الفصل الثالث

الهندوسية والبحث عن الوحدة في الوجود

تطالع الهندوسية دارسها، أول وهلة، بمزيج من المعتقدات التي لا يربطها رابط ولا تجمعها جامعة. كما يبدو العدد الهائل من آلهتها التي تملأ أرض الهند وسماءها عصيًّا على الانتظام في سلك واحد يضمها إلى بعض. ولعل السبب كامن في ذلك التاريخ الطويل من التطور البطيء الذي تجرُّه وراءها هذه الديانة التي تعود في أصولها إلى ما وراء الألف الثاني قبل الميلاد. ولكن هذه المعتقدات ما تلبث أن تنتظم تحت عدد من الأفكار والمفاهيم الدينية، وعدد أقل من التصورات الماورائية. أما حشد الآلهة الهندوسية فما يلبث طويلًا حتى تظهر حقيقته النسبية، وتبدو الشخصيات الإلهية بلا قوام أو جوهر حقيقي، سافرة عن وجهها ككائنات تشارك البشر بؤس الحياة والموت في عالم السمسارا، عالم تناسخ الأرواح، والدورة الكونية الأزلية.

تُبدي الهندوسية تحررًا واضحًا من أية دوغمائية تتعلق بطبيعة الإله، وجوهر الدين لديها لا يقوم على الاعتقاد بوجود الإله أم عدمه، أو على تعدد الآلهة أم التقائها في واحد. فمن الممكن للهندوسي أن يكون ملتزمًا بدينه سواء آمن بإله واحد أم بآلهة متعددة أم لم يؤمن بالآلهة طرًّا؛ لأن هذه المسألة لم تُشكل أبدًا حجر الزاوية للديانة الهندوسية.١ ولكن الطوائف الهندية تشترك في عدد أساسي من الأفكار والمعتقدات التي لا يصح دين الهندوسي بغيرها، والتي ترقى إلى مقام اليقين المطلق. أول هذه المعتقدات ورأسها هو الإيمان بتناسخ الأرواح، يتبعه اعتقاد آخر مرتبط به أشد الارتباط هو معتقد الكارما؛ ذلك أن الحالة الجديدة التي تصير إليها الروح بعد موت الجسد تتوقف على طبيعة أفعالها في الحيوات السابقة، التي تتالت عبر ماضٍ لا تُعرَف له بداية، وتتالى عبر مستقبل لا تُنظَر له نهاية. والكارما تعني في الأصل الفعل، ومن هنا يأتي مضمونها الفلسفي الديني؛ ذلك أن حياة الإنسان هي سلسلة من الأفعال التي تؤدي إلى نتائج، هذه النتائج بدورها سوف تؤدي إلى أفعال أخرى في سلسلة سببية متتابعة.

وينصُّ قانون الكارما على أن تصرفات الفرد وأفكاره وكلماته، سيكون لها تبعات أخلاقية تُحدد مستقبل حياته بعد الممات، كما يتحدد مسار حياته الحالية بما تم من أفعال في الحياة السابقة، وهكذا إلى أجلٍ غير معلوم، في دورة سببية أزلية تُدعى بالسنسكريتية سمسارا، وهي دورة لا بداية لها ولا نهاية، تتجاوز عالم الإنسان لتطال عالم الظواهر المادية بأكملها؛ كل شيء واقع في إسار الزمن وفي إسار الرغبة؛ الرغبة في الاستمرار والرغبة في إتيان الفعل (كارما). والزمن نفسه عبارة عن عجلة تدور على نفسها، كلما بلغت الدورة منتهاها عادت إلى نقطة البداية، دون أن تنشُد غاية أو تسعى إلى هدف. ومع ذلك فإن الانعتاق (= موكشا) من هذه الدورة ممكن التحقيق، وهو بؤرة الحياة الدينية للهندوسي، والنهاية التي يطمح إليها من كدحه الروحي. إلا أن الطوائف الهندوسية تختلف في كيفية تحقيق هذا الانعتاق، وفي الحالة التي تصير إليها الروح المتحررة بعد انعتاقها.

من هنا، يدعو الهنود دينهم بالدهارما الخالدة؛ أي سُنة الكون الأبدية. وهذه السُّنة تعني، من جهة، القانون الأخلاقي الذي نصَّت عليه الشرائع في الأسفار المقدسة، ومن جهةٍ أخرى القانون الأبدي الثابت الذي يحكم الكون برُمَّته. وبهذا المعنى الثاني تتطابق سُنة الكون مع ما نفهمه اليوم من مصطلح القانون الطبيعي، الذي تجعل منه العلوم حقلًا لدراستها، ولكن مع فارقٍ هام، وهو أن هذا القانون الطبيعي لا يقوم بذاته في الفكر الهندوسي، وإنما يستند إلى مستوًى أعمق للوجود، هو الأرضية غير المتغيرة لكل عرض متغير، ويُدعى براهمن؛ القاع الكلي غير المشخص للوجود، الذي صدر عنه كل ما عداه من الناس والآلهة ومظاهر المادة. وفي حال الكائنات الحية من بشر وآلهة، ومن كل ما يدبُّ ويزحف على الأرض أو يطير في الهواء، فإن لها نفسًا تُدعى أتمان، هي تلك النفوس الفردية الموزَّعة بين الخلائق، وفي الوقت ذاته هي النفس الكلية المنبثِقة عن براهمن. فالنفوس رغم تباينها الظاهري هي في حقيقة الأمر نفسٌ واحدة، وإلى هذه النفس الواحدة ترجع النفوس المتحررة المنعتِقة لتذوب فيها؛ وبهذا يتحصل لدينا ستة مفاهيم أساسية في المعتقدات الهندوسية:

  • (١)

    سمسارا: الدورة السببية الكبرى والعالم الذي تتناسخ فيه أرواح الكائنات الحية وأرواح الآلهة.

  • (٢)

    كارما: الفعل وتبعاته الأخلاقية.

  • (٣)

    دهارما: السُّنة الكونية.

  • (٤)

    موكشا: الانعتاق من الدورة السببية.

  • (٥)

    براهمن: اللامتغير الأبدي والقاع الكلي للوجود.

  • (٦)

    أتمان: النفس المتجزئة، والنفس الكلية أيضًا.

بين هذه المفاهيم جميعًا، لا نجد واحدًا منها يتطابق مع مفهوم الإله الأعلى الخالق للكون والمفارِق له. إلا أن هذا المفهوم في حال وجوده، ليس إلا وهمًا من أوهام عالم الظواهر الذي تعيشه الروح في إسار دورة التناسخ. وهذا ما يقودنا إلى المفهوم الأساسي السابع، وهو المايا، الذي يُفهم منه عادةً ما يؤدي معنى الوهم أو الظواهر الخادعة.٢ تقوم فكرة المايا أساسًا من أجل الربط بين الواحد غير المتجزئ والكثرة التي تصدر عنه؛ لأن الواحد لا يمكن أن يكون سبب الكثرة؛ ولذا فإن هذه الكثرة من موضوعات الطبيعة لا بد أن تكون وهمًا يمُت إلى عالم الظواهر والخداع. وما دامت الروح تعيش في دورة السببية، فإنها واقعة في إسار المايا، تعاين الكثرة والتنوع؛ كثرة الموضوعات الطبيعية وتنوع النفوس البشرية. ولكنها عندما تفلح في الانعتاق، فإن الوهم الكبير ينجلي، ويبدو لها الكون متوحدًا في المطلق العظيم، فتنمحي الحدود بين الظواهر وتذوب الفروق بين الأرواح التي كانت تعيش وهم التفرد والاستقلال. أما الإله المشخص الذي عرفته النفوس خلال دهور دوراتها في السمسارا، فيبدو لها بعد الانعتاق على حقيقته؛ براهمن الأزلي الحق، بعد أن كان براهمن + مايا، مثلما كانت النفس البشرية نفسًا + مايا، ويتحقق التطابق في الهوية بين النفس أتمان والمطلق براهمن.

