الفصل الرابع

ما وراء اللاهوت

المبدأ اللاإلهي في الجاينية والبوذية
تشغل الفترة الممتدة فيما بين القرن السادس والقرن الأول قبل الميلاد في الهند، العصر الكلاسيكي للفكر الفلسفي والدين الهندي. وقد وُضعت منذ بدايات هذا العصر القواعد الأساسية للاتجاهين الرئيسين في الفكر الديني الهندي، وهما: اتجاه مستقيمي الرأي، واتجاه الهراطقة. ومن حيث المبدأ، فإن الخلاف الرئيسي بين الاتجاهين يدور حول سلطة أسفار الفيدا١ وقداستها؛ فبينما يُعلي الاتجاه الأول من شأن الفيدا ويعتبرها بمثابة الوحي المُنزل، فإن الاتجاه الثاني لا يحفل بها ولا يقيم لها وزنًا. وقد طوَّر الاتجاه الثاني المبدأ «اللاإلهي» في الدين (= Atheism)، وهو المبدأ الذي يقوم على عدم الإيمان بوجود إله خالق للكون، ويرى بأن الإيمان بالآلهة هو إيمان زائف من حيث المبدأ. ويبدو أن الخطوة الأولى نحو اللاإلهية تبدأ في سياق الأفكار الدينية التقليدية التي تجسدها أسفار الفيدا، ففي هذه الأناشيد القديمة نتعرف على مجموعة من الآلهة التي يتحكم كلٌّ منها بظاهرة معينة من ظواهر الطبيعة، ويبدو في كثير من الأحيان متطابقًا مع هذه الظاهرة، إلا أن كل إله من هؤلاء يبدو لنا وكأنه الإله الأعلى عندما تتوجه إليه الصلاة بالشكر والثناء والتسبيح، الأمر الذي يفرغ فكرة الإله الأعلى من مضمونها الفعلي. ومع أن الإله إندارا قد نال الحظ الأوفر من صلوات الفيدا، إلا أننا نجد في بعض هذه الصلوات مقاطع تَسخر من قوته المشهورة وتُلقي ظلالًا من الشك حتى على وجوده. ورغم ندرة هذا النوع من الصلوات الذي يحتوي على النقيضَين، فإن أهميتها تتعدى نسبتها الضئيلة هذه؛ وذلك بسبب تضمينها في أكثر النصوص الدينية الهندية قداسة. وإلى جانب هذين التوجهين، فإننا نلاحظ في بعض أسفار الفيدا، وخصوصًا في الأقسام الأخيرة من اﻟ «رج فيدا»، إشارات إلى إله غير معلوم يحيط بالكائنات جميعًا؛ فهو الذي ظهر بقواه الخاصة قبل الموجودات جميعًا وتنفَّس بغير هواء. كما نجد أيضًا إشارات متفرقة إلى نظام خفي للكون يخضع له الكل بما فيهم الآلهة أنفسهم.٢ وبذلك تمهد الفيدا للاتجاهات الرئيسية الثلاثة في الديانة الهندية.
من الأديان الهندية الهرطقية ما ينصُّ صراحةً على عدم الاعتراف بوجود الإله الأعلى خالق الكون، وعدم أهمية الآلهة بالنسبة للإنسان، مثل الجاينية Jainism، ومنها ما ينفي وجود الإله الأعلى ضمنيًّا، وذلك برفضها لمناقشة هذا الأمر، مثل البوذية، أما داخل اتجاه مستقيمي الرأي الذي يُعلي من شأن الفيدا، فلدينا ست مدارس بينها واحدة على الأقل تنكر وجود الآلهة. وقد قام بين هذه المدرسة والمدارس الأخرى جدال فلسفي دام قرونًا حول وجود الإله الخالق أو عدمه، وقفت فيه إحدى المدارس المثبتة لوجود الإله موقف الوسط؛ إذ قالت بأن الحجج على وجود الإله الخالق مقبولة وذات قدرة على الإقناع على مستوى حقائق الحياة اليومية، أما على مستوى المعرفة الدينية الأعمق، فإن الكائن الأعلى هو حقًّا وهم. وقد انهمكت الجاينية من طرفها في هذا الجدال الفكري، ونظرًا إلى أن هذه الديانة ترفض فكرة الإله من أجل تسويغ وجود العالم، فقد تقدمت بثماني حجج تُدافع فيها عن معتقدها، لا يتسع مجالنا هنا لسردها. أما البوذية فلم تحفل قط بخوض أي جدال يدور حول الآلهة؛ لأنها لا تحفل بها أصلًا، ولا تقيم تعاليمها على نفي أو إثبات وجود كائن أعلى. ولعل من المهم أن نثبت هنا أن هذا الجدال الفكري، على أهميته بين المدارس الفكرية المختلفة في الهند، لم يتخذ طابعًا هجوميًّا عدوانيًّا، ولم يحاول أي اتجاه فرض وجهة نظره بالقوة على الاتجاهات الأخرى، وذلك عبر التاريخ الديني الطويل للقارة الهندية.٣

(١) الجاينية: ديانة علمانية

الجاينية هي الديانة الثانية التي يَذكر لنا تاريخ الدين اسم مؤسسها ويروي سيرة حياته. وقد ألمحنا في موضع سابق إلى أن الزرادشتية كانت الديانة الأولى التي قامت على أفكار وتعاليم وسيرة حياة مؤسس فذ، مفتتحة بذلك عصر الوحي، والأديان التي تنشأ عن تجربة روحية معممة لفرد واحد.

