الفصل الخامس عشر

بينما كان رمضان يمرُّ مُتثاقِلًا عبر أيام الصيف الحارة التي تُصِيب المرء دائمًا بالوَهْن، أذعنت إسطنبول لحالة من الاعتياد على مشقَّة الصيام. كانت السفن البخارية تبحر مُتباطِئةً في المضيق معانِقةً ضفافه الظليلة، وصوت المؤذِّن يبدو مَشْروخًا من العطش، بينما جلست إلينورا عند حافة النافذة وبيدها كتابٌ تستخدمه كمروحة. كانت المشقَّة التي يحملها كلُّ يوم جديد تبدأ متأجِّجة، ثم يهدأ لهيبُها تدريجيًّا، ثم تخبو مع انطلاق مِدْفع الإفطار عند الغروب. حتى مَنْ لا يصومون، مثل الأرمن واليونانيين والأوروبيين واليهود، كانوا يشعرون بنفس الموجة من الارتياح في نهاية اليوم عندما تمتلئ الشوارع بباعة المُثلَّجات وقارئي الطالع والخيام الحمراء المكسوَّة بالغبار. وكانت المصابيح تُعلَّق كلَّ ليلة بين مآذن المسجد الجديد تتمنَّى للجميع رمضانًا كريمًا. واستمرت الألعاب النارية مُتسارِعة، ولكن حجمها كان يتناقص نوعًا ما. وفي معظم الأُمْسيات كان البِك يتناول إفطاره بالخارج مع الأصدقاء أو الزملاء أو الأقارب البعيدين، وعَرَضَ على إلينورا أكثر من مرة أن يَصْطَحبها معه، لكنها كانت ترفض؛ فلم تحتمل التفكير في الاجتماع مع كلِّ هؤلاء الناس وكلِّ هذا الكمِّ من الطعام والضوضاء. كان ذلك كثيرًا عليها، وكانت قانعةً بالروتين الهادئ لدروسها وقراءتها وتناوُل وجباتها وحيدةً في غرفتها. ولكنَّ كلَّ ذلك تغيَّر في يوم الثلاثاء من الأسبوع الثالث من رمضان؛ ففي ذلك المساء وصل الكاهن مولر إلى منزل البِك متأخِّرًا بضعَ دقائق، وبدا أكثر حيوية من المعتاد، فكان وجهه متورِّدًا ومغطًّى بالشعر الناعم.

قال وهو يداعب شعرها: «مرحبًا، ها هي الآنسة كوهين الصغيرة الشهيرة.»

ضحك على دعابة خاصَّة، ثم وضع كَوْمة من الكتب في زاوية مكتب الكولونيل.

«خطر لي أن نقوم بشيء مُختلِف قليلًا اليوم.»

أشار لها أن تجلس، ثم أخرج كتابًا مُهترِئًا ذا غلاف أخضر داكن. أمسكت به إلينورا وتفحَّصت كَعْبه. كان كتاب «التحوُّلات» لأوفيد.

قال الكاهن: «أنتِ تعلمين رأيي في الروايات وشِعر الغَزَل، ولكن الروح الطيِّبة البارعة لأوفيد ليست مَوْضِع لوْمٍ. وإذا لم أكن مُخطِئًا، فأعتقد أنه قضى الأعوام الأخيرة من حياته في كونستانتسا.»

كانت إلينورا ما زالت تحمل الكتاب، ففتحته على الصفحة الأولى. كانت مكتوبةً بخطِّ يدٍ مائلٍ يُوحِي بالثقة: «إلى جيمي ذي اللسان المعسول، مايو ١٨٦٥، نيو هافن.»

قال وهو يأخذ منها الكتاب ويتصفَّحه: «نعم، إنه هدية من أيام دراستي الجامعية.»

في ذلك المساء قاطع الكاهن قراءتها الصامتة عندما رغب أن يردِّد سطرًا بصوت عالٍ كي يسمعه يتردَّد على لسانه. ظلَّ يذرع المكان جيئةً وذهابًا خلفها، وتابع أصبعها السبابة التي كانت تمر بها أسفل الكلمات، وهو يغمغم لنفسه شارد الذهن بينما هي تقرأ. ومع بداية قصة كاليستو، هدأ حفيف سرواله. ظنَّت أنه ينوي توجيه سؤال لها، فاسترجعت السطور الأخيرة: «كان ثوبها العلوي مرفوعًا لأعلى وشعرها مربوطًا، والآن كانت تحمل في يدها رُمْحًا هزيلًا، والآن سَرَتْ في كتفَيْها رَجْفة خفيفة»، ثم نظرت خلفها. كان الكاهن مُستغرِقًا في التفكير، وذراعاه معقودتان على صدره، وعيناه مُغلقتان، وشفتاه مُنفرِجتان قليلًا. وبعد لحظة فتح عينيه ورأى أنها تنظر إليه.

