الفصل الرابع

لم يكن مصير دروس إلينورا مسألةً مطروحة للنقاش؛ فقد أخلَّت بأهم قاعدة، بل في حقيقة الأمر القاعدة الوحيدة، ولا تكفي أي أعذار أو توسُّلات لإقناع خالتها كي تَلِين. ولكن تقديرًا لسلوكها المُطِيع في الأشهر التي أعقبت الحدثَ الذي وقع في متجر السيد سيداميت، سُمِح لإلينورا أن تقرأ بغرض الاستمتاع بمُعدَّل كتاب واحد في الشهر، وما زاد على ذلك سيفقد مُتْعته كما علَّلت خالتها. ورغم أن إلينورا اختلفت معها في هذا الرأي، فقد التهمت حِصَّتها الشهريَّة دون اعتراض، فكانت تكتفي قَدْر المستطاع بعدد محدود من الصفحات كلَّ ليلة، وقُرب نهاية الشهر تبذل قدرًا هائلًا من الوقت والطاقة في اختيار الكتاب التالي. قَضَتْ ليالي كاملة في موضع النظرة الخاوية للقطط الخزفية، متأمِّلةً محتويات المكتبة. وكانت تُولِي عناية خاصة للكتب نفسها؛ لدرجة اللون، ونسيج التجليد، وجودة الورق، وشكل الحروف على كعب الكتاب، كما لو كانت تلك الخصائص الخارجية قد تكشف إلى حدٍّ ما عن محتوى الكتاب.

ذات صباح مُمطر في نهاية شهر سبتمبر، بعد عيد ميلادها الثامن بما يزيد قليلًا على شهر، كانت إلينورا تتأمَّل المكتبة كالعادة وهي في انتظار ارتفاع درجة حرارة المكواة. بدأت بالرفِّ السفليِّ كتابًا كتابًا وهي ترفع المكواة من على الفحم كلَّ حين وآخر كي تفحص الحرارة. وبينما كانت إلينورا تكْبُر وتُثبِت كفاءتها، عُهِد إليها تدريجيًّا ببعض المهام المنزلية الأكثر صعوبةً مثل تقطيع الخضراوات والحياكة، وكان الكيُّ أحدث إضافة إلى مجموعة أَدْوارها، وسرعان ما أصبح أحد مهامِّها المُفضَّلة. كانت تحب رائحة الفحم الثقيلة، والمِقْبض الخشبي الناعم، والخطوط المتموِّجة التي تصنعها وهي تضغط على سروال والدها. كانت مسئولية كبيرة، ولكنها كانت كفؤًا لها، فلم تحرق أيًّا من ملابس والدها قطُّ، وكانت دائمًا شديدة الحرص وهي تُخرِج الفحم من المَوْقِد. وبالإضافة إلى ذلك، كان موقع الكيِّ يُتِيح لها رؤيةً ممتازة للمكتبة.

عندما ارتفعت حرارة المكواة بما يكفي، أخذت إلينورا سروالين من سراويل والدها من الخزانة وبسطَتْهما، ونضحت حَفْنة من الماء على ثَنْية الساق، ولمست سطح المكواة السفلي بأطراف أصابعها المُبلَّلة، وبدأت تعمل وهي تراقب البخار المتصاعد وهو يتلاشى. وعندما انتهت من الساق اليسرى أعادت المكواة إلى مكانها على الفحم، وألقت نظرة أخرى على المكتبة. كانت قد قضت شهر أغسطس في قراءة «جين إير»، ومعظم شهر سبتمبر في مغامرات ديفيد كوبرفيلد، وكانت شديدة الحماس بشأن توقُّعاتها لشهر أكتوبر. تفحَّصت الرفَّ العلويَّ محاوِلةً استيعاب الخيارات المتاحة لها. كانت قد قرأت «عائلة روبنسون السويسرية» في شهر أبريل، وكان ثمة مجلد من القصص القصيرة لنيكولاي جوجول التي بدت مثيرة للاهتمام، ولكنها قصيرة جدًّا لا تستوعب شهرًا بأكمله، ثم وقعت عيناها على رواية بعنوان «تريسترام شاندي». رفعت المكواةَ عن الفحم، ومسَّ غطاء من البخار جبهتها مُطلِقًا صوت الأزيز. كانت المكواة أكثرَ من ساخنة، فنضحت المياه على ثَنْية الساق اليمنى، وهمَّت بالضغط مرة أخرى عندما نظرت لأعلى ثانيةً نحو الرفِّ. «تريسترام شاندي»، كان عنوانًا جذَّابًا، وبالطبع كتابًا كبيرًا بما يكفي كي يستوعب الشهر بأكمله.