وُلد المهافيرا، مؤسس الجاينية، في بيت ملكي في مقاطعة بيهار الحالية عام ٥٩٩ق.م. على ما تذكره التقاليد الجاينية، وعندما بلغ سن الرُّشد تزوَّج وأنجبت له زوجته ابنة. ولكن الشاب كان كثير التأمل، عازفًا عن حياة الترف المحيطة به، وغالبًا ما كان ينسلُّ من القصر إلى الغابة القريبة حيث كان يلتقي بجماعة من النُّساك المتجولين، منجذبًا إلى طريقة حياتهم، واجدًا في الاستماع إليهم ما يرضي ذهنه الباحث وروحه المتقدة. وعندما توفي والداه وشبَّت ابنته عن الطوق، قرَّر أن يهجر حياة الناس نهائيًّا، فباع كل ما يملك من ذهب وفضة وعهد بأسرته إلى أخيه الأكبر، ثم مضى في رحلة طويلة من أجل البحث عن الحقيقة. تجوَّل المهافيرا حافيًا عاريًا في غابات وسهول وقرى مناطق الهند الوسطى، مؤمنًا بأن إعتاق الروح من دورة الحياة والموت، لا يتم إلا بتجاهل الجسد واحتياجاته الطبيعية، وبالتزام مبدأ اﻟ Ahimsa، أي عدم الإيذاء، الذي يتضمن تجنب الأذية لأي كائن حي، من الإنسان وصولًا إلى أصغر حشرة يمكن رؤيتها بالعين. ولم يكن يقضي أكثر من ليلة واحدة في كل قرية، أو أكثر من خمس ليالٍ في كل بلدة؛ كي لا تشدَّه أية رابطة إلى مكان أو أية صلة حميمة إلى الناس. وغالبًا ما كان القرويون يرون جالسًا في العراء في وضعية التأمل، مستغرِقًا في ذاته عن كل ما حوله، غير عابئ ببرد أو ريح أو مطر. وبعد اثنَي عشر عامًا من التطواف والتأمل، وفي إحدى جلسات استغراقه العميق، سطع النور في داخله ووصل إلى الاستنارة الكاملة، فصار جينا Jina، أي المنتصر، الذي قهر الموت وحرَّر روحه من عالم السمسارا، ومن هذه الصفة جاءت الجاينية. وعندما أفاق من استغراقه، أخذ يُبشر ويجمع الأتباع يعلمهم طريق الخلاص، حتى بلغ الثانية والسبعين من عمره حيث قرَّر مغادرة العالم، وقطع الأواصر التي تشد الناس إلى الميلاد والشيخوخة والموت، متحررًا إلى الأبد من كل ألم.٤

عاشت الجاينية بعد موت مؤسسها قرونًا طويلة بين مد وجزر، وما زال لها أتباع يعيشون اليوم في منطقة بومبي بشكل رئيسي، وهم في جلهم من رجال الأعمال الناجحين.

تقوم تعاليم الجاينية على الإيمان المطلق بالإنسان كسيد وحيد لنفسه، وبقدرته على تحقيق الخلاص والانعتاق دون معونة من أية جهة علوية أو تحتية كانت. ورغم اعتقاد الجاينية بوجود كائنات متفوقة تُدعى الآلهة، إلا أن هذه الكائنات خاضعة مثل الإنسان إلى دورة السمسارا، ولا ترجى منها شفاعة؛ لأن عليها أن تُخلِّص نفسها قبل أن تكون قادرة على تخليص الآخرين. وفي هذا يقول المهافيرا: «أيها الإنسان، أنت صديق نفسك. فلماذا تبحث عن صديق خارج ذاتك؟» من هنا، فإن العالم غير مخلوق، وهو أزلي قائم بنفسه منذ القِدم، وهو يتألف من مكونين هما عالم المادة وعالم الروح. تتألف المادة من ذرات دقيقة جدًّا تتجمع وفق أنماط معيَّنة لتشكل صنوف المادة المتنوعة كالتراب والماء والهواء وما إلى ذلك. وهي تتدرج في الكثافة من المواد الشديدة الصلابة إلى نوع خفيف جدًّا من التكوينات المادية التي لا تستطيع الحواس اكتشافها لرقتها وخفتها، ومن هذه مادة الكارما التي تترسب على الأرواح فتثقل عليها نتيجة لأعمالها السيئة. أما عالم الروح، فيتألف من جماع الأرواح الفردية المنبثة في الكائنات الحية كلها، وهو عالم خيِّر على عكس عالم المادة السيئ. والأرواح خيِّرة في طبيعتها وأصلها، إلا أن ما تجنيه من أعمالٍ سيئة، يؤدي إلى تداخل عالم المادة بعالم الروح فتعلق منه بعض مواده الخفيفة في الروح، وهي مادة الكارما، فتثقل عليها وتجرها إلى تقمصات أدنى في سُلم الكائنات الحية. ولا يجلو أثر هذه المادة عن الروح سوى الأعمال الصالحة، التي تجعل الروح خفيفة متخلصة من أدرانها فترتقي سُلم الوجود، ربما نحو عالم الآلهة حيث تتقمص هناك جسد إله ما، ثم صعودًا فصعودًا حتى تحقيق الانعتاق الكامل من دورة السمسارا.

