أصل الآلهة
تعطينا مقدمة فيلو الجبيلي في التكوين هذه، أول محاولة حدس علمي لكيفية خلق الكون انطلاقًا من حركة مادته الأولية، دونما إرادة خالقة فاعلة. وهي تُشبه إلى حدٍّ بعيدٍ النظريات الكونية الحديثة. لنقرأ على سبيل المثال ما يقوله عالِم الفيزياء الكونية واينبرغ في كتابه: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون:
بعد ذلك، ينتقل فيلو إلى سرد تاريخ البشرية ابتداءً من الجيل الأول الذي قدَّس أشجار الأرض وأقام لها الطقوس، فالأجيال اللاحقة التي كان لكل جيل منها فضل اكتشاف هام في تاريخ الحضارة؛ مثل النار وتربية الماشية والزراعة والتعدين وما إليها. ثم يشرح فيلو بالتفصيل كيف بجَّل الناس أصحاب تلك الاكتشافات من الأفراد المتفوقين في حياتهم، وكيف قدَّسوهم بعد وفاتهم ورفعوهم تدريجيًّا آلهة معبودة.
مما لا شك فيه، أن أفكار كلٍّ من يوهيميروس وفيلو الجبيلي قد قامت على تأملات ذهنية مجردة، وحدس معرفي متفوق لم يُبنَ على الاستقراء والدراسة الميدانية لتبديات الظاهرة الدينية عبر التاريخ ولدى جماعات مختلفة من البشر، وهو ما لا نستطيع أن نُطالب به مفكري تلك الحقب البعيدة. ولكن المدهش مع ذلك، أن دارس الظاهرة الدينية في العصر الحديث، المتزود بفيض المعلومات الإثنية والتاريخ-دينية، سوف يجد أن بحثه في أصل فكرة الآلهة إنما يسير بكل منطقية ويُسرٍ إلى النتيجة نفسها، وأن عبادة الأسلاف هي المرحلة الوسيطة في تاريخ الدين، التي قادت الفكر الديني من معتقد القوة السارية إلى معتقد الآلهة المشخصة. ولسوف أتقدم فيما يأتي بوجهة نظري حول هذه المسألة، ولكن بعد أن أستعرض أهم الآراء الحديثة حولها.
إن هربرت سبنسر هنا لا يقدم أفكاره حول نشوء الآلهة عن الأسلاف المؤلهين لغرض الإشارة إلى مرحلة في سياق تطور الأفكار الدينية، بل لكي يؤسس لنظريته الأشمل في أصول الدين. وهذه النظرية ترى بأن الدين عند الإنسان قد ابتدأ مع ظهور الآلهة، وأن البشرية قد مرَّت فعلًا بمرحلة مبكرة لم تعرف الدين خلالها أبدًا، ثم أخذت الأفكار الدينية تتشكل تدريجيًّا مع تحول الأسلاف إلى آلهة، فتشكل مجمع الآلهة برئاسة كبيرهم، وتطور مفهوم هذا الإله الأكبر نحو مفهوم الوحدانية في النهاية.
يفترض تيلور بأن أقدم شكل للدين يقوم على الإيمان بوجود الأرواح والأشباح؛ فلقد رفض الإنسان الأول فكرة الموت باعتباره نهاية مطاف الحياة الفردية، واعتقد بأن هذه الحياة سوف تستمر بعد الممات عن طريق استمرار الروح في مستوًى آخر للوجود. وقد تكوَّنت لدى الإنسان فكرة انقسام الكائن إلى جسد وروح من خلال مراقبته لظاهرة الأحلام؛ ففي الأحلام يرى النائم أقارب له وأصدقاء قد ماتوا منذ زمن بعيد، وها هي خيالاتهم حية تتحرك وتتحدث إليه، كما أنه يرحل هو أيضًا أثناء المنام ليزور مناطق نائية أو يتصل بأشخاصٍ غادروه منذ زمن.
ولقد أوصله تأمُّله في هذه الأمور إلى الاعتقاد بأنه اثنان في واحد؛ فبينما يستلقي جسده المادي بلا حراك في مضجعه، فإن توءمه الأثيري يرحل بحريةٍ تامة عبر المسافات ليلتقي بالتوائم الأثيرية الأخرى. فإذا زاره صديق حي في المنام، فلأن روح ذلك الصديق قد تركته مؤقتًا وقامت بالزيارة؛ وإذا رأى نفسه يزور قريبًا مرتحلًا في مكان بعيد، فلأنَّ روحه قد غادرت جسده وقامت بتلك الرحلة؛ وإذا اجتمع بالراحلين من الأموات، فلأن أرواحهم التي انفصلت عن أجسامها نهائيًّا قد أحبَّت لقاءه. وكانت هذه الخصائص الحركية للروح في اعتقاده ناتجةً عن طبيعتها اللطيفة وطاقتها الكبيرة في آنٍ معًا؛ فهي تنسلُّ من فتحة الفم وتتحرك دون قيد في أي اتجاه، وتصل بسرعاتٍ خيالية إلى أقصى الأماكن.
