الفصل الخامس والعشرون

بنهاية شهر أغسطس، كانت إلينورا قد تعافَتْ تمامًا من النَّوْبة التي داهمتْها في القصر. ورغم تلك الانفراجة السعيدة، لم تستطِع الهروب من الشعور بأن شيئًا راسخًا في حياتها قد تغيَّر. كان الأمر يشبه الجلوس أمام مائدة فاخرة تضمُّ اللحم المشويَّ والسفرجل المحشوَّ وسَلَطة الشعير، وفجأة تكتشف أن أدوات المائدة غير موجودة. وكانت تُدرِك تمامًا مَنْشَأ ذلك الشعور؛ فرغم أنها قد أخبرت البِك بكلِّ ما تذكره عن مقابلتها الثانية مع السلطان، ثم إفاقتها لاحقًا في جناح الحريم، ورغم أنها قد أوضحت له أكثر من مرة آراءها حول الصِّلة بين الهيركانيين والإمبراطورية العثمانية، ورغم أنه قد سامحها عدَّة مرات، ورغم أنهما قد أصبحا يتحدَّثان بصراحة أكثر وبمعدَّل أكبر مما كانا عليه من قبلُ؛ فقد شعرت إلينورا كما لو كان جانِبٌ من علاقتها بالبِك قد تغيَّر إلى الأبد، حتى عندما يتحدَّث إليها عن أمور تافِهة كارتفاع الحرارة أو أسعار القطن أو توافر الكَرَز في السوق التجارية، كانت جبهته تصبح مَشْدودة. قد تكون تلك أصداءَ شعورها بالذنب فحسب، ولكنها كانت تخشى أنَّ شيئًا ملموسًا أكثر من ذلك قد تغيَّر.

ولم يقتصر الأمر على البِك؛ فقد أصبح السيد كروم أكثر احترامًا لها من ذي قبل، وأثناء حمَّامها الصباحي أصبحت السيدة داماكان تنظِّفها كقطعة زجاج رقيقة تخشى إتلافها. حتى سِرْب إلينورا قد تغيَّر؛ فقد أصبح أكثر نشاطًا وإصرارًا كما لو كان يشعر بتحقُّق وعْدٍ مُختبِئ في مكان ما أسفل طبقة الهواء الساخن. كانت تراقب السِّرْب كلَّ صباح وهو ينطلق واحدًا تِلْو الآخر من النتوء البارز أسفل نافِذتها، وفي نهاية اليوم ترْقُب عودته واحدًا تِلْو الآخر بنفس الترتيب الذي رحل به. أين كانت تقوده طلعاته؟ وعمَّ كان يبحث في براري المدينة؟ لا يسَعُ إلينورا سوى التخمين.

في فترة تماثُلها للشفاء اعتادت إلينورا قراءة جريدة «ذا ستامبول هيرالد» كلَّ صباح بعد تناوُل الإفطار. وبينما كانت تقرأ الجريدة وحيدةً على رأس المائدة والسيد كروم يرفع الأطباق الفارِغة، لم يسَعْها إلا أن تشعر بأن العالم بأسره يتغيَّر أسفل منها. ففي خلال أسبوعين فقط، قرأت عن هُدْنة مُتوتِّرة بين البحرية البريطانية وإمبراطور الصين، وزلزال مدمِّر في جنوب الولايات المتحدة، وتفشِّي وباء الكوليرا في إسبانيا، وعشرات من حالات الانتحار (ومنها محاولة انتحار زائِفة ومُثِيرة من أعلى أحد جسور نيويورك)، وأكثر من بضع طعنات، وسلسلة من عمليات السَّطْو السافِرة على البنوك في جنيف. وبالإضافة إلى كلِّ تلك الصراعات والأمراض، فقد أكَّدت «ذا ستامبول هيرالد» أيضًا أنَّ فخامة السلطان عبد الحميد الثاني يعمل على تفكيك تحالُف الإمبراطورية القائم منذ القِدَم مع الألمان. ولم يتضمَّن المقال تفاصيلَ أكثر من ذلك، رغم أنه عزا دافِعَ السلطان إلى تأثيرات «مستشارته الشابة» عليه، وهي مفاجأة بالفعل.

ولكن المفاجأة الكبرى أتت في صورة برقية وصلت في أواخر صباح أحد الأيام في ذروة الصيف، بينما كانت إلينورا تتصفَّح الإعلانات المبوَّبة في الصفحة الخلفية من «ذا ستامبول هيرالد» عندما دخل السيد كروم إلى غرفة الطعام حاملًا كَوْمَة من الخطابات والبرقيات، ووضع الرِّزْمة وفتَّاحة الخطابات على المائدة بجوارها، وانحنى خارجًا من الغرفة مُدرِكًا أنها تفضِّل أن تفتح الخطابات بنفسها. وكعادتها، تفحَّصت الرِّزْمة وفحصت كلَّ مظروف مُنفرِدًا قبل أن تشرع في استخدام الفتَّاحة. كان يوجد بين الرِّزْمة برقية من باريس وخطاب رديء نوعًا ما من ترابزون، وبضعة خطابات كانت قد أرسلَتْها لكنها أُعِيدت لسببٍ ما. وبالقرب من أسفل الرِّزْمة وجدت برقية غريبة لم تتمكَّن من فكِّ لُغْزها في بداية الأمر، كانت مُرسَلة عن طريق شركة بريطانية تُدعَى شركة المراسلات الملكية والعالمية المحدودة. وبصرف النظر عن مصدرها، فلم تكن الرسالة مكتوبة بالإنجليزية، على الأقل ليس بإنجليزية مفهومة بالنسبة إليها. حدَّقت إلينورا إلى المزيج الأُرْجواني المُشوِّش للحروف، وأومضت بعينيها، ثم بسطت الورقة على المائدة وتركت عقلها يسترخي، وركَّزت بأقصى حدٍّ ممكن، وسرعان ما توصَّلت إلى الحلِّ؛ فرغم أن البرقية مكتوبةٌ بحروف أبجدية لاتينية، فقد كانت مكتوبةً بلغتها الأم:

لقد قرأتُ خبرًا عنكِ في الجريدة. ألف مبروك. سأحضر إلى إسطنبول قريبًا، وأرغب في مقابلتكِ عندئذٍ. إن الأمور في كونستانتسا تسير بخير. خالتكِ روكساندرا.

بعد أن قرأت إلينورا البرقية مرتين، رفعت الورقة عن المائدة، ثم حدَّقت إلى السطح اللَّامع الخالي وراقبت انعكاسها يتحوَّل عبر حبيبات الخشب. خالتها روكساندرا. عضَّت على شفتها السفلى وكوَّرت البرقية إلى كرة زرقاء شاحِبة صغيرة، وفعلت ما بوسعها كي تطردها من ذهنها، ولكنها كانت تعلم أن ذلك مستحيل. فمَهْما فعلتْ، حتى إذا أحرقتها أو ابتلعتها أو مزَّقتها إرْبًا، فلن تتمكن من الخلاص من تلك الرسالة ولا ذكرى خالتها ولا معرفة كيف تخلَّى عنها الجميع بقسوة. مهما فعلت إلينورا، فسوف تظل رائحة الحبر عالقة في يديها، وسوف تُحْفَر الحروف في ذهنها بحجم كبير.

«الآنسة كوهين؟»

انتبهت إلينورا إلى صوت السيدة داماكان، ولكنها لم ترفع عينيها للنظر إليها.

«هل تشعرين بالتعب أيتها الآنسة كوهين؟»

شعرتْ برجفة تسري في أطرافها؛ لم تكن تشعر أنها بخير على الإطلاق. أغمضت عينيها وأحكمت إغلاق قبضتها على البرقية المكوَّرة، وهي تشعر بحوافها تنغرس في راحة يدها. وقَدْر ما كانت ترغب في أن تُرِي السيدة داماكان الخطاب، وأن تحصل على نصيحتها وتعاطُفها، لم تكن ترغب في إزعاج أيِّ شخص آخر بمشاكلها، فقد سبَّبت مشاكِل بالفعل للكثير من الأشخاص حتى الآن.

قالت وهي ترفع رأسها: «إنه الحرُّ، إذا لم تمانعي فأعتقد أن تناوُل كوبٍ من الماء سيَفِي بالغرض.»

سُرَّت السيدة داماكان بتنفيذ الطلب، وعندما عادت حاملةً كوبَ الماء، تناولتْه إلينورا على جرعتين كبيرتين.

ثم زفرت أنفاسها قائلةً: «أشكركِ، أشعر بتحسُّن الآن.»

وكان ذلك حقيقيًّا؛ فهي تشعر بتحسُّن بالفعل. ولكن مُشْكلة البرقية ما زالت موجودة.

قالت وهي تحرص على إخفاء قبضتها المُطبَقة بإحكام: «أرغبُ في أن أتجوَّل قليلًا سيرًا على الأقدام حول المنزل.»

رفعت السيدة داماكان الكوب الفارغ عن المائدة.

وتابعت قائلةً: «لو احتجتِ أيَّ شيء …»

«لو احتجتُ أيَّ شيء، فسوف أخبركِ بالطبع.»

وبينما كانت تستدير كي ترحل، رَمَقَتها السيدة داماكان بنظرة استسلام حزينة؛ نظرة قد يعطيها والدٌ أُمِّيٌّ لابنٍ قد وبَّخه بالفعل. لم تقصد إلينورا تلك الحدَّة، فقد كانت تحب السيدة داماكان كخالتها أو كوالدتها.

«أشكركِ يا سيدة داماكان، إنني مُضطرِبة فحسب.»

تجوَّلت إلينورا في منزل البِك بلا هدف مُحدَّد في ذهنها. سارت مُتمهِّلة حتى القاعة الكبرى يحدِّق إليها آل باركوس بنظرة مُتجهِّمة، مارَّةً بالمكتبة والمَرْسم. لم تشعر قطُّ بالوحدة إلى هذا الحدِّ من قبل، ولأول مرة فهمت ما كان يعنيه الجنرال كرزاب عندما اشتكى من «عبْء المسئولية الثقيل؛ ذلك النِّير المُرهِق الذي يسعى صفوة البشر كي يحملوه على عاتقهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