بعد تحقيقها للانعتاق الذي يأتي بالمعرفة الداخلية والسلوك القويم، تعيش الأرواح في القسم الأعلى من الكون المدعو Isatpragbhar، في سلام أبدي حائزةً على المعرفة المطلقة والقوة المطلقة والقداسة المطلقة. وبما أن الجاينية لا تؤمن بثنائية أتمان-برهمان، وبتطابق الروح الفردية مع المطلق الكلي وذوبانها فيه، فإنها ترى أن الأرواح الفردية في حالة الانعتاق تُحافظ على فرديتها ولا تذوب في كيان كلي، وهي رغم فقدانها للصفات والخصائص والعلائق، إلا أنها تبقى في حالة وعي تام وكامل. ويصف الروحَ المنعتقة أحدُ النصوص الجاينية فيقول: «إن المنعتق ليس بالطويل ولا بالقصير، وليس بالثقيل ولا بالخفيف. إنه بلا جسم؛ لأنه لن يُبعَث بعد ذلك أو يتناسخ، ولا شيء يصله من قريب أو بعيد بعالم المادة، إنه ليس بأنثى وليس بذكر، كما أنه ليس حياديَّ الجنس أيضًا، إنه يدرك ويعرف، ولكننا لا نستطيع أن نعرف كيف.»
إن أقصر طريق لتحقيق التحرر الذي حقَّقه المهافيرا، هو الزهد والتنسك والصوم وفقًا لقواعد معينة، ويجب أن يترافق ذلك مع ممارسة الاستغراق الباطني (Meditation) الذي يعزل العقل عن وظائفه المباشرة اليومية، ويُوجهه نحو تحقيق المعرفة الباطنية التي توصل إلى التحرر، بعد تطهير النفس من كل رغبة وتعلق بأشياء العالم المادي. وبما أن الناس جميعًا ليسوا على درجة واحدة من الاستعداد لمثل هذا الطريق الشاق، فإن الجاينية تقسم أتباعها إلى فريقين؛ فريق الرهبان الذين نذروا أنفسهم لتحقيق الخلاص، وهم يعيشون في الأديرة والمعابد الجاينية، أو يتجولون في العراء دون مأوًى، وفريق عامة المؤمنين الذين يمارسون الحياة اليومية المعتادة. وقد استنَّت الجاينية لهؤلاء العامة شريعةً أسهل تطبيقًا واتباعًا من شريعة الرهبان، وتتضمن اثني عشر بندًا أخلاقيًّا هي:
(١) عدم إيذاء أو قتل أي مخلوق حي. (٢) عدم الكذب. (٣) عدم السرقة. (٤) الإخلاص الزوجي. (٥) الابتعاد عن الطمع وتكديس الثروة. (٦) الابتعاد عن كل ما من شأنه تسويغ الخطيئة. (٧) الاكتفاء بالحد الضروري من وسائل العيش. (٨) الانتباه للخطايا التي يمكن تجنبها. (٩) إفراد أوقات معينة لممارسة الاستغراق الباطني. (١٠) إفراد أوقات لممارسة الزُّهد والتنسك. (١١) قضاء أوقات معينة، وعلى فترات، في سلك الرهبنة. (١٢) تقديم الطعام والكساء اللازم للرهبان المتفرِّغين لطريقة المهافيرا. وقد قادت هذه الأخلاق القويمة التي اتبعها الجاينيون إلى إكسابهم ثقة الناس واحترامهم، وإلى نجاحهم في كل المجالات العملية.٥

لا تحتوي معابد الجاينية على صور الآلهة، بل على صور للمرشدين الروحيين في أوضاع الاستغراق الباطني. أما الطقوس التي تجري في هذه المعابد فلا علاقة لها بالتقرب إلى الكائنات العليا، وإنما تتركز حول الاحتفالات التذكارية بالمراحل الخمس التي ترسم سيرة حياة المهافيرا، وهي:

(١) الحمل به. (٢) ولادته. (٣) تزهده. (٤) الاستنارة. (٥) الانعتاق الأخير. وذلك إضافة إلى بعض الحركات الطقسية مثل غسل الصور المقدسة بالماء، والتلويح بالمصابيح الزيتية أمامها، وما إلى ذلك. ورغم أن الجاينية قد أدخلت إلى معتقداتها الشعبية الإيمان بالآلهة المشخصة، وبقدرة هذه الآلهة على عون الإنسان، إلا أن الآلهة بقيت جزءًا من الوجود المادي الذي تعيشه الأرواح في الحياة الدنيا، ولا علاقة لها بالعوالم الأخرى التي ترحل إليها أرواح المتحررين. فالآلهة موجودة بالنسبة للناس العاديين لعونهم ومواساتهم، ولكن فقط إلى حين نجاح هؤلاء في تحقيق التحرر بقواهم الذاتية فقط.٦

(٢) طريق النيرفانا

يطرح أمامنا طريق البوذا أوضح مثال على النهج الديني المتحرر من أية صلة بعلم اللاهوت، ومعرفة الآلهة بأي مفهوم لها أو تصور. فهنا، وكما في الجاينية، لا يوجد إله تُقدَّم له فروض العبادة، ولا طقوس تقرب الإنسان من خالقه، ولا دار آخرة ترحل إليها أرواح الموتى. وأكثر من ذلك؛ فلا وجود للأرواح الفردية التي تخلد بذواتها بعد فناء أجسادها. ومع ذلك، فإن البوذية لم تبذل أي جهد لأجل نفي الإله، كما فعلت الجاينية وبعض الاتجاهات الهندوسية؛ لأن فكرة الإله لم تكن ضرورية للطريق الذي رسمه البوذا من أجل التحرر ودخول النيرفانا، فلا هي أُثبتت ولا هي نُفيت؛ لأن في صميم كل إثبات عقلي نوعًا من النفي، وفي صميم كل نفي نوعًا من الإثبات. إن ما بحث عنه البوذا هو نوع مختلف من الإثبات لحقيقة شمولية واحدة تتجاوز المنطق الذهني، وتقع فيما وراء ثنائيات هذا العالم وتقسيماته الوهمية. أما الطريق إلى ذلك فيسير بشكل معاكس لطريقة العلوم اللاهوتية. فهنا، وفي مقابل توسيط الإله وما يرتبط بعالمه من مفاهيم ورموز، يعتمد طريق البوذا على التواصل غير الذهني مع المستوى الحقيقي للوجود، بدون أفكار وبدون مفاهيم وبدون إعمال فكر. فالعقل هو جزء من عالم الظواهر المادية، عالم السمسارا الذي يمسك بالأرواح في إساره إلى ما لا نهاية إن لم تفلح في الانعتاق؛ ولذلك فإن طريق الخلاص يسير في اتجاه مغاير لاتجاه العقل، إنه طريق «اللاعقل» أو «اللافكر» على حد تعبير التاوية. فهنا، وبدلًا من أن تتجه التجربة الوجودية نحو الخارج في رحلة بحث ذهنية، تنكفئ نحو الداخل في عملية استغراق باطني فردي، تؤدي بالمستغرق إلى تلمس القاع الكلي للوجود، أي النيرفانا بالمصطلح البوذي، وهي الحالة التي يتلمسها المستنير في هذه الحياة، قبل أن يدخل فيها كليةً بعد الممات.