تزداد قوة الروح وتكتسب قدرات وطاقات إضافية عند استقلالها عن الجسد والتحاقها نهائيًّا بعالم الأرواح عقب موت الجسد، وهي إذ تستطيع في حالتها الجديدة أن تسكن في أي موضوع من موضوعات العالم الطبيعي أو الحيوي، فإن سكنها هذا هو فعل اختياري تقوم به بمحض إرادتها، وتستطيع في أي وقت أن تُغيِّر مكان سكنها، أو أن تبقى هائمة دون مقر. فإذا اختارت الاستقرار في جسد إنسان حي، فإنها تُسبب له شتى أنواع الاضطراب النفسي والعقلي، ولا بد من إقناعها بالخروج منه ليستقيم حال المريض. وبشكل عام، تبقى الأرواح المتحررة متصلة بشكلٍ ما بعالم الأحياء، تُقدم لهم العون أو تُسبب الأذى، وذلك تبعًا لنوع علاقاتها السابقة معهم، أو لكيفية تعاملهم معها بعد الموت، وإلى هذه الأرواح يعزو البدائي، في رأي تيلور، كل خير وكل شر. من هنا نشأت عبادة الأرواح؛ لأن الإنسان قد وجد نفسه تدريجيًّا في حال اعتماد مطلق عليها وعلى عالمها الذي صاغه بخياله الخصب. فإذا كانت الأرواح سببًا للمرض أو الصحة، للحظ العاثر أم للحظ الباهر، للنجاح أو للإخفاق، وما إلى ذلك مما يسير في صالح الأحياء أم في غير صالحهم، فإن من الحكمة استرضاءها وتهدئة خواطرها. من هنا أخذ الإنسان بتقريب القرابين وتقديم الذبائح لأرواح الموتى، ويتوجه إليها بالابتهالات، فظهرت الممارسات التي ندعوها اليوم بالدينية. وبما أن أرواح الأسلاف المتميزين من زعماء وقادة وسحرة، هي أقوى الأرواح وأشدها أثرًا، فإن الطقوس قد تركَّزت حول هذه الأرواح أكثر من غيرها.
ثم ينتقل تيلور إلى زمرةٍ أخرى من الأرواح غير الإنسانية. فإذا كانت أرواح الموتى من البشر تمارس تأثيرها في المجتمع الإنساني، فإن هناك أرواحًا من نوعٍ آخر تفعل في مظاهر الطبيعة الأخرى، وتتسبب فيما يبدو لنا من دينامية وحركية وتأثير في هذه المظاهر. فالبدائي، كما يرى تيلور، لا يستطيع التفريق بين المواضيع الحية وغير الحية، شأنه في ذلك كشأن الطفل الذي ينظر إلى كل ما حوله نظرته إلى كائن حي؛ لأن خبرته الأولى قد تشكلت عن مواجهته مع الكائنات الحية؛ فهو يعزو إلى الجمادات روحًا كروح البشر ويُسقط عليها تلك الثنائية التي تصورها في الإنسان. من هنا فإنه يجد في الروح الحالَّة في الجمادات السببَ الكامن وراء سلوكها؛ فإذا تحرَّك الهواء فلأن به روحًا تُحركه، وكذلك مجرى الماء ونمو النبات وشروق الشمس وحركة الأجرام العلوية؛ وبذلك وسَّع البدائي نظرته الأرواحية لتشمل العالم من حوله، فصار كونًا حيًّا تسكنه الأرواح من كل نوع وتُحركه وفق مشيئتها، واقترنت ديانة الأرواح مع ديانة الطبيعة في أصولها ومنابتها.
لقد واجهت الأرواحية كثيرًا من النقد منذ بداياتها الأولى. ولسوف أركِّز فيما يلي على النقد الذي وجَّهه إليها إميل دوركهايم؛ لأنني سوف أتبنَّى جانبًا مهمًّا من نقده هذا، وأكمله استنادًا إلى المعلومات الجديدة التي زوَّدتنا بها علومُ ما قبل التاريخ حول معتقدات العصر الحجري الحديث، التي عثرتُ فيها على البدايات التاريخية الأولى لعبادات الأسلاف؛ وذلك لغرض استكمال وجهة نظري المتعلقة بعبادة الأسلاف وأصل الآلهة.