نحَّت إلينورا المكواةَ جانبًا، ووقفت على أطراف أصابعها وجذبت «تريسترام شاندي» من على الرفِّ العلوي. وبعد أن قرأت بضع صفحات أدركت أنها ليست الرواية المناسبة التي تبحث عنها، على الأقل ليس لهذا الشهر. وبينما كانت تمدُّ يدها مرة أخرى كي تضعها في مكانها لاحظت كتابًا آخر يجذب الأنظار في المنتصف، وهو مُجلَّد باللون الأزرق الداكن ذو كتابة باللون الفضيِّ على كعبه. استندت براحة يدها إلى الحائط ورفعت قدمها إلى الرفِّ الثاني، ودفعت نفسها إلى مستوى القطط الخزفية، ومن هذا الموقع استطاعت أن ترى أن الكتاب جزءٌ من مجموعة أكبر، فهو المجلد الرابع من «الساعة الرملية» كما يُوضِّح الكعب. وخلف مجموعة دوستويفسكي كانت المجلدات السبعة الأخرى، المجموعة الكاملة تقبع في صمتٍ مُنتظِرةً أن يكتشفها أحد. جذبت إلينورا المجلد الرابع، وفتحته على مُؤشِّر خشبيٍّ رقيق في منتصف الفصل الثاني عشر، وأخذت تقرأ:

في صباح اليوم التالي خرج الملازم بروشوف — يخالجه شعور طفيف بالندم — إلى حاميته العسكرية. وبينما كان يسير نحو الترام تعثَّر عَقِباه بالحصى مُصدِرَين صوتًا عاليًا، ونظر خلفه أكثر من مرة كي يرمق زوجته الجديدة عند المدخل بإعجاب. وكان أقصى مبتغاه وقتها أن يستدير عائدًا ويُلقِي بنفسه بين ذراعَيْها، وأن يقضي معها ذلك الصباح الربيعي الممل، وأن يقضي معها بقيَّة اليوم. ولكن وا أسفاه، فالحياة ليست كلُّها رقصًا وقُبلات؛ فثمة أوراق كي تُوقَّع، وقضايا يُختلَف حولها، ومنتجات يجب أن تُصنَع، وحروب يجب أن تُخاض. إنه أمر مُؤسِف، هكذا كان يرى. لكنه حقيقي؛ فستكون دائمًا ثمة حروب كي تُخاض.

رفعت إلينورا رأسها عن الكتاب عندما استنشقت رائحةَ الصوف المُحترِق، فرأت أن المكواة قد سقطت وأحرقت سروال والدِها. حدَّقت إلى العلامة التي صنعتها المكواة، والتي كانت بقعةً في ثنية السروال بحجم حبَّة الفراولة زال عنها اللون، فتجمَّعت الدموع في عينَيْها. كانت روكساندرا على حقٍّ؛ فهي مُشتَّتة الذهن، غارقة في أفكارها الخاصة. لا شكَّ أن الأمر لن يمرَّ بسلام، وربما لن يُسمَح لإلينورا بممارسة الكيِّ مرةً أخرى، وعلى الأرجح سوف تُعاقَب بطُرُق أخرى أيضًا؛ فقد تُحرَم من تناول العشاء، وقد تُحرَم من امتيازات القراءة التي تتمتَّع بها. كلُّ هذا من أجل خطأٍ صغير، من أجل علامة لن يُلاحِظَها والدها. حتى إنْ لاحظها، فلن يهتمَّ. ألم يكن رأيه هو ما يهمُّ؟ فهو ليس سروال روكساندرا.

بهذا المنطق، وقلبها يخفق كقرع الطبل، انتهت إلينورا من كيِّ السروال وطيِّه، ووضعت سروالًا جديدًا على طاولة الكيِّ. وبعد لحظة سمعت صوت الباب الخلفيِّ يُفتَح، ودخلت روكساندرا حاملةً حزمة من البصل الأخضر في يدها. وبدا كما لو كانت ستتفوَّه بشيءٍ ما عن البصل، ثم توقَّفت وتشمَّمت الرائحة في اتجاه طاولة الكيِّ.

«ما تلك الرائحة؟»

تشمَّمت إلينورا الرائحة في الاتجاهين وقلَّصت أنفها.

«أيُّ رائحة؟»

اقتربت إلينورا بوجهها من الطاولة.

«تبدو كرائحة الصوف المُحترِق.»

تشمَّمت إلينورا السروال الجديد والهواء فوقه والمكواةَ نفسها وهي تغمض عينيها كما لو كانت تحاول تحديد مصدر الرائحة.

«أعتقد أنها قد تكون المكواة.»

دسَّت روكساندرا أنفها في نفس المكان ثلاث مرات، وبدت على وشك إصدار الحكم نفسه عندما لمحت المجلد الرابع من «الساعة الرملية» مفتوحًا على مقعد بجوار طاولة الكيِّ.

«الساعة الرملية!» قالتها كما لو كانت تقابل صديقًا قديمًا في بلد غريب. «أين وجدتِ هذا الكتاب؟»

أشارت إلينورا إلى الرفِّ العلوي من المكتبة.

