الفصل الرابع والعشرون

رغم أن إلينورا كانت تستيقظ كلَّ يوم بمزيد من النشاط المَلحُوظ عن اليوم الذي يسبقه وشهيَّتها تتحسَّن والقوة تتدفَّق في أطرافها، كان تماثُلُها للشفاء أبطأ مما تتمنَّى. وطبقًا لأوامر الأطباء كانت تتناول الوجبات في غرفتها ولا تغادر الفراش إلَّا بغرض الذهاب إلى دورة المياه، أو الجلوس في مقعدها المُفضَّل بجوار النافذة البارزة. وقضت معظم فترة النقاهة مُستكِينة في هذا المقعد، لا تقرأ ولا تفكِّر كثيرًا، بل تراقب حياة المدينة وهي تمر أسفل منها فحسب. كانت قد نَسِيت متعة مراقبة حركة السفن عبر البوسفور، ومرور السفن البخارية المُنتظِم ذهابًا وإيابًا بين بحر مرمرة والبحر الأسود الذي تقطعه شبكة من قوارب الكاياك تمتد من بيشكطاش حتى إمينونو وأوسكادار وحيدر باشا وأبعد من ذلك. ومن موقعها عند حافة المضيق، كانت إلينورا ترى أنماطًا لم تكن قد لاحظَتْها من قبلُ: سَيْر المتسوِّلين المتثاقل من مسجد إلى آخر، وانجراف قناديل البحر والطمي مع التيار باتجاه الجنوب، والظلال الرقيقة للمآذن تمتد عبر المدينة كما لو كانت عقارب ساعة عِملاقة.

في صباح اليوم الخامس بعد إصابتها بالنوبة، غامرت إلينورا بالنزول إلى الطابق السفلي، وتناولت الإفطار في غرفة الطعام مع البِك، وعندما انتهت من الإفطار عادت إلى الطابق العلوي حيث الخمول الخانِق الذي يميِّز غرفتها. قضت صباح اليومين التاليين على نفس الوتيرة، ولكن في صباح اليوم الثامن قرَّرت فجأةً أن تقضي يومها في المكتبة، فقد أصبح قضاء ساعة أخرى في غرفتها أمرًا غير مُحتمَل بالنسبة إليها، ولم يكن ثمة سبب يجعل جلوسها في غرفتها يختلف عن جلوسها في المكتبة. وهكذا، فبدلًا من أن تجرَّ إلينورا قدميها حتى الطابق العلوي كي تجلس بجوار النافذة البارزة، نهضت من مقعدها وسارت من القاعة الكبرى حتى المكتبة.

وعند بلوغ وِجْهتها كانت قد شعرت بالتعب، وكل ما استطاعت فعله هو أن تَنْهار في المقعد المجاور للمِدْفأة. وعندما استجمعت قواها، تفحَّصت الأشياء المُحيطة بها. يبدو أن البِك قد قضى معظم الليلة الماضية جالسًا على هذا المقعد نفسه، فقد كانت قاعدتُه غائرةً لأسفلَ من كثرة الجلوس عليه، وامتلأت الطاولة الجانبية بمتعلقات شخصية مُبعثَرة وأكواب الشاي وأعقاب السجائر. وأسفل تلك الفوضى التي تمخَّضت عنها الليلةُ السابقة، عثرت إلينورا على نسخة يوم الأحد من صحيفة لم ترَها من قبلُ. طوَتْ ساقَيْها تحتها كما لو كانت حشرة فرس النبي، ورفعت صحيفة «نيويورك صنداي نيوز» بهدوءٍ من أسفل زجاجة نصف خالية من الكُونياك. وفتحت الصحيفة وأخذت تتصفَّحها. ثمة مقالٌ عن إعادة بناء فانكوفر، ومقال طويل يستعرض إنجازات الجمعية الجغرافية الوطنية في عامها الأول، ولكن لم يستحوذ أيٌّ منهما على اهتمامها. كانت على وشك أن تضع الصحيفة عندما عثرت بالمصادفة على مقال «صورة من الخارج» لهذا الأسبوع. احتل المقال المقصود معظم الصفحة الخلفية، وزُيِّن بصورةٍ بالنقش الصُّلْب للبوسفور، وأسفل الصورة طُبِع العنوان بخطٍّ كبير: «عرَّافة إسطنبول».