إلا أن ما يميز النيرفانا كمستوًى موازٍ للوجود (بالمعنى الذي استخدمناه حتى الآن) عن مفهوم براهمان في الهندوسية، هو أن البوذية لا تتعامل مع النيرفانا باعتبارها مفهومًا يمكن التأمل فيه بمعزل عن التجربة الذوقية الفردية، ففي حالة النفي المطلق لكل ما نعرف، ومن غير حاجة إلى تعريف أو تقريب للأذهان بأية صيغة تتضمن المحاكاة أو التشبيه. وقد رفض البوذا طيلة حياته وضع مفهوم ذهني للنيرفانا، على طريقة حكماء الأوبانيشاد، كما رفض الدخول في الموضوعات الميتافيزيقية الأخرى التي كانت موضع جدال بين الفِرق الهندوسية؛ لأن مثل هذه الموضوعات لم تكن في اعتقاده ذات أهمية مباشرة لسعي الأفراد نحو الخلاص. وفي التعاليم الأصلية المنسوبة للبوذا، نراه يوضح هذه المسألة لتلامذته على أفضل وجه:

«ضعوا نصب أعيُنكم ما أكَّدته لكم وميِّزوه عما لم أؤكد لكم؛ فأنا لم أؤكد لكم بأن العالم أزلي، ولم أؤكد أن العالم حادث. وأنا لم أؤكد لكم بأن العالم زائل، ولم أؤكد لكم بأن العالم أبدي. أنا لم أؤكد لكم بأن الروح والجسد واحد. أنا لم أؤكد لكم بأن المستنير يتابع وجوده بعد الموت، وأنا لم أؤكد لكم بأنه لا يتابع وجوده بعد الموت، كما أني لم أؤكد لكم بأن المستنير يصير إلى حالة لا هي بالوجود ولا هي بالعدم بعد الموت. أما لماذا لم أؤكد لكم هذه الأمور؟ فلأنه لا فائدة منها، ولا علاقة لها بأساسيات تعليمي. وبالمقابل، فلقد أكَّدت لكم بأن وجود الإنسان شقاء، وأشرت إلى سبب هذا الشقاء، وعلَّمتكم الطريق لرفع الشقاء عنكم. أما لماذا أكَّدت لكم هذه الأمور؟ فلأنها ذات فائدة تُرجى، ولأنها متصلة بتعاليمي، تزيل الرغبة من نفوسكم وتهبكم المعرفة والحكمة العليا التي تقود إلى النيرفانا.»٧
وبكلماتٍ أخرى، فإن المسألة ليست في الطريقة التي يُفلسف الإنسان بها وجوده، بل في طريقة إحساسه بهذا الوجود. من هنا فإن عليه ألا يبدِّد جهده الفكري في الغيبيات، بل أن يحصره في فهم رغباته والتحكم بها عن طريق الإرادة؛ لأنها مَكمن الخطر عليه. ويقود هذا الموقف بالطبع إلى عدم الالتفات إلى مسألة الآلهة وجودًا أو عدمًا؛ فالآلهة في حال وجودها هي كائناتٌ خاضعة لدورة السمسارا، وليس لديها ما تُقدمه للإنسان في كدحه نحو الخلاص؛ لذلك فإن التعبد إلى هذه الكائنات وتقديم القرابين لها، وغير ذلك من الممارسات الدينية، هي جهدٌ ضائع يجب توفيره؛ إذ ليس للإنسان إلا نفسه.٨

وُلِد الأمير سدهارتا غوتاما (البوذا فيما بعد) عام ٥٦٣ق.م. على ما تذكُره التقاليد البوذية. وتُبدي سيرة حياة سدهارتا شبهًا واضحًا بسيرة حياة المهافيرا، إلى درجة التطابق الكامل في بعض التفاصيل؛ الأمر الذي دعا بعض الدارسين إلى الاعتقاد بأن الشخصيتين هما في الأصل شخصية واحدة؛ فكلا الرجلين وُلد في بيت ملكي، ثم تزوَّج مبكرًا، وأنجب ولدًا واحدًا أو بنتًا، وكان منذ صغره كثير التأمل، غير قانع بما تُقدمه الهندوسية الكلاسيكية من أجوبة على تساؤلاته، وكلاهما هجر عيشة الملوك وتحوَّل إلى ناسكٍ متجوِّل يبحث عن سبيل لخلاص الروح البشرية، ثم جاءته ساعة الاستنارة بعد سنوات طويلة من التزهد والتأمل.