استنادًا إلى المعلومات الموثقة عن الميلانيزيين والأستراليين، يرى دوركهايم أن فكرة انتقال الروح أثناء الحلم موجودة لدى الشعوب البدائية، إلا أن هؤلاء الناس يميزون بين الأنواع العديدة لأحلامهم، وهم لا يُفسرونها دومًا بالطريقة نفسها؛ فالميلانيزي يعزو نوعًا معينًا من أحلامه فقط إلى تجوال الروح خارج الجسد، وهو النوع الذي يُلهب الخيال بقوة وعنف، أما بقية الأحلام فله فيها تفسيراتٌ أخرى. والأسترالي يُفرق بين الأحلام العادية التي يعتبرها من تهيؤات الخيال، وتلك التي يعرض له خلالها شبحُ صديقٍ ميت، ويعتبرها نتاج تدخُّل من قوة غير مرئية، ويعتقد فعلًا أن روح الميت قد غادرت واقتحمت عالم الأحياء. غير أن هذا التعليل الذي يقول به البدائي ليس الأساس الذي قامت عليه فكرة الروح عنده، بل العكس هو الصحيح؛ إذَن لا بد من وجود أفكار سابقة وراسخة عن الروح وعن عالم الأموات ليستند إليها في تفسيره لهذا النوع من الأحلام، ولا بد أنه قد توصَّل إلى معتقد الأرواح عن طريق خبرات عاطفية وتأملات ذهنية مختلفة تمامًا عن خبرة الأحلام.
ثم ينتقل دوركهايم بعد ذلك إلى بحث حجر الزاوية في النظرية الأرواحية، وهو قدسية عالم الأرواح، ويتساءل عن مصدر القداسة التي أُسبغت على الروح وعلى عالم الأرواح. إن مفهوم الروح الفردية التي عاشت في جسدٍ ما ثم استقلت عنه عند الموت، لا يكفي في حد ذاته لتأسيس عبادة الأسلاف، فمن أين اكتسبت الروح هذه القدسية التي تُسبغها عليها المعتقدات الأرواحية؟ ومن أين جاءتها هذه القوة الخارقة للمعتاد؟ يقول أتباع النظرية الأرواحية بأن الموت هو سبب التحولات العميقة التي طرأت على الروح المتحررة. ولكن بأية قدرة يستطيع الموت إحداث هذا التغيير الجذري في طبيعة الروح، فينقلها من شبحٍ حيوي يتجول على هواه أثناء النوم، إلى شيء ذي طبيعة قدسية، ومركز لإثارة عواطف دينية قوية؟ إن الروح، وقد حرَّرها الموت من جسدٍ معين، سوف تنشط بالطريقة التي كانت تنشط بها ليلًا عندما كانت قرينةَ جسدٍ مادي، مع بعض الحرية التي اكتسبتها بالاستقلال، وسوف تبقى خصائصها وأفعالها من نوع وطبيعة خصائصها وأفعالها السابقة؛ لأن واقعة الموت لم تُدخل في الحقيقة أيَّ تعديل جوهري عليها، فلماذا اعتبر الأحياء تلك الأشباح التي سكنت أجساد رفاقهم السابقين، كائنات فوق مستواهم والمستوى الطبيعي عامة؟
ويوجه دوركهايم النقد ذاته لمفهوم حيوية الطبيعة والأرواح الحالَّة في موضوعاتها، وما يتبع ذلك من تفسير عبادة قوى الطبيعة، باعتبارها إسقاطًا لفكرة الروح (التي تم تأسيسها في المجال الإنساني) على المجال الطبيعي؛ فهذا النبع أو ذاك النهر أو تلك الشُّعلة، هي بطريقةٍ ما صنوٌ للإنسان، طالما أنها مؤلَّفة مثله من جسد وروح، فما الذي دفعه إلى إعلاء بعضها واعتبار البعض الآخر كائنات فوق طبيعانية؟ ثم ينتهي دوركهايم إلى النتيجة المنطقية لنقده، وهي أن القداسة التي تمتعت بها الروح لدى البدائي قد جاءت من مصدر آخر خارج عنها، والجماعات الإنسانية الأولى لا بد وأنها كوَّنت لنفسها مفهومًا واضحًا عن القداسة وعن العوالم القدسية، قبل أن تنتقل إلى تقديس الروح؛ أي إن العوالم الدينية قد سبقت معتقد الأرواح، وهي التي أعطت هذا المعتقد صفته الدينية.