منذ عدة قرون في دلفي، في عصر هوميروس وأفلاطون، كانت الفتيات يتنبَّأن بأقدارِ كلِّ مواطن محظوظ تقع في حوزته بضع عملات معدنية ولديه القوة لمعرفة الحقيقة. وتحت لواء كلمتين اثنتين فحسب — «اعرف نفسك» — كانت أولئك العرَّافات يتنبَّأن بمصائر الملوك والشعراء والفلاسفة والتجار. وقصة الإسكندر وعرَّافة بيثيا معروفة أيضًا، شأنها في ذلك شأن قصة شيشرون وفيليب الثاني. قد يظنُّ المرء أن الأمور قد تغيَّرت كثيرًا منذ أيام قيصر، ولكن في إسطنبول ما زال الملوك يتشاورون مع أصحاب العلم الباطني؛ فقد سمع مراسِلُكم أن سلطان الترك العظيم عبد الحميد الثاني قد تشاوَر الأسبوع الماضي مع عرَّافة تشبه عرَّافات دلفي القدامى، وهي فتاة يهوديَّة قادرة على الاستبصار تُدعَى إلينورا كوهين، يُزعَم أنها قد دخلت في نوبة تنبُّئِية عند قَدَمَي السلطان أثناء لقائهما.

قال البِك وهو يغلق باب المكتبة خلفه: «إنه أمر مُرْبِك أن يقرأ المرء عن نفسه في الجريدة.»

ورغم أنه كان يبتسم، فقد حمل بقية وجهه تعبيرًا يُوحِي بخطورة المَقصِد؛ زاوية حاجبَيْه، وتصلُّب يديه المطويتين عند خَصْره، وكلُّ ما في مظهره كان يُوحِي بأن الأمر الذي يُوشِك على مناقشته غاية في الجديَّة والخطورة.

«أنا شخصيًّا كنتُ محظوظًا بما يكفي كي أحظى بمقالات كُتبَت عني تنقُل الحقيقة، لا تخلو من السِّبَاب ولكن معظمها حقيقي.»

لمست إلينورا رقبتها بأطراف أصابعها وطوت الجريدة نِصْفين. لم تكن ترغب في أن يظنَّ البِك أنها لا تُعِيره انتباهها بالكامل.

قال وهو يجلس في المقعد المقابل لها: «منذ لقائك مع السلطان ظلَّت مجموعة من الشائعات تنتشر.»

كان صعبًا على إلينورا أن تتخيَّل أنها موضع اهتمام من أيِّ شخص غير سكَّان منزل البِك. كانت قد جذبت انتباه السلطان بالطبع، ولكن ذلك كان أمرًا استثنائيًّا بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنًى، ولم تتخيَّل قطُّ أن ذلك الاهتمام قد يمتد إلى الآخرين.

قال البِك وهو يلتقط الجريدة من فوق ساقَيْها: «رغم أن هذا المقال جانَبَه الصواب في بعض الأمور، فإنه في حقيقة الأمر مُقتطَف دقيق من الشائعات، على الأقل كما سمعتها.»

تساءلت إلينورا وهي غير متأكِّدة كيف تُجِيب أو ممَّا إذا كان يريد منها الإجابة: «وهل تلك الشائعات حقيقية؟»

رفع البِك حاجبه الأيسر، وبسط الجريدة ثم وضعها على ذراع مقعده.

«هذا بالضبط ما أودُّ مناقشته معكِ. ففي الأيام القليلة الماضية لاحظتُ عددًا من الرجال غير المألوفين يحومون حول رصيف الميناء ومسجد بيشكطاش ومقهى أوروبا، وكلُّ ذلك يجعلني أثق في أن منزلنا، وأنا شخصيًّا، تحت المُراقَبة المشدَّدة.»