عاش الأمير سدهارتا في وقت كانت فيه تعاليم الأوبانيشاد في ذروة تأثيرها على الفكر الديني الهندي. وعندما قرَّر الأمير الشاب ترك زوجته الشابة وابنه الصغير، والتحول إلى حياة الزهد والتجوال، فإنه كان يتبع تقليدًا هنديًّا شائعًا يحضُّ من بلغ أواسط العمر وأدَّى معظم أو كل التزاماته الاجتماعية والعائلية، على ترك الحياة التقليدية والالتحاق بالنُّساك الباحثين عن الحقيقة، بعيدًا عن التجمعات السكنية الكبيرة. بعد قضاء ست سنوات من الزهد والتطواف كناسكٍ هندوسي تقليدي، اكتشف أنه كان يسير في الطريق الخاطئ؛ فخلال هذه السنوات الطوال، حاوَل قهر جسده بالصوم والعُري والسهر، كغيره من النساك الهائمين على وجوههم يحدوهم الأمل في تحقيق الخلاص لنفوسهم من دورة الحياة والموت، والنفاذ إلى أسباب السر في شبكة المايا، ولكن جهده ضاع سدًى. كان يشعر كلما لجأ إلى التأمل والاستغراق، أن النفس التي يحاول تخليصها تزوغ منه، وكلما ركَّز انتباهه إلى أعماق فكره لسبر غوره، لم يكن يشعر إلا بجهده المبذول في التركيز، أما موضوع ذلك التركيز فغائب تمامًا. في النهار الذي سبق ليلة الاستنارة، وقع الأمير مغشيًّا عليه من الوهن، وظنَّ صحبه من النُّساك أنه قد مات، ولكنه ما لبث أن تحامل على نفسه واتجه نحو جدول قريب، فاغتسل بمائه الذي أنعش جسده وفِكره. وهنا قرَّر الكف عن سعيه وقطع صيامه، فقبل صحنًا من الأرز المطبوخ قدَّمته إليه فتاةٌ عابرة، وعندما انتهى من تناوله شعر بقوة في عقله وجسده، فاتجه إلى دغل قريب مع حلول المساء، حيث جلس تحت شجرة تين وارفة، وأقسم ألا يبرح مكانه حتى تأتيه الاستنارة الكاملة. ومع أول شعاع ضوء عند الفجر، استفاق سدهارتا من استغراقه العميق على الحقيقة الكاملة، متحررًا من إسار المايا ودورة الحياة والموت، فصار البوذا؛ أي المستنير. ورغم أنه كان جاهزًا للانعتاق والدخول في النيرفانا الأبدية، إلا أنه فضَّل البقاء في هذا العالم من أجل إرشاد البشر إلى الطريق الذي انكشف أمامه، فانطلق يُبشر ويجمع الأتباع حتى بلغ الثمانين من عمره، وقرَّر أن مهمته قد انتهت، وأن أتباعه صاروا قادرين على الاستمرار بدونه.٩
إن الحقائق التي توضحت أمام البوذا قد قادته بعيدًا عن المعتقدات الهندوسية. وأولى الحقائق التي قادت إلى تكوين المعتقد والسلوك البوذي، تدور حول كلمة سنسكريتية هي Duhkha، التي تُترجَم عادةً بالألم أو الشقاء. هذا الشقاء هو الذي يميز حياة الإنسان في العالم، والذي كرَّس البوذا حياته وأرسى تعاليمه من أجل شفاء البشرية منه؛ فالولادة ألم، والمرض ألم، والفراق عمن نحب ألم، والشيخوخة ألم، والموت ألم، كل وجود الإنسان قائم على الشقاء والألم، وإلى جانب هذا الألم تقوم حياة الإنسان في هذا العالم على أمرين آخرين؛ هما «اللاثَبات» Anitya و«اللانفس» Anatman. فكلما حاول الإنسان فهم العالم أحس بجريانه وتبدله ولا ديمومته، وكلما تأمل في نفسه لم يستطِع العثور على جوهر لهذه النفس. وفكرة اللانفس هنا هي في الواقع من أدق أفكار البوذية، ويمكن شرحها على الوجه الآتي: إذا كانت الهندوسية الكلاسيكية ترى في كل فرد جوهرًا ثابتًا هو Atman، النفس التي هي قبس من براهمان، وأن هذه النفس أو الجوهر هي التي تنتقل من جسد إلى آخر حاملة معها أعمالها السابقة (كارما)، إلى حين فلاحها في تحقيق الانعتاق (Moksha)، فإن البوذية لا ترى في الفرد إلا تجمعًا مؤقتًا لعدد من المسببات التي يدعوه اجتماعها إلى الوجود في هذا العالم لمدةٍ ما، والتي تجعله يشعر بأناه وشخصيته المتميزة. وهذه الشخصية تستمر بفعل الذاكرة التي تحفظها من الولادة إلى الممات، أما عند الموت فإن المسببات التي دعت إلى تكوين الشخصية تتحلل ويتحلل معها الفرد تمامًا، ولا يبقى منه سوى أعماله التي يحملها شخص آخر يتكون بالطريقة نفسها.١٠ من هنا لا يمكن القول بأن الفرد يفنى تمامًا، ولا يمكن القول بأنه يستمر. فالأعمال باقية، وسلسلة التناسخات التي تمرُّ عبرها هذه الأعمال، يمكن تشبيهها بسجل مفتوح تزيد عناصره أو تنقص، دونما حامل شخصي ذي جوهر ثابت ينقلها، وذلك إلى أن تحل ساعة النيرفانا والانطفاء الكامل.
وقد شبَّهت تعاليم البوذا وشروح تلاميذه بوسائل شتى كيفيةَ تناسخ الكارما دون حامل؛ فهذه العملية تشبه قيامنا بطبع ختم على شمع طري، حيث تنتقل الأشكال المحفورة على الختم إلى الشمع الطري مكونةً نسخة عنها، دون أن ينتقل بين هذا وذاك أيُّ جوهر ثابت. إن الفرد خلال حياته يُكوِّن مجموعة صفات وخصائص ونمط سلوك، تصير إلى بنية مكتملة صلبة قبل موته، وهذه البنية الصلبة هي ما ينطبع على الشمع الطري لوجود جديد يتشكل في الرحم ويستعد للانطلاق إلى الحياة. ولدينا محاورةٌ طريفة بين حكيم بوذي يُدعى Nagasena والملك Milinda، تدور حول هذه النقطة، أسوقها فيما يلي:
الملك : هل يتم التناسخ حقًّا دونما شيء يتناسخ أيها الحكيم؟
الحكيم : نعم يا صاحب الجلالة، إن التناسخ يتم حقًّا دونما شيء يتناسخ.
الملك : هل لنا بما يُوضح هذا الأمر ويُقربه إلى الذهن؟
الحكيم : لنفرض أننا أشعلنا شمعةً أخرى من هذه الشمعة، هل يتوجب على ضوء هذه أن يحل في ضوء تلك؟
الملك : كلا أيها الحكيم.
الحكيم : كذلك حال التناسخ، إنه يحصل دونما حاجة لانتقال شيء ملموس بين ميلادين.
الملك : هل لنا في مثال آخر؟
الحكيم : هل يذكُر جلالتكم أنه قد حفظ في الصغر قصيدة عن أستاذه؟
الملك : نعم أيها الحكيم.
الحكيم : حسنًا، هل تحرك شيءٌ اسمه القصيدة بين أستاذك وبينك؟
الملك : كلا أيها الحكيم، لا أعتقد أن شيئًا ما تحرك منتقلًا بينه وبيني.
الحكيم : كذلك حال التناسخ، إنه يحصل دونما حاجة لانتقال شيء بين ميلادين.
الملك : حقًّا إنك رجلٌ قادر على الإقناع أيها الحكيم.١١
أما المسببات أو العناصر التي تدعو إلى الوجود المؤقت للشخصية الفردية أو الذات (= self) فعددها خمسة، هي: (١) الجسم. (٢) الإدراك. (٣) الإحساس. (٤) الدوافع. (٥) المحاكمة الذهنية. وطالما بقيت هذه العناصر مجتمعة إلى بعضها، فإن الفرد الناتج عنها يتابع صيرورته ككائنٍ مستقل له تاريخ ومنحى حياة متميزة عن الآخرين. إلا أن هذه العناصر ليست ثابتة على حال بل في تغيُّر دائم، والجسم يتبدل بين يوم وآخر تغيرًا لا يلحظ إلا على فترات متباعدة؛ فمن كان طفلًا صار الآن شابًّا، فكهلًا فشيخًا، وعندما يأتي الموت تنحلُّ المكونات ويتبخر الشخص الذي ضُمَّت أجزاؤه. إن ما يبدو أمامنا «شخصية» أو «ذاتًا» ليس في حقيقة الأمر إلا مظهرًا واسمًا نُعطيه لتلك «الوحدة الوظيفية» المتشكلة بتأثير اجتماع وتفاعل العناصر الخمسة، والتي لا توجد إلا كنبضةٍ عابرة في جريان الصيرورة الأبدي. وبما أنه لا وجود لجوهر ينتقل بين الشخصية التي ذابت والأخرى التي تشكَّلت وانطبعت بطابعها، فإن السؤال الذي يدور حول هوية الحامل الجديد، وهل هو القديم نفسه أم هو غيره، يبقى سؤالًا لا معنى له على الإطلاق.
أما النقطة الأساسية التي ينبغي إثباتها، فهي أن ما يفكر به ويفعله شخصٌ ما في حياته هذه، سوف يستمر إلى غد وإلى ما بعد غد، في حيوات قادمة لا نهاية لها. ونحن كلما تأملنا العالم من حولنا وفي داخلنا، رأيناه في حالة صيرورة وتغيُّر، لا يوجهها ولا يتحكم بها كائن أعلى وفق غائية ما. فالظواهر كلها وهم، وكذلك الذات الفردية، ولا خلاص إلا بالخروج من عالم الجريان هذا إلى عالم الثبات والسكون الأبدي.١٢ ولكن لكي نتعرف على طريق الخلاص البوذي، ينبغي أن نشير أولًا إلى ما أسماه البوذا بالحقائق النبيلة الأربعة، التي لخَّص بها طريقه،١٣ وهي:
  • الحقيقة الأولى: هي أن الحياة شقاء (أو ألم). وقد عالجتُ هذه المسألة منذ قليل.
  • الحقيقة الثانية: هي أن سبب الألم والشقاء هو الرغبة، الرغبة في الحياة وفي مُتعها؛ ذلك أن الرغبة لا يمكن إرضاؤها، فهي كالنار كلما أوقدتها حطبًا زادت تأججًا، وكلما ازداد الفرد رغبة في الحياة، كلما دفع أمامه سلسلة لا تنتهي من التناسخات المقبلة، يخلقها الطمع في استمرارِ وهم الوجود.
  • الحقيقة الثالثة: هي أن القضاء على الشقاء ممكن، وذلك بالقضاء على الرغبة، وعدم التعلق بأسباب الحياة، وهذا من شأنه تحضير الفرد للخروج من دورة التناسخ إلى النيرفانا؛ أي من الصيرورة إلى الوجود. أما ما هو شكل هذا الوجود وما طبيعته، فأمرٌ رفض البوذا التحدث عنه بإصرار.
  • الحقيقة الرابعة: هناك طريق إلى النيرفانا، هو طريق ذو المراحل الثمانية، وهي:

