ما وراء اللاهوت
(١) الجاينية: ديانة علمانية
الجاينية هي الديانة الثانية التي يَذكر لنا تاريخ الدين اسم مؤسسها ويروي سيرة حياته. وقد ألمحنا في موضع سابق إلى أن الزرادشتية كانت الديانة الأولى التي قامت على أفكار وتعاليم وسيرة حياة مؤسس فذ، مفتتحة بذلك عصر الوحي، والأديان التي تنشأ عن تجربة روحية معممة لفرد واحد.
عاشت الجاينية بعد موت مؤسسها قرونًا طويلة بين مد وجزر، وما زال لها أتباع يعيشون اليوم في منطقة بومبي بشكل رئيسي، وهم في جلهم من رجال الأعمال الناجحين.
تقوم تعاليم الجاينية على الإيمان المطلق بالإنسان كسيد وحيد لنفسه، وبقدرته على تحقيق الخلاص والانعتاق دون معونة من أية جهة علوية أو تحتية كانت. ورغم اعتقاد الجاينية بوجود كائنات متفوقة تُدعى الآلهة، إلا أن هذه الكائنات خاضعة مثل الإنسان إلى دورة السمسارا، ولا ترجى منها شفاعة؛ لأن عليها أن تُخلِّص نفسها قبل أن تكون قادرة على تخليص الآخرين. وفي هذا يقول المهافيرا: «أيها الإنسان، أنت صديق نفسك. فلماذا تبحث عن صديق خارج ذاتك؟» من هنا، فإن العالم غير مخلوق، وهو أزلي قائم بنفسه منذ القِدم، وهو يتألف من مكونين هما عالم المادة وعالم الروح. تتألف المادة من ذرات دقيقة جدًّا تتجمع وفق أنماط معيَّنة لتشكل صنوف المادة المتنوعة كالتراب والماء والهواء وما إلى ذلك. وهي تتدرج في الكثافة من المواد الشديدة الصلابة إلى نوع خفيف جدًّا من التكوينات المادية التي لا تستطيع الحواس اكتشافها لرقتها وخفتها، ومن هذه مادة الكارما التي تترسب على الأرواح فتثقل عليها نتيجة لأعمالها السيئة. أما عالم الروح، فيتألف من جماع الأرواح الفردية المنبثة في الكائنات الحية كلها، وهو عالم خيِّر على عكس عالم المادة السيئ. والأرواح خيِّرة في طبيعتها وأصلها، إلا أن ما تجنيه من أعمالٍ سيئة، يؤدي إلى تداخل عالم المادة بعالم الروح فتعلق منه بعض مواده الخفيفة في الروح، وهي مادة الكارما، فتثقل عليها وتجرها إلى تقمصات أدنى في سُلم الكائنات الحية. ولا يجلو أثر هذه المادة عن الروح سوى الأعمال الصالحة، التي تجعل الروح خفيفة متخلصة من أدرانها فترتقي سُلم الوجود، ربما نحو عالم الآلهة حيث تتقمص هناك جسد إله ما، ثم صعودًا فصعودًا حتى تحقيق الانعتاق الكامل من دورة السمسارا.
