الفصل العاشر

أتى الصباح مخنوقًا في ركام من زغب الإوزِّ والأشباح، واختلط وقع الخطوات الخافتة بالهمسات، واندفع سِرْب صغير من غربان البحر فوق الماء كالدُّمى المتحرِّكة، واختلط نَعِيبهم بنداءات باعة الخبز في الصباح الباكر. وبمرور الوقت، اختفت تلك الصيحات المنعزلة في زحام المدينة وقعقعة العربات وباعة السمك ودعاء المؤمنين عن بُعْد والنباح الحزين للكلاب الضالة وكلُّ ما يدل على أن الحياة وإسطنبول سوف تستمران. رغم كلِّ شيء سوف تستمر الحياة، وسوف تستمر إسطنبول.

بينما تسلَّل الصباحُ إلى غرفتها، رقدت إلينورا وقد ضمَّت أطرافها كورقة شاي جافَّة، مُغطَّاة بكومة متشابِكة من المفارش وهي تتنفس الأنفاس القصيرة المتقطِّعة التي تميِّز النوم المُضطرِب. جذَبتْها نقرة على الباب من عالم الأحلام، ولكنها أفاقت بما يكفي كي تعرف أنها ترغب في العودة إلى النوم. سمعت صوت أكثر من خُفٍّ منزلي عند الباب وطَرْقًا معدنيًّا مكتومًا على حافة فراشها، ثم شعرت بيد السيدة داماكان النحيلة الخشنة تستند على مؤخِّرة عنقها. ارتجفت إلينورا بينما انتشر دفْء هذا الجسد في أطرافها.

قالت السيدة داماكان: «إفطارك على مائدة الفراش.» ثم جرَّت قدميها متثاقِلة خارج الغرفة.

انتظرت إلينورا إلى أن سمعت الباب يُغلَق ثم انقلبت على ظهرها مرةً أخرى. كانت رائحة البيض المسلوق والخبز المُسطَّح تتسلَّل إليها من تحت غطاء صينية الإفطار، ولكنها لم تكن تشعر بالجوع على الإطلاق. جذبت البطانية على رأسها، وأغلقت عينَيْها وضمَّت أطرافها مرة أخرى على هيئة كرة. كان رأسها يرتجُّ بقوة داخل عظام جمجمتها، وجدار مَعِدتها يَضْطَرب خوفًا. كانت قد استيقظت تمامًا الآن، ولكن ذكرى الليلة السابقة كانت لا تزال مُتذَبْذِبة باهتة، كما لو كانت قافلةَ جِمالٍ ترتفع فوق أُفُق كَثِيب ضخْم من الرمال. برودة الماء العذبة، وقنديل بحر يلدغ كاحلها، وذراع البِك المُشعِرة الممتدة، وفجأة إدراك حقيقة أن والدها قد مات.

شعرت بالغثيان، وبأن معدتها تصعد إلى حلقها، وأطلقت زفيرًا حتى فرَّغت رئتيها من الهواء، ثم ملأتهما بالهواء مرةً أخرى. كانت ضربة قاضية، مأساة محطِّمة من النوع الذي نعزِّي أنفسنا بأنه يحدث للآخرين فحسب، أو لأبطال الروايات، أو للجيران، أو للمَساكِين الذين نقرأ عنهم في الصحف. ولكن ها هي المأساة تحدث لها. تشبَّثت بالوسادة عند بطنها، وحدَّقت إلى غطاء الدانتيل الأبيض الذي يعلو فِراشها. لقد تُوفِّي والدها، وهو يرقد الآن جثة هامدة في قاع البوسفور، أو وسط كومة من الأجساد على الشاطئ، أو مدفونًا لتوِّه في باطن الأرض، أو في مكان آخر لا يمكنها أن تتخيَّله، ولكنه ميِّت على أي حال. قلَّبت الفكرة في ذهنها مرارًا وتَكْرارًا من وجهات نَظَرٍ مختلفة، ولكن التفكير في ذلك كان كالنظر إلى الشمس، يجعلك تفقد بصرك بينما تحاول الرؤية.