(أ) الرؤيا السليمة: وهنا على السالك أن يتخلص من كل الخرافات والطقوس البدائية، وخصوصًا ما تعلق منها بالقرابين الحيوانية. كما عليه أن يتخلص من الاعتقاد بالأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة، والجن والعفاريت من أي نوع. وبشكل خاص عليه أن يتخلص من فكرة وجود خالق أعلى للكون يمكن أن يمد يد العون للإنسان في سعيه نحو التحرر، وأن يسلك منفردًا طريق الانعتاق. (ب) الموقف الفكري السليم: فإذا آمن الإنسان مثلًا بالتمييز بين الأفراد أو الجماعات أو الأجناس، فإن ما يصدر عنه من أحكام وقرارات سوف يتسبب في مزيد من الآلام له ولمن حوله. (ﺟ) الخطاب السليم: فكل فعل يسبقه عادةً كلام، وهذا الكلام يجب أن يكون خاليًا من الكذب والخداع والفردية. (د) السلوك السليم: حيث يُحجِم الفرد عن القتل والسرقة والزنى وشرب المُسكرات وما إليها، ويُقبِل على الصدقة والعون وحُسن المعاملة. (ﻫ) سُبل العيش السليمة: وتقوم هذه السُّبل على أساس مكين من السلوك السليم، فلا يحصل الفرد عيشه إلا بأفضل الطرق وأنبلها. (و) السعي السليم: فعلى المرء أن يسعى من أجل ارتقائه العقلي والخلقي، من ذلك مثلًا نبذ العادات السيئة واكتساب عادات حسنة، والتحرر من الميول الهدامة وتنمية الميول البناءة. (ز) اليقظة السليمة: وهي العناية المبذولة من أجل تيقظ الجسم والعقل، حيث يبقى الفرد في حالة مراقبة لأحاسيسه وأفكاره. (ﺣ) التأمل السليم: وهو الاستغراق الباطني الذي يدفع بالسالك إلى عتبة الاستنارة. ففي جلسة الاستغراق التقليدية التي نراها في تماثيل البوذا، يقوم المستغرِق بتركيز وعيه على الآن، وكأن الزمان قد توقف، فلا ماضيَ للوعي ولا مستقبل، في لحظة متطاولة تبدو وكأنها حاضر أبدي. ولهذا الاستغراق في الممارسة البوذية ثماني درجات، توصل الدرجة الأخيرة منها إلى النيرفانا، بعد تمرُّس طويل بالدرجات السبع السابقة.

