصر النيوليتي في إعلائه لأرواح السلف، قد نظر إلى جماجمهم باعتبارها مستودعًا لقوة قدسية غير محدودة تصدر عن منبع كوني خفي. فإذا كانت أرواح الموتى تكتسب قوة فوق طبيعانية بعد مغادرتها أجسادها، فلأنها انضمت إلى المستوى القدسي للوجود الذي صدرت عنه أصلًا، واستمدت من قوته السارية، وهذه القوة تتكثف بشكل خاص في أرواح الأفراد المتميزين ممن لعبوا دورًا هامًّا خلال حياتهم، ويبقون بعد مماتهم صلة وصل مع المستوى القدسي، كما تبقى جماجمهم بين الأحياء شارة للقداسة، يتعبد الناس إليها زلفى.

وشيئًا فشيئًا تحل الشارة الإنسانية محل الشارة الحيوانية رمزًا لعالم اللاهوت، وتأخذ القوة تدريجيًّا باتخاذ الملامح الإنسانية بعد أن احتجبت طويلًا وراء الهيئة الحيوانية. ويترافق هذا التحول مع إدراك الجنس البشري لتميزه ولدوره على مسرح الكون.

إن الجماجم المُشكَّلة الملامح في المواقع النيوليتية السورية والفلسطينية، هي أول محاولة في تاريخ الدين والفن لتصوير الملامح الإنسانية. وقبل الألف الثامن قبل الميلاد، لا نعثر في أي مكان ولدى أية ثقافة على محاولة جدية ومقصودة في هذا المجال؛ فتشخيص الإنسان كان نادرًا جدًّا بشكل عام في الباليوليت الأعلى، فإذا ظهر في الرسم فبشكل عام وغامض، وباستخدام خطوط تُظهر هيئته الجسدية من دون وجهه. أما الدُّمى العشتارية فكانت تُشكَّل بدون رأس، أو برأس يُشبه الكرة الملساء دون ملامح وجه على الإطلاق. وفي الحالات التي تم فيها تنفيذ تكوين واقعي للرأس، كما هو الأمر في منحوتات الآلهة الأناضولية، بقيت ملامح الوجه غامضة ومتلاشية بطريقة لا توحي بسيماء فردية محددة. وقد قلنا في حينه إن إنسان العصر الحجري قد تعمَّد تجاهل الرأس وإغفال الملامح، لإحساسه بأنه يصنع صورة رمزية تُعبر عن ألوهة غير مشخصة، ويرسم شارة وشعارًا لا هيئة حقيقية موجودة. ولكن منذ أن بدأ الإنسان بتشكيل ملامح وجه إنساني يُمثل شخصًا بعينه، ثم عزا إلى هذه الهيئة قوًى غير طبيعية، أو جعلها مستقرًّا لهذه القوة، دخل الفكر الديني مرحلة التشخيص؛ تشخيص القوة غير المشخصة (سواء عن طريق تشكيل الجماجم أو تشكيل الحجر والصلصال فيما بعد)، وأخذ الإنسان ينظر إلى القوة من خلال تمثيلات مشخصة. وشيئًا فشيئًا تحولت القوة إلى شخصيات ذات قوة، وتكسر مبدأ القوة السارية إلى عدد من القوى، وظهرت الآلهة.