قال: «بالطبع، استمري من فضلك.»

رغم أن سلوكه لم يكن عاديًّا، فإن إلينورا لم تسْتَغْرِب، ولم يكن لديها ما يدفعها إلى الشكِّ في أن ثمة خطأً ما عندما أخبرها الكاهن بأنه سوف يبقى بعد الدرس كي يدوِّن بعض الخواطر. ففي الغالب كان يظلُّ موجودًا بعد الدرس لبضع دقائق فحسب، وفي تلك الأحيان كانت إلينورا كثيرًا ما تقرأ وهي جالسة على أحد المقاعد في الجانب الآخر من الغرفة، ولكن في ذلك المساء لمَّا رأت أن المكتبة خانقة بإفراط قرَّرت بدلًا من ذلك أن تستكشف الممرات التي تعلو جناح النساء. ونظرًا للظلام الذي يعمُّ تلك الممرات، فإنها كانت تظلُّ أكثر برودةً من بقية منزل البِك؛ ومن ثمَّ كانت إلينورا كثيرًا ما تقضي أكثر الأوقات حرارةً في اليوم تتجوَّل فيها.

كان قلب إلينورا يخفق مُضطرِبًا في حلقها في كلِّ مرة تجرُّ قدميها عبر أرضية الممرات المُشقَّقة، حتى بعد أن زارتها حوالي اثنتي عشرة مرة. حملت حاشية ثوبها وانحنت قليلًا، والسقف فوقها يزداد انخفاضًا كلما تقدَّمت، أو هكذا بدا. وفي تلك الممرات المُظلِمة العَفِنة التي تفوح منها رائحة الخشب الرطب المُتعفِّن، لم يكن بوسعها أن ترى أمامها أبعد من يدها والحوائط التي يتناقص عَرْضُها تدريجيًّا. توقَّفت عند رقعة الضوء المتفرِّقة فوق المكتبة وجَثَتْ على ركبتيها، ثم انحنت للأمام وقبضت بأصابعها عبر الفتحات في الساتر الشبكي، ونظرت للأسفل نحو الغرفة التي غادرتْها توًّا.

كان الكاهن مولر لا يزال جالسًا على مكتب الكولونيل، ومن موقعها أمكنها أن ترى حُمْرة الشمس على مؤخِّرة عنقه، ورقعة صغيرة من الصلع تظهر في أعلى رأسه. لم تستطع أن تحدِّد في بداية الأمر ما كان يفعله، ولكنها عندما انحنت للأمام رأت أنه قد فتح دُرْجًا من أدراج المكتب وأخذ يفتِّش فيه خلسة. وبعد برهة من الوقت بدا أنه قد وجد ما كان يبحث عنه، ودسَّه في حقيبته. مدت إلينورا عنقها إلى الأمام كي تدقِّق النظر أكثر، وبينما كانت تفعل ذلك فاجأتها عطسة هائلة.

فنظر الكاهن لأعلى وتفحَّص الحجرة، ثم مرَّت فترة صمت طويلة.

«مرحبًا، الآنسة كوهين؟!»

كانت إلينورا تسمع صوت قلبها يخفُق في أذنيها، وشعرت بأنفاسها تُحتَبس في حلقها. أرادت أن تهرُب وتغادر المكان سريعًا قَدْر الإمكان، ولكنها أدركت أنه من الأفضل لها أن تظلَّ صامتةً وساكنة. أخذت تتنفَّس من فمٍ مفتوح، وراقبت الكاهن وهو يقف وينادي اسمها مرة أخرى، ثم تجوَّل في الغرفة وهو يختلس النظر أسفل المقاعد والموائد. وعندما رأى أن الغرفة خالية، حمل حقيبته وانصرف.