طوال ذلك الصباح ظلَّت دوَّامة من الأسئلة الخبيثة تحوم حول فراشها كالغربان، وتحطُّ بعُنْف كي تهمس في أذنها. ماذا عن الهدهد الذي أتاها على حافة النافذة؟ وماذا عن رغبتها في البقاء في إسطنبول؟ أيمكن ألَّا يكون حادث السفينة ووفاة والدها وحوالي أربعة وعشرين شخصًا آخرين حادثًا؟ أيمكن أن تكون أمنيَّتها ورغبتها الطفولية في البقاء في إسطنبول هما ما تسبَّبتا في كلِّ ذلك؟ ارتجفت إلينورا وجذبت الوسادة على رأسها. كانت ترغب في أن تنام وتستيقظ لتجد كلَّ شيء قد عاد لطبيعته، أو على الأقل أن تُبْعِد هذه الأسئلة عن ذهنها بضع ساعات. ولكن مهما تكن رغبتها، فالقَدَر ثابت لا يتزحزح، وتبعتها تلك الدوَّامة السوداء البغيضة إلى أحلامها بإلحاح ومرارة.

في وقت ما من ذلك المساء، أو ربما كان في مساء اليوم التالي، قرع البِك باب غرفتها وناداها باسمها. كانت مُستيقِظة ولكنها لم تُجِبْ، لم تكن تشعر بالرغبة في الحديث، بل إنها لم تكن تشعر بالرغبة في أيِّ شيء سوى أن ترقد في الفراش، وحتى ذلك لم يكن إلا لأنها لا تجد خيارًا أفضل. وبعد أن قرع الباب وناداها مرَّتين أخريين، فتح البِك الباب. كان يرتدي حُلَّته وربطة عنقه الزرقاء المجعَّدة المعتادة، ولكن وجهه كان مُتغضِّنًا وعيناه غائرتين إرهاقًا. لم يلاحظها في بادئ الأمر، فقد كانت غارقةً تحت كَمٍّ من الأغطية والوسائد كثعلب خائف يختبئ في تجويف شجرة، ولكن أعينهما تلاقت أخيرًا. تبادلا النظر فترةً طويلة قبل أن يُغلِق الباب خلفه ويجلس على المقعد المُخْملي الأحمر بجوار فراشها.

«لقد حاولتُ أن أتَّصل بخالتكِ روكساندرا.»

أطلَّت إلينورا برأسها من مدخل كَهْفها كي تتمكَّن من فَهْم ما يقوله البِك على نحو أفضل.

تابعَ قائلًا وهو يُشبِّك يديه أمام فَمِه: «لستُ متأكِّدًا ما الذي تذكرينه من أحداث أمس.»

ارتجفت شفتاها وهي تهزُّ رأسها مؤكِّدة أنها تذكر ما حدث، إنها تعلم كلَّ شيء.

قال وهو يضع يده على زاوية فراشها: «ما زالت السُّلطات تبحث عن ناجِينَ، رغم أنه من المُحتمَل إلى حدٍّ كبير ألَّا يجدوا أيًّا منهم.»

وخلال فترة الصمت التي أعقبت ذلك، نهض البِك واقفًا واتَّجه حتى النافذة التي تمنَّت عندها إلينورا أمنيَّتها. أنْعَمَ النظر في الأنشطة الدائرة على صفحة الماء بالأسفل، ثم جذب ساعته من جيب سترته وأخذ يفتحها ويغلقها بضع مرات.

كرَّر وهو يُهذِّب أطراف شاربه: «لقد حاولتُ أن أتصل بخالتكِ، ولكنني للأسف لم أتلقَّ منها ردًّا.»

توقَّف البِك كي يُعطِي إلينورا وقتًا للردِّ.

ثم تابع قائلًا: «بالطبع سوف تردُّ قريبًا، وفي الوقت الحالي يمكنكِ البقاء هنا على الرُّحْب والسَّعَة.»

هزَّت إلينورا رأسها، وخطر لها أن عليها أن تقول شيئًا، من اللائق أن تقول شيئًا ما؛ ولكن فكرة الحديث والإفصاح عن أفكارها للعالم كانت أصعب من طاقتها على الاحتمال.

«هل لديكِ أيُّ أقارب آخرين عليَّ أن أحاول الاتصال بهم؟»

توتَّر ذَقَنُها وشعرت بالدموع تتجمَّع على حافة رموشها. ليس لها أحدٌ آخر. لقد أصبحتْ يتيمةً الآن، وحيدة في هذا العالم، ولا عائلة لديها سوى روكساندرا. أطلقتْ نشيجًا، ثم عادت مرةً أخرى إلى كَهْفها وأخمدت نيران بكائها في ظلامه الدافئ. وعندما استيقظت مرة أخرى، كان البِك قد رحل.