مما لا شك فيه، أن التغيرات الجذرية في أنماط الإنتاج داخل التجمعات الزراعية النيوليتية، وتبدُّل البنى السياسية والاجتماعية في المستوطنات القروية الأولى، التي كانت تسير بخطًى حثيثة نحو تكوين المدن الأولى في تاريخ البشرية، قد ساعد على إحداث التغيرات في المفاهيم الدينية، وشجَّع على ترسيخ مفهوم الشخصية الإلهية في مقابل الألوهة غير المشخصة. وبشكل خاص، فإننا نعزو إلى التحولات النوعية الطارئة على مفهوم السلطة، وعلى أساليب ممارستها ضمن الجماعة، الأثر الأكبر في تكوين مفهوم جديد للسلطة على مستوى الكون؛ فجماعات الصيادين في الباليوليت الأعلى، كانت تعيش مشاعية اقتصادية في ظل نظام سياسي بسيط يقوم على اختيار رئيس غير متفرغ لمهام هذه الرئاسة، يرعى تطبيق الأعراف المتوارثة، ويعمل على تسوية المنازعات البسيطة التي قد تنشأ بين الأفراد. وباستطاعتنا الافتراض اعتمادًا على المعلومات المستمدة من أركيولوجيا المواقع النيوليتية الأولى، أن بدايات العصر الحجري الحديث لم تحمل معها تغييرات مباشرة ومهمة في البنى الاجتماعية والسياسية، وذلك رغم التغيرات الاقتصادية الجذرية التي كانت تعمل على تغيير وجه الحضارة الإنسانية. ولكننا مع الاقتراب نحو فجر المدنية في الشرق الأدنى القديم، ومع تحوُّل القرى الزراعية إلى أشباه مدن، نأخذ بملاحظة حلول تغييرات في جميع البنى الاجتماعية والسياسية للمواقع النيوليتية، التي دخلت الآن العصر النحاسي (الخالكوليتي) الذي مهَّد للاستخدامات الواسعة للمعادن عوضًا عن الحجارة. لقد تحوَّل المقام أو الحرم الديني البسيط إلى معبد كبير، وتحوَّل الشامان، رجل الدين البدائي، إلى كاهن كبير يخدمه عدد من الكهان الأدنى مرتبة، وبُني قصر واسع للرئيس الذي تحوَّل إلى ملك متفرغ لشئون الحكم، يفرض سلطته بعد أن كان يستمدها من الجماعة، وظهر التملك الخاص للأرض ولوسائل الإنتاج، وتنوعت الحِرف والاختصاصات. كل هذه التغيرات انعكست على البنية الدينية وعلى المفاهيم الدينية والكونية. ففي الماضي، لم يكن الفرد يشعر بالسلطة تُمارَس عليه من قِبل أية جهة إنسانية كانت أم طبيعانية، أما إحساسه بالروع أمام القوة الغفلة في الطبيعة، فكان يتلاشى بشكل تلقائي كلما عمد إلى إقامة الطقوس التي كانت تجعله في انسجام مع الطبيعة وقواها المنظورة والخفية. أما الآن، وبعد تأسيس مفهوم اجتماعي وسياسي للسلطة، فقد بدأ الكون يظهر وكأنه محكوم أيضًا ومُسيَّر بالسلطة، وتحولت القوة التلقائية التي كانت تفيض من عالم اللاهوت إلى سلطة وإلى نظام سلطوي متدرج. فكما تتوزع السلطة ضمن الجماعة في هرمية متسلسلة من الأعلى إلى الأسفل، كذلك توزَّعت القوة الإلهية إلى مجموعة قوًى متجزئة، وظهرت هرمية السلطة على مستوى الكون. وهكذا وجدت عملية تشخيص الألوهة التي كانت جارية ضمن مؤسسة عبادة الأسلاف تأييدًا لها من القوة الاجتماعية الجديدة الصاعدة.

فيما يلي من موضوعات هذا الكتاب، سوف أعرض للمزيد من الإثباتات التي تؤيد ما بسطته آنفًا بشأن أصل الآلهة في السياق العام لتاريخ المعتقدات الدينية. ولسوف ألتفت الآن إلى اختبار صحة النظرية ومدى مطابقتها للوقائع المستمدة من تاريخ الدين ومعتقدات البدائيين؛ وذلك باللجوء إلى مناقشة أهم النظريات الأخرى وأكثرها تعارضًا معنا، والتي لا تكتفي بافتراض أسبقية الآلهة المشخصة وقيامها عند أصول الدين، بل تتعدى ذلك إلى القول بنوع من التوحيد البدئي كان موجودًا على الدوام في صُلب الاعتقاد الديني. إن أكثر هذه النظريات شُهرة هي نظرية أندرو لانغ، ونظرية وليم شميدت المكمِّلة لها.