لا تحتوي معابد الجاينية على صور الآلهة، بل على صور للمرشدين الروحيين في أوضاع الاستغراق الباطني. أما الطقوس التي تجري في هذه المعابد فلا علاقة لها بالتقرب إلى الكائنات العليا، وإنما تتركز حول الاحتفالات التذكارية بالمراحل الخمس التي ترسم سيرة حياة المهافيرا، وهي:
(٢) طريق النيرفانا
يطرح أمامنا طريق البوذا أوضح مثال على النهج الديني المتحرر من أية صلة بعلم اللاهوت، ومعرفة الآلهة بأي مفهوم لها أو تصور. فهنا، وكما في الجاينية، لا يوجد إله تُقدَّم له فروض العبادة، ولا طقوس تقرب الإنسان من خالقه، ولا دار آخرة ترحل إليها أرواح الموتى. وأكثر من ذلك؛ فلا وجود للأرواح الفردية التي تخلد بذواتها بعد فناء أجسادها. ومع ذلك، فإن البوذية لم تبذل أي جهد لأجل نفي الإله، كما فعلت الجاينية وبعض الاتجاهات الهندوسية؛ لأن فكرة الإله لم تكن ضرورية للطريق الذي رسمه البوذا من أجل التحرر ودخول النيرفانا، فلا هي أُثبتت ولا هي نُفيت؛ لأن في صميم كل إثبات عقلي نوعًا من النفي، وفي صميم كل نفي نوعًا من الإثبات. إن ما بحث عنه البوذا هو نوع مختلف من الإثبات لحقيقة شمولية واحدة تتجاوز المنطق الذهني، وتقع فيما وراء ثنائيات هذا العالم وتقسيماته الوهمية. أما الطريق إلى ذلك فيسير بشكل معاكس لطريقة العلوم اللاهوتية. فهنا، وفي مقابل توسيط الإله وما يرتبط بعالمه من مفاهيم ورموز، يعتمد طريق البوذا على التواصل غير الذهني مع المستوى الحقيقي للوجود، بدون أفكار وبدون مفاهيم وبدون إعمال فكر. فالعقل هو جزء من عالم الظواهر المادية، عالم السمسارا الذي يمسك بالأرواح في إساره إلى ما لا نهاية إن لم تفلح في الانعتاق؛ ولذلك فإن طريق الخلاص يسير في اتجاه مغاير لاتجاه العقل، إنه طريق «اللاعقل» أو «اللافكر» على حد تعبير التاوية. فهنا، وبدلًا من أن تتجه التجربة الوجودية نحو الخارج في رحلة بحث ذهنية، تنكفئ نحو الداخل في عملية استغراق باطني فردي، تؤدي بالمستغرق إلى تلمس القاع الكلي للوجود، أي النيرفانا بالمصطلح البوذي، وهي الحالة التي يتلمسها المستنير في هذه الحياة، قبل أن يدخل فيها كليةً بعد الممات.
إلا أن ما يميز النيرفانا كمستوًى موازٍ للوجود (بالمعنى الذي استخدمناه حتى الآن) عن مفهوم براهمان في الهندوسية، هو أن البوذية لا تتعامل مع النيرفانا باعتبارها مفهومًا يمكن التأمل فيه بمعزل عن التجربة الذوقية الفردية، ففي حالة النفي المطلق لكل ما نعرف، ومن غير حاجة إلى تعريف أو تقريب للأذهان بأية صيغة تتضمن المحاكاة أو التشبيه. وقد رفض البوذا طيلة حياته وضع مفهوم ذهني للنيرفانا، على طريقة حكماء الأوبانيشاد، كما رفض الدخول في الموضوعات الميتافيزيقية الأخرى التي كانت موضع جدال بين الفِرق الهندوسية؛ لأن مثل هذه الموضوعات لم تكن في اعتقاده ذات أهمية مباشرة لسعي الأفراد نحو الخلاص. وفي التعاليم الأصلية المنسوبة للبوذا، نراه يوضح هذه المسألة لتلامذته على أفضل وجه:
وُلِد الأمير سدهارتا غوتاما (البوذا فيما بعد) عام ٥٦٣ق.م. على ما تذكُره التقاليد البوذية. وتُبدي سيرة حياة سدهارتا شبهًا واضحًا بسيرة حياة المهافيرا، إلى درجة التطابق الكامل في بعض التفاصيل؛ الأمر الذي دعا بعض الدارسين إلى الاعتقاد بأن الشخصيتين هما في الأصل شخصية واحدة؛ فكلا الرجلين وُلد في بيت ملكي، ثم تزوَّج مبكرًا، وأنجب ولدًا واحدًا أو بنتًا، وكان منذ صغره كثير التأمل، غير قانع بما تُقدمه الهندوسية الكلاسيكية من أجوبة على تساؤلاته، وكلاهما هجر عيشة الملوك وتحوَّل إلى ناسكٍ متجوِّل يبحث عن سبيل لخلاص الروح البشرية، ثم جاءته ساعة الاستنارة بعد سنوات طويلة من التزهد والتأمل.
- الحقيقة الأولى: هي أن الحياة شقاء (أو ألم). وقد عالجتُ هذه المسألة منذ قليل.
- الحقيقة الثانية: هي أن سبب الألم والشقاء هو الرغبة، الرغبة في الحياة وفي مُتعها؛ ذلك أن الرغبة لا يمكن إرضاؤها، فهي كالنار كلما أوقدتها حطبًا زادت تأججًا، وكلما ازداد الفرد رغبة في الحياة، كلما دفع أمامه سلسلة لا تنتهي من التناسخات المقبلة، يخلقها الطمع في استمرارِ وهم الوجود.