قضت إلينورا معظم الأسبوع الأول في الفراش، تَغْفُو وتفيق من نوم مُضطرِب تلوح فيه الأشباح والكوابيس. كانت السيدة داماكان تأتي إلى غرفتها كلَّ صباح ومساء حاملةً صينية الطعام، ثم تعود بعد ساعة كي تحملها سليمة لم ينقص منها سوى قطعة صغيرة من الجبن أو قَضْمة من حافة البيضة. لم تكن إلينورا تغادر دفْء فراشها إلا كي تقضي حاجتها أو تغسل وجهها، وفيما عدا ذلك كانت تقضي الوقت نائمةً، وتبذل قُصارى جهدها كي تدفع عنها تلك الأفكار غير المرغوب فيها. لم تتفوَّه بكلمة منذ الحادث، وبدأ الصمت يُصْبِح عادةً لديها، رداءً ثقيلًا تختفي تحته. لم تكن لديها فكرة عما إذا كان سربها لا يزال معها أم لا، ولم تكن تهتمُّ بذلك كثيرًا على أي حال. كانت تذكر بصورة ضبابية أنها لمحت وميضًا أُرْجوانيًّا عند زاوية نافذتها، ولكنَّه قد يكون حلمًا.

وذات صباح، قُبيل بداية الأسبوع الثاني عقب الحادث، أتت السيدة داماكان إلى غرفتها حاملةً مِنْشفة بدلًا من صينية الإفطار. أدركت إلينورا أن الاستسلام هو الطريق الأقل مقاومةً، فسمحت للخادمة العجوز بأن تُغْرِيها لدخول الحمَّام وتنزع ملاءاتها القذرة وتنظِّف جسدها الضعيف. وبعد الاغتسال غادرت السيدة داماكان الغرفة ووجدت إلينورا نفسها وحيدة أمام مرآة مِنْضَدة الزينة الخاصة بها، وهي ترتدي نفس الثوب المُخْملي الأزرق الشائك الذي ارتدته في أول ليلة لها في إسطنبول. كانت تشعر بالضعف، نظيفة ولكنها خاوية من الحيوية والطموح. تحرَّكت إلى الجانب الآخر من الغرفة، وفتحت النافذة البارزة لأول مرة منذ أسبوع. وبينما كانت تستنشق الرائحة المؤقَّتة لبداية الربيع، تذكَّرت فِقْرة قرأتها في المجلد الثاني من «الساعة الرملية» تصف حال السيدة هولفرت بعد مرور أقلَّ من شهر على وفاة والديها الحَبِيبَيْن:

تفتَّحت أوَّل براعم الربيع بلا ندم، واستحالت كلُّ بَتَلة سكِّينًا صغيرة تنغرس في أغشية أعضائها الحيوية، مقطِّعةً أوردتها كما لو كانت آلة دَرْس الحنطة، ومعيدةً فتْح تلك الجراح التي ظنَّت أنها قد شُفيَت. ولكن هذا هو أوان ذلك، ورغم جهودنا الحثيثة لإيقاف نموِّها وإبطاء مسار تقدُّمها، فإن الحياة تستمر. ولمَّا كانت صامدة، فهي تتهكَّم بقسوة على ذكرى الموت؛ على الذكرى، وعلى الموت.

أغلقت إلينورا النافذة وأخذت نَفَسًا عميقًا حتى شعرت بحدَّة الهواء في رئتيها، ثم غادرت الغرفة واتجهت إلى الطابق السفلي نحو غرفة الطعام. كان البِك على وشك أن يفرُغ من تناول إفطاره عندما دخلت. وقفت متجمِّدة في مدخل الباب بين غرفتَي الانتظار والطعام، حاملةً قلمَ حبرٍ في يد وورقة في اليد الأخرى. كان فمها مُطبَقًا بإحكام، وشعرها لا يزال رطبًا من آثار الاغتسال.

«صباح الخير أيتها الآنسة كوهين.»

هزَّت إلينورا رأسها وجلست في المقعد المقابل له، وتفرَّست وجهه ثم نزعت الغطاء عن قلمها وكتبت ردَّها أعلى الورقة.

«صباح الخير.»

قرأ البِك ما كتبته وهزَّ رأسه، كما لو كان من الطبيعي التواصل بتلك الطريقة.

«هل ترغبين في تناوُل الإفطار؟»

فكتبت «نعم»، ثم أضافت «من فضلك».

كان الإفطار نفسه الذي تتناوله إلينورا كلَّ صباح منذ قدومها إلى إسطنبول، ولكن رؤيته على صينية الإفطار أمامها أصابتها بالغثيان، ولكنها كانت تعلم أن عليها أن تتناول شيئًا. حدَّقت إلى الطعام، ثم رفعت حبَّة زيتون إلى فمها، وكادت تتقيأ وهي تستشعر مذاق الزيتون الأملس المالح وتبتلعه. أزالت النواة من فمها، ثم حاولت أن تتناول ملعقةً من مُرَبَّى التوت على الخبز المُسطَّح، ولكنها لم تحتمل بحاسَّة تذوقها الرقيقة مذاقَ بذور المُربَّى المسكرة. وهكذا كانت أيضًا ملوحة الجبن الشديدة. رغم ما كتبته، لم يكن صباحًا جيدًا، ولم يكن بوسعها أن تتخيَّل أن الصباح سيكون جيدًا مرة أخرى على الإطلاق.