فيما يتعلق بهذه الخطوات الثمانية للتخلص من الالتصاق بالحياة ودخول النيرفانا، أودُّ أن أتقدم بملاحظتين أساسيتين؛ الأولى تتعلق بالسلوك الأخلاقي الذي تتضمنه الخطوات من ٢ إلى ٧؛ فهذا السلوك لا يتبع شريعة أخلاقية مفروضة من قِبل أية سلطة عليا، بل هو التزامٌ داخلي من شأنه مساعدة السالك على توليد كارما إيجابية تنتهي به إلى حالة اللافعل. فالأعمال الحسنة هي غالبًا تلك الأعمال التي لا تصدر عن رغبة ولا عن طمع، وهي التي تقود في النهاية إلى عون صاحبها على التخلص من الرغبة في استمرار العيش، وصولًا إلى الحالة التي يعزف السالك فيها عن إتيان أي فعل حسنًا كان أم سيئًا؛ لأن أي فعل في النهاية هو فعل موجَّه نحو التشبث بالحياة. والملاحظة الثانية تتعلق بالفهم الصحيح لموقف السالك البوذي من حياته الحالية؛ فالخطوات السبع، التي أشرت إليها أعلاه، تُظهر بوضوحٍ أن البوذي يتخذ من حياته وحياة الآخرين موقفًا إيجابيًّا لا سلبيًّا عدميًّا، وهو بالتزامه المعايير الأخلاقية لا يُدير ظهره للمجتمع والحياة، بل ينخرط فيهما دونما تعلق أو تشبث، ويُمارِس الفعل الذي لا يصدر عن رغبة وطمع، وذلك تمهيدًا لقطع سلسلة السمسارا التي تولدها الرغبة في استمرار العيش. فجهده والحالة هذه إنما ينصبُّ على عدم الولادة الجديدة في تقمص كارمي آخر، لا على تدمير حياته الحالية أو إدارة ظهره لها، وحالة اللافعل التي يتوصل إليها في النهاية إنما تأتي بعد أن يكون قد أدى التزاماته الاجتماعية والأُسرية.

إن صرامة الطريق الذي وضعه بوذا للتحرر، قد أدَّى بشكل طبيعي إلى انقسام المجتمع البوذي إلى شريحتين، كما هو حال المجتمع الجايني، شريحة الرهبان المنذورين للخلاص، وشريحة الناس العاديين الذين يتبعون منهجًا أقل صرامة لا يؤدي إلى الانعتاق بل إلى تناسخات مُقبلة تُمهد له. وقد قادت صرامة البوذية الأصلية، التي تنتشر اليوم في سيريلانكا وبورما وتايلاند، إلى نشوء مدارس بوذية تجديدية، أهمها بوذية المهايانا التي انتشرت نحو الصين واليابان وبقية أنحاء الشرق الأقصى. وبما أن مجالنا هنا لا يتسع لمعالجة الفوارق بين الاتجاهين، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أهمها في اعتقادنا، وهو لجوء المهايانا إلى خلق كائنات ما ورائية شفيعة من شأنها مد يد العون للبشر في حياتهم وعونهم على تحقيق الخلاص.

•••

وهكذا، فمع انتهائنا من استقصاء المعتقد البوذي الذي لم يرَ في الحياة إلا تدفقًا وهميًّا لا ثبات له إلا في النيرفانا، ولم يرَ في عالم الناسوت إلا ظلًّا لا قوام له يُلقيه عالم اللاهوت مصطنعًا ما يُشبه الوجود وما هو بالوجود، نكون قد أكملنا رحلتنا في معتقدات الحضارات الكبرى للشرق الأقصى.

إن النتيجة التي أوصلَنا إليها استقصاؤنا للمعتقدات الشرقية، تؤكد لنا أننا ما زلنا أمام المفاهيم الدينية الأساسية لإنسان العصر الحجري، ولأشكالها التي استمرت في الثقافات البدائية، وأن المعتقد الديني الإنساني واحد في أساسه وأصوله. إن بضعة الآلاف من السنين التي قضاها الإنسان المتحضر وهو يُفلسف معتقده الديني فيَصبُّه في هذا القالب النظري أو ذاك، لم يؤدِّ به إلا إلى قول الأشياء القديمة نفسها وفق صيغ جديدة ظن بها تقديم الجديد، وما هو بالجديد. ولقد تعلمنا شيئًا على جانب كبير من الأهمية، خلال رحلتنا الاستقصائية المشرقية هذه، يتعلق بدور الألوهة المشخصة في الحياة الدينية للإنسان، وعلاقتها بالمعتقد الأصلي الأساسي للألوهة غير المشخصة؛ فالأصل في الألوهة التجريد والتنزيه، والإنسان الأول لم يجعل لمجاله القدسي ممثلين يمشون على الأرض أو يتحركون في السماء، ولم يرسم لهم صورة ولم يتخيلهم بأي شكل من الأشكال، بل آمن بالمجال القدسي، ورأى آثار قوته السارية في مظاهر الكون، فجعل له شارة هي رمزه المرئي في عالم الناسوت. وعندما ظهرت الآلهة عبر المراحل الدينية اللاحقة، فإنها حلت محل الشارة المقدسة القديمة، وصارت الرمز الذي يتوصل الإنسان من خلاله إلى المجال القدسي. ثم إن القوة السارية قد حلَّت في هذه الكائنات، وبدلًا من تلك القوة الغفلة غير المشخصة، صار لدينا عدد من القوى المتجزئة المتخصصة.

ولكن الشيء المهم الذي برهنَّا عليه، هو أن الآلهة المشخصة لم تحلَّ قط محلَّ الألوهة غير المشخصة، بل بقيت بوابة الخيال إليها، ونقطة ارتكاز يستند إليها في صعوده التدريجي من عالم الملموسات إلى الفراغ المطلق اللانهائي.