طوال ذلك المساء، وطوال فترة تناوُل العشاء، استرجعت إلينورا ذلك الحادث في ذاكرتها، الدُّرْج المفتوح والحقيبة، وصوت اسمها وهو يتردَّد. ثمة العديد من التفسيرات المقبولة لما رأته، فربما يكون قد طُلِب من الكاهن مولر أن يُحضِر مستندًا للبِك، أو ربما كان يبحث عن قلم مفقود أو ورقة خالية، ولكن بصرف النظر عن كَمِّ الاحتمالات التي استطاعت أن تستحضرها، فقد وجدت صعوبة في إقناع نفسها بأيِّ شيء سوى التفسير الأكثر وضوحًا؛ لقد سرق الكاهنُ البِك. ومن وجهة نَظَرٍ أخلاقية، لم يكن السؤال هو ماذا حدث؟ ولكن ما إذا كانت ستخبر الجميع بما رأته. يبدو أن أفلاطون يرى أن عليها ذلك: «إن الحقيقة هي بداية كلِّ خير للآلهة، وفيها كلُّ خيرِ الإنسان.» ثم أتى دور ترتوليان: «إن الحقيقة تولِّد كراهية الحقيقة، وفَوْر أن تظهر فإنها تصبح العدوَّ.» ظلَّت تقلِّب الأمر في ذهنها طوال فترة العشاء، وخلال الألعاب النارية، وفي أحلامها.

وعندما هبطت الدَّرَج في صباح اليوم التالي لتناوُل الإفطار كانت المشكلة لا تزال عالقةً معها. لم تكن هي والبِك يتواصلان أكثر من التحيَّات والمجاملات الضرورية كالعادة، وأحضر لها السيد كروم الإفطار، وتناولتْه كالمعتاد، ولكنها ظلَّت تشعر بالأمر مُعلَّقًا في سماء الغرفة كما لو كان رأس كَركَدن مُحنَّط صامت. لم تكن قد كَذَبت، ولم تخُن ثِقَة أيِّ أحد، ولكنها رغم ذلك كانت تشعر بأنها ارتكبت خطأً، أو أنها بالأحرى لم تقُم بالفعل الصحيح حتى الآن. هل ثمة فرق بين هاتين الخطيئتين؟ تناولا الطعام في صمت وإلينورا تحدِّق إلى ثمار الفراولة المُقطَّعة وهي تقْطُر عصيرًا أحمر اللون في طبقها. كانت بحاجة إلى أن تقول شيئًا، إلى أن تقوم بالفعل الصحيح، ولكنها لم ترغب في أن تشهد شهادةَ زورٍ ضِدَّ الكاهن. وضعت قطعة من الفراولة في شوكتها، ومضغتها حتى ذابت في فمها.

قال البِك وهو ينهض عن المائدة: «أيتها الآنسة كوهين، إنني لن أعود إلى المنزل حتى وقت متأخِّر من هذا المساء، فقد دُعِيت إلى منزل الحاج بكير.»

حَسَمَتْ ذكرى إلينورا عن الحاج بكير وعدم نزاهته ومِزاجه الحادِّ بالنسبة إليها؛ الأمرَ، فأخرجت ورقة وقلمًا من جَيْب رِدائها.

هل يسمح وقتك بدقيقة؟ فلديَّ سؤال.

قال البِك وهو لا يزال واقفًا: «بالطبع، ماذا يدور في خاطرك؟»

فتابعت بعد تردُّد طويل: «بالأمس كنتُ في أَرْوقة جناح الحريم»، ونظرتْ إليه كي تُقيِّم ردَّ فعله. طبقًا لمعلوماتها فلم يكن البِك يعلم شيئًا عن رحلاتها الاستكشافية، وسواء أكان يعلم أم لا، فلم يبدُ عليه أنه بُوغِت على الإطلاق لإفشائها ذلك السِّرَّ.

لقد اكتشفتُها بالمصادفة، فأنا أصعد هناك أحيانًا عندما أرغب في قضاء بعض الوقت بمفردي، وأنا آسفة لو لم يكن مسموحًا لي بالدخول إلى هناك.

فقال: «إنني أتفهَّم ذلك، هل هذا كل ما رغبتِ في قوله؟»

فرَمَقَت إلينورا السيد كروم الذي كان يقف بجوار الصُّوان ويداه خلف ظهره.

كنتُ في الأَرْوقة عندما رأيت الكاهن. كان ذلك بعد انتهاء الدرس، وكان قد ظلَّ في المكتبة كي يدوِّن بعض خواطره. لم أكن أنوي مراقبته، ولكنني عندما نظرت إلى الأسفل رأيته يتصفَّح محتوياتِ أحد أدراج مكتب الكولونيل.