انطلق أندرو لانغ Andrew Lang (١٨٤٤–١٩١٢م) في تشكيل نظريته من نقده لنظرية تيلور الأرواحية، وذلك في كتابه Myth, Ritual and Religion الصادر عام ١٨٨٧م، فهو يرى أن فكرة الإله الأعلى موجودة لدى أكثر الشعوب بدائية، وهم الأستراليون، كما نجدها أيضًا في أفريقيا والأمريكيتين، وهذا ما يضع، بداية، الأطروحة الرئيسية للنظرية الأرواحية موضع شك. ومع أن لانغ لا يحيد في منهجه عن المخطط التطوري، إلا أنه ينتقد التبسيط الشديد الذي يلجأ إليه معظم التطوريين، ويعتقد بأن فكرة الكائنات الإلهية العُليا قد قامت في استقلال تام عن معتقدات الأرواح وعبادة الأسلاف، وهي ليست نتاجًا لتطور أفكار بسيطة سابقة عليها، خصوصًا وأننا نجد فكرة الكائن الإلهي الأعلى في مجتمعات لا نعثر فيها على أثر لعبادة الأسلاف. ثم يتوصل لانغ إلى نتيجته المرسومة مسبقًا، وهي أن الذهن الإنساني كان قادرًا دائمًا وعبر كل العصور على التوصل إلى فكرة الكائن الإلهي الأعلى، إلا أن الخيال غالبًا ما غلَّف هذا المفهوم السامي بتصورات ميثولوجية خلقت حشدًا من الآلهة، حجب وراءه ذلك المفهوم الأصلي.١٥
بعد وفاة أندرو لانغ، قام فيلهلم شميدت Wilhelm Schmidt (١٨٦٨–١٩٥٤م)، وهو كاهن كاثوليكي وعالِم أنتروبولوجي، بتطوير أفكار لانغ حول التوحيد البدئي، في كتابه الضخم Der Ursprug Gottesidee الذي نُشر مجلده الأول عام ١٩١٢م. هاجم شميدت النظريات التطورية في دراسة الدين، مؤكدًا أن التاريخ الإنساني، وتاريخ الأفكار بشكل خاص، يؤلِّف حقلًا أكثر تعقيدًا مما يراه التطوريون. وبدلًا من الحركة الخطية لتطور الحضارة، يقترح شميدت عددًا من الدوائر الحضارية التي تطورت كلٌّ منها في استقلال نِسبي عن الأخرى، وحملت خصائص مختلفة أيضًا. وبعد قيامه برسم حدود هذه الدوائر، يعمد إلى استقصاء فكرة الكائن الأعلى في معتقدات كل دائرة، موضحًا الخطوط العامة لشخصيته في كل حالة؛ ليتوصل أخيرًا إلى القول بتشابه هذه الكائنات العليا وتماثل سماتها وخصائصها في كل مكان. أما عن سبب هذا التشابه فيعود في رأيه إلى أن ثقافات العالم الحديث في قاراته الخمس ينبغي ألا توضع على مسار تطوري خطي؛ لأن كل ثقافة قد تطوَّرت في معزل عن الأخرى ضمن دائرتها الحضارية الخاصة. ولكن هذه الثقافات جميعًا قد نشأت عن مستوًى حضاري واحد مُغرِق في القِدم، سادت عنده ديانة واحدة تؤمن بإله واحد، ومنها أخذت الأديان التي استقلت فيما بعدُ بذور التوحيد. إن مثل هذه الديانة الأصلية الواحدة لا يمكن تفسيرها إلا بالقول بوحي بدئي هبط على البشرية عند جذور تاريخها. ولكن شميدت يلاحظ بعد ذلك أن هذا