إن من يحقق للنفس هذا النوع من الانعتاق النهائي، هو كدحها في سبيل معرفة الحق، وانكشاف البصيرة الداخلية على حقيقة أن هذا العالم المتكثر هو واحد في جوهره، وإن كل ما في الوجود هو براهمن، وذلك على حد التعبير الإسلامي المعروف: لا موجود إلا الله. وهو قول يردده أهل الظاهر ولا يعلمه حق علمه سوى أهل الباطن. فعندما يُعلن الحكيم الهندوسي أنا براهمن، أو يشطح الحلَّاج صارخًا أنا الحق، وأبو يزيد البسطامي سبحاني ما أعظم شأني، فإن هذه الكلمات تبدو آخر ما تلعثم به اللسان قبل أن يصمت أمام الكشف، وقبل أن تنتشر الاستنارة في كل زاوية من زوايا النفس. هنا تنقشع غشاوة المايا عن البصيرة، ولكن لا لكي يرى العارف أن الوجود بحد ذاته وهمٌ وسراب، وإنما ليرى الحدود وقد انمحت بين الأجزاء، وزالت التقسيمات وذابت الثنائيات.

فالمايا بالأصل اللغوي لها هي التقسيم والتحديد والقياس، وجذرها السنسكريتي هو Matr؛ أي يقيس أو يكيل أو يقولب شكلًا ما أو يضع مخططًا. ومن الجذر ذاته تأتي الكلمات اللاتينية metre؛ أي المتر، وmatrix، matter؛ بمعنى المادة.٣ إن عملية القياس هي بحد ذاتها تقسيم، سواء برسم خطوط محددة أم بكيل كميات متساوية، وعليه فإن قولنا بأن عالم الظواهر والأحداث هو مايا، يعني أن الأحداث والظواهر هي في الحقيقة مفردات للقياس أكثر منها دلائل على الحقيقة، وأنها لا تختلف في جوهرها عن خطوط التحديد أو مكاييل الأطوال والحجوم. هذه الرؤية قد تبدو عصية على فهم مَن تعوَّد النظر إلى الأحداث والوقائع والأشياء باعتبارها الوحدات التي تؤلف العالم المحيط بنا، غير منتبه إلى الحقيقة البسيطة، وهي أن الكل هو الأصل، وليست الأجزاء إلا من خلق الإدراك التجزيئي الذي لا يدرك ما حوله إلا كقِطع مستقلة وكيانات متباعدة. أما من أفلح في قهر سلطان المايا، فيتابع رؤيته للعالم من حوله كما يراه الآخرون، ولكنه يدرك في الوقت نفسه أن الأجزاء التي يراها ويتعامل معها لا تمتلك طبيعة خاصة بها، بل إنها تقوم في علاقة بعضها ببعض وفي علاقتها بالكل الذي يملك وحده الوجود الحق.
لم تكتفِ الحكمة الهندية بصياغة هذا النوع من المفاهيم المجردة لتوضيح المعتقد الهندوسي، وإنما لجأت أيضًا إلى الأسطورة التي توضح بالصورة والحركة ما قد تقصُر عنه الصيغ الفلسفية الذهنية. وقد اخترت من أساطير الهند الكبرى التي جمعتها لنا الأسفار المعروفة Puranas أسطورتين سوف أعرض لهما ببعض التفصيل فيما يلي؛ الأولى معروفة بعنوان إندارا وموكب النمل،٤ وبطلها الإله إندارا، الذي كان رئيسًا لمجمع الآلهة الفيدية قبل تكوُّن الهندوسية الكلاسيكية، وذوبان الجماعات الآرية الحاكمة في لجة الثقافة الهندية الأقدم والأعرق.

يقوم الإله إندارا بقتل التنين السماوي الذي يحتجز مياه الأعالي في بطنه ويستلقي على قمم الجبال العالية في هيئة سحابة لا شكل لها، فيتمزق أشلاءً بعد أن تُصيبه صاعقة الإله في بطنه، ويندفق الماء من جوفه ليسيل عبر السهول والوديان، وتعود الطبيعة سيرتها الأولى بعد الجفاف الذي حل بها. وبموت التنين الذي اغتصب سلطة الآلهة، تتراجع آلهة الظلام التي جاءت معه إلى العالم الأسفل، ويعود آلهة العالم العلوي إلى مساكنهم في قمم الجبال، يُصرِّفون أمور الكون من جديد.

كان أول عمل لإندارا بعد انتصاره، هو إعادة بناء مدينة الآلهة التي استحالت يبابًا خلال فترة حكم التنين، فأتم ذلك على أحسن وجه بواسطة إله الحِرَف والفنون الذي استعاد الوجه القديم للمدينة وزاد في تجميلها، فهلَّل الآلهة لإندارا وأعلنوه ملكًا ومُخلصًا. غير أن إندارا الذي أسكرته نشوة النصر وغلبه الإعجاب بالنفس، طلب من إله الحِرف أن يبني له قصرًا ملكيًّا لم يحلم بمثله إله أو شيطان من قبل. فشرع المعماري في عمله وأتمَّه في عام واحد، وكان لإندارا ما أراد وأكثر؛ قاعات وأبهاء، أسوار وبوابات وأبراج وحدائق وجداول وبحيرات. ولكن ملك الآلهة طلب المزيد؛ مزيدًا من الأجنحة ومزيدًا من الحدائق والبحيرات ومزيدًا من وسائل الرفاهية ومما يبهر الأبصار. وكلما تقدم إله الحِرَف نحو تحقيق مخططات إندارا، خطرت لكبير الآلهة أفكارٌ جديدة وزادت رؤاه سعة في الخيال وبُعدًا عن الإمكان، حتى حل اليأس بالمعماري ووصل إلى حالة من الحيرة والإحباط. فمضى إلى الإله الخالق برهما٥ وعرض عليه الأمر ملتمسًا عون الآلهة الكبرى، فطمأنه هذا ووعده خيرًا. ثم إن براهما صعد إلى الملأ الأعلى حيث الإله الأكبر فيشنو (الذي يلعب في أسفار البورانا دور براهمان)، وعرض عليه ما صار إليه إندارا ومشكلة إله الحِرَف معه. أصغى فيشنو بصمت وهدوء حتى انتهى برهما من حديثه، ثم هز رأسه بحركة خفيفة دلالةَ موافقته على التدخل في المسألة.
في اليوم التالي، وقف بباب إندارا صبيٌّ برهمي٦ يحمل في يده عصا الحج، وطلب من الحراس السماح له بالمثول أمام ملك الآلهة. خف الملك شخصيًّا لاستقبال الصبي المقدس عند الباب، واقتاده إلى الداخل حيث حيَّاه الآلهة المجتمعون في بهو الاستقبال، وسكبوا أمامه العسل واللبن وقدَّموا الثمار، ثم سأله إندارا عن قصده وسبب زيارته. كان الصبي في العاشرة من عمره، نحيلًا ذا عينين نفَّاذتين يشعُّ منهما ألقُ الحكمة، وعندما تكلم مُجيبًا عن سؤال الملك، صدر عنه صوتٌ رخيم عميق، أشبه ببشارة صوت بعيد لرعد غيمة ماطرة. قال الصبي: «أيْ ملك الآلهة، لقد سمعت عن القصر العظيم الذي تعمل على تشييده، فأتيت لأطرح أمامك بعض تساؤلات خطرت في ذهني. فكم من الأعوام يستغرقه إكمال قصرك على ما تحب وتشتهي؟ وكم بقي على المعماري إنجازه من أجلك أيها الإله الكبير؟» قالها الصبي وقد علت محياه ابتسامةٌ ذات مغزًى. «لم يكن لأي إندارا من قبلك أن ينجح في بناء القصر الذي تتصور في قلبك، فكيف تنجح أنت في ذلك؟»

لم يفقه الملك المفتون بقوته إشارة الصبي إلى «إندارات» أتت قبله ثم مضت، فالتفت إليه يخاطبه بلهجة أبوية، كمن يستوضح أمرًا لم يحسن صاحبه التعبير عنه وصياغته بطريقة مفهومة: «كم من إندارا قد رأيت قبلي، أو به قد سمعت؟»