- الحقيقة الثالثة: هي أن القضاء على الشقاء ممكن، وذلك بالقضاء على الرغبة، وعدم التعلق بأسباب الحياة، وهذا من شأنه تحضير الفرد للخروج من دورة التناسخ إلى النيرفانا؛ أي من الصيرورة إلى الوجود. أما ما هو شكل هذا الوجود وما طبيعته، فأمرٌ رفض البوذا التحدث عنه بإصرار.
- الحقيقة الرابعة: هناك طريق إلى النيرفانا، هو طريق ذو المراحل الثمانية، وهي:
(أ) الرؤيا السليمة: وهنا على السالك أن يتخلص من كل الخرافات والطقوس البدائية، وخصوصًا ما تعلق منها بالقرابين الحيوانية. كما عليه أن يتخلص من الاعتقاد بالأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة، والجن والعفاريت من أي نوع. وبشكل خاص عليه أن يتخلص من فكرة وجود خالق أعلى للكون يمكن أن يمد يد العون للإنسان في سعيه نحو التحرر، وأن يسلك منفردًا طريق الانعتاق. (ب) الموقف الفكري السليم: فإذا آمن الإنسان مثلًا بالتمييز بين الأفراد أو الجماعات أو الأجناس، فإن ما يصدر عنه من أحكام وقرارات سوف يتسبب في مزيد من الآلام له ولمن حوله. (ﺟ) الخطاب السليم: فكل فعل يسبقه عادةً كلام، وهذا الكلام يجب أن يكون خاليًا من الكذب والخداع والفردية. (د) السلوك السليم: حيث يُحجِم الفرد عن القتل والسرقة والزنى وشرب المُسكرات وما إليها، ويُقبِل على الصدقة والعون وحُسن المعاملة. (ﻫ) سُبل العيش السليمة: وتقوم هذه السُّبل على أساس مكين من السلوك السليم، فلا يحصل الفرد عيشه إلا بأفضل الطرق وأنبلها. (و) السعي السليم: فعلى المرء أن يسعى من أجل ارتقائه العقلي والخلقي، من ذلك مثلًا نبذ العادات السيئة واكتساب عادات حسنة، والتحرر من الميول الهدامة وتنمية الميول البناءة. (ز) اليقظة السليمة: وهي العناية المبذولة من أجل تيقظ الجسم والعقل، حيث يبقى الفرد في حالة مراقبة لأحاسيسه وأفكاره. (ﺣ) التأمل السليم: وهو الاستغراق الباطني الذي يدفع بالسالك إلى عتبة الاستنارة. ففي جلسة الاستغراق التقليدية التي نراها في تماثيل البوذا، يقوم المستغرِق بتركيز وعيه على الآن، وكأن الزمان قد توقف، فلا ماضيَ للوعي ولا مستقبل، في لحظة متطاولة تبدو وكأنها حاضر أبدي. ولهذا الاستغراق في الممارسة البوذية ثماني درجات، توصل الدرجة الأخيرة منها إلى النيرفانا، بعد تمرُّس طويل بالدرجات السبع السابقة.
فيما يتعلق بهذه الخطوات الثمانية للتخلص من الالتصاق بالحياة ودخول النيرفانا، أودُّ أن أتقدم بملاحظتين أساسيتين؛ الأولى تتعلق بالسلوك الأخلاقي الذي تتضمنه الخطوات من ٢ إلى ٧؛ فهذا السلوك لا يتبع شريعة أخلاقية مفروضة من قِبل أية سلطة عليا، بل هو التزامٌ داخلي من شأنه مساعدة السالك على توليد كارما إيجابية تنتهي به إلى حالة اللافعل. فالأعمال الحسنة هي غالبًا تلك الأعمال التي لا تصدر عن رغبة ولا عن طمع، وهي التي تقود في النهاية إلى عون صاحبها على التخلص من الرغبة في استمرار العيش، وصولًا إلى الحالة التي يعزف السالك فيها عن إتيان أي فعل حسنًا كان أم سيئًا؛ لأن أي فعل في النهاية هو فعل موجَّه نحو التشبث بالحياة. والملاحظة الثانية تتعلق بالفهم الصحيح لموقف السالك البوذي من حياته الحالية؛ فالخطوات السبع، التي أشرت إليها أعلاه، تُظهر بوضوحٍ أن البوذي يتخذ من حياته وحياة الآخرين موقفًا إيجابيًّا لا سلبيًّا عدميًّا، وهو بالتزامه المعايير الأخلاقية لا يُدير ظهره للمجتمع والحياة، بل ينخرط فيهما دونما تعلق أو تشبث، ويُمارِس الفعل الذي لا يصدر عن رغبة وطمع، وذلك تمهيدًا لقطع سلسلة السمسارا التي تولدها الرغبة في استمرار العيش. فجهده والحالة هذه إنما ينصبُّ على عدم الولادة الجديدة في تقمص كارمي آخر، لا على تدمير حياته الحالية أو إدارة ظهره لها، وحالة اللافعل التي يتوصل إليها في النهاية إنما تأتي بعد أن يكون قد أدى التزاماته الاجتماعية والأُسرية.