وقد علَّمتنا الهندوسية بشكل خاص كيف ينتقل الوعي بالمطلق عبر درجات متتالية للتشخيص، وصولًا إلى تشخص المطلق نفسه، وكيف أن الصورة المشخصة للمطلق ما تلبث أن تذوب وتتلاشى بعد أن نستند إليها للوصول إلى القاع الكلي للوجود. ورأينا كيف أن التشخيص الهندوسي (سواء كان تشخيصًا ماديًّا يرسم صورة مرئية للإله من حجر أو خشب، أم تشخيصًا ذهنيًّا بتصور الإله في هيئة معينة، ويعزو إليه أخلاقًا وخصائص وسيرة حياة وعلائق واضحة، وإرادة ومقاصد محددة في عالم البشر)، لا يقوم إلا كحالة وسيطة في علاقة الإنسان بالمستوى القدسي، ولا يقود بالنتيجة إلا إليه. يقول واحد من حكماء التانترية في العصر الحديث، وهو راما كريشنا، حول عبادة الإلهة مايا-شاكتي ما يلي:

«عندما أفكر بالكائن الأعلى في حالة السكون واللافعل، حيث لا خلق ولا حفظ ولا دمار، فإنني أدعوه براهمان؛ الإله المنزَّه. وعندما أفكر به في حالة الفعل والخلق والحفظ فالدمار، أدعوه مايا أو شاكتي؛ الإله المشخص. غير أن التمييز بين هذين الحالين لا يعني اختلافًا؛ ذلك أن المنزَّه والمشخَّص هما واحد، تمامًا كما هو حال الحليب وبياضه، والماسة وبريقها، والحية وتلويها؛ حيث لا يمكن فصل أحد هذين الوجهين عن الآخر أو تصورهما في حال استقلالهما. إن الأم الإلهية كالي (= مايا، شاكتي) وبراهمان هما واحد. إن كالي ليست سوى ذاك الذي تدعونه برهمان. كالي هي الطاقة البدئية، وأن تقبل كالي يعني أن تقبل براهمان؛ لأن براهمان وقوته متطابقان.»١٤

وهذا يُشبه قول اللاهوت المسيحي بأن الآب والابن هما واحد؛ فالآب هو المطلق السرمدي الذي لا يتصل بالكون المخلوق إلا من خلال قوته التي يمثلها الابن؛ فالابن هو الكلمة الذي كان عند الله منذ الأزل، والذي به تم خلق العالم، وهو الذي رسم في البدء دائرةً على وجه الغمر، فحدَّد معالم الكون وأخرَجه من لُجة العماء إلى طور النظام، وهو الذي تجسَّد في يسوع ليشفع للبشر ويُنقذهم من عبء الخطيئة إلى رحاب السماء، فكان الشفيع والوسيط بين الله والناس. وليس التثليث المسيحي في الواقع إلا صياغة لاهوتية موفقة للجميع بين التنزيه والتشخيص؛ الواحد هو المطلق المنزه، والثلاثة هم المطلق المشخص. وعندما نقول ثلاثة في واحد، فإننا ننطلق من أطراف الدائرة نحو مركزها. وعندما نقول واحد في ثلاثة، فإننا نصدر عن النقطة المتلاشية في المركز نحو محيطها.

هذه الأفكار الابتدائية التي سُقتها أعلاه حول اللاهوت المسيحي، يمكن تطويرها وتعميقها لتشمل الأفكار اللاهوتية منذ القديس أوغسطين وتوما الأكويني، وصولًا إلى المعلم إيكهارت في العصور الحديثة. كما يمكن الشروع في جهد معادل من أجل استقصاء لاهوت ما تبقى لدينا من الأديان الكبرى الموثقة. ولكن هذا الكتاب، كما أوضحت سابقًا، ليس كتابًا في تاريخ الدين، بل هو اكتناه للظاهرة الدينية عند الإنسان من خلال دراسة معمقة لأهم نماذجها التاريخية، التي نعتقد بتمثيلها للبقية غير المدروسة. من هنا فإن المجال لا يتسع لعرض واستقصاء مزيد من الأمثلة، عدا واحدًا.

ستكون محطتنا الأخيرة عند التصوف الإسلامي؛ فالفكر الصوفي في الإسلام هو الذي وضع مسألة التشخيص والتجريد، أو باستخدام المصطلح الإسلامي: التشبيه والتنزيه، في إطارها الصحيح ضمن المعتقد الإسلامي. إن الدرس الأخير الذي يُعلمنا إياه المعتقد الصوفي، هو أن تصور الله في صورةٍ ما، وصنع منحوتات له ورسوم، ليس الفيصل في التفريق بين التنزيه والتشبيه؛ لأن الصورة الفكرية لله قد تُرفَع في بعض الأحيان وثنًا ذهنيًّا يفوق في صلابته أي وثن مصنوع من الجلمود. أما الصورة الحجرية فربما فتحت آفاق الذهن والروح معًا إلى ما وراء الحجر الذي قد يشف عن أكثر المعتقدات تنزيهًا.

١  تعود أسفار الفيدا بشكلها الحالي إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وتحتوي على خلاصة المعتقدات والطقوس الدينية للجماعات الآرية التي استوطنت شمالي الهند منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، ثم فرضت سيطرتها تدريجيًّا على القارة الهندية قبل أن تذوب تمامًا في خضمها السكاني.
٢  C. A. James, Atheism (in: Encyclopedia of Religion, vol. 1, pp. 480).
٣  أفضل مرجع لدراسة الجدال بين المدارس الهندية هو: N. V. Banergee, The Spirit of Indian Philosophy, New Delhi, 1974.
٤  John. B. Noss, Man’s Religions, MacMillan, London 1969, pp. 107–110.
٥  Ibid pp. 110–113.
٦  Geoffry Parrindar, op. cit, pp. 248–250.
٧  Ibid, p. 128.
٨  Ibid pp. 128–129.
٩  Alan Watts, The Way of Zen, op. cit, p. 63–65.
١٠  Ibid, p. 66–67.
١١  J. B. Noss, Man. s religions, op. cit. p. 130.
١٢  Ibid, p. 130–131.
١٣  The Teaching of Buddha, Buddhist Promoting Foundation, Tokyo, 1977, pp. 74–80. P. V. Bapat, 2500 Years of Buddhism, New Delhi 1956, ch. 3.
١٤  John B. Noss, op. Cit, p. 206.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