•••
لقد لفتنا النظر في حينه إلى طقوس الدفن عند الإنسان النياندرتالي إبَّان الباليوليت الأوسط، ورأينا كيف أشارت هذه الطقوس إلى اعتقاد بوجود الروح، وبانقسام الأحياء إلى جسد مادي وشبح أثيري يَعبُر من القبر إلى مستوًى آخر الوجود. كما وجدنا في بعض ترتيبات الدفن النياندرتالية تعبيرًا عن الخوف من عودة الروح إلى جسد المتوفى؛ لأن الروح قد تزوَّدت بقوة تفوق قوى الأحياء بعد عبورها إلى المستوى الآخر؛ ولذا فإن عودتها إلى جسد صاحبها سوف تخل، بشكل أو آخر، بالنظام الطبيعي وبالعلاقات ضمن الجماعة. كما لاحظنا أيضًا استمرار طقوس الدفن هذه وتنوُّعها خلال الباليوليت الأعلى؛ عصر الإنسان العاقل، وأكَّدنا على أهمية استخدام مادة المغرة الحمراء بالنسبة لمعتقد استمرار الحياة فيما وراء القبر، فهذه المادة التي طُليت بها أجساد الموتى وبعض الأثاث الجنائزي داخل القبر، ترمز إلى الدم الذي هو شعار الحياة، وتزود الروح بقوة تساعدها على عبور البرزخ بين العالمين إلى الحياة الخالدة. ولعل ما يؤكد هذه القيمة الرمزية للمغرة الحمراء، استمرارها إلى اليوم لدى الشعوب البدائية؛ فسكان أستراليا الأصليون ما زالوا إلى اليوم يعقدون صلة بين هذه المادة وطاقة الحياة في الإنسان. وقد نال الرأس عناية خاصة في شعائر الدفن، سواء لدى النياندرتال أو الإنسان العاقل؛ فقد نجده مُتوسدًا كومة من الأصداف والقواقع، أو محميًّا بحجر كبير مُلاصق، أو موضوعًا ضمن صندوق مؤلَّف من لوحين حجريين جانبيين ولوح أفقي فوقهما، أو محاطًا بدائرة من الأحجار التي تمنع إيذاء الجمجمة في حال سقوط ثقل ما فوقها. وهناك حالات نادرة تدل على اللجوء أحيانًا إلى الاحتفاظ بجمجمة الميت، وعرضها في مكان بارز في كهف السكن.
وهكذا تُثبت المعلومات الأكيدة المستمدة من علم آثار ما قبل التاريخ، أن عبادة الأسلاف لم تنشأ عند جذور الدين كما قال سبنسر وأتباع المدرسة الأرواحية، بل بعد مائة أو مائتَي ألف عام من ظهور الشواهد على حياة دينية منظمة لدى الإنسان الأول؛ ذلك أن عقيدة الجماجم، وهي المؤشر الأول في تاريخ الدين على عبادة الموتى، لا تظهر وتأخذ أبعادها كاملة إلا في وسط قروي مستقر يتمتع بحياة دينية منظمة، تحمل وراءها عشرات ألوف السنين من التفاعل ضمن البيئة الاجتماعية. فهذه العقيدة التي تقوم على الإيمان بقوة الأرواح وقداستها لم تنشأ في فراغ ديني، بل انبثقت عن معتقدات أقدم منها متوارثة عن الباليوليت الأعلى، وتعايشت معها دون أن تحل محلها. ففي تل المريبط نجد الجماجم المنصوبة على حواملها، قائمة في بيوت الناس الذين تعبدوا للقوة السارية من خلال رءوس الثيران المعروضة على المناصب الطينية. وفي شتال حيوك تُوضع الجماجم بشكل ظاهر في الهياكل التي أقيمت أصلًا لرءوس الثيران وتمثيلات الألوهة المؤنثة. وفي أريحا تُرصَف مجموعات الجماجم المشكلة الملامح في البيوت السكنية للناس الذين بنوا هياكل دينية أقاموا فيها الطقوس للتواصل مع القوة الكونية الوحيدة التي عرفها الإنسان في ذلك العصر؛ قوة المجال القدسي.
أي إن قدسية الأرواح، وبشكل خاص قدسية الأسلاف المبجلين، إنما تُستمد من مفهوم سابق، مؤسس وراسخ، للقداسة، ومن أفكار دينية ناضجة عن المقدس وعن الدنيوي. وإنسان العصر النيوليتي في إعلائه لأرواح السلف، قد نظر إلى جماجمهم باعتبارها مستودعًا لقوة قدسية غير محدودة تصدر عن منبع كوني خفي. فإذا كانت أرواح الموتى تكتسب قوة فوق طبيعانية بعد مغادرتها أجسادها، فلأنها انضمت إلى المستوى القدسي للوجود الذي صدرت عنه أصلًا، واستمدت من قوته السارية، وهذه القوة تتكثف بشكل خاص في أرواح الأفراد المتميزين ممن لعبوا دورًا هامًّا خلال حياتهم، ويبقون بعد مماتهم صلة وصل مع المستوى القدسي، كما تبقى جماجمهم بين الأحياء شارة للقداسة، يتعبد الناس إليها زلفى.