جلست قُبالة البِك في تلك الغرفة الباردة الخالية، وتسارعت ذكريات الحادث إلى ذهنها كالفئران على مِنْضدة المطبخ. كانت معه عندما غرقت السفينة، تتعلَّق معه بلَوْح خشب هائِم على وجهه. ولاحقًا تدثَّرت ببطانية صوفية مُتَّسِخة على الشاطئ، وتعلَّقت بشدة بذراعه وعيناها متسعتان من صدمة البرودة والإدراك البطيء بأن حياتها قد تغيَّرت للأبد. جلس كلٌّ من إلينورا والبِك هناك على حافة الشاطئ حتى وقت متأخر من ذلك المساء، يرتجفان بينما فِرق الإنقاذ تعدو مُحاوِلة الوصول إلى مزيد من الناجين. ومع انقضاء الليل اتَّضحتْ حقيقة الموقف؛ فكلُّ الذين لم يحتشدوا على الشاطئ قد فارقوا الحياة. نائب القنصل الأمريكي، ومدام كورفيل، والسفير الفرنسي، ومعظم طاقم السفينة، وجنرال روسي شهير يُدعَى نيكولاي كاراكوزوف، ووالدها يعقوب، كلُّهم قد فارقوا الحياة.

قال البِك: «ثمة أوقات في حياة المرء»، ثم توقَّف وبدا أنه يراجع أفكاره: «يمكنكِ البقاء هنا على الرُّحْب والسَّعَة قدْرَ ما تحبِّين. لقد كان والدك صديقًا عزيزًا، وإنني مدينٌ له بذلك على الأقل.»

تنحنح وابتلع الرَّشْفة الأخيرة في فنجان القهوة، ثم قلب فنجانه على الصَّحْن، وانتظر بضع دقائق تاركًا لحبيبات البن فرصةً كي تترسَّب على جانب الفنجان، ثم رفعه عن الصَّحْن واستغرق في تفحُّص بقايا الخطوط التي تبدو كالأشباح. حدَّق إلى الحبيبات فترةً طويلة وهو يتخلَّص من البقايا الزائدة، مميِّلًا ما تبقى نحو شعاعٍ من الضوء، قبل أن تلتقي عيناه بعينَيْ إلينورا.

قال ساخرًا وهو ينهض من مقعده: «حظٌ سعيدٌ! عليَّ أن أنصرف. هل ترغبين في أيِّ شيء أحضره لكِ من الخارج؟ أي شيء؟»

فهزَّت رأسها.

«كلَّا، شكرًا.»

حدَّق البِك إلى عينيها للحظة، كما لو كان يوجِّه لها نفس السؤال مرة أخرى بلغة الصمت، ثم تمنَّى لها يومًا طيِّبًا، وغادر المكان تاركًا إيَّاها وحيدةً مرة أخرى. ظلَّت طويلًا تحدِّق إلى سطح المائدة، متأمِّلةً انعكاس وجهها الضبابي يتحرَّك على السطح المصقول، والثُّريَّا تتدلَّى فوقها كنَصْل بلَّوْري. وعندما نظرت لأعلى مرة أخرى، وجدت السيد كَروم يقف بجوار المائدة مُضطِربًا مُترقِّبًا كما لو كان كلبًا يبحث عن سيِّد جديد. يبدو أنه كان ينوي تنظيف المائدة بعد الإفطار، ولكنه لم يرغب في مقاطعة أحزانها. حملت إلينورا الورقة والقلم، ونهضت من أمام المائدة وانطلقت بعيدًا عن غرفة الطعام. شقَّت طريقها عبر الرُّواق الرئيس في المنزل، حيث تنظر إليها الوجوه الحزينة لأسلاف البِك. كان أول باب وصلت إليه هو باب المكتبة. وقفت تحدِّق إليه فترة طويلة قبل أن تختبر المِقْبض، فاستسلم في يدها وأصدرت آلية الإغلاق صوتًا. جلست في نفس المقعد البني الفاتح الذي جلست فيه ليلة الحادث. أحقًّا كان والدها يجلس هنا في نفس هذا المقعد منذ أسبوع فحسب، يحْتسِي الشاي ويلعب الطاولة؟ أحقًّا قد تغيَّر الكثير في فترة وجيزة كهذه؟ أطلقت نشيجًا ودفعت بأنفها إلى حافة المقعد، محاولةً أن تستعيد رائحة والدها، ولكنها كانت قد تلاشت في رائحة الجلد العطري.