أجاب الضيف الغريب وهو يهزُّ رأسه برفق: «لقد رأيت الكثير منهم.» كان صوت الصبي حلوًا ودافئًا كلبن بقرة استُحلب لتوه، ولكن كلماته جعلت الدم يسري باردًا في عروق إندارا. ثم تابع الصبي: «نعم إندارا، يا طفلي العزيز، لقد عرفت أباك كاشايابا الرجل السلحفاة، سلف مخلوقات الأرض وسيدها، وعرفت جدك ماريشي، شعاع النور السماوي وابن برهما، كما أنني عرفت برهما الذي أنجبه فيشنو من برعم لوتس نما من صرته، وعرفت فوق كل هذا فيشنو، الكائن الأسمى الذي أسند عملية الخلق إلى برهما. أي ملك الآلهة، لقد رافقت انحلال الأكوان، ورأيت كل شيء يتلاشى مرة بعد مرة عقب كل دورة كونية؛ في ذلك الوقت المهول تذوب كل ذرة في الوجود في مياه الأبدية التي صعدَت منها، كل شيء يعود إلى جوف أوقيانوس بلا قرار، عليه ظلمة فوق ظلمة، ولا أثر لكائن حي. آه … من يستطيع أن يُحصي عدد الأكوان التي عبرت وزالت، والخلق الذي تلاه غضًّا جديدًا صاعدًا من هيولى الغمر العظيم؟ من يستطيع أن يعد دهور الكون دهرًا يتبع دهرًا، بلا بداية بلا نهاية؟ ومن يستطيع أن يقطع لا نهايات المكان ليعد الأكوان الماضيات تجثم متراصَّة كونًا كونًا، وكل كون له إندارا خاصٌّ به وكذلك فيشنو وشيفا؟ ومن يعد الإندارات فيها إندارا إندارا، ممن حكموا في تلك العوالم الماضيات صعودًا، واحدًا إثر آخر، إلى عرش الألوهة، ثم هبوطًا إلى عالم النسيان؟ أي مليك الآلهة، قد يوجد من يستطيع عدَّ ذرات الرمل على الأرض، وقطرات الماء الهاطل من السماء، ولكن لن يوجد من يستطيع عدَّ كل أولئك الإندارات الماضيات. وهذا أيها المليك ما يعرفه العارفون.»

وفي هذه الأثناء لاحظ الصبي على الأرض طابورًا من النمل يقطع القاعة فيما يُشبه الموكب العسكري، فتوقف محدقًا به ثم أطلق ضحكة رنَّانة، ما لبث بعدها أن أطرق في سكون وتأمل. فقال إندارا متلعثمًا: «ما الذي يجعلك تضحك؟ من أنت أيها الكائن المتلفح بهيئة الغلام الخادعة؟» كان صوت ملك الآلهة الفخور متهدجًا، وقد جفت منه الحنجرة والشفتان: «من أنت يا بحر المناقب المتستر وراء سديم مضلل؟» رفع الصبي رأسه وقال: «لقد ضحكت لمرأى موكب النمل هذا، ولكن لا تسَل لماذا أضحكني مرآه؛ فوراء ذلك سِر ينطوي على ثمر الحكمة، سِر يجتث شجرة غرور هذا العالم، ولكنه مدفون في غياهب حكمة العصور، ونادرًا ما يُكشف عنه حتى للقديسين. إنه نسمة الحياة لأولئك النساك الذين تخطوا هذا الوجود الفاني، ولكنه مُميت لأولئك المنغمسين في حمأة الرغبة والخيلاء.» قال هذا ثم أمسك عن الكلام وغرق في الصمت، فقال إندارا وقد زاولته الخيلاء واتضعت هيئته: «أيها الغلام البرهمي، لا أعرف من أنت، ولكنك الحكمة المتجسدة، اكشف لي عن سِر العصور هذا، عن النور الذي يُبدد الظلمة.» فلما رأى الصبي تغيُّر هيئة الملك ورغبته الجادة في التعلم، أخذ يكشف له خفايا الحكمة:

«لقد رأيت النمل منتظمًا في طابور طويل، كل نملة فيه كانت في عالم مضى إندارا، كل واحدة مثلك ارتقت إلى رتبة ملك الآلهة بفضل التقوى والأعمال الحسنة، ولكنها الآن، وبعد عدد من الولادات والتناسخات، صارت نملة مرة أخرى. انظر إلى هذا الجيش، إنه جيش من الإندارات السابقة، ذلك أن الأعمال السامية ترفع أهل الأرض إلى المنازل العُليا السماوية، وحتى إلى منازل برهما وشيفا والمنزلة الأعلى لفيشنو، أما الأعمال الرذيلة فتهبط بهم إلى الدرك الأسفل، فيخرجون من رحم الخنازير وحيوانات الفلاة، أو يصيرون طيورًا وحشرات وما إليها. بالأعمال تجني السعادة أو البؤس، تصير سيدًا أو خادمًا، بالأعمال تصير ملكًا أو برهميًّا أو إندارا أو برهما، وبالأعمال أيضًا ترد وحشًا ضاريًا. هذا هو جوهر السر، وهذه هي الحكمة التي تعبر بك خضم الجحيم.» بعد أن أنهى كلامه، تلاشى الصبي من مجلس إندارا، وعرف الجميع أنه لم يكن سوى الكائن الأسمى فيشنو.

وقف إندارا مذهولًا يستعيد ما جرى أمامه وكأنه في حلم، ثم أخذ يشعر بتغيير عميق يجري في كيانه؛ لم يعد راغبًا في المزيد من السلطان، ولا في المضي قُدمًا لتوسيع قصره السماوي. استدعى المعماري العظيم فأثنى على مهارته وفنه، ومنحه هدايا ثمينة ثم صرفه لشأنه. لقد فتح الصبي عينَيه ورمى الحكمة في قلبه، فلن يُرضيه بعد الآن سوى التحرر والانعتاق. استدعى ابنه وعهد إليه بمهام الحكم، واستعد لحياة الزهد والتأمل. إلا أن زوجته المخلصة جزعت للقرار وهُرعت إلى إله الحكمة والسحر تسأله أن يساعدها في إقناع زوجها لكي يعدل عما انتوى، فقام الإله بجمع الزوجَين وراح يُعدد لهما فضائل حياة الزهد والتقشف من جهة، وفضائل الحياة الدنيا من جهة أخرى، وصاغ حديثه بطريقه جعلت إندارا يعدل عن قراره ويختار الطريق الوسط بين الحياتين.

وهكذا تنتهي أسطورة إندارا وموكب النمل، على نحو يفتح أمامنا عالمًا غير مألوف من مفاهيم الزمان والمكان في الفكر الهندوسي. فالأكوان السابقات والتاليات تجثم في حيز واحد، وتتبدى متتابعة في زمان وعود أبدي، كلما انتهت دورة بدأت أختها، وكلما انحلَّ كون وآل إلى الفناء متلاشيًا في جوهر المطلق الأبدي، نشأ كون جديد يعيد سيرة سابقه الأولى. فتاريخ الكون لا يسير في زمن خطي باتجاه واحد، بل في زمن دوري ينتقل من النضج إلى الانحلال فإلى النضج مرة. هذا النوع من الوعي بالزمن يتخطى المدى الزمني لحياة الجماعات والأمم بل الجنس البشري كله، إنه زمن الطبيعة التي لا تعرف المئات والألوف من السنين، بل الدهور الجيولوجية والكونية.