وشيئًا فشيئًا تحل الشارة الإنسانية محل الشارة الحيوانية رمزًا لعالم اللاهوت، وتأخذ القوة تدريجيًّا باتخاذ الملامح الإنسانية بعد أن احتجبت طويلًا وراء الهيئة الحيوانية. ويترافق هذا التحول مع إدراك الجنس البشري لتميزه ولدوره على مسرح الكون.
إن الجماجم المُشكَّلة الملامح في المواقع النيوليتية السورية والفلسطينية، هي أول محاولة في تاريخ الدين والفن لتصوير الملامح الإنسانية. وقبل الألف الثامن قبل الميلاد، لا نعثر في أي مكان ولدى أية ثقافة على محاولة جدية ومقصودة في هذا المجال؛ فتشخيص الإنسان كان نادرًا جدًّا بشكل عام في الباليوليت الأعلى، فإذا ظهر في الرسم فبشكل عام وغامض، وباستخدام خطوط تُظهر هيئته الجسدية من دون وجهه. أما الدُّمى العشتارية فكانت تُشكَّل بدون رأس، أو برأس يُشبه الكرة الملساء دون ملامح وجه على الإطلاق. وفي الحالات التي تم فيها تنفيذ تكوين واقعي للرأس، كما هو الأمر في منحوتات الآلهة الأناضولية، بقيت ملامح الوجه غامضة ومتلاشية بطريقة لا توحي بسيماء فردية محددة. وقد قلنا في حينه إن إنسان العصر الحجري قد تعمَّد تجاهل الرأس وإغفال الملامح، لإحساسه بأنه يصنع صورة رمزية تُعبر عن ألوهة غير مشخصة، ويرسم شارة وشعارًا لا هيئة حقيقية موجودة. ولكن منذ أن بدأ الإنسان بتشكيل ملامح وجه إنساني يُمثل شخصًا بعينه، ثم عزا إلى هذه الهيئة قوًى غير طبيعية، أو جعلها مستقرًّا لهذه القوة، دخل الفكر الديني مرحلة التشخيص؛ تشخيص القوة غير المشخصة (سواء عن طريق تشكيل الجماجم أو تشكيل الحجر والصلصال فيما بعد)، وأخذ الإنسان ينظر إلى القوة من خلال تمثيلات مشخصة. وشيئًا فشيئًا تحولت القوة إلى شخصيات ذات قوة، وتكسر مبدأ القوة السارية إلى عدد من القوى، وظهرت الآلهة.
مما لا شك فيه، أن التغيرات الجذرية في أنماط الإنتاج داخل التجمعات الزراعية النيوليتية، وتبدُّل البنى السياسية والاجتماعية في المستوطنات القروية الأولى، التي كانت تسير بخطًى حثيثة نحو تكوين المدن الأولى في تاريخ البشرية، قد ساعد على إحداث التغيرات في المفاهيم الدينية، وشجَّع على ترسيخ مفهوم الشخصية الإلهية في مقابل الألوهة غير المشخصة. وبشكل خاص، فإننا نعزو إلى التحولات النوعية الطارئة على مفهوم السلطة، وعلى أساليب ممارستها ضمن الجماعة، الأثر الأكبر في تكوين مفهوم جديد للسلطة على مستوى الكون؛ فجماعات الصيادين في الباليوليت الأعلى، كانت تعيش مشاعية اقتصادية في ظل نظام سياسي بسيط يقوم على اختيار رئيس غير متفرغ لمهام هذه الرئاسة، يرعى تطبيق الأعراف المتوارثة، ويعمل على تسوية المنازعات البسيطة التي قد تنشأ بين الأفراد. وباستطاعتنا الافتراض اعتمادًا على المعلومات المستمدة من أركيولوجيا المواقع النيوليتية الأولى، أن بدايات العصر الحجري الحديث لم تحمل معها تغييرات مباشرة ومهمة في البنى الاجتماعية والسياسية، وذلك رغم التغيرات الاقتصادية الجذرية التي كانت تعمل على تغيير وجه الحضارة الإنسانية. ولكننا مع الاقتراب نحو فجر المدنية في الشرق الأدنى القديم، ومع تحوُّل القرى الزراعية إلى أشباه مدن، نأخذ بملاحظة حلول تغييرات في جميع البنى الاجتماعية والسياسية للمواقع النيوليتية، التي دخلت الآن العصر النحاسي (الخالكوليتي) الذي مهَّد للاستخدامات الواسعة للمعادن عوضًا عن الحجارة. لقد تحوَّل المقام أو الحرم الديني البسيط إلى معبد كبير، وتحوَّل الشامان، رجل الدين البدائي، إلى كاهن كبير يخدمه عدد من الكهان الأدنى مرتبة، وبُني قصر واسع للرئيس الذي تحوَّل إلى ملك متفرغ لشئون الحكم، يفرض سلطته بعد أن كان