إن صرامة الطريق الذي وضعه بوذا للتحرر، قد أدَّى بشكل طبيعي إلى انقسام المجتمع البوذي إلى شريحتين، كما هو حال المجتمع الجايني، شريحة الرهبان المنذورين للخلاص، وشريحة الناس العاديين الذين يتبعون منهجًا أقل صرامة لا يؤدي إلى الانعتاق بل إلى تناسخات مُقبلة تُمهد له. وقد قادت صرامة البوذية الأصلية، التي تنتشر اليوم في سيريلانكا وبورما وتايلاند، إلى نشوء مدارس بوذية تجديدية، أهمها بوذية المهايانا التي انتشرت نحو الصين واليابان وبقية أنحاء الشرق الأقصى. وبما أن مجالنا هنا لا يتسع لمعالجة الفوارق بين الاتجاهين، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أهمها في اعتقادنا، وهو لجوء المهايانا إلى خلق كائنات ما ورائية شفيعة من شأنها مد يد العون للبشر في حياتهم وعونهم على تحقيق الخلاص.
•••
وهكذا، فمع انتهائنا من استقصاء المعتقد البوذي الذي لم يرَ في الحياة إلا تدفقًا وهميًّا لا ثبات له إلا في النيرفانا، ولم يرَ في عالم الناسوت إلا ظلًّا لا قوام له يُلقيه عالم اللاهوت مصطنعًا ما يُشبه الوجود وما هو بالوجود، نكون قد أكملنا رحلتنا في معتقدات الحضارات الكبرى للشرق الأقصى.
إن النتيجة التي أوصلَنا إليها استقصاؤنا للمعتقدات الشرقية، تؤكد لنا أننا ما زلنا أمام المفاهيم الدينية الأساسية لإنسان العصر الحجري، ولأشكالها التي استمرت في الثقافات البدائية، وأن المعتقد الديني الإنساني واحد في أساسه وأصوله. إن بضعة الآلاف من السنين التي قضاها الإنسان المتحضر وهو يُفلسف معتقده الديني فيَصبُّه في هذا القالب النظري أو ذاك، لم يؤدِّ به إلا إلى قول الأشياء القديمة نفسها وفق صيغ جديدة ظن بها تقديم الجديد، وما هو بالجديد. ولقد تعلمنا شيئًا على جانب كبير من الأهمية، خلال رحلتنا الاستقصائية المشرقية هذه، يتعلق بدور الألوهة المشخصة في الحياة الدينية للإنسان، وعلاقتها بالمعتقد الأصلي الأساسي للألوهة غير المشخصة؛ فالأصل في الألوهة التجريد والتنزيه، والإنسان الأول لم يجعل لمجاله القدسي ممثلين يمشون على الأرض أو يتحركون في السماء، ولم يرسم لهم صورة ولم يتخيلهم بأي شكل من الأشكال، بل آمن بالمجال القدسي، ورأى آثار قوته السارية في مظاهر الكون، فجعل له شارة هي رمزه المرئي في عالم الناسوت. وعندما ظهرت الآلهة عبر المراحل الدينية اللاحقة، فإنها حلت محل الشارة المقدسة القديمة، وصارت الرمز الذي يتوصل الإنسان من خلاله إلى المجال القدسي. ثم إن القوة السارية قد حلَّت في هذه الكائنات، وبدلًا من تلك القوة الغفلة غير المشخصة، صار لدينا عدد من القوى المتجزئة المتخصصة.