الكائن الأعلى لم تكن له المكانة نفسها لدى جميع الشعوب وعبر كل الأزمنة، ويعزو ذلك إلى التبدل في أنماط الحياة وما يعكسه هذا التبدل على الأفكار والمعتقدات. فالمجتمعات الزراعية مثلًا أكَّدت على كائن إلهي مؤنث ذي خصائص قمرية، بينما رفعت الشعوب الرعوية إلهًا مذكرًا هو سيد السماء ورئيس مجمع آلهة الظواهر الطبيعية، أما الشعوب البدائية المعاصرة فرغم اعتراف بعضها بوجود سيدٍ أعلى للكون، فإنها لا تتوجه إليه بالعبادة ولا تقيم له الهياكل والمقامات؛ لأنها تعتبره بعيدًا جدًّا ويعيش في عالَمه غير آبه بالناس؛ ولذا فإنها تتوسل إلى آلهة أقرب إليها وأكثر دينامية.١٦
إن أول نقد يمكن توجيهه إلى شميدت، هو أنه يتحدث عن التوحيد كلما وجد إلهًا أعلى يتفوق في خصائصه وقواه على بقية الكائنات الروحية أو الإلهية التي تؤمن بها الجماعة، وهذه أولى نقاط الضعف في نظريته. أما النقطة الثانية، فتظهر في تركيزه على الأمثلة التي توافق وجهة نظره المسبقة، ويعزو ما يخالفها إلى مراحل التفكك والانحدار في الحياة الدينية للإنسان. يضاف إلى ذلك أن شميدت، شأنه في ذلك شأن أندرو لانغ وغيره ممن يؤكدون على أولوية الكائنات العليا في أديان البدائيين، لا يعطي الأهمية الكافية للتأثير الذي مارسه التوحيد التاريخي على بقية الديانات، ما نأى منها وما دنا؛ فاليهودية قد تغلغلت في أفريقيا منذ القرون الأولى للميلاد، ثم تلتها المسيحية التي تبنَّتها نُظم ملكية قوية كما هو حال الحبشة، ومنذ القرن السابع لم يترك التجار المسلمون بقعة نائية إلا وارتادوها. ويكفي هنا أن أسوق أوضح مثال على التأثير الإسلامي في الأديان البدائية، وهو مستمد من أفريقيا. فالشعوب التي تسكن القسم الغربي من النيجر والقسم الشمالي من نيجيريا، لها ديانة أفريقية تقليدية ضاربة في أعماق التاريخ الأفريقي، تدور حول الجن والأرواح والأسلاف المؤلهين، إلا أنهم يعتقدون بإله خالق أعلى يقيم في السماء السابعة ويدعونه باسمه العربي الله، كما توجد لديهم عبادة سرية تدور حول كائن شيطاني اسمه إبليس باللفظ العربي أيضًا، وكذلك عبادة الملائكة بالاسم العربي ذاته. إلا أن كل هذه العبادات قد احتفظت بطابع زنجي أفريقي، ودخلت في نسيج الديانة المحلية إلى درجة لا تلفت النظر إلى مصدرها الحقيقي، لولا احتفاظها بالأسماء العربية الإسلامية.١٧ من هنا، فإن أي دارس مزوَّد بوجهات نظر مسبقة حول التوحيد الأصلي، سوف يحاول إرجاع هذه الأفكار شبه التوحيدية إلى معتقدات قديمة مُتجذرة في الدين الأفريقي، من دون أن يتقصى مصادرها وأصولها التاريخية. وهذه نقطة الضعف الثالثة لدى شميدت.