يستمدها من الجماعة، وظهر التملك الخاص للأرض ولوسائل الإنتاج، وتنوعت الحِرف والاختصاصات. كل هذه التغيرات انعكست على البنية الدينية وعلى المفاهيم الدينية والكونية. ففي الماضي، لم يكن الفرد يشعر بالسلطة تُمارَس عليه من قِبل أية جهة إنسانية كانت أم طبيعانية، أما إحساسه بالروع أمام القوة الغفلة في الطبيعة، فكان يتلاشى بشكل تلقائي كلما عمد إلى إقامة الطقوس التي كانت تجعله في انسجام مع الطبيعة وقواها المنظورة والخفية. أما الآن، وبعد تأسيس مفهوم اجتماعي وسياسي للسلطة، فقد بدأ الكون يظهر وكأنه محكوم أيضًا ومُسيَّر بالسلطة، وتحولت القوة التلقائية التي كانت تفيض من عالم اللاهوت إلى سلطة وإلى نظام سلطوي متدرج. فكما تتوزع السلطة ضمن الجماعة في هرمية متسلسلة من الأعلى إلى الأسفل، كذلك توزَّعت القوة الإلهية إلى مجموعة قوًى متجزئة، وظهرت هرمية السلطة على مستوى الكون. وهكذا وجدت عملية تشخيص الألوهة التي كانت جارية ضمن مؤسسة عبادة الأسلاف تأييدًا لها من القوة الاجتماعية الجديدة الصاعدة.
فيما يلي من موضوعات هذا الكتاب، سوف أعرض للمزيد من الإثباتات التي تؤيد ما بسطته آنفًا بشأن أصل الآلهة في السياق العام لتاريخ المعتقدات الدينية. ولسوف ألتفت الآن إلى اختبار صحة النظرية ومدى مطابقتها للوقائع المستمدة من تاريخ الدين ومعتقدات البدائيين؛ وذلك باللجوء إلى مناقشة أهم النظريات الأخرى وأكثرها تعارضًا معنا، والتي لا تكتفي بافتراض أسبقية الآلهة المشخصة وقيامها عند أصول الدين، بل تتعدى ذلك إلى القول بنوع من التوحيد البدئي كان موجودًا على الدوام في صُلب الاعتقاد الديني. إن أكثر هذه النظريات شُهرة هي نظرية أندرو لانغ، ونظرية وليم شميدت المكمِّلة لها.
ولعل أكثر نقاط النظرية ضعفًا هو تقديمها لمفهوم الكائن الأعلى كما وجدته في المجتمعات البدائية، ومن دون النظر إلى تاريخ فكرة الكائن الأعلى وكيفية ظهورها في معتقدات الجماعة. وهذا الموقف ينشأ عن افتراض خاطئ، قدر ما هو شائع، وهو أن الجماعات البدائية هي شعوب سكونية بلا تاريخ، وأن مؤسساتها القائمة اليوم هي استمرار تلقائي لمؤسساتها المغرقة في القدم، وثقافتها هي ثقافة الإنسان الحجري بعينها. لقد أوضحت سابقًا وفي أكثر من موضع خطأَ هذه النظرة في الثقافة البدائية ومؤسساتها، وضلال ما يُبنى عليها من نتائج. أما الآن فسوف أُبين بالدليل العملي الميداني كيف نشأ مفهوم الكائن الأعلى، في إحدى الثقافات البدائية، انطلاقًا من معتقدات أسبق منه تتعلق بتقديس الأسلاف والقوة السارية في الطبيعة. والمثال مأخوذ عن الثقافة الأسترالية التي تُعَد أكثر كل الثقافات المعروفة لنا بساطة وركودًا.
يُستثنى من هذا التقسيم نفوسٌ معينة تتمتع بخصائص النفس والروح معًا، فهي من جهةٍ أشباح موتى عاشوا على الأرض منذ قديم الزمان، ومن جهة ثانية هي أرواح ذات قوة كبيرة ومجال فعل وتأثير واضح وواسع؛ إنها نفوس الأسلاف الأسطوريين الذين وضعهم خيال القوم عند بداية الزمن، والذين تمتعوا إبان حياتهم بقوة لم تتيسر لغيرهم من الأحياء أو الأموات بعد ذلك. هؤلاء الأسلاف لم يولدوا من جيل سابق عليهم، بل انبثقوا إلى الوجود مع انبثاق مظاهر الطبيعة ذاتها، ثم أنجزوا كل الأعمال الجليلة الضرورية لاستمرار البشرية من بعدهم، وعندما انتهت مهمتهم غادروا الحياة الدنيا وولجوا إلى باطن الأرض، ولكن نفوسهم بقيت بمثابة أرواح خالدة ترعى سلالتهم من بعدهم. وقد تحوَّلت النقاط التي عبر منها الأسلاف نحو باطن الأرض إلى بقاع مقدسة، فهنا تودِّع العشيرة أدواتها الطقسية، وهنا تُقام الطقوس الدينية الرئيسية.
