الفصل السادس والعشرون

بسط فخامة السلطان عبد الحميد الثاني مِنْديلًا من القماش الأبيض على ساقيه، وخفض أنفه إلى طبق الدجاج المشوي البارد على المائدة أمامه. رغم أنه كان يفهم جيدًا أهمية آداب التصرف والعَظَمة الملكية والبروتوكول، فإن الاهتمام المتواصل بالشكليات أحيانًا ما يصيبه بالتعب. وأحيانًا لم يكن فخامته يرغب إلا في تناوُل طبقٍ كامل من الدجاج المشوي البارِد بيديه، وهو ما كان ينوي فعله بالضبط، فهو السلطان على أي حال. ابتسم لنفسه ابتسامةً عريضة مُستشعِرًا الرفاهية المُثلَى في تناوُل تلك الوجبة البسيطة، وفَصَلَ ساق الطائر المِسْكِين عن جسده ثم غاص بأسنانه في اللحم. كانت الدجاجة مشويَّة على طريقة إيجه، ومتبَّلة بمعجون الجوز الحُلْو، حتى وهي باردة كان جلدها مُقرمِشًا. وبعد أن فرغ عبد الحميد من الْتهام الساق استخدم كِسْرة من الخبز المسطَّح كي ينتزع اللحم من الصدر والظهر والجانب السفلي.

وعندما فرغ من الْتهام الدجاجة، ترك هيكلها مُحطَّمًا على الطبق كما لو كانت عاهِرة ملقاة على قارعة الطريق. مسح يديه ووضع المنديل فوق العظام الخالية، ثم اتَّكأ في مقعده حاملًا قَدَحًا من الشاي بالنعناع. وأطلق لنفسه العنان للاستغراق في حلم يَقَظة قصير قبل أن يشرع مرة أخرى في تناوُل المجلد الثاني من «الساعة الرملية». كان بالفعل كتابًا رائعًا مليئًا بالأحداث والعلاقات المُركَّبة والرومانسية والكبرياء والطمع. كانت ترجمةُ مثلِ هذا العمل الأدبي العظيم خدمةً لرعاياه وفخرًا للغة التركية. وكانت مفيدة أيضًا من حيث متعته الشخصية في القراءة، ولكن تلك نتيجة ثانوية، مجرد مكافأة إلهية على كرمه. رفع عبد الحميد الكتاب بين يديه مُستنِدًا على بطنه، وسرعان ما استغرق في خواطره. وبينما كان مُستغرِقًا في مشهد المعركة الرهيب بالقرب من نهاية المجلد، الذي يعلم فيه الملازم براشوف بوفاة شقيقه المزعومة؛ لم يسمع السلطان صوت الباب وهو يُفتَح.

«فخامة السلطان.»

كان ذلك الصدر الأعظم الذي دخل وهو يلوِّح بجريدة مَطْويَّة كما لو كانت سيفًا.

«ماذا هناك؟»

«فخامة السلطان، أعلم أنك طلبت ألَّا يزعجك أحد، ولكنني أعتقد أنك سوف تهتمُّ برؤية ذلك.»

اعتدل السلطان وجذب المنديل مُغطِّيًا عَظْمة دجاجة مكشوفة، ثم انحنى على المائدة كي يأخذ الجريدة من يد مستشاره الممدودة إليه.

قال وهو ينظر إلى العنوان: «عرَّافة إسطنبول؟ ما هذا؟ مقال افتتاحي يطالب باستقالتي؟ مطالَبة أخرى بالحرية الدينية؟»

«بل أسوأ كثيرًا يا فخامة السلطان، إذا لم تمانع في أن أقول ذلك.»

قرأ السلطان الفقرة الأولى التي استغرقت منه بعض الوقت؛ إذ لم يكن مُتمرِّسًا في اللغة الإنجليزية. سعل جمال الدين باشا ووضع يديه أمام جسده.

قال وهو يشير من بُعْدٍ: «لقد شعرتُ بالاستياء تحديدًا من الجزء الذي يتناول والدة فخامتك، في منتصف الفقرة الرابعة.»

فقرأ السلطان بصوت مرتفع.