في المعتقدات الهندية، تتألف كل دورة كونية من أربعة عصور، يتصف العصر الأول بالكمال في كل شيء، وينتصب فيه القانون الأخلاقي راسخًا على أربع ركائز، فيه يولد الناس أخيارًا ويكرسون حياتهم لأداء مهامهم وواجباتهم الأخلاقية على أكمل وجه، وهو أطول العصور الأربعة إذ يدوم ما مقداره ١٧٢٨٠٠٠ سنة (مليون وسبعمائة وثمانية وعشرون ألفًا). في العصر الثاني، يبدأ الفساد بالتسرب إلى الكون وإلى المجتمع الإنساني، فهنا يتوجب على البشر أن يتعلموا الفضائل بعد أن كانت مغروسة في طبعهم، ويدوم هذا العصر ما مقداره ١٢٩٦٠٠٠ سنة (مليون ومئتان وستة وتسعون ألفًا). يدخل العصر الثالث في فترة توازُن حرجة بين النقص والكمال، ويهتز القانون الأخلاقي مستندًا إلى ركيزتَين فقط، ويدوم هذا العصر ٨٦٤٠٠٠ سنة (ثمانمائة وأربعة وستين ألفًا). أما العصر الرابع المظلم فتسود فيه البغضاء، وتتغلب الرذيلة على الفضيلة، وتقوم المنازعات بين الأفراد والحروب بين الشعوب. يدوم هذا العصر ٤٣٢٠٠٠ (أربعمائة واثنين وثلاثين ألفًا)، وهو أقصر العصور، ونحن نعيش اليوم في أحد هذه العصور السوداء، من إحدى الدورات الكونية الصغرى المدعوة ماها يوغا Maha Yoga، والتي يبلغ مجموع سِنيها ٤٣٢٠٠٠٠ سنة (أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألفًا). أما الدورة الكبرى فتُدعى كالبا Kalpa، وتتألف من ألف ماها يوغا؛ أي ٤٣٢٠٠٠٠ × ١٠٠٠ = ٤٣٢٠٠٠٠٠٠٠ (أربعة مليارات وثلاثمائة وعشرين مليونًا)، وتؤلف يومًا واحدًا من أيام برهما، وتدور بملياراتها الأربعة كلما رمش فيشنو بعينه رمشة واحدة، وبعد أن تئول إلى نهايتها يليها ليل بطولها هو ليل برهما. ففي نهاية هذه الدورة الكبرى، وفي آخر لحظة من يوم برهما، تنشطر الأرض وتتداعى الأكوان بما فيها من بشر وكائنات حية وآلهة عائدة إلى الماهية القدسية الأبدية، ويهدأ نبض الزمن في ليل برهما الطويل، حيث ينام فيشنو على أمواج مياه الأبدية التي تؤلف جوهره، بعد أن امتص إلى جوفه الكون الذي صدر عنه. وفي أول لحظة من لحظات يوم برهما التالي، يولد برهما جديد من البرعم الذي ينمو من سرة فيشنو، ليقوم بخلق كون آخر، وتبتدئ دورة كونية كبرى جديدة.٧

والإله فيشنو هنا يلعب دورًا مزدوجًا؛ ففي نهار برهما ودوراته الكونية الصغرى هو الإله الأعلى المشخص، وفي الليل الذي يليه عندما تئول الأكوان إلى الفراغ الأعظم، يُسفر عن حقيقته باعتباره براهمان المطلق الأبدي، ويسقط قناع فيشنو الوهمي مع ما يسقط من بقية العوالم السرابية التي آلت إلى رحم مياه الألوهة الأزلية. ولسوف نرى لاحقًا كيف يتناوب فيشنو وشيفا على التقاط قناع الإله المشخص، ولعب الدور المزدوج في الميثولوجيا الهندوسية. ولكن ما الذي يحل بأرواح البشر والآلهة وبقية الكائنات التي كانت تلعب دورة التناسخ، عندما يصمت الوجود وينطوي المطلق على ذاته كأن شيئًا لم يكن؟

عندما ترجع الأكوان إلى مصدرها في ليل برهما الطويل، فإن الأرواح التي فنيت أجسادها لا تفنى ولا تنعتق، بل تبقى في حالة سكون، غافلة عن نفسها ناسية أعمالها الماضيات. وعندما يبتدئ نهارٌ جديد، تنتبه الأرواح وتحمل كل واحدة حمل أعمالها السابقة مجددًا إلى دورة كاملة أخرى، فليل آخر، فنهار آخر، مليارات من السنين تعقب مليارات، حتى يحين وقت الخلاص إذا حان له وقت. وهذه الأرواح التي تتناسخ في الأجساد البشرية والإلهية والحيوانية وحتى النباتية، لا تنتمي إلى أصناف مختلفة، بل إنها من طبيعة واحدة، تنتقل من حجاب إلى حجاب، من حشرة إلى إنسان إلى إله أو بالعكس، حتى تحقق الانعتاق. وهذا الانعتاق لا يتحقق إلا انطلاقًا من الشرط الإنساني، وحين تكون الروح متقمصة في إنسان، فالإنسان وحده من دون بقية المخلوقات هو القادر على تخليص الروح وتحقيق الانعتاق، أما الآلهة فإن عليها أن تنتظر فرصةً تُجسدها في إنسان لتستطيع من خلال حياة إنسانية كاملة أن تنفلت من دورة السببية الكبرى.٨

لقد تلاشت فكرة إندارا الساذجة عن نفسه وعن دوام مجده، عندما رأى أن هذا المجد ليس أرسخ من الجبال التي تبدو لحياة فرد أو جيل أو حقبة تاريخية، ثابتة أبدية، ولكنها من منظور الدهور المتعاقبة أشبه بموج البحر يعلو ثم يهبط. لقد كانت مشاريعه العمرانية متناسبة مع إحساسه بأناه التي ظنها مطلقة وبلا حدود، أما بعد أن فتح فيشنو عينيه، ورأى ملايين السنين تتحول إلى دقائق، والدهور إلى أيام، فقد رأى كيانه وكيان الآلهة من أمثاله عرضًا مؤقتًا زائلًا، ورأى كل ما تجنيه اليدان تذروه رياح الفناء كأن لم يكن. لقد تبين له الكون أشبه بنهر دائب الجريان، لا يركن إلى حال ولا يبغي مآلًا، ولكنه تبين في الوقت نفسه الجوهر الثابت وراء كل متغير.

إن إدراك التغير والتبدل في كل ظاهرة من ظواهر العالم، تجعله يبدو أشبه بسراب ناتج عن خداع الحواس، أو تلفيقة يصنعها الوعي المتمركز حول الأنا. هذه الخبرة بالعالم تجعله معادلًا للمايا، والمايا هي الصنعة الفنية التي تنتج عملًا يدويًّا أو تشكيليًّا لهيئة ما، من مادة غير مشكلة. إن معنى التشكيل انطلاقًا من مادة لا شكل لها، يرتبط هنا بشكل وثيق بالمعنى الذي بينَّاه آنفًا، والذي يعود إلى الجذر الذي يعني الكيل والقياس والتحديد، ولكنه ينطوي في الآن نفسه على ظلال جديدة. فبما أن المايا هي إظهار لهيئة لم يكن لها وجود، فإنها تتصل أيضًا بالوهم، والحيلة البارعة، وخداع البصر، وما إلى ذلك. ومايا الآلهة هي قدرتها على الظهور بهيئات مختلفة، وذلك بإظهارها لجوانب متنوعة من ماهيتها اللطيفة. غير أن الآلهة هي في الوقت نفسه نتاج مايا كبرى؛ نتاج تبدٍّ ذاتي تلقائي لماهية قدسية كبرى لا حضور فيها للهيئات والأشكال. وهذه المايا الكبرى لا تنتج الآلهة فقط، بل العوالم التي تنشط فيها أيضًا؛ كل العوالم الماضيات والمقبلات تتشارك الوجود في المكان، وتتبع بعضها بعضًا في الزمان. ومستويات الوجود وما فيها من مخلوقات طبيعانية وفوق طبيعانية، هي تجليات يظهرها نشاط المايا الذي ينضح من نبع أزلي لا ينضب. وعندما يهبط ليل برهما الطويل، فإن المايا تتوقف عن النشاطات، وتنحل الظهورات التي تبدَّت في نهار الدورة الكونية الكبرى. إن المايا هي وجود العالم الذي نعيه ووجودنا نحن بالذات، ولكنها أيضًا الطاقة العظمى التي تلد المشهد كله وتفعل من داخله، إنها الوجه الدينامي للماهية الكونية. وبتعبير آخر، إن المايا هي السبب والنتيجة في آنٍ معًا؛ فهي الفاعل الداخلي وهي أيضًا التدفق والجريان الذي يبدو على السطح. وقد دُعيت في الميثولوجيا باسم شاكتي، والكلمة مستمدة من الجذر السنسكريتي sak الذي يعني القدرة على إتيان شيء، وجرى تصوُّرها كألوهة مؤنثة، واعتُبرت الوجه الأنثوي المشخص للكائن الأسمى.٩ ونحن إذا أعدنا هذه التصورات الفلسفية المعقَّدة والصور الميثولوجية المتشابِكة إلى صيغتها البسيطة، لوجدنا أن المعتقد الهندوسي الجوهري يتلخص بسهولة إلى مصطلحَينا المألوفين؛ أي المجال القدسي وقوته السارية.