ولعل أكثر نقاط النظرية ضعفًا هو تقديمها لمفهوم الكائن الأعلى كما وجدته في المجتمعات البدائية، ومن دون النظر إلى تاريخ فكرة الكائن الأعلى وكيفية ظهورها في معتقدات الجماعة. وهذا الموقف ينشأ عن افتراض خاطئ، قدر ما هو شائع، وهو أن الجماعات البدائية هي شعوب سكونية بلا تاريخ، وأن مؤسساتها القائمة اليوم هي استمرار تلقائي لمؤسساتها المغرقة في القدم، وثقافتها هي ثقافة الإنسان الحجري بعينها. لقد أوضحت سابقًا وفي أكثر من موضع خطأَ هذه النظرة في الثقافة البدائية ومؤسساتها، وضلال ما يُبنى عليها من نتائج. أما الآن فسوف أُبين بالدليل العملي الميداني كيف نشأ مفهوم الكائن الأعلى، في إحدى الثقافات البدائية، انطلاقًا من معتقدات أسبق منه تتعلق بتقديس الأسلاف والقوة السارية في الطبيعة. والمثال مأخوذ عن الثقافة الأسترالية التي تُعَد أكثر كل الثقافات المعروفة لنا بساطة وركودًا.

لقد رأينا سابقًا كيف يقوم المعتقد الأسترالي على المبدأ الطوطمي، الذي يعادل مفهوم المانا لدى شعوب ميلانيزيا. وسوف نوضح فيما يأتي كيف توصلت الثقافة الأسترالية لدى بعض قبائلها إلى فكرة الكائن الأعلى، علمًا بأن هذه الحالات النادرة التي استطاع الباحثون التأكد من وضوح مفهوم الكائن الأعلى فيها، هي الحالات التي عوَّل عليها شميدت دون غيرها، في بحثه عن التوحيد الأصلي في أستراليا، واعتبرها بمثابة الأمثلة الدامغة على أولوية الألوهة المشخصة ممثَّلةً بالإله الأكبر.١٨
يميز الأستراليون بين النفس (= soul) والروح (= spirit)؛ فالنفس هي ذلك الشبح الأثيري المحبوس في جسد الكائن الحي، وهي رغم إمكانياتها المحدودة على الحركة من وإلى الجسد، ضمن شروط معينة وفي أوقات معينة، فإنها لا تستطيع التخلص من إساره تمامًا إلا بموت الجسد. أما الروح، فرغم أنها قد جبلت من المادة الأثيرية التي للنفس، إلا أنها أكثر قوة وحرية، وهي رغم ارتباطها أحيانًا بموضوع مادي تحل فيه، كصخرة أو شجرة أو كوكب … إلخ، إلا أنها حرة في التنقل خارجه والعودة إليه متى شاءت، وذلك على عكس النفس التي لا تملك فعالية تُذكر خارج حدود الجسد الذي ترتبط به. ولكن النفس بعد الموت تكتسب بعض خصائص الروح، فتغدو أكثر حرية وأقدر على الحركة، فبعد انتهاء طقوس الدفن والحداد، تمكث النفس بين أهلها وأصدقائها فترة من الوقت ثم تغادرهم إلى عالم الأموات، وبعد ذلك غالبًا ما تتردد إلى مساكن أهلها لتتجول في الدغل قرب البيوت، فتُقدم العون أو تُسبب الأذى، وذلك تبعًا لنوع المعاملة التي تتلقاها من الأحياء. ومع ذلك فإن أشباح الموتى هذه تبقى أقرب إلى المتشرد الذي لا يملك وظيفة أو عملًا محددًا؛ لأن الموت قد وضعها خارج كل الأشكال والصيغ النظامية. أما الروح، فإنها تملك على الدوام قوة من نوع ما، ومجال فعل يتحدد بظاهرة ما من ظواهر الطبيعة أو المجتمع الإنساني؛ أي إن لها وظيفة محددة في النظام الكوني.

يُستثنى من هذا التقسيم نفوسٌ معينة تتمتع بخصائص النفس والروح معًا، فهي من جهةٍ أشباح موتى عاشوا على الأرض منذ قديم الزمان، ومن جهة ثانية هي أرواح ذات قوة كبيرة ومجال فعل وتأثير واضح وواسع؛ إنها نفوس الأسلاف الأسطوريين الذين وضعهم خيال القوم عند بداية الزمن، والذين تمتعوا إبان حياتهم بقوة لم تتيسر لغيرهم من الأحياء أو الأموات بعد ذلك. هؤلاء الأسلاف لم يولدوا من جيل سابق عليهم، بل انبثقوا إلى الوجود مع انبثاق مظاهر الطبيعة ذاتها، ثم أنجزوا كل الأعمال الجليلة الضرورية لاستمرار البشرية من بعدهم، وعندما انتهت مهمتهم غادروا الحياة الدنيا وولجوا إلى باطن الأرض، ولكن نفوسهم بقيت بمثابة أرواح خالدة ترعى سلالتهم من بعدهم. وقد تحوَّلت النقاط التي عبر منها الأسلاف نحو باطن الأرض إلى بقاع مقدسة، فهنا تودِّع العشيرة أدواتها الطقسية، وهنا تُقام الطقوس الدينية الرئيسية.

ويعزو الأسترالي إلى أسلافه الأسطوريين قوًى فوق طبيعانية خارقة، فهم الذين أعطوا منذ البدء للأرض شكلها الحالي، وهم المسئولون عن ظهور الكائنات الحية عليها. ويبلغ من قدراتهم أنهم يتحركون فوق الأرض أو تحتها بلمح البصر، يخترقون الجبال والحواجز الطبيعية كما الشعاع في الماء، وقد يغمرون البلاد بطوفانات عظيمة، أو يفجرون الينابيع فتملأ بحيرات لا حصر لها. ولعل من أهم المعتقدات المتعلقة بهؤلاء هي مسئوليتهم عن إخصاب النساء وتكوين الأجنَّة في الأرحام؛ فالفعل الجنسي ليس السبب المباشر في حمل المرأة، بل هو مجرد وسيط يسمح لأحد الأسلاف بأن ينفخ في الرحم من روحه، ويحل فيه بجزء منه فيما يشبه التقمص. وبذلك يزدوج السلف في كل مرة وإلى ما لا نهاية، من غير أن يفقد من كيانه الأصلي شيئًا؛ لأن ما يحل منه في الرحم عند كل تقمص لا يعدو أن يكون قبسًا ضئيلًا أو نفخة طفيفة. وبهذا يغدو كل فرد في العشيرة مرتبطًا بشكل وثيق بأحد الأسلاف الأسطوريين، فهو ممثله وصورة عنه في جماعته. ونظرًا لمسئوليته المباشرة عن إنجاب الطفل، فإن السلف المعنيَّ يتابع اهتمامه به منذ ولادته وحتى مماته، فإذا اشتد عوده يمضي معه إلى الصيد فيدفع الطرائد إليه، وهو يحذره في أحلامه من المخاطر الممكنة، ويحميه أنَّى تحرك من أعدائه.

