كامي/تاو
لعل أفضل مدخل ندلف منه إلى الفلسفات الدينية الكبرى للشرق الأقصى، هو استكشاف الأساس الفكري الذي قامت عليه بنيتها السامقة، وأعني به تلك المعتقدات التقليدية التي تضرب في أعماق التاريخ الشرقي وصولًا إلى تخوم عصورها الحجرية. ولسوف تُدهشنا تلك الاستمرارية في معتقدات العصر الحجري، والكيفية التي تخللت بها تلقائيًّا معتقدات العصور التاريخية.
(١) كامي: المجهول الأقدس
في دين اليابان
يبدأ التاريخ المكتوب للأمَّة اليابانية مع القرن الخامس الميلادي، مترافقًا مع دخول الديانة البوذية إليها قادمةً من الصين. لم يكن اليابانيون يطلقون على دينهم اسمًا معينًا؛ فهو الدين الوحيد الذي عرفوه في جزرهم المنعزلة، أما بعد الانتشار التدريجي للبوذية فقد شعروا بالحاجة إلى تمييز معتقدهم التقليدي فدعَوه شنتو؛ أي طريق المبدأ الأقدس الكلي، وهو المبدأ الذي أشاروا إليه دومًا تحت اسم كامي. وهذا المعتقد التقليدي لليابان قد وُجد في تلك الأصقاع منذ أزمان لا يدري بها أحد، وتم تناقله عبر العصور والأجيال دون أن يُعرف له مصدر أو مؤسس أو تاريخ ابتداء. وما زالت الديانتان البوذية والشنتوية متعايشتين حتى الآن في اليابان.
ومع ذلك، فإن للشنتو منطقًا داخليًّا متماسكًا قد لا يتيسر للكثير من الأديان الأخرى، وكل ما يبدو على السطح شتاتًا لا يجمعه رابط إنما تنتظمه نظرة عميقة ثاقبة للوجود، تنشأ عن مواجهة وجودية بين الإنسان والعالم لتربط بينهما في كون موحد، يتخلل فيه عالم اللاهوت عالم الناسوت الآخر، وبطريقة لا يمكن فصل واحدهما عن الثاني أو وضع حدود مميزة بينهما. فالكون رغم انقسامه شطرَين أمام التجربة الحدسية المباشرة للإنسان، ورغم معاينته كمقدس آنًا وكدنيوي آنًا آخر، إلا أنه في حقيقة الأمر متصل وواحد؛ مقدس في وجهه الأول، ودنيوي في وجهه الثاني، وليس الوجهان إلا تبدِّيَين متناوبين للمطلق الأزلي.
فالكامي، الذي يرى فيه الياباني المبدأ الكلي الأقدس المحيط بظواهر الكون جميعها، ليس ألوهة مفارقة متمايزة عن خلقها، بل هو الخميرة الفاعلة في صميم هذا الخلق. ونظرًا لكونه متخللًا في كل شيء، فإن قوته تتكثف في بعض مظاهر الطبيعة أكثر من غيرها؛ ولذا يعلى من شأن هذه وتعبد. كما قد تتكثف هذه القوة الفاعلة في بعض الأرواح فتمتلئ قدسية وترتقي إلى رتبة الآلهة، التي ليست في حقيقة الأمر سوى قوة المجال القدسي وقد تجزأت وصارت صلة وصل بين الكامي والإنسان. ولا أدل على الدور الثانوي الذي تلعبه الآلهة في الشنتو من كثرة عددها وامتلاء الأرض والسماء بها، وكذلك امتلاء الأرض والسماء بالمقدسات والمعبودات من كل نوع، والتي تقود كلها إلى الحقيقة الواحدة الجديرة بالعبادة والتقديس.
وهكذا تعطينا ديانة الشنتو في اليابان أول إشارة مشجعة في طريقنا الجديد الذي نطرقه لاستكشاف معتقدات الحضارات الكبرى. فنحن ما زلنا نسير في أرض مألوفة، والمعتقد الأساسي للثقافات الحجرية والبدائية يتكرر هنا وإن بتنويعات مختلفة.
(٢) قوة السماء وتبعية الآلهة
في الفكر الصيني
وإلى كل زوج من هذه، تم إضافة خط ثالث؛ الأمر الذي أنتج المجموعات الأساسية، وعددها ثمانية، وهي كل الأشكال المحتملة لاجتماع خطوط ثلاثة:
المجموعة | اسمها | خصيصتها | صورتها | علاقتها العائلية |
---|---|---|---|---|
المبدع | القوة | السماء | الأب | |
المتلقي | الانقياد | الأرض | الأم | |
الموقظ | الحركة المحرضة | الرعد | الابن الأول | |
العميق | الخطر | الماء | الابن الثاني | |
المستقر | الثبات | الجبل | الابن الثالث | |
الرقيق | النفاذ | الهواء | الابنة الأولى | |
الممسك | وهب النور | النار | الابنة الثانية | |
البهيج | البهجة | البحيرة | الابنة الثالثة |
من منظور «التغيرات»، فإن هذه المجموعات الثلاثية هي صورة لكل ما يجري في السماء وعلى الأرض، وهي رموز لأحوالٍ دائمة التبدل، يصير واحدها إلى الآخر بالطريقة التي تصير الظاهرة إلى الأخرى في العالم الطبيعي. وهنا نضع اليد على المفهوم الأساسي لكتاب التغيرات؛ فالأشياء ليست في حالة وجود وإنما في حالة صيرورة، والذهن ينبغي أن يُركز على تحول الأمور وحركيتها، وما هذه المجموعات الثلاثية في «التغيرات» إلا تمثيلات للأشياء في نزوعها الحركي لا في ثباتها. أما عن العائلة التي تُكوِّنها هذه الرموز، فيجب ألا يُنظر إليها بالمعنى الحرفي بل بالمعنى المجرد؛ لأن كل واحد منها يمثل قوة ووظيفة، لا شخصية إلهية محددة.