غصَّ حلق إلينورا وشعرت بحُمْرة الخجل تصعد إلى وجنتيها، فقد كان مُنصِف بِك شديدَ الطيبة معها، وحماها في أوقات الحاجة وأشرف عليها وأَعَالَها، دون أن يطلب شيئًا في المقابل. وآخِر ما كانت ترغب فيه هو أن تزيد متاعِبَه.

تابع البِك قائلًا: «أعلم أن ذاكرتكِ ما زالت ضعيفة، ولكن من أجل سلامتكِ، ولصالح كلينا أريدكِ أن تخبريني بكلِّ ما تذكرينه عما قلتِ للسلطان.»

قالت: «لو تذكَّرت فسوف أخبرك، ولكنني حقًّا لا أذكر شيئًا. كلُّ ما أذكره هو الهيركانيون.»

«الهيركانيون؟»

«لقد أخبرتُ السلطان، أو على الأقل شرعت أخبره، بقصة الهيركانيين والآشوريين من زينوفون.»

ردَّد البِك وهو يحدِّق إلى اتجاه كُتُبه: «زينوفون! أيًّا كان ما قلتِه فقد أثَّرْتِ كثيرًا في تفكير السلطان، وهكذا فثمة عدد من القوى العظمى المهتمَّة بالأمر.»

وقف البِك واتجه إلى الناحية الأخرى من الغرفة حتى وصل إلى رفٍّ يمتلئ بكتب التاريخ. كانت الابتسامة ما زالت مرتسمةً على وجهه، ولكن إلينورا استطاعت أن ترى قَلَقَه واضحًا في ارتجافة فمِه والشدِّ في مؤخِّرة عنقه. وبعد أن تصفَّح نسخةً من «الأعمال المُختارة» لزينوفون، عاد إلى مقعده.

قال وهو يتَّكئ على المقعد الجلدي: «إن الهيركانيين والآشوريين قياسٌ مناسِب.»

لم تُجِب إلينورا، ولم تدرِ كيف تفكِّر. وبعد فترة صمت طويلة، أعاد لها البِك الجريدة ووقف مرة أخرى.

قال وهو يقف عند مقعدها: «والآن أخبريني، هل تذكرين أنكِ قلتِ أيَّ شيء للسلطان عن الكاهن مولر، أو اللقاء الذي حضرتُه في مقهى أوروبا؟»

وضعت إلينورا الجريدة على ساقيها، وفي محاولة لتخفيف التَّوتُّر الذي بدأ يتراكم في عينيها ضغطت جسر أنفها بين إبهامها وسبَّابتها. كان ذلك أقلَّ ما بوسعها فعله — أن تتذكَّر — ولكن ذلك الجزء من عقلها كان فارغًا تمامًا.

قالت أخيرًا: «بينما كنت أفيق في مَخْدَع السلطان الخاص، سألتني والدته عما إذا كنتُ أذكر أيَّ شيء مما قلتُ. وعندما أجبتها بالنفي، سألتني عما إذا كنتُ أذكر أيَّ شيء قلتُه عن الكاهن مولر والأُحْجِية أو لقائك مع …»

توقَّفت ووضعت يدها على فمها مُدرِكةً ما فعلته؛ لقد أخبرت السلطان ووالدته والصدر الأعظم بما كان البِك يرغب في ألَّا يعلموه بالضبط. حتى لو لم يكن ذلك مقصودًا، فقد خانت أعظم صديق لها ومُدافِعٍ عنها. نظرت إلينورا لأعلى نحو البِك الذي كان يقف بجوار مقعدها، وقد زمَّ شفتيه كي يمنع ارْتِجافهما.

قالت: «لم أكن أقصد ذلك.»

قال وهو يضع يده على كَتِفها: «أعلم ذلك، أعلم أنكِ لم تقصدي.»