إلى جانب العلاقة التي تربط بين أرواح الأسلاف وأفراد العشيرة، هناك علاقة من نوع آخر تربط أرواح الأسلاف إلى مظاهر الطبيعة؛ فروح السلف تقيم معظم وقتها في الهيئة الطبيعية التي دلف منها ذلك السلف إلى باطن الأرض في غابر الأزمان، وتغدو هذه الهيئة بمثابة الجسد المرئي له، وموضع تقديس عظيم، كما تغدو روح السلف، وبالمقابل، بمثابة روح للهيئة الطبيعية ذاتها. فإذا ما ارتبطت الهيئة بظاهرة من ظواهر حياة الطبيعة، كأن يرتبط نبع ماء مقدس بتهطال المطر، فإن روح السلف الحالَّة في هذا النبع تُعتبر بمثابة روح للمطر ومسئولة عنه أو موكلة به؛ وبذلك تلعب بعض الأرواح دورًا جديدًا وهامًّا على مستوى الطبيعة. لقد دعا بعض الباحثين هذه الزمرة من الأرواح التي ارتقت إلى وظائف عليا بالآلهة، إلا أن تعبير الآلهة هنا غير دقيق تمامًا؛ لأننا لا نزال في الواقع أمام مفهوم أرواح ارتقت إلى منزلة أرقى، وصار لها مجال فعل أوسع، غير أن هذا المفهوم الجديد إنما يضعنا في الواقع على الدرجات الأولى نحو التشخيص التدريجي للقوة الإلهية، مما سوف نتابعه فيما يلي.

رغم الاختلاف في الطقوس الدينية المُتَّبعة ضمن العشائر المكونة للقبيلة الواحدة، فإن هذه الطقوس تؤلف فيما بينها دينًا مشتركًا بين الجميع، وتتأكد الوحدة من خلال تشابهات أساسية تبدو واضحة تحت مظهر التنوع. وبشكل خاص، فإن طقوس التعدية (= initation) تُظهر تشابهًا لدى جميع العشائر، كما أن إجراءها لا يتم على مستوى العشيرة بل على مستوى القبيلة وبحضور جميع العشائر، حيث يتم من خلالها تقديم البالغين من الذكور إلى دين القبيلة وتعريفهم بأسراره. وقد قاد هذا التشابه في طقوس التعدية، وغيرها من الطقوس المشتركة بين العشائر، أو حتى بين مجموعة قبائل في بعض الأحيان، إلى الاعتقاد بالأصل الواحد لهذا الطقس المشترك، وبأنه يرجع إلى سلف بعينه، قام بتأسيسه وتعليمه للقبيلة كلها. فلدى جماعات الأورنتا، يسود الاعتقاد بأن سلف عشيرة القط البري هو الذي أوجد الأدوات الطقسية المعروفة بالتشورينغا، وأباح استعمالها طقسيًّا لجميع العشائر. ولدى جماعات الدبيري، يسود الاعتقاد بأن سلف عشيرة التمساح هو الذي أرسى أسس طقوس الختان وعلمها لجميع العشائر. هذا النوع من الأسلاف لا يوضع على قدم المساواة مع البقية؛ فإضافة إلى مسئولية هؤلاء عن بعض الطقوس المشتركة ومراقبتهم لأدائها، فإن الخيال الديني يعزو إليهم كل ما هو أساسي في حياة الجماعة، مثل الابتكارات التكنولوجية والمؤسسات الاجتماعية. وقد توصَّلت عشائر الكايتيش إلى النظر إلى السلف المدعو أنانتو على أنه من صُنع نفسه بنفسه في السماء، وابتكر الاسم الذي يحمله، وأن نجوم السماء هي بناته وزوجاته، كما يعتبر اسمه بمثابة تابو لا يجوز التلفظ به أمام من لم يمر بطقوس التعدية ويستلم أسرار دينه.