ثم التقت هذه المجموعات الثلاثية، كل اثنتين في واحدة تضم ستة خطوط، ونجَم عن كل الاحتمالات الممكنة لاجتماعها بهذه الطريقة أربعة وستون رمزًا، يحتوي كلٌّ منها على خطوط سالبة متقطعة وخطوط متصلة موجبة، وكل خط من هذه الخطوط قابل للتغير؛ فإذا انقلب خط واحد سالب إلى آخر موجب، وقع التغير في الحالة التي تمثلها المجموعة السُّداسية.
ويمكن للخبير بهذه الرموز أن يستخدم عددًا من عيدان نبتة الألفية، فيُبعثرها على الأرض لتعطيه تشكيلًا للعيدان يقابل رمزًا من الرموز الأربعة والستين، وهذا الرمز يقابل بدوره حالة الشخص الذي يستخير «التغيرات». غير أن هذا النوع من التنبؤ الذي يقدمه الكتاب، يتعدى وصف الحالة إلى وصف الفعل الذي يجب أن يترافق مع معرفة الحالة، قبل أن تستفحل وتغدو قضاءً لا يمكن رده؛ ذلك أن نبوءة «التغيرات» هي نبوءة إيجابية لا نبوءة سلبية، وقيام المستخير بالسؤال عما يستطيع القيام به لمواجهة الأوضاع المرتقبة، يجعل من التغيرات كتابًا في الحكمة لا كتابًا في العرافة.
يُرمَز للتاو في الفكر الصيني بدائرة فارغة، هي المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات، وأيضًا بدائرة يتناوب فيها الأبيض والأسود، أو اليانغ والين، هي المبدأ الأول بعد ظهور الموجودات التي نجمت عن دوران القوتين؛ القوة الموجبة يانغ، والقوة السالبة ين.
إن الخط داخل دائرة التاو يُعبر عن ظهور الأقطاب والمتعارضات إلى حيز الوجود؛ فالخط قد أحدث شرخًا في الفراغ المتماثل، فقسَّمه إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين ويسار، وإلى أمام وخلف، وانحلَّت الوحدة السابعة إلى مظاهر ذات قوًى متعارضة ومتجاذبة في الوقت نفسه. إن كل ما في الكون هو مزيج من طاقة موجبة وأخرى سالبة؛ فإذا غلب اليانغ كان الشيء ذا طبيعة موجبة، وإذا غلب الين كان ذا طبيعة سالبة؛ لهذا صُوِّر القسم الظليل في دائرة التاو وفيه نقطة منيرة، وصُور القسم المنير وفيه نقطة ظليلة؛ لأن اليانغ لا يتجلى في حالته الصرفة، ولا الين كذلك؛ ففي كل إيجاب شيءٌ من السلب وفي كل سلب شيءٌ من الإيجاب. كما اتخذ القسمان الظليل والمنير وضعًا حركيًّا دورانيًّا يدل على التناوب الأبدي بينهما.
ونجد في «التغيرات» مفهومًا ميتافيزيقيًّا أساسيًّا يدور حول الأفكار. فالمجموعات الثلاثية الثمانية ليست صورًا وتمثيلات لموضوعات بل صور لأحوال متغيرة، وكل حادث في الكون المرئي يتم بتأثير صورة (أو فكرة) في المستوى غير المرئي. وعليه فإن كل ما يحدث على الأرض هو نسخة لاحقة زمنيًّا عن أمر يحدث في مستوًى يقع وراء إدراكنا الحسي. والحكيم الذي يكون على اتصال مع المستوى الأعلى يتاح له الاطلاع على الأفكار من خلال حدسه المباشر؛ وبالتالي يكون في وضعٍ يسمح له بالتدخل في الأحداث الجارية في العالم. وبهذه الطريقة، فإن الإنسان يرتبط بالسماء التي تؤلف عالم الأفكار فوق الحسي، وبالأرض التي تؤلف عالم المادة الحسي، ويؤلف معهما مثلث قوة أساسيًّا. إن نظرية الأفكار المتضمنة في «التغيرات» تُطبَّق في اتجاهَين؛ فالكتاب يُنبئ عن صور الأحداث وأيضًا عن تحقُّقها التدريجي في الزمن؛ ولهذا فإن الاستعانة به في استبصار بذور الأمور المقبِلة، تُنير لنا المستقبل وتجعلنا نفهم الماضي؛ وبهذا نتكيف مع مجرى الطبيعة.
لقد عرف كونفوشيوس كتاب التغيرات وكرَّس قسمًا كبيرًا من وقته لدراسته والتعليق عليه، خصوصًا في سنوات شيخوخته، وهناك قسمٌ مهم من ملاحق الكتاب التي تحتوي شروحًا وتعليقات أساسية تُعزى إليه وإلى بعض تلامذته. كما أن «التغيرات» كان المصدر الرئيسي لإلهام الحكيم لاو تسو، مؤسس التاوية ومعاصر كونفوشيوس، وواضع كتاب تاو-تي-تشينغ، وهو الصرح الثاني في الفكر الصيني بعد «التغيرات».