ولكن لكي يكتمل في أذهاننا الدرس الذي تعلَّمه إندارا عن المايا الكبرى المولدة لدورة الكون، لا بد لنا من الاطلاع على درس آخر يتعلق بالدورة الصغرى؛ دورة تناسخ الأرواح، وذلك بسرد أسطورة أخرى من أسفار البورانا اخترتها لهذه الغاية.

تدور الحكاية حول ناسك ذي نسب إلهي اسمه نارادا. في يوم من الأيام تجلَّى الإله فيشنو لهذا الناسك في معتكفه مكافأة له على تعبُّده الطويل، ومنحه استجابة لدعوة واحدة فقط يدعوها، ورغبة يحققها له. ولكن نارادا الزاهد في كل أمور الدنيا لم يطلب سوى أن يفهم مايا الإله وكيف تفعل، إلا أن فيشنو حاوَل التملص من تحقيق هذا المطلب عارضًا على الناسك الصحة وطول العمر، وغير ذلك مما يطلب البشر عادةً، فأصرَّ هذا على طلبه مؤكدًا أن لا رغبة له في شيء سوى النفاذ إلى سر وجوده. ولما لم يجد الإله إلى التهرب سبيلًا، قام بتلبية رغبة نارادا، ولكن بدلًا من أن يشرح له كيف تعمل المايا بكلمات، عرَّضه لتجربة ساحقة، خبرها بجسده ووجدانه على أعنف شكل يمكن تصوره. أمرَ فيشنو نارادا أن يغوص في مياه البحيرة القريبة، ففعل. وعندما صعد إلى السطح لم يكن هو نارادا، بل تحوَّل إلى فتاةٍ اسمها سوشيلا، هي ابنة ملك مقاطعة بينارس (ربما أحد تقمُّصات نارادا السابقة أو اللاحقة)، وكانت مخطوبة لابن ملك المقاطعة المجاورة. ولم يطُل بسوشيلا الأمر حتى زُفَّت إلى الأمير، وعرف الحكيم الزاهد نارادا كل مُتع الجسد في قميصه الأنثوي الجديد. ثم إن الملك المُسن تُوفي وصعد إلى العرش الأمير الشاب زوج سوشيلا، وسارت حياة الزوجين على أفضل وجه، فأنجبت الملكة لزوجها عددًا من الأولاد وصار لها أحفاد وهي ما زالت في ريعان الصبا. ولكن بعد مدة من الزمن وقع نزاعٌ بين المقاطعتين المتجاورتين، ودخل أبو سوشيلا وزوجها في حربٍ ضروس أنهكت الطرفَين. وفي معركة أخيرة فاصلة قُتل زوج سوشيلا وأبوها معًا وعدد من أولادها وأحفادها. تركت سوشيلا العاصمة لسماعها النبأ الفاجع وهُرعت إلى ميدان المعركة، وهناك أقامت مناحة على قتلاها، ثم أمرت صنع محرقة جنائزية كبيرة وضعت فوق حطبها جُثث أحبَّائها، ثم قرَّبت نارًا وأوقدت المحرقة. وبينما النار تندلع أمام عينها راحت تصرخ كالمجنونة يا ولداه، يا ولداه. ثم رمت نفسها في وسط اللهيب. عند ذلك ابتردت النار وتحولت المحرقة إلى بحيرة؛ البحيرة نفسها التي غطس فيها نارادا، ورأى الناسك نفسه والإله يقوده من يده نحو الشاطئ. وهناك قال فيشنو للحكيم الشيخ وعلى فمه ابتسامةٌ قاسية: «من هذا الابن الذي كنت تبكي موته يا نارادا؟» هنا فُتحت عيناه على الحقيقة.١٠

والآن هل كانت الحياة الأخرى التي عاشها نارادا كامرأة، هي استعادة لتقمُّص سابق، أم إرهاصًا بتقمص لاحق، أم كانت وهمًا خلقته قدرة فيشنو على المايا؟ إن الأمر سيان في الحقيقة؛ لأن حيوات نارادا السابق منها والحالي والتالي، ليست إلا سلسلة من التهيؤات التي تولدها المايا الكونية.

في الأسطورتَين اللتين اخترت روايتهما آنفًا، وفي بقية الأساطير الثماني عشرة التي تؤلف أسفار البورانا، يظهر المطلق الأعظم تحت قناع الإله فيشنو. وعبر السرد القصصي لهذه الأساطير يكتسب المجال القدسي لمسةً شخصية تظهر أحيانًا وتختفي أحيانًا أخرى، رغم أن رسالة الأسطورة تؤكد على الجوهر اللاشخصي للألوهة؛ لأن كل الهيئات والأشكال والشخصيات والأجزاء سرابٌ عابر، والموجود الحق هو المطلق الكلي الساكن المتماثل. وفي الواقع، فإن لمسة التشخيص التي تُضيفها الأسطورة إلى المجال القدسي، هي من طبيعة الميثولوجيا نفسها، ولا مناص منها في أسلوب السرد القصصي؛ لأن الترميز الميثولوجي، على عكس التأمل الذهني، يتعامل بالصور الحركية لا بالأفكار المنظمة، ولكي تؤدي الأسطورة فكرةً ما، عليها أن توصل المعنى من خلال مشاهد حيوية يتحرك فيها عدد من الشخصيات؛ الأمر الذي يقود تلقائيًّا إلى تشخيص المجردات. غير أن الإله فيشنو لم يكن القناع الوحيد الذي لبسه المطلق الكلي براهمن عبر تاريخ الديانة الهندوسية الطويل؛ فقد لعب هذا الدورَ أيضًا كلٌّ من برهما وشيفا العضوان الآخران في الثالوث الأقدس الهندوسي، المؤلف من فيشنو الحافظ وشيفا المدمر وبرهما الخالق. وفي المراحل المتأخرة من تاريخ الديانة الهندوسية، أخذت الميثولوجيا الشعبية تُعلي من شأن شيفا حتى صار الإله الأعلى المشخص الذي يستتر وراءه المطلق الكلي، بعد أن كان مجرد قناع يظهر به فيشنو عندما تحين ساعة التهام الكون وإعادته إلى الأوقيانوس الأصلي، حيث يقوم بإحراق الأكوان وإحالتها إلى رماد، وعندما تحين ساعة الخلق الجديد يولد برهما من البرعم النامي من سرة فيشنو ليبدأ خلقًا جديدًا. فكلا الإلهين كانا، في ميثولوجيا فيشنو، تعبيرًا عن قوة الخلق وقوة الدمار الصادرتين عن المطلق الساكن. أما الآن، فقد أخذ شيفا الأدوار الثلاثة معًا فصار الحافظ والمدمر والخالق، وظهرت إلى جانبه قرينته شاكتي التي تلعب دور المايا؛ القوة السارية في الكون.

وبما أننا قد أعطينا فكرة عن رمزية الإله فيشنو من خلال الميثولوجيا، فإننا سوف نعطي فيما يأتي فكرة عن رمزية الإله شيفا من خلال التعبيرات التشكيلية في التصوير الديني الهندي، مستندين بشكل رئيسي إلى التقاليد التانترية Tantra. هنا سوف يظهر لنا أيضًا أن التشخيص في الأعمال التشكيلية ليس إلا ترميزًا لمفهوم الألوهة المجرد، ورداءً يختفي وراءه المطلق الكلي.

تقترن رمزية شيفا برمزية شاكتي ذات الأسماء المتعددة، فهما التشخيص المزدوج للمطلق الذي يتكشف في الزمان والمكان، من خلال القران المقدس بين قوتَيه السالبة والموجبة. وتُركز هندوسية التانترا على فكرة القران المقدس بين الإلهين شيفا وشاكتي، من خلال النصوص الأدبية والأعمال التشكيلية؛ فهما في جدلية دائمة وحوار أبدي، نراهما في المنحوتات والصور يتعانقان ويتهامسان، ومن خلال حوارهما هذا يعلن جوهر براهمن عن نفسه للفهم الإنساني. تتكرر مشاهد العناق مرات ومرات في آيات النحت الهندي، وقد ينوب عن الشكل الإنساني للإلهَين الرمز التشكيلي المعروف باسم لينغوم-يوني، وهو عبارة عن عضو الذكورة وعضو الأنوثة في وضع الاتحاد. وفي بعض الحالات، عندما يُنصَب قضيب شيفا الحجري منفردًا في الهياكل، فإن كوة في جدار النصب تنتفخ لتظهر من ورائها شاكتي بكامل أبَّهتها قابعةً في صميم القوة الفعَّالة للذكر؛ ذلك أن كل قوة من هاتين القوتين إنما تكشف سِر الأخرى وتكمن في جوهرها. وهذا هو الدرس نفسه الذي تعلمناه سابقًا من دائرة اليانغ-ين؛ حيث يعلن جانب الدائرة الأسود عن حضوره في الأبيض من خلال دائرة صغيرة بيضاء.