على أن هذا النوع من الشخصيات الميثولوجية ليس الدرجة الأخيرة في سُلم تشخيص القوة الإلهية في أستراليا؛ فلقد تم التوصل أحيانًا إلى مفهوم مشترك عن شخصية مبجلة، لا بين العشائر المؤلفة لقبيلة واحدة، بل بين عدد من القبائل. وهذه الشخصية هي التي وصفها أصحاب نظرية التوحيد الأصلي بأنها تُشبه بالفعل ما يعرفونه عن الإله الأعلى. غير أن تتبع سيرة حياة هذا الكائن الأعلى في الثقافة الأسترالية، يُظهر بوضوحٍ أصله كسلفٍ ارتقى سُلم الألوهة تدريجيًّا. فعلى ندرة وجود هذا النوع من السلف-الإله في الديانة الأسترالية التي تدور حول المبدأ الطوطمي وأرواح الأسلاف، فإنه يتمتع بخصائص متشابهة وسيرة حياة واحدة. فهو كائنٌ عاش على الأرض ردحًا من الزمن، ثم غادرها إلى السماء مع عائلته المؤلفة من عدد من الزوجات والأبناء والبنات، ومن هناك راح يُدير حركة الأفلاك ويرسل المطر ويصنع البرق والصاعقة، وقد أشعل الشمس لكي تدفئ الأرض وتخرج الكائنات الحية من تربتها وكذلك الزرع والشجر، ثم قام بتعليم البشر كلَّ ما من شأنه إعانتهم على الحياة، وهو يتواصل معهم إما مباشرةً أو عن طريق وسطاء. وبما أن طقوس التعدية هي الأكثر أهمية بين الطقوس، فإن هذا الكائن الأعلى هو المعني بها؛ فخلال الاحتفال تُنقَش على قطعة من الخشب هيئةٌ ترمز إلى صورته، فيرقص المحتفِلون حولها ويُغنون ويبتهلون، ثم يكشفون للبالغين الذين يتلقَّون أسرار دينهم في هذا الاحتفال عن الاسم السِّري له، ويقصُّون عليهم سيرة حياته وعجائب فعاله، وهم في الإشارة إليه غالبًا ما يرفعون أيديَهم ويُوجهون حرابهم نحو السماء حيث يقيم. وبما أن طقوس التعدية هذه هي العبادة الوحيدة التي تدور حول هذا الكائن الأعلى، فإنهم يعتقدون بأنه يوليها كل العناية، ويحرص على أدائها بحذافيرها كل الحرص.

إلى هنا ينتهي بنا مطاف البحث عن أصل الآلهة المشخصة، وقد ختمناه بمثال عن أكثر الثقافات البدائية بساطة، أجبنا من خلالها على نظرية التوحيد البدئي، وأظهرنا في الوقت نفسه كيفية تكوُّن صور الآلهة من مفهوم الروح، ومن مؤسسة عبادة الأسلاف. فصورة الإله المشخص لم تكن أبدًا بدهية من بدهيات العقل الإنساني، بل تكوَّنت عن أفكار دينية أسبق منها، ومعتقدات تدور حول الألوهة غير المشخصة، حول القوى الغفلة التي تكمن عند جذور الدين.

إلا أن السؤال الكبير، الذي سيكون موضوع المنعطف القادم في دراستنا، هو التالي: ولكن هل حلَّت الآلهة المشخصة، بعد أن ظهرت في تاريخ الدين، محل الألوهة غير المشخصة؛ وهل غاب المجال القدسي وقوته السارية تمامًا خلف أقنعة الآلهة المشخصة المتعددة؟

