خاتمة

في الثلاثين من أغسطس عام ١٨٨٦، وبعد تسعة أعوام وأسبوع من مولِد إلينورا كوهين، استيقظت إسطنبول على خَبَر اختفاءِ عرَّافتها. شُوهِدت الهداهد الأرجوانية البيضاء وهي تجثُم على مدخل البازار المصري، وفي أفرع شجرة زيتون بالقرب من طريق لو بيتي شون دو مورت، وهي تعبر فوق المستشفى اليوناني القديم خارج بوابة يديكول. وأَمْسَك فتًى مِقْدام من فتيان البلاط بهدهد في سلَّة الخبز الخاصة بوالدته، ولكن للأسف سرعان ما مات الطائر عقب الإمساك به. أما بقية الهداهد، فقد شُوهِدت متفرِّقة تحلِّق في اتجاهات مختلفة.

وبناءً على أوامر فخامة السلطان عبد الحميد الثاني تمَّ إيقاف جميع المواصلات المُغادِرة للمدينة وتفتيشها، ووُضِعت الشرطة في حالة استنفار، وأُعطِي مسئولو السكة الحديدية في نطاق خمسين كيلومترًا حول إسطنبول أوصافَ إلينورا، وأُجْرِيَت عملية تفتيش مُوسَّعة في البوسفور، وأُعطِيت رائحة إلينورا لمجموعة من كلاب كانجال من سيفاس. واعتُقِل كلٌّ من مُنصِف بِك والسيد كروم والسيدة داماكان للتحقيق معهم، ولكن لم يبدُ أن أحدهم لديه أي فكرة عن مكان إلينورا. لقد ذهبت. اختفت بلا أيِّ أَثَر، ولم تُخلِّف وراءها أثرًا سوى خطاب وخزانة مليئة بالثياب.

وفي نهاية الأمر أُقيمت جنازة وعادت الحياة إلى مسارها الطبيعي؛ عادت روكساندرا إلى كونستانتسا مع زوجها الجديد، وأنهى الكاهن مولر الفصل الدراسي في كلية روبرت، وحصل على منصب في ييل، وعاد مُنصِف بِك إلى تنظيم لقاءاته في مقهى أوروبا، واستمرَّ السيد كروم في إبلاغ القصر بتقارير حول أنشطة سيِّده، وغادرت السيدة داماكان إسطنبول كي تَحْيا مع ابنة شقيقتها في سميرنا. وقرَّر السلطان مرَّتين طَرْد جمال الدين باشا، ثم وافق بناءً على توصية من والدته على إعطائه فرصةً أخيرة. وافتُتِحت مدرسة جديدة للفتيات في زيتينبورو، وأُنشِئ مسجد يلديز حميدي، وأُحبِطت خطة سكة حديد برلين-بغداد، ونشر روبرت لويس ستيفنسون روايته «الحالة الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد»، ونُصِبَ تمثال الحرية في ميناء نيويورك. وسار التاريخ في مساره كما لو كانت إلينورا كوهين لم تعبره قطُّ.

وعلى مدار العقد ونصف العقد التاليين، استمرَّت الأقليات في الإمبراطورية في التذمر، وكذلك الدستوريون، ولكنَّ السلطان تمكَّن من استرضائهم جميعًا بمجموعة من الامتيازات التي أتت في وقتها المناسب. وظلَّت القوى العظمى وإدارة الدَّين العام تُحِيط بالإمبراطورية كغربان كثيرة، ولكن العلاقات الآخِذة في التحسُّن بين إسطنبول ولندن منعت حتى أكثر الأطراف المتربِّصة إصرارًا من الاقتراب. ولمَّا كان القيصر قد تعرَّض للصدِّ في البحر الأسود، فقد حوَّل عُدْوانه إلى الشرق معزِّزًا السيطرة على كامشاتكا، وزاجًّا بالسفن الحربية اليابانية في أول الحروب الروسية اليابانية الثلاث. وفي نهاية الأمر تخلَّت فيينا عن «تجربتها الاستعمارية» في البوسنة، متنازِلة عن السيطرة على المنطقة إلى حكومة انتقالية أنجلو روسية عثمانية، والتي تنازلت بدورها عن السيطرة على المنطقة إلى تحالُف السلاف الجنوبيين. ومع نهاية القرن أدَّى التوتُّر المتصاعِد بين لندن وبرلين إلى مجموعة من المناوشات البحرية المُتزايِدة في العنف في بحر الشمال، ولحُسْن الحظِّ تمَّ تفادي الحرب الكاملة. وكما يعلم دارسو التاريخ جيدًا، فقد أدَّى حلُّ الصراع في بحر الشمال في نهاية الأمر إلى توقيع معاهدة ديلاوير (المعروفة أيضًا باسم معاهدة القوى السبع)، وهي اتفاق عالمي على نزع الأسلحة البحرية اشتهر بالاسم الذي أطلقه عليه نائب الرئيس الأمريكي والأمين العام للبحرية مُستقبَلًا تيودور روزفلت «معاهدة إنهاء كلِّ المعاهدات». ودخلت قصة إلينورا كوهين طيَّ النسيان، وأصبحت مجرد حاشية للتاريخ العثماني في أواخر القرن التاسع عشر، ثم خمد ذِكْرُها تمامًا للأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