وفي عملٍ نحتيٍّ يُعتبر من آيات الفن الهندي الكلاسيكي، ويعود إلى القرن الثامن الميلادي، نجد أبلغ تعبير عن التشخيص الفني الذي يهدف إلى التعبير عن المطلق غير المشخص. يُدعى هذا النحت بشيفا المثلث؛ لأنه يمثل إلهًا بثلاثة وجوه؛ وجه جبهي وآخرَين جانبيين ينظر كلٌّ منهما في اتجاه. يبدو الوجه الجبهي مُغمَض العينين في حالة حلمية، غائصًا في ذاته مستغرِقًا في صمت حجري أبدي، وهو يمثل المطلق الساكن والجوهر القدسي الذي صدر عنه القطبان السالب والموجب. من الجانب الأيمن لهذا الحضور غير المُبالي ينبثق الوجه الجانبي للإله شيفا، الذي تُعبِّر خطوط وجهه الحادَّة عن قسوة وعزم وتصميم، ومن الجانب الأيسر المقابل ينبثق الوجه الجانبي للإلهة شاكتي، التي تفيض عذوبة وحلاوة ووعدًا لا ينتهي بالعطاء. وبين هذين القطبين المتوترين يبقى الوجه الساكن المُلغِز للمطلق على حياده، غير آبهٍ للحركة الصادرة عن ذات يمينه وذات شماله. إنه وجه الأبدية الذي يفيض الزمن وطاقة الحياة من أعماق سكونه، أو إنهما يبدوان في حالة الفيض. فمن وجهة نظر الوجه الجبهي، فإنه لا شيء يحدث على الإطلاق؛ وفي هذه الحضرة الجليلة لوجه الأبدية، يبدو الوجهان الجانبيان أشبه بغيمتَين زائلتين، والأحداث التي يمثلانها على مسرح الزمان والمكان تبدو أقرب إلى لعبة الظل والضوء في الأشكال المتلاشية، التي تبدو مرئية للعين المحجوبة خلف ستار الجهل فقط، أما العين المستنيرة فتخترق هذه المرئيات نحو الجوهر الثابت الذي لا يتغير.

في منحوتة شيفا المثلث، يظهر الوجهان الجانبيان في حالة الفعل ومن ورائهما العالم الدائم التغير والجريان، أما الوجه الجبهي فيقول لنا إنه لا شيء يحدث بالفعل، لا شيء يأتي ويذهب. وهنا نجد أبلغ تعبير عن تعايش براهمان مع مايا، فالمايا هي قناع براهمان، والوجه الذي يبدو به في العالم الاختباري. من هنا فقد عُبدت المايا باعتبارها كل المظاهر المتبدية للطبيعة؛ فهي الأم العليا للكون، وطاقة حياة البشر والآلهة وكل شيء حي، إنها مايا-شاكتي-ديفي.١١
وهناك رسم تانتري سوف أخصُّه بالشرح فيما يأتي؛ لأنه يمثل نموذجًا من الرسوم مكرَّسًا لإرشاد السالك في كدحه من أجل اختراق حجب الجهل نحو الجوهر الخفي للكون؛ فمن خلال تركيز النظر والقلب على الأيقونة، يترك الناظر لمعانيها أن تتفتح في وعيه دون شرح أو كلمات. يُدعى هذا الرسم بجزيرة الدرر، وهو يتألف من محيطٍ مائي داكن الزرقة، لا قرار لها ولا حواف، هاجع وساكن، ولكنه ينطوي على كل الممكنات، وعلى بذور كل القوى المتعارضة والمتجاذبة. وفي قلب هذا المحيط تبرز من الماء بقعة تحدِّد المركز؛ إنها بؤرة القوة الأولى، والنقطة البدئية التي اتسعت لتُشكل كل المكان. تتخذ البقعة شكل جزيرة دائرية في وسط الأوقيانوس، وتُزين حوافها أشجارٌ درية تنغمس فروعها الكريمة في الماء. في وسط الجزيرة هناك عرشٌ كبير تجلس عليه الأم الكونية شاكتي في وضعية القعود، إنها الطاقة التي تفجَّرت في صميم النقطة المكانية وشكلت السماء والأرض وما بينهما، وهي تُدعى هنا فيمارسا-شاكتي Vimarsa Sakti، حيث تعني كلمة فيمارسا التفكير والتخطيط والتدبير، وكلمة شاكتي القوة والطاقة. وللإلهة أربعة أذرع ترفع بها أربعة أسلحة هي: القوس والسهم والأنشوطة والدبوس. وهذه الأسلحة ينبغي أن تفهم مدلولاتها الرمزية المستندة إلى قيمها الاستعمالية؛ فالقوس والسهم يرمزان إلى الإرادة، والأنشوطة إلى المعرفة، والدبوس إلى الفعل. ولكن الإلهة تقوم في جلستها فوق جسدَين ذكريين مسجَّيين واحدًا فوق الآخر، يمثلان وجهَي المطلق. يُدعى العلوي شيفا سكالا Skala Shiva، حيث تعني سكالا القمر التام والبدر الكامل الأجزاء، أما السفلي فيُدعى شيفا نشكالا Nishkala، حيث تعني نشكالا القمر الفاقد الأجزاء أو المظلم. فشيفا العلوي والحالة هذه هو المطلق المتحقق في الزمان والمكان، وشيفا السفلي هو المطلق المفارق، الهاجع الساكن؛ جملة الإمكانات الخبيئة؛ ولهذا يبدو الشكل العلوي في هيئة الإنسان الصاحي، فهو في حالة التحقق لاتصاله بطاقته الذاتية الصادرة عنه، وهي الطاقة التي تجسدها الإلهة التي تقوم فوقه، والتي تعين الإله على إظهار نفسه على أنه الكون. أما الشكل السفلي فيبدو مُغمَض العينين مسترخيًا غائبًا عن الوعي؛ ذلك أن المطلق في استقلاله عن القوة هو فراغ ومفارقة مطلقة.

إن الأشكال الثلاثة المتوضعة فوق بعضها في جزيرة الدرر، يمكن قراءتها من الأسفل إلى الأعلى أو بالعكس؛ فشيفا الهاجع السفلي هو الجوهر القدسي في حدِّ ذاته ولذاته، أما شيفا الصاحي العلوي فهو المطلق في حالة إظهار إمكاناته غير المحدودة على التمايز وإظهار نفسه على أن الكون. وهذا الكون هو مايا-شاكتي المتربعة فوق الاثنين، قدرة الإله على تشكيل المادة، وعالم المادة نفسه أيضًا؛ وبذلك يتجلى المطلق عبر ثلاث مراحل، من العطالة التامة والفراغ، إلى التمايز الدينامي والحركة الشاملة. غير أن هذه المراحل الثلاثة، ينبغي ألا تظهر لبصيرة السالك في استقلالها وتتابعها إلا مؤقتًا؛ ذلك أن العرفان الأعلى هو الذي تتبدى فيه الأطوار الثلاثة كجوهر واحد. فالحقيقة هي خواء وامتلاء، كل شيء ولا شيء في آنٍ معًا. ومن خلال التركيز على هذه الحقيقة، يتوصل العارف إلى اكتشاف تطابق ذاته الفردية أتمان مع الذات الكلية براهمن. أما قراءة هذه الأيقونة من الأعلى إلى الأسفل، ابتداءً من الأم الكبرى شاكتي، فيؤدي إلى النتيجة نفسها، ولكن ابتداءً من ملاحظة ظواهر الطبيعة والقوة المنبثة في هذا العالم (مايا). ولكن تركيز الوعي على عالم الظواهر هذا ما يلبث أن يقود السالك إلى الخروج من ذاته، والانطلاق من الوعي الفردي القائم على الخبرة المباشرة للحواس، إلى الوعي الكوني الذي يمثله شيفا الصاحي، وأخيرًا إلى الاستغراق في شيفا الهاجع، حيث الصمت المطلق، وانعدام الفكر والعمل.