فزمَّ البِك شفتيه.

«هل هذا كلُّ ما في الأمر؟»

لست متأكِّدة بسبب زاوية الرؤية، ولكنني أعتقد أنني رأيته يأخذ شيئًا من الدُّرْج ويضعه في حقيبته.

فتساءل البِك وهو مُضطرِب بطريقة لم ترَها من قبلُ: «ما هو؟ هل هو قلم أم خطاب أم ورقة؟»

شعرت إلينورا بوَخْز الندم يجتاحها حتى أَخْمَص قدميها، ورأت أمامها جبلًا من العواقب غير المقصودة، جبلًا يتداعى تحتها. وللحظة رغبت في أن تتراجع، لكنها لم تستطِع، فقد خرج السرُّ منها، وكان عليها أن تخبر البِك بكلِّ شيء.

بدت كما لو كانت ورقة، أو ربما بضع ورقات، رِزْمة صغيرة.

ودون أن يتفوَّه البِك بكلمة أخرى، خطا بخطوات سريعة نزولًا من القاعة الرئيسة إلى المكتبة، وتبعته إلينورا ببضع خطوات.

قال البِك عندما وصلا وهو يجلس إلى مكتب الكولونيل: «أيُّ دُرْج هو؟ هل تذكرين؟»

فأشارت إلى الدُّرْج العلوي، ونقَّبَ البِك فيه، وعندما لم يجد ما كان يبحث عنه أزال محتويات الدرج بالكامل. وضع الأوراق على المكتب، ونظر فيها واحدة تِلْو الأخرى. وعندما انتهى من فَحْص كلِّ الأوراق، دَفَن رأسه بين يديه.

«لم يكن عليَّ أن أثِق به، عميد كلية روبرت يعْرِض عليَّ تعليم فتاة صغيرة!»

وقفت إلينورا عند المكتب بينما كان البِك يُتمتِم بكلام غير مفهوم ورأسه بين ذراعيه. انتابها شعور بالسقوط في الهاوية، وأنَّ العالم يتهاوى بإرادتها الحرَّة. وفجأة رفع البِك رأسه وأمسكها من كتفيها، ونظر بقوة في عينيها.

«هل أنتِ على يقين تامٍّ من أنكِ رأيتِه يأخذ ورقة من هذا الدُّرْج؟»

فهزَّت رأسها وهي تتحاشى النظر إلى عينيه اللَّامعتين بقسوة.

«إنه أمر غاية في الخطورة، وإذا كان ما تقولين صحيحًا فلن نتمكن من استضافته في المنزل تحت أيِّ ظرف بعد الآن، ويجب أن تنتهي دروسك، وعلينا أن نقطع كلَّ العلاقات معه.»

توقَّف البِك وأَرْخى قبضته عنها، وبدا أنه تمالك نفسه.

«وفي الوقت نفسه، يجب أن تنتبهي إلى ألَّا تَشْهَدي شهادة زُور، فهي طبقًا للنبي محمد على الأقل إحدى الكبائر الأربع.»

نعم، أنا على يقين من ذلك.

«إذن، فليس لدينا سوى طريق واحد.»

فكتبت مُتردِّدة: أودُّ أن أسأل ماذا كانت تحوي تلك الورقة؟

أغمض البِك عينيه وأخذ عدة أنفاس عميقة قبل أن يُخرِج ورقةً وقلمًا من الدُّرْج العلوي للمكتب.

«ما أخذه الكاهن ليس ذا أهمية كُبْرى، ولكن المشكلة أننا لا نستطيع أن نَثِق به بعد الآن.»

بينما كانت إلينورا تنظر من فوق كَتِفه، كان البِك يكتب خطابًا قصيرًا.

عزيزي الكاهن جيمس مولر

أخشى أننا لا نستطيع أن نواصل الدروس التي تُعطِيها للآنسة إلينورا كوهين. ونظرًا لظروف خارجة عن إرادتنا لا يمكننا للأسف أن نناقشها، فإنه علينا إنهاء تلك العلاقة في الحال. لقد استمتعت الآنسة كوهين بالدروس التي كنتَ تعطيها إيَّاها كثيرًا، ونحن نتمنَّى لك كلَّ خير في المستقبل، ونأمل ألَّا يكون هذا القرار مصدرًا لأيِّ متاعب أو أضرار مُفرِطة بالنسبة إليك.