ويعزو الأسترالي إلى أسلافه الأسطوريين قوًى فوق طبيعانية خارقة، فهم الذين أعطوا منذ البدء للأرض شكلها الحالي، وهم المسئولون عن ظهور الكائنات الحية عليها. ويبلغ من قدراتهم أنهم يتحركون فوق الأرض أو تحتها بلمح البصر، يخترقون الجبال والحواجز الطبيعية كما الشعاع في الماء، وقد يغمرون البلاد بطوفانات عظيمة، أو يفجرون الينابيع فتملأ بحيرات لا حصر لها. ولعل من أهم المعتقدات المتعلقة بهؤلاء هي مسئوليتهم عن إخصاب النساء وتكوين الأجنَّة في الأرحام؛ فالفعل الجنسي ليس السبب المباشر في حمل المرأة، بل هو مجرد وسيط يسمح لأحد الأسلاف بأن ينفخ في الرحم من روحه، ويحل فيه بجزء منه فيما يشبه التقمص. وبذلك يزدوج السلف في كل مرة وإلى ما لا نهاية، من غير أن يفقد من كيانه الأصلي شيئًا؛ لأن ما يحل منه في الرحم عند كل تقمص لا يعدو أن يكون قبسًا ضئيلًا أو نفخة طفيفة. وبهذا يغدو كل فرد في العشيرة مرتبطًا بشكل وثيق بأحد الأسلاف الأسطوريين، فهو ممثله وصورة عنه في جماعته. ونظرًا لمسئوليته المباشرة عن إنجاب الطفل، فإن السلف المعنيَّ يتابع اهتمامه به منذ ولادته وحتى مماته، فإذا اشتد عوده يمضي معه إلى الصيد فيدفع الطرائد إليه، وهو يحذره في أحلامه من المخاطر الممكنة، ويحميه أنَّى تحرك من أعدائه.
إلى جانب العلاقة التي تربط بين أرواح الأسلاف وأفراد العشيرة، هناك علاقة من نوع آخر تربط أرواح الأسلاف إلى مظاهر الطبيعة؛ فروح السلف تقيم معظم وقتها في الهيئة الطبيعية التي دلف منها ذلك السلف إلى باطن الأرض في غابر الأزمان، وتغدو هذه الهيئة بمثابة الجسد المرئي له، وموضع تقديس عظيم، كما تغدو روح السلف، وبالمقابل، بمثابة روح للهيئة الطبيعية ذاتها. فإذا ما ارتبطت الهيئة بظاهرة من ظواهر حياة الطبيعة، كأن يرتبط نبع ماء مقدس بتهطال المطر، فإن روح السلف الحالَّة في هذا النبع تُعتبر بمثابة روح للمطر ومسئولة عنه أو موكلة به؛ وبذلك تلعب بعض الأرواح دورًا جديدًا وهامًّا على مستوى الطبيعة. لقد دعا بعض الباحثين هذه الزمرة من الأرواح التي ارتقت إلى وظائف عليا بالآلهة، إلا أن تعبير الآلهة هنا غير دقيق تمامًا؛ لأننا لا نزال في الواقع أمام مفهوم أرواح ارتقت إلى منزلة أرقى، وصار لها مجال فعل أوسع، غير أن هذا المفهوم الجديد إنما يضعنا في الواقع على الدرجات الأولى نحو التشخيص التدريجي للقوة الإلهية، مما سوف نتابعه فيما يلي.