على مدار الأسابيع التالية اكتسبت إلينورا برنامجًا يوميًّا، ورغم أنه لم يُفلِح في تخفيف أحزانها، فقد نجح على الأقل في إصباغ معنًى على أيامها. كل صباح بعد الاغتسال، كانت تهبط الدَّرَج متثاقلةً حتى غرفة الطعام وتحاول بأقصى جهدها تناوُل الإفطار الذي لا يزيد عادةً على قطعة من الخبز المُسطَّح أو بيضة مسلوقة. وبعد الإفطار، عندما يخرج البِك وتُنظَّف المائدة، كانت تشغل نفسها بالتجوُّل في المنزل، وتأخذ غَفْوة على الأريكة الطويلة في قاعة الاستقبال، أو تقرأ في غرفتها بالطابق الأعلى. قضت ساعات لا حصر لها جالسةً بجوار النافذة البارزة، تقرأ «الساعة الرملية» وهي مُستنِدة على فَخِذَيْها وخُصْلة من شعرها تتدلَّى بين شفتيها، محاولةً أن تنقص من وقت المساء بالأدب الذي صار يشبه المُخدِّر الممل بالنسبة إليها. ولمَّا كانت تقرأ الكتاب للمرة الثانية وهي تعلم مصائِر الشخصيات في النهاية، فقد وجدت القليل من العزاء في الشعور بأن مساراتنا في الحياة تتحدَّد طبقًا لخطَّة أعظم مما يمكننا أن نتخيَّله أو نفهمه. وكل حين وآخر كانت ترفع بصرها عن الكتاب وتستغرق في تأمُّل سحابة مارة. وفي نهاية المساء، عندما تصل حركة السفن لذُرْوتها، كانت تدع عينيها تسرح حالمة مع قوارب التجديف التي تقطع المضيق أو التقدم البطيء للسفن البخارية التي تنفُث دخانها نحو البحر الأسود، ولكنها كانت تقرأ معظم الوقت. كانت تقرأ كي تُلهِي نفسها، كي تنسى نفسَها في عوالم تريستي وبوخارست البعيدة، ولا يذكِّرها شيء بأن الوقت في عالمنا يمر سوى الأذان والإظلام المتهادي للسماء.

ولمَّا مرت الأسابيع ولم يصل أيُّ ردٍّ من روكساندرا على الإطلاق، اتَّضح أن إلينورا سوف تظل مع مُنصِف بِك لفترة غير معلومة. لم يكن ثمة اتفاق رسميٌّ أو عقد أو أيُّ حديث بينهما عن شروط هذا الاتفاق، ولكن كان مفهومًا ضِمْنًا بينهما أنها مُرحَّب بها قَدْر ما ترغب في البقاء. كانت تربطهما عَلاقة وديَّة، رغم أن كلًّا منهما يهتم بشئونه الخاصة معظم الوقت، ولم يكن أيٌّ منهما يوجِّه أسئلة كثيرة للآخر. كل يوم بعد الإفطار، كان البِك يغادر المنزل، ولا يعود غالبًا حتى وقت متأخر من المساء، وكانا يتناولان العشاء معًا ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل. وفي الليالي التي يتناول فيها البِك العشاء بالخارج، كان السيد كَروم يُحضِر وجبةً خفيفة إلى غرفة إلينورا تتناولها بمفردها قبل أن تطفئ مصباحها وتخلُد إلى النوم.

خلال تلك الفترة، كانت السيدة داماكان هي الرفيق الأقرب والأكثر انتظامًا لإلينورا؛ فبالإضافة إلى الاغتسال الصباحي، كانت الخادمة تطمئن عليها على مدار اليوم كي ترى ما إذا كانت بحاجة لشيء ما، واستيقظت إلينورا من غفوتها أكثر من مرة كي تجد المرأة العجوز جالسةً في المقعد المجاور لفراشها. وفي إحدى تلك الأمسيات، استيقظت إلينورا على صوت السيدة داماكان وهي تترنَّم بلحن عذب خافت.

قالت بابتسامة صغيرة: «كنت أُنْشِد لكِ هذا اللحن.»

توقفت السيدة داماكان عن الغناء، ولكن إلينورا ظلَّت تشعر باللحن يداعب حواف ذاكرتها المُرهَقة، ثم اختفى كما لو كان طائرًا وسط الضباب الكثيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