fig28
إلى جانب هذه الأعمال التشكيلية من رسم ونحت، هناك أشكال تخطيطية تجريدية لا وجود فيها إلا للخطوط والأشكال الهندسية، تُدعى يانترا Yantra، وتُستخدم في تقنيات الاستغراق الداخلي Meditation، من شأنها أن تُعين البصيرة الداخلية لمتأملها على الوصول إلى مستويات أعمق للإحساس بالوجود الإلهي المجرد. وهي بإزاحتها لكل الأشكال المشخصة الشفيعة، تضع السالك وحيدًا أمام الحضرة الكبرى، حيث لا وسيط ولا شفيع يفصل بينهما. من هذه الأشكال، اليانترا المعروفة باسم Shri Yantra، وترسم على طريقة المندالا؛ أي إنها تتألف من عدة مستويات تتدرج من محيط الدائرة إلى مركزها. والوحدة الأساسية للرسم هنا هي المثلث الذي يتكرر في وضعيتين؛ فهناك خمسة مثلثات رأسها نحو الأعلى، تتداخل مع أربعة مثلثات رأسها نحو الأسفل. وهذا التداخل يعطي لعين الناظر انطباعًا بتماوج حركتَين؛ حركة صادرة من المركز نحو الأطراف، وأخرى مرتدة من الأطراف نحو المركز، فيما يُشبه انطباع الحركة المتناوبة الذي تتركه دائرة اليانغ-ين الصينية. ولكن بينما تعطي دائرة اليانغ-ين انطباعًا بتناوب دوراني، فإن دائرة اليانترا هذه تعطي انطباعًا بتناوب نبضي، مع تركيز أقوى على التوتر الذي يخلقه خداع النظر الذي يولده تداخل المثلثات. تُمثل المثلثات الخمسة المتجهة رءوسها نحو الأعلى القوة الكونية الأنثوية، أما المثلثات الأربعة المتجهة نحو الأسفل فتمثل القوة الكونية الذكورية. والأشكال التسعة في حركتها وتداخلها، تُعبِّر عن التكشف التدريجي لممكنات المطلق الساكن، من خلال حركة القطبين السالب والموجب المتولدين عنه، واللذين يعطيان بحركتهما هذه مظاهر العالم الحيوي والمادي. ونلاحظ هنا أن المطلق نفسه لم يُشَر إليه في الشكل بأي رمز من الرموز، فهو النقطة المتلاشية عند المركز، حيث تنطفئ الحركة المرتدة، أو تبدأ الحركة الصادرة.

بعد هذه الجولة في الميثولوجيا والفنون الهندية، بحثًا عن الوحدة في الشتات الظاهري للمعتقدات الهندوسية، لا بد لنا من التوقف عند ذروة الفكر الفلسفي والديني الهندي، وأعني بها كتاب الأوبانيشاد. ولسوف يرجع بنا تقليب صفحات الأوبانيشاد من القص الأسطوري إلى التأمل الذهني مرة أخرى.

(١) الأوبانيشاد، حكمة الهند الخالدة

في التصوف الإسلامي، هناك تمييز بين نوعين من المعرفة؛ يُطلق على الأول علم السطور والثاني علم الصدور. يؤخذ علم السطور عن الكتب ويُكتسب بالدرس والتعلم وتحصيل المعلومات، أما علم الصدور فيجري نقله عبر الأجيال من الشيخ إلى مريده دونما حاجة إلى رقاق وكراريس؛ لأن هذا العلم مختزَن في صدور أهله لا يباح به إلا لمن هو أهل لتلقِّيه. وهذا هو بالضبط ما تشير إليه تسمية الأوبانيشاد، فالكلمة تعني المعرفة القريبة؛ أي تلك التي يجري تلقينها عن قرب من المعلم (= الغورو) إلى السالك في طريق الانعتاق.

يعود الأوبانيشاد إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يختتم الأسفار المقدسة التقليدية المعروفة بالفيدا، والتي تُشكل نخاع الديانة الهندوسية. ويتألف الكتاب من أحد عشر سفرًا صاغها حكماء متفرقون، ولكنها تنتظم في سياقٍ فِكري واحد؛ فهي تأملات عميقة في النفس الكونية براهمان وفي النفس الإنسانية أتمان. ويطلق على كل سِفر من هذه الأسفار اسم أوبانيشاد مضافًا إليه الاسم الخاص بالسفر؛ مثل كين-أوبانيشاد، وإيش-أوبانيشاد. ورغم صغر هذا الكتاب مقارنةً بأسفار الفيدا السابقة عليه، إلا أن تأثيره على فكر الهند كان أقوى من تأثير أي كتاب آخر.

تقوم تأملات الأوبانيشادات حول معرفة براهمان، الذي يقوم وراء الزمان والمكان ووراء كل المجالات التي يمكن لأفكارنا الإنسانية أن تجوس خلالها. إنه بلا هيئة بلا شكل بلا اسم بلا خصائص أو صفات، إنه الحقيقة الوحيدة، وما عداه مجرد ظهور عابر؛ فكل ما نراه من أشكال وهيئات لا حصر لها، أشبه بانعكاس نور ألف شمس في قطرة صغيرة من الندى ما تلبث أن تجفَّ وتتلاشى. نقرأ في كين أوبانيشاد:١٢
هو الذي لا تدركه الأبصار،
وبه تُدرِك الأبصار.
هو الذي لا تسمعه الآذان،
وبه تسمع الآذان.
هو الذي لا يُوضحه كلام،
وبه يتضح الكلام.
هو الذي لا تطاله العقول،
وبه تعقل العقول.
هو المختلف عما نعرف،
وهو المختلف عما لا نعرف.
إنه براهمان.
اعرفه في صميم ذاتك،
ولا تعبد أيًّا سواه (Ken Opanishad 1, 5–9).

(وفي الأوبانيشاد نفسه نقرأ أيضًا):

لا أعتقد أني أعرف عنه شيئًا،
ولا أعتقد أني لا أعرف أيضًا.
لا يعقل أن يعرفه المرء،
ولا يعقل ألا يعرفه أيضًا.
من يدرك مني هذا القول
ربما عرفه قليلًا.
والحكيم الذي يلمس حضوره أنَّى توجَّه
يجتاز بحار الوهم ويدخل الأبدية (Ken Opanishad 2, 2–5).

وحول هذا المعنى نفسه يقول النفري، المتصوف الإسلامي، في المواقف: «الجهل حجاب الرؤيا، والعلم حجاب الرؤيا. أنا الظاهر لا حجاب، وأنا الباطن لا كشوف. وقال لي من عرف الحجاب أشرف على الكشف» (موقف ٢٩). وأيضًا: «إذا رأيتني استوى الكشف والحجاب» (موقف ٣١). وأيضًا: «فرأيت العيون كلها شاخصة، فتراه في كل شيء احتجبت به، وإذا أطرقت رأته فيها» (موقف ٤٧). والإشارة في الموقف الأخير إلى الآية: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ (٤١: ٥٣).

عن هذا المجال القدسي الذي لا تلحقه الأسماء والصفات، والمدعو في الأوبانيشادات براهمان نرغونا Nirguna، أي المنزَّه عن الأسماء والخصائص، ينشأ براهمان ساغونا؛ أي ذو الخصائص والأسماء. ويحقق براهمان هذه النقلة من الكمون إلى الظهور بالأسماء والصفات، بواسطة قوته: مايا. ثم إنه يحقق النقلة الثانية بواسطة هذه القوة أيضًا، فينشأ عن براهمان ساغونا الطور الثالث للألوهة، وهو قناع الإله الخالق هيرانيا غاربا Herania Garbha، أو الابن البِكر. وعند هذا القناع تقف أفهام الناس الذين يتقدمون إليه بفروض العبادة ويقربون القرابين، إلا من أراد منهم اجتياز بحر الوهم والدخول في الأبدية.