ولكن الشيء المهم الذي برهنَّا عليه، هو أن الآلهة المشخصة لم تحلَّ قط محلَّ الألوهة غير المشخصة، بل بقيت بوابة الخيال إليها، ونقطة ارتكاز يستند إليها في صعوده التدريجي من عالم الملموسات إلى الفراغ المطلق اللانهائي.
وقد علَّمتنا الهندوسية بشكل خاص كيف ينتقل الوعي بالمطلق عبر درجات متتالية للتشخيص، وصولًا إلى تشخص المطلق نفسه، وكيف أن الصورة المشخصة للمطلق ما تلبث أن تذوب وتتلاشى بعد أن نستند إليها للوصول إلى القاع الكلي للوجود. ورأينا كيف أن التشخيص الهندوسي (سواء كان تشخيصًا ماديًّا يرسم صورة مرئية للإله من حجر أو خشب، أم تشخيصًا ذهنيًّا بتصور الإله في هيئة معينة، ويعزو إليه أخلاقًا وخصائص وسيرة حياة وعلائق واضحة، وإرادة ومقاصد محددة في عالم البشر)، لا يقوم إلا كحالة وسيطة في علاقة الإنسان بالمستوى القدسي، ولا يقود بالنتيجة إلا إليه. يقول واحد من حكماء التانترية في العصر الحديث، وهو راما كريشنا، حول عبادة الإلهة مايا-شاكتي ما يلي:
وهذا يُشبه قول اللاهوت المسيحي بأن الآب والابن هما واحد؛ فالآب هو المطلق السرمدي الذي لا يتصل بالكون المخلوق إلا من خلال قوته التي يمثلها الابن؛ فالابن هو الكلمة الذي كان عند الله منذ الأزل، والذي به تم خلق العالم، وهو الذي رسم في البدء دائرةً على وجه الغمر، فحدَّد معالم الكون وأخرَجه من لُجة العماء إلى طور النظام، وهو الذي تجسَّد في يسوع ليشفع للبشر ويُنقذهم من عبء الخطيئة إلى رحاب السماء، فكان الشفيع والوسيط بين الله والناس. وليس التثليث المسيحي في الواقع إلا صياغة لاهوتية موفقة للجميع بين التنزيه والتشخيص؛ الواحد هو المطلق المنزه، والثلاثة هم المطلق المشخص. وعندما نقول ثلاثة في واحد، فإننا ننطلق من أطراف الدائرة نحو مركزها. وعندما نقول واحد في ثلاثة، فإننا نصدر عن النقطة المتلاشية في المركز نحو محيطها.
هذه الأفكار الابتدائية التي سُقتها أعلاه حول اللاهوت المسيحي، يمكن تطويرها وتعميقها لتشمل الأفكار اللاهوتية منذ القديس أوغسطين وتوما الأكويني، وصولًا إلى المعلم إيكهارت في العصور الحديثة. كما يمكن الشروع في جهد معادل من أجل استقصاء لاهوت ما تبقى لدينا من الأديان الكبرى الموثقة. ولكن هذا الكتاب، كما أوضحت سابقًا، ليس كتابًا في تاريخ الدين، بل هو اكتناه للظاهرة الدينية عند الإنسان من خلال دراسة معمقة لأهم نماذجها التاريخية، التي نعتقد بتمثيلها للبقية غير المدروسة. من هنا فإن المجال لا يتسع لعرض واستقصاء مزيد من الأمثلة، عدا واحدًا.
ستكون محطتنا الأخيرة عند التصوف الإسلامي؛ فالفكر الصوفي في الإسلام هو الذي وضع مسألة التشخيص والتجريد، أو باستخدام المصطلح الإسلامي: التشبيه والتنزيه، في إطارها الصحيح ضمن المعتقد الإسلامي. إن الدرس الأخير الذي يُعلمنا إياه المعتقد الصوفي، هو أن تصور الله في صورةٍ ما، وصنع منحوتات له ورسوم، ليس الفيصل في التفريق بين التنزيه والتشبيه؛ لأن الصورة الفكرية لله قد تُرفَع في بعض الأحيان وثنًا ذهنيًّا يفوق في صلابته أي وثن مصنوع من الجلمود. أما الصورة الحجرية فربما فتحت آفاق الذهن والروح معًا إلى ما وراء الحجر الذي قد يشف عن أكثر المعتقدات تنزيهًا.