المخلص
مُنصِف باركوس بِك

قرأ البِك الخطاب ونظر إلى إلينورا كي يحصُل على موافقتها قبل أن يَطْوِيه ويضعه في مظروف. وهكذا انتهت دروسها. كانت تعلم أنها قامت بالفعل الصحيح، كانت تعلم ذلك، ولكنه لم يبدُ شعورًا صحيحًا على الإطلاق. فبعد أن حاولتْ أن تقرأ في المكتبة لبضع ساعات، تناولت الغداء وصعدت عائدةً إلى غرفتها، ثم اندسَّت في الفراش وهي تفكِّر في كلمات الجنرال كرزاب إلى زوجته عن جوهر الحقيقة وماهيَّتها: «سمكة مراوغة تتلألأ قشورُها في الماء، ومحارِب شريف مُعرَّض للخطر، ولكنها صمَّاء كالرصاص في قاع السفينة.»

استيقظت إلينورا في صباح اليوم التالي على قرع الباب والموسيقى الخافتة للسيدة داماكان وهي تترنَّم بلحن مألوف. تناثرت أحلامها في الزوايا البعيدة من الغرفة، تحت الأثاث، وفي شقوق ألواح الأرضية. فَرَكت عينيها، ثم تسلَّلت من فراشها وتبعت السيدة داماكان إلى الحمَّام. كان الهواء مُعبَّأً ببخار الماء ورائحة الصابون، وأطلَّ الصباح بوجهه من النافذة التي تعلو الحوض كما لو كان متسوِّلًا. شعرت إلينورا بقشعريرة في جسدها وهي تنزلق في المِغْطَس، واقتفت أثر حرف S على سطح بلاطة زرقاء مربَّعة.

رفعت إلينورا ذراعيها إلى حافة المِغْطَس، وأمالت رأسها إلى الخلف وتركت السيدة داماكان تكسو شعرها برغوة من الصابون. لم تكن لديها فكرة عما ستفعله الآن، فبلا دروسها كان المستقبل يمتد أمامها كالأمواج، والأسابيع والشهور تعلو وتهبط في محيط غير مُتمايِز من الوقت. لم تندم على ما فعلته؛ فقد قامت بالفعل الصحيح، ولكنها كانت حزينةً على فقدان دروسها، وخَشِيت أن يكون اتَّهامها خاطئًا. ربما تخيَّلت أن الكاهن يفتح ذلك الدُّرْج، وربما كان فُضُوليًّا فحسب. استرخت مع حركة الرغوة، وتركت كتفيها تنحنيان للأمام، ولفَّت ذراعيها حول ركبتيها. وفي شفافية الحمام المُعتِمة، استطاعت أن ترى الخطوط العريضة لصورتها في المرآة وقد فُرِك جسدها حتى أصبح ورديَّ اللون، وعلا رأسها برج من الشعر المكسوِّ بالصابون الأبيض كما لو كان كعكة نمساوية، وخطر في بالها ورقة الزنبق وذَقَنها يلمس سطح الماء.

«إلينورا.»

نطقت السيدة داماكان اسمها بعناية، كما لو كان كتابة منقوشة على ظهر تميمة سحرية. رطَّبت شفتيها بلسانها، وجذبت مقعدها إلى الواجهة الأمامية للمِغْطَس. وكان غطاء رأسها قد أُزِيح للخلف أكثر من المعتاد، كاشفًا عن شعر أبيض خَشِن تتخلَّله خصلات من الشعر الأسود.

قالت: «لقد قمتِ بالفعل الصحيح، لقد قمتِ بالفعل الصحيح.»

لم تدرِ إلينورا كيف علمت الخادمة العجوز بما حدث، ولكنَّ تصريحها الشديد الثِّقة بأن إلينورا قد قامت بالفعل الصحيح قد أزال شكوكها، في الوقت الحالي على الأقل.

ردَّدت السيدة داماكان: «لقد قمتِ بالفعل الصحيح.»

وعندئذٍ وقفت وجذبت السِّدادة، ثم جمعت أغراضها سريعًا وتركت إلينورا وحيدةً تراقب مياه الاستحمام وهي تدور في دوامة وتهبط في المَصْرَف. وعندما اختفت المياه الرمادية العَكِرة، سرت قشعريرة من كتفيها إلى ركبتيها، وانتصب شعر جسدها بأكمله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