بعد معرفة براهمان عن طريق اختراق حجاب الإله الخالق إليه، يؤكد حكماء الأوبانيشاد على الفكرة الهامة الثانية، وهي أن النفس الإنسانية التي تبدو منعزلة في الجسد المفرد، ليست إلا قبسًا من نفس براهمان الكلية، وإن كدح الإنسان الروحي يجب أن ينصب على تلمس هذا التطابق بين براهمان-النفس الكلية وأتمان-النفس الإنسانية. وهذا هو معنى قول السيد المسيح فيما بعد: «أنا والأب واحد؛ فمن رآني رأى الأب.» وهو أيضًا ما قصده الحلَّاج بن منصور، المتصوف الإسلامي، عندما أنشد:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حلَلْنا بدنا
فإذا أبصرتَني أبصرتَه
وإذا أبصرتَه أبصرتَنا

فبراهمان يقيم في سويداء قلب الجسد الحي، وهو الذي يدفع من هناك الأنفاس شهيقًا وزفيرًا:

هو رب اليوم ورب الغد،
ولكن القلب الذي بحجم إصبع الإبهام
مقر له ومكان.
من يعرفه في صميم قلبه
لا يعرف الخوف ولا الأحزان.
من سويداء القلب حيث يقيم،
يدفع أنفاس الزفير خارجًا
ويجذب أنفاس الشهيق داخلًا،
والحواس الخمس خدم له؛
فما الذي يبقى من هذا الكائن (الإنسان)
بعد أن ينقطع عن سيده الداخلي؟ (Kath Opanishad, ch2, 1, 12–13, 2, 3–4). والمقصود بأن الحواس الخمس خدم له، هو أن براهمان، الذي يسكن النفس الحية، إنما يتملى جمال الخلق الذي صدر عنه بحواس خلقه. فهو الخالق والخلق والصلة بينهما؛ المستمتع والمستمتع به وفعل الاستمتاع، كما سيقوله لنا مقطع آخر. فإذا انقطع هذا البدن عن سيده الداخلي وخميرته الحية، لا يبقى سوى تلك النفس الخالدة التي تعود إلى براهمان. أما عن القلب الذي لا يتجاوز في حجمه إصبع الإبهام ومع ذلك يتسع للمطلق، فيذكرنا بقول الشيخ محيي الدين بن عربي في فصوص الحِكم: «اللسان ترجمان الجنان … والجنان متسع الرحمن، وهو له بمنزلة المكان، فما وسع الرب إلا القلب» (ف ٤، ٣٦٣). وتتكرر فكرة المطلق الذي يبث نفسه في خلقه بتنويعات مختلفة:
الذي من أجل هناءته بخلقه
أودع نفسه في كل كائن.
وبعد تعرُّفه على حقيقة ذاته،
حرَّر نفسه من كل قيوده.
هو السيد الكلي المعرفة،
وهو النفس الغافلة الجاهلة.
هو الرب وهو العبد.
بالطبيعة غير المخلوقة تم هذا الخلق كله،
وخلق المستمتع به وفعل الاستمتاع.
فالحكيم الذي يعرف هذه الوجوه الثلاثة لبراهمان
يتحرر من كل قيد (Svetasvata Opanishad 1, 8–9).

فبراهمان يودع نفسه فيما لا يُحصى من الكائنات الحية، ثم يحرر نفسه من قيوده في المادة، عندما تتحرر الأرواح الحبيسة في الأجساد. فهو المطلق بوجه، وبالوجه الآخر هو تلك النفوس الحبيسة في الأجساد غافلة من أصلها ومصدرها. أما الطبيعة غير المخلوقة التي تم بواسطتها الخلق، فهي طبيعة براهمان أو قوته، فهي غير مخلوقة أو مولودة لأنها كانت معه منذ الأزل، وهذا ما يُذكرنا بمطلع إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.»

والإنسان ليس المَجلى الوحيد لحقيقة براهمان، بل كل المظاهر الحية وغير الحية أيضًا:

أنت الفراشة وأنت النحلة.
أنت الطير الزاهي الألوان.
أنت السحاب المرعِد المبرِق.
أنت الفصول يتبع بعضها بعضًا.
أنت المحيطات الزاخرة المائجة.
أنت الموجود بلا بداية.
وأنت الواحد
الذي وُلدت منه كل هذي العوالم (Avetasva Opanishad 4/4).

ويستعمل حكماء الأوبانيشاد تعبير «ذلك هو هذا» أو «هو أنت» للتعبير عن تماثل الماهية بين الخالق وخلقه؛ بين الخلق والحق:

ذلك هو هذا؛
فكما يتطاير الشرر من النار المتأججة،
كذلك تصدر كل هذه الكائنات المختلفة
عن الحقيقة الخالدة،
ثم إليها يكون سعيهم ومآلهم (Mundak Opanishad, ch 2 1/1).

وهناك تشبيه يعتمد العنكبوت الذي يتدلى من السقف أو الغصن بواسطة خيط رقيق يغزله في بطنه؛ فإذا أراد الصعود استعاد بفمه الخيط إياه:

كما يغزل العنكبوت خيوطًا في جسده
ليصنع منها نسجًا، ثم يستعيدها إليه،
كما تنطلق النباتات من أديم الأرض،
كما ينمو الشعر من بشرة الإنسان،
كذلك يأتي الكون إلى الوجود،
من براهمان الأبدي الذي لا ينقص (Mundak Opanishad ch 1, 1–7).

وإذا كان براهمان بحجم الإصبع ليتَّسع له قلب المؤمن، فإنه أكبر من أي كبير نتصور، وأيضًا أصغر من أي صغير نتصور. والمقصود طبعًا أنه خارج مفهوم الامتداد في المكان.

أكبر من أي كبير نتصور،
وأصغر حتى من ذرة الهباب،
فابحث عنه في أعماق ذاتك.
ليكن الأوبانيشاد قوسك، والعقل سهمك،
والأحاسيس وترًا لك.
شد وترك، وصوِّب نحو براهمان
هدفك الوحيد (Mundak Opanishad, ch 2, 2, 2–3).

(فإذا انعتقت الروح ذابت فيه كما الأنهار في المحيط):

كما تفقد الأنهار الجارية أسماءها وأشكالها
لتنتهي في المحيط الكبير،
كذلك يترك الحكيم وراءه اسمه وشكله،
ويذوب في ذلك العظيم العظيم (Mundak Opanishad, ch 2. 2–8).

(والطريق إليه ليس الطقوس والقرابين، بل العرفان الداخلي الصامت):

لا تدركه الأبصار ولا تحيط به الكلمات،
لا تصل إليه بالأضحية والتكفير،
بل بالمعرفة التي تجلو العقل،
بتأملات العقل الصافي وحده
يتجلى لك براهمان في كليته (Mundak Opanishad, ch 3, 1, 8).

والمقصود بالعقل الصافي هنا ليس العقل التحليلي، بل العقل بكليته بعد أن يتخلص من قدح زناد الفكر وإعمال الذهن، إنه اللافكر الذي بشَّرت به التاوية كطريق للعرفان.

١  P. C. Zaehner, Hinduism, Oxford 1984, p. 1.
٢  حول هذه المفاهيم الأساسية، انظر المرجع السابق، وبشكلٍ خاص الصفحات ١–١٣.
٣  حول هذه النقطة وما يليها من معالجة مفهوم المايا، انظر: Alan Watts, The Way of Zen, Penguin 1965, ch. 2.
٤  النص المثبت هنا، عن تلخيص هينريش زيمر للنص السنسكريتي، انظر: Heinrich Zimmer, Myth and Symbols in Indian Art and Civilization, Princeton 1974 ch. 1.
٥  وهو غير براهمن. سيأتي بعد قليل تفصيلُ وظائفه، ودوره في مجتمع الآلهة الهندية.
٦  من براهمة الآلهة، لا من براهمة الناس. والبراهمة: هم طبقة الكهان المقدسة في نظام الطبقات الهندوسي.
٧  Heinrich Zimmer, op. cit, pp. 13–19.
٨  R. C. Zarhner, Hinduism, op. cit, pp. 62–63.
٩  Heinrich Zimmer, op. cit, pp. 25–26.
١٠  Ibid, pp. 27–38.
١١  هذه الشروح والتعليقات حول أعمال التشكيلية الهندوسية تستند إلى كتاب H. Zimmer، انظر المرجع السابق.
١٢  هذه المقاطع المثبتة هنا من الأوبانيشاد مأخوذة عن النص السنسكريتي بترجمة ش. ديفي: Chitrita Devi, Opanishads For All, S. Shand, New Delhi 1973.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