لقد بدأنا فعلًا بالإجابة على هذا السؤال، عندما استعرضنا المثال المصري، أثناء بحث الصلة بين السحر والدين، حيث أظهرنا أن الآلهة المصرية المشخصة، التي يقدمها عادةً دارسو الدين باعتبارها المركز الذي دارت حوله ديانة مصر القديمة، ليست في حقيقة الأمر إلا تجليات للإله الأكبر رع، الذي يُشكل بدوره الرمز البدئي للمطلق غير المرئي نتر، أو المجال القدسي بالمصطلح الذي استخدمناه حتى الآن. وبما أن هذا الكتاب ليس دراسة في تاريخ الدين، فإن المثال المصري سيكون المثال الوحيد الذي نسوقه من الديانات الكبرى للشرق الأدنى القديم، ولسوف نلتفت في القسم التالي من دراستنا إلى استقصاء أديان الشرق الأقصى، التي وجدنا فيها أوضح مثال على تعايش مفهوم الآلهة المشخصة إلى جانب مفهوم المجال القدسي. ستُظهر لنا الجولة الواسعة القادمة في المعتقدات الشرق أقصوية كيف أن لآلهة المشخصة، بما فيها الكائن الأعلى، ليست سوى مرحلة وسيطة، ودرجة يتَّكئ عليها الإيمان الديني في تطلعه الدائم نحو المجال القدسي وقوته المتبدية في عالم الناس، وهو الإيمان الذي ترسَّخت أسسه منذ أن انتصب الإنسان على قائمتَين وصنع الأدوات الحجرية.

•••

في مطلع القسم المنصرم من دراستنا، أرجعنا الدين إلى بنية الحد الأدنى التي وجدناها في المعتقد، ثم قلنا إن بالإمكان إرجاع المعتقد ذاته إلى حدٍّ أدنى أسميناه بالحد الأدنى الاعتقادي، وهو الصيغة البسيطة الأساسية التي تقوم عليها المعتقدات الدينية في كل عصر وكل مكان. وما زلنا في رحلة البحث عن هذه الصيغة التي تُثبت حقيقتها كلما تقدَّمنا في البحث، وتتحول الفرضية إلى نظريةٍ مدعمة.

١  Encyclopedia of Religion, Vol. 2, p. 172–173.
٢  L. Delaport, Phoenician Mythology (in: Larrousse Encyclopedia of Mythology, p. 82).
٣  S, Weinberg, Les Trois Premieres Minutes de l’Universe, chaptre 1.
واينبرغ، الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون، ترجمة محمد وائل الأتاسي، دمشق، ص١١–١٤.
٤  من أجل عرض مختصر ودقيق لأفكار هربرت سبنسر راجع: J. W. Burrow, Evolution and Society, Cambridge 1970, pp. 179–227.
٥  Herbert Spencer, First Principles, London 1862, pp. 179–227 (cited in: Encyclopedia of Religion, Vol. 9, 173).
٦  انظر آخر طبعة جديدة للكتاب: E. B. Tylor, Primitive Culture, New York 1970.
٧  Emile Durkhiem. The Elementary Forms, op. cit, pp. 72–88.
٨  تقوم الفكرة الأساسية لدوركهايم في تعليل نشوء فكرة المقدس، وبالتالي نشوء الدين، على السلطة التي يمارسها المجتمع على الفرد وإحساس الفرد بالاعتماد المطلق على المجتمع؛ فالألوهة ليست إلا إسقاطًا خارجيًّا لإحساس الفرد بهذا الحضور الكلي للمجتمع، ثم يأتي الإيمان بخلود الروح واستمرارها نتيجة لإدراك الفرد لنسبيته وخلود الجماعة.
٩  J. Cauvin, Religions Neolithiques, pp. 26–27.
انظر أيضًا ترجمة سلطان محيسن، ص٢٣–٣٣.
١٠  Ibid, p. 47.
١١  K. Kenyon, Archaeology in the Holy Land, London 1985, p. 34.
١٢  J. Cauvin, Les Premiers Villages, p. 128.
١٣  انظر أيضًا ترجمة طوير، ص١٦٣.
Kathleen Kenyon, op. cit, pp. 34–36.
١٤  Jaques Cauvin, Religions Neolithiques, pp. 57–64.
١٥  انظر الكتاب في طبعته الجديدة: Andrew Lang, Myth, Ritual and Religion, New York 1968.
١٦  J. Henninger, Wilhelm Schmidt (in: Encyclopedia of Religion, vol. pp. 176–78).
١٧  J. C. Froelich, op. cit, p. 102.
١٨  المادة المعلوماتية فيما يلي عن دوركهايم، المرجع السابق، ص٣٠٩–٣٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