على أن هذا النوع من الشخصيات الميثولوجية ليس الدرجة الأخيرة في سُلم تشخيص القوة الإلهية في أستراليا؛ فلقد تم التوصل أحيانًا إلى مفهوم مشترك عن شخصية مبجلة، لا بين العشائر المؤلفة لقبيلة واحدة، بل بين عدد من القبائل. وهذه الشخصية هي التي وصفها أصحاب نظرية التوحيد الأصلي بأنها تُشبه بالفعل ما يعرفونه عن الإله الأعلى. غير أن تتبع سيرة حياة هذا الكائن الأعلى في الثقافة الأسترالية، يُظهر بوضوحٍ أصله كسلفٍ ارتقى سُلم الألوهة تدريجيًّا. فعلى ندرة وجود هذا النوع من السلف-الإله في الديانة الأسترالية التي تدور حول المبدأ الطوطمي وأرواح الأسلاف، فإنه يتمتع بخصائص متشابهة وسيرة حياة واحدة. فهو كائنٌ عاش على الأرض ردحًا من الزمن، ثم غادرها إلى السماء مع عائلته المؤلفة من عدد من الزوجات والأبناء والبنات، ومن هناك راح يُدير حركة الأفلاك ويرسل المطر ويصنع البرق والصاعقة، وقد أشعل الشمس لكي تدفئ الأرض وتخرج الكائنات الحية من تربتها وكذلك الزرع والشجر، ثم قام بتعليم البشر كلَّ ما من شأنه إعانتهم على الحياة، وهو يتواصل معهم إما مباشرةً أو عن طريق وسطاء. وبما أن طقوس التعدية هي الأكثر أهمية بين الطقوس، فإن هذا الكائن الأعلى هو المعني بها؛ فخلال الاحتفال تُنقَش على قطعة من الخشب هيئةٌ ترمز إلى صورته، فيرقص المحتفِلون حولها ويُغنون ويبتهلون، ثم يكشفون للبالغين الذين يتلقَّون أسرار دينهم في هذا الاحتفال عن الاسم السِّري له، ويقصُّون عليهم سيرة حياته وعجائب فعاله، وهم في الإشارة إليه غالبًا ما يرفعون أيديَهم ويُوجهون حرابهم نحو السماء حيث يقيم. وبما أن طقوس التعدية هذه هي العبادة الوحيدة التي تدور حول هذا الكائن الأعلى، فإنهم يعتقدون بأنه يوليها كل العناية، ويحرص على أدائها بحذافيرها كل الحرص.
إلى هنا ينتهي بنا مطاف البحث عن أصل الآلهة المشخصة، وقد ختمناه بمثال عن أكثر الثقافات البدائية بساطة، أجبنا من خلالها على نظرية التوحيد البدئي، وأظهرنا في الوقت نفسه كيفية تكوُّن صور الآلهة من مفهوم الروح، ومن مؤسسة عبادة الأسلاف. فصورة الإله المشخص لم تكن أبدًا بدهية من بدهيات العقل الإنساني، بل تكوَّنت عن أفكار دينية أسبق منها، ومعتقدات تدور حول الألوهة غير المشخصة، حول القوى الغفلة التي تكمن عند جذور الدين.
إلا أن السؤال الكبير، الذي سيكون موضوع المنعطف القادم في دراستنا، هو التالي: ولكن هل حلَّت الآلهة المشخصة، بعد أن ظهرت في تاريخ الدين، محل الألوهة غير المشخصة؛ وهل غاب المجال القدسي وقوته السارية تمامًا خلف أقنعة الآلهة المشخصة المتعددة؟
لقد بدأنا فعلًا بالإجابة على هذا السؤال، عندما استعرضنا المثال المصري، أثناء بحث الصلة بين السحر والدين، حيث أظهرنا أن الآلهة المصرية المشخصة، التي يقدمها عادةً دارسو الدين باعتبارها المركز الذي دارت حوله ديانة مصر القديمة، ليست في حقيقة الأمر إلا تجليات للإله الأكبر رع، الذي يُشكل بدوره الرمز البدئي للمطلق غير المرئي نتر، أو المجال القدسي بالمصطلح الذي استخدمناه حتى الآن. وبما أن هذا الكتاب ليس دراسة في تاريخ الدين، فإن المثال المصري سيكون المثال الوحيد الذي نسوقه من الديانات الكبرى للشرق الأدنى القديم، ولسوف نلتفت في القسم التالي من دراستنا إلى استقصاء أديان الشرق الأقصى، التي وجدنا فيها أوضح مثال على تعايش مفهوم الآلهة المشخصة إلى جانب مفهوم المجال القدسي. ستُظهر لنا الجولة الواسعة القادمة في المعتقدات الشرق أقصوية كيف أن لآلهة المشخصة، بما فيها الكائن الأعلى، ليست سوى مرحلة وسيطة، ودرجة يتَّكئ عليها الإيمان الديني في تطلعه الدائم نحو المجال القدسي وقوته المتبدية في عالم الناس، وهو الإيمان الذي ترسَّخت أسسه منذ أن انتصب الإنسان على قائمتَين وصنع الأدوات الحجرية.
•••
في مطلع القسم المنصرم من دراستنا، أرجعنا الدين إلى بنية الحد الأدنى التي وجدناها في المعتقد، ثم قلنا إن بالإمكان إرجاع المعتقد ذاته إلى حدٍّ أدنى أسميناه بالحد الأدنى الاعتقادي، وهو الصيغة البسيطة الأساسية التي تقوم عليها المعتقدات الدينية في كل عصر وكل مكان. وما زلنا في رحلة البحث عن هذه الصيغة التي تُثبت حقيقتها كلما تقدَّمنا في البحث، وتتحول الفرضية إلى نظريةٍ مدعمة.
واينبرغ، الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون، ترجمة محمد وائل الأتاسي، دمشق، ص١١–١٤.