«ويُشِيع البعضُ أنها مُتحالِفة مع والدة السلطان نفسه.»

اختتم نهاية الجملة بضحكة مُرتفِعة مُتقطِّعة.

«الآنسة كوهين مُتحالِفة مع أمي؟ ضد مَنْ؟ وما الهدف؟»

ولكن جمال الدين باشا لم يضحك، وعلم عبد الحميد أنه لن يتمكَّن من العودة إلى كتابه حتى يحلَّ ذلك الأمر. ارتسم على وجهه مَظْهَرٌ جدِّيٌّ، ثم طوى الجريدة ووضعها بجوار بقايا الدجاجة المُقطَّعة الأوصال.

قال: «إنني أتفهَّم بالطبع وجه الإزعاج الذي تجده في هذا المقال، فهو تطاوُل على صلاحيَّتي للحكم، علاوة على الجزء الخاص بوالدتي. ولكن ما الذي يمكننا فعله إزاء صحيفة تصْدُر في نيويورك؟»

«لقد تتبَّعْنا مؤلِّف المقال، وهو مُقِيم في فندق بيرا بالاس غرفة ٣٠٧. وإذا رغبتَ فخامتك، يمكنني استدعاؤه لمقابلةٍ في القصر، ويمكننا بثُّ الرعب في قلبه وإعطاؤه شيئًا مؤثِّرًا يكتب عنه في العدد القادم، ثم شَحْنُه في السفينة التالية المُتجِهة إلى نيويورك.»

قال السلطان: «نعم، حسنًا.»

«كما أقترح يا فخامة السلطان ألَّا تقابل الآنسة كوهين مرة أخرى في ضوء تلك الشائعات.»

أغمض السلطان عينيه وضغط جسر أنفه بين إبهامه وسبَّابته.

ثم قال: «اعْتَقدتُ أنك ستقترح ذلك. من فضلك اتْرُك الجريدة هنا، وسوف أقرؤها بتمعُّن وأعطيك المزيد من التعليمات هذا المساء.»

قال الصدر الأعظم: «ثمة معلومة أخيرة يا فخامة السلطان، إذا لم تمانع.»

«كلَّا، على الإطلاق.»

«لقد اتصلتُ بخالة الآنسة كوهين، وهي تُدعَى روكساندرا كوهين، ويبدو أنها الفرد الوحيد في العائلة الذي يمكن الاستعانة به. لم أكن أرمي إلا إلى أن أُخْبِر الخالة بمكان ابنة شقيقتها، ولكن في سياق حديثنا شعرت بأنني مُضطرٌّ إلى أن أعرض عليها مساعدة القصر في حال رغبت الآنسة كوهين في العودة إلى كونستانتسا.»

غمغم السلطان شيئًا لنفسه ونهض واقفًا من مقعده، مُشِيرًا إلى نهاية اللقاء.

«كما قلتُ، سوف أعطيك المزيد من التعليمات هذا المساء.»

قال الصدر الأعظم وهو ينحني خارجًا من الغرفة: «حسنًا يا فخامة السلطان.»

عندما أُغلِق الباب، جلس عبد الحميد مرة أخرى وفتح الجريدة. كان عليه أن يعترف بأنه مقال طريف، رغم أنه تعُوزُه الدقة في العديد من الجوانب ويمتلئ بتلميحات مُدِينة. يمكن للمرء أن يتخيَّل الشائعات التي قد تنشأ عن تلك القصة. كان يُعِيد قراءة الجزء الخاص بالآنسة كوهين ووالدته عندما اندفعت الوالدة نفسُها إلى داخل الغرفة. وأيًّا كان مَقْصِدها من الزيارة، فقد انحرفَ عن المسار برؤية المقال.

«آمل أن يُعاقَب بشدَّة مَنْ كَتَبَ ذلك الهُراء بما فيه من سَبٍّ وتعريض.»

فطوى السلطان الجريدة إلى نصفين واعتدل في جلسته.

«مساء الخير يا أمي.»