في وقت لاحق في ذلك المساء، بعد أن أخذت قَيْلولةً عميقة تتخلَّلها الدموع، تلقَّت إلينورا القطرة الأولى من نهر من الرسائل سوف يصلها فيما بعدُ من مُعْجَبِين في جميع أنحاء العالم. ولمَّا كان البِك كثيرًا ما تصله خطابات وبرقيات بعد العشاء، لم يُفاجَأ هو أو إلينورا عندما قُرِع جرس الباب ودخل السيد كروم غرفة الطعام حاملًا خِطابين على صينية الرسائل، ولكن بدلًا من أن يفتح الخطابين ويسلِّمهما إلى البِك كالمعتاد ذهب إلى الجانب الآخر من المائدة ووضع الصينية بجوار إلينورا. كان المظروف الأقرب إليها ذا ورق أبيض كاللؤلؤ، وكان اسمها مكتوبًا بالكامل على وجه المظروف: الآنسة إلينورا كوهين. أما الخطاب الثاني، فكان مكتوبًا على ورق أكثر رَداءةً وموجَّهًا إلى عرَّافة إسطنبول.

تساءل السيد كروم وهو يقف ثابتًا بطريقة رسمية: «هل ترغبين أن أفتحهما لكِ؟»

فقالت: «نعم، إذا سمحت.»

أخرج فتَّاحة الرسائل من جيبه العلوي، وبحركة بسيطة فتح المظروف بعناية من الجانب العلوي. وكانت حركةً قد رأته إلينورا يقوم بها عشرات المرات من قبلُ، ولكن رؤيته وهو يفتح هذا الخطاب؛ أوَّل خطاب موجَّه إليها شخصيًّا، قد حبستْ أنفاسَها وجعلتها مُضطرِبة.

قالت بعد أن تصفَّحت الخطاب: «إنها دعوة وديَّة لحضور حفل عشاء في السفارة البريطانية.»

قال البِك: «هذا غريب!» ولكنه لم يقُل لماذا يظنُّه غريبًا.

كان الخطاب الثاني طلبًا من فتاة شابة تُوفِّي والدها فجأة قبل أن يدبِّر لها زواجًا مناسبًا، والآن لديها ثلاثة خاطبين يدَّعِي كلٌّ منهم حصوله على موافقة والدها المُتوفَّى. لم يكن واضحًا ما تبغيه الفتاة من إلينورا بالضبط، رغم أنها أنهت الخطاب بالعبارة التالية: إنني أثق في قُدْرتكِ على تقديم المساعدة.

على مدار الأيام الثلاثة التالية، غرقت إلينورا في طوفان من الدعوات وبطاقات الزيارة والخطابات والبرقيات التي تطلب حضورها وإرشادها. كان معظم المرسِلين يعيشون في إسطنبول، رغم أن القليل منهم أتى من أماكن أبعد في الإمبراطورية العثمانية، من مدن مثل سيلونيكا وترابزون، أماكن قد سمعت عنها ويمكنها تحديد موقعها على الخريطة، ولكنها باستثناء ذلك لا تعلم عنها سوى القليل. وفي وقت لاحق من ذلك الأسبوع، بدأت البرقيات تصل من مناطق بعيدة؛ مثل كوبنهاجن وشيكاجو. وأيًّا كان مصدر الرسائل، وبصرف النظر عن رَداءة الورق أو جودته، كانت إلينورا تردُّ عليها كلِّها بنفس الطريقة؛ كانت تعتذر بلطف عن تلبية الدعوات للحفلات ولأمسيات العشاء، معلِّلة بأنها لم تسترِدَّ كامِل صحتها بعدُ، وكانت تبذل قُصارى جهدِها كي تُجِيب طلبات الإرشاد بأفضل نصيحة يمكنها تقديمها، رغم أنها في الحقيقة كانت تواجِه أيامًا عصيبة في التعامل مع مشاكلها الخاصَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