فقالت وهي تنحني: «اغْفِر لي وَقاحَتي يا فخامة السلطان، ولكن الأمر …»

قال: «لا تقلقي، فقد أخبرتُ جمال الدين باشا توًّا بأن يقْتَفي أثر ذاك المؤلِّف؛ ومن ثمَّ يعاقبه. ورأينا أن الترحيل كافٍ.»

«أظن أن الترحيل كافٍ، رغم أنه لن يُصلِح الضرر الذي أحدثه ذلك الحُثالة.»

فقال السلطان آسِفًا وهو يرتشف البقايا الدافئة في قاع قَدَح الشاي: «إذن، فالسؤال الذي ينبغي التفكير فيه الآن هو ما الإجراء الذي علينا اتخاذه للقضاء على تلك الشائعات؟»

«ماذا اقترحَ جمال الدين باشا؟»

«إنَّه لا يدري.»

«لا يدري؟»

«نعم، فقد قال إنه لا يملك رأيًا قويًّا.»

كانت تلك كذبة بالطبع، فوالدته تعلم أكثر من أيِّ شخص في العالم أن الصدر الأعظم لا يمكن أن يقول لا أدري في أيِّ موضوع، ولكنها لم تستطِع أن تُكذِّبه مباشرة، فحوَّلت الحديث إلى مسار آخر.

فقالت: «بالإضافة إلى مُعاقبة المؤلِّف والتعامل مع الشائعات، ثمة أمرُ الفتاة نفسها؛ يجب أن نفعل شيئًا بشأنها. أرى أنه لا داعِي لمعاقبتها، فلم ترتكب خطأً، ولكن حتى نتخذ قرارًا بشأنها لن يكون في مقدورنا إبطال الشائعات.»

«وماذا تقْترِحين يا أمي؟»

رفعت يدها إلى عنقها ومرَّرتْها عليه بالكامل كما لو كانت تفكِّر في هذا السؤال للمرَّة الأولى.

«في رأيي، ثمة مساران يُمكِننا اتخاذهما، كلاهما ليس مثاليًّا، ولكنهما سوف يخدمان هدَفَنا.»

قال عبد الحميد وهو يرْمُق دوَّامات أوراق الشاي والنعناع في قاع القَدَح: «نعم، استمري.»

فقالت: «المسار الأول هو الترحيل؛ أَعِدْها إلى رومانيا وانسَ أمْرَها. والمسار الثاني هو دَعْوتها للعيش هنا في القصر. يُمكِننا إيجاد غرفة لها في مكانٍ ما عند حدود جناح الحريم، وإعطاؤها دُرُوسًا في الموسيقى أو الخطِّ. ولكلا المسارين متاعِبُهما بالطبع، ولكنَّ كليهما أيضًا لهما مزاياهما.»

قال السلطان وهو يحكُّ مؤخِّرة رأسه أسفل العمامة: «رائع. لا يمكنني أن أزعم أنني قد فكَّرت في الخيار الثاني، ولكنه خيار مُثِير للاهتمام. سوف أفكِّر في الأمر.»

لاحقًا، في ذلك المساء، توقَّفت سلسلة من العربات المَلَكية في مدخل حمَّامات سمبرليتس، وترجَّل منها السلطان. كان يرتدي قُفْطانًا حَرِيريًّا باللون الأزرق الفاتح يُزيِّن حاشِيته اللونان الأحمر والفضي، وتبعه إلى الحمَّام حاشِية من الحلَّاقين وعاملات التَّدْليك وحاملي المناشِف ومجموعة متنوعة من الخدم الآخرين. كان مجمع الحمَّامات يمتلئ ستة أيام في الأسبوع بظهور العامة المُشعِرة وهم يغمغمون ويغطون أجسامهم بالصابون، ولكن في اليوم السابع كان سمبرليتس يُغلِق أبوابه في وجه العامة. ففي أيام السبت، كان عبد الحميد يستلقي وحيدًا في منتصف الغرفة الرئيسة يُشاهِد خيوط أشعة الشمس وهي تسقط عبر البخار. ورغم أن القصر به مجموعة من الحمَّامات الرائعة من أفخر التصميمات والمهارة في الصنع، فلم يكن أحدها يُضاهِي سمبرليتس.

خلع السلطان ثيابه ودخل الغرفة الرئيسة المليئة بالبخار. كان السقف يتَّخذ شكلًا ذا اثني عشر وجهًا صاعدًا بانحدار ضئيل، وينحني في مجموعات لا نهائية متكرِّرة من القِرْميد صانعًا مشهدًا مُقبَّبًا لأشعة الشمس. وكان اثنا عشر صُنْبورًا تملأ محيط الغرفة، وكلُّها تشير نحو اللوح الرخامي الضخم ذي اللون الرمادي الفاتح في المنتصف. كان كمسجد مخصَّص لجسد الإنسان، وبينما يرقد على ظهره في منتصف اللوح الرخامي كانت أشعة الشمس تسقط عبر البخار مُضْفيةً عليه شعورًا بشيء أكبر منه. وبعد مرور بضع دقائق من العُزْلة، استدعى عبد الحميد الفريق المصاحب له، الذين شرعوا في تنظيف الجسد المَلَكي وتدليكه. كان عبد الحميد يتوصَّل لأفضل أفكاره أثناء جلسات التنظيف تلك؛ فهو يتلقَّى العون في مَعِيَّة الله، وحواسه يغلِّفها البخار، وفريقٌ من الأيدي يدلِّك جسده، فكان عقله طليقًا يتجوَّل في مناطق غير مطروقة، ويسير مُتمهِّلًا بلا هدف في طريق المنطق. في هذا المكان فكَّر في طريق نقل الحجيج بالسكة الحديدية، وتوصَّل إلى حلول للكثير من الخلافات مع إدارة الدَّين العام، وقرَّر أخيرًا كيفية التعامل مع الصَّفَويين.

وفي هذا اليوم بالتحديد، كان المأزق بالطبع هو ما ينبغي فعله بشأن الآنسة كوهين. لم يكن مُقْتنِعًا تمامًا بأن ثمة إجراءً يجب أن يتخذه مع الفتاة نفسها، ولكن والدته والصدر الأعظم قد أصرَّا. وهو يعلم أنه في تلك اللحظات النادرة التي يتفق فيها كلاهما، فإن الأمر يستحق على الأقل التفكير في جميع الخيارات المتاحة. لقد صاغت والدته الأمر على نحو رائع؛ يمكنه إعادة الآنسة كوهين إلى كونستانتسا، وهو مسارٌ يبدو أن الصدر الأعظم يفضِّله، أو يمكنه دعوتها للعيش في القصر وإعطاؤها بعض دروس الموسيقى أو وظيفة في أحد الدواوين وتركها تحيا حياة مغمورة. لم يكن يرى أن جمال الدين باشا سوف يُعجَب بهذا الإجراء، فقد كان مُستاءً بالفعل من تفكُّك التحالُف الألماني، حتى إن السلطان كان يتساءل أحيانًا عما إذا كان يمكنه إجراء مهامِّه الأخرى بأمانة. ولكنه رأى أن يُرجِئ هذا السؤال ليوم آخر. أخذ السلطان نَفَسًا عميقًا وأغلق عينيه، وتتبَّع شبكة الألوان التي صنعها الضوء داخل جفنَيْه، وركَّز انتباهه بالكامل فيما سيفعل مع إلينورا كوهين. وعندما فتح عينيه مرة أخرى، أصبح الأمر واضحًا.

وهكذا وسط البخار ورائحة العنبر التي تملأ سمبرليتس، قرَّر عبد الحميد دعوة إلينورا كي تعيش في القصر وتصبح مُسْتشاره الخاص. فمن بين كلِّ الخيارات المتاحة، كان ذلك الخيار المنطقي الوحيد. وبالطبع، فإن وجودها في دهاليز السلطة سوف يشكِّل خطرًا على مستشاريه الآخرين، ولكنهم سوف يتعلمون التعايُش معها كما تعلَّموا التعايُش بعضهم مع بعض، وإذا لم يتمكَّنوا من ذلك فعليهم أن يجدوا وظيفة أخرى مناسبة، فهو السلطان ويمكنه أخذ النصيحة عمَّن يشاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