ثم قالت: «خلف تريسترام شاندي، المُجلَّد الأخضر الضخم. توجد مجموعة كاملة هناك في الخلف.»

التقطت روكساندرا الكتاب من غلافه الخلفيِّ وقلبته على الغلاف الأمامي، وبينما كانت تقلِّب الورق تجعَّد كما لو كان قطعةً من العجين الرقيق.

«كان هذا كتابي المُفضَّل عندما كنتُ أصغر سنًّا.»

ومرَّرت أُصْبعها على الغلاف الداخلي.

«أين وجدتِ هذا الكتاب؟»

أشارت إلينورا مرة أخرى إلى الرفِّ العلوي من المكتبة.

«خلف تريسترام شاندي.»

وقفت روكساندرا صامتةً تتأمَّل غلاف الكتاب فترةً طويلة قبل أن تتجرَّأ إلينورا على طرح سؤال.

«هل تلك الكتب ملكك؟»

فقالت روكساندرا: «إنها ملكٌ لوالدتك، لقد أهداها والدي تلك المجموعة في عيد ميلادها الرابع عشر، فقد كانت دائمًا طفلته الحبيبة أو نَبْتَته الصغيرة كما كان يُطلِق عليها. وعلى أي حال، لا بدَّ أنها قد أخذتها معها عندما تزوَّجت يعقوب.»

وضعت روكساندرا البصل على المَقْعَد الذي كان عليه الكتاب، وقلبته مرة أخرى على الغلاف الأمامي.

وقالت وهي تقرأ اسم شقيقتها قبل الزواج بصوت عالٍ: «ليئة ماندلسون.»

سَرَتْ رَجْفةٌ في جسد إلينورا عندما سمعت روكساندرا وهي تتلفَّظ باسم والدتها. لم يكن هذا الاسم يُنطَق إلَّا نادرًا؛ ومِن ثمَّ أصبح وقْعُه شبه مقدَّس كاسم الرب الذي لا يُنطَق إلا في أقدس الأيام تقديسًا، وفي أقدس الحجرات، على لسان الكاهن الأكبر في المعبد في أقدس المدن وهي القدس. كان اسم والدتها في ذهنها يَصلُح تعويذةً أو سحرًا ذا قدرة خفِيَّة. وقفت إلينورا صامتةً خلف طاولة الكيِّ حتى رحلت روكساندرا، وعندما أصبحت وحدها مرة أخرى جلست حاملةً الكتاب وفتحته على الغلاف الأمامي الذي كان رسمًا محفورًا لدرعٍ وسيفين كُتِب تحته بخطٍّ طفولي: «من مكتبة ليئة مندلسون.» افترضت أنه لا يمكن أن يكون إلا لوالدتها، فارتجفت وأغلقت الكتاب.

بدأت إلينورا تقرأ المُجلَّد الأول من «الساعة الرملية» يوم الثلاثاء التالي الموافق الأول من أكتوبر. ومثل كلِّ مَنْ حظي بمتعة قراءة تلك الرواية الساحرة ذات المجلدات السبعة، التي تحكي عن عائلة مرموقة في بوخارست ينحدر بها الحال، استغرقت إلينورا سريعًا في تيار الأحداث والحفلات والحرب والانتقام والمأساة والعلاقات الغرامية المُتعدِّدة. ولأنها كانت يافعة، فقد تأثَّرت بشدةٍ بالرواية. كان للعديد من الكتب الأخرى تأثيرٌ كبير على خيالها، ولكن لم يؤثِّر فيها كتابٌ كما فعل «الساعة الرملية». كانت إلينورا تحدِّق إلى الصفحة، وتشعر أحيانًا كما لو كانت فتاةً ريفيَّة مُتعلِّقة بنوافذ المنزل الكبير، آملةً أن تلقي نظرةً خاطفة على الحفل. وبدا الأمر كما لو كانت قد اكتشفت بابًا يقود إلى عالم آخر، عالم مليء بالأحداث والتقلُّبات المفاجئة العنيفة للثروة والطمع والتلوُّن والرغبة. وكان يخطر في بالها أحيانًا أنها تودُّ لو كانت بارونة؛ تودُّ لو كانت قد نشأت في بوخارست وقضت أُمْسياتها في صالون أدبيٍّ. وخلال شهر أكتوبر ومعظم شهر نوفمبر، ظلَّت إلينورا طوال الوقت تقرأ الكتاب باستغراق. كانت تقرأ قبل الإفطار، وبعد العشاء، وفي أيِّ وقت يمكنها اختلاسه على مدار اليوم. كانت تنتهز الوقت بين كلِّ غُرْزة وأخرى من غُرَز الحياكة، فتَسْتَرق النظر إلى بضع جُمَل، وتختلس فقرات كاملة في أوقات تقشير البطاطس. كانت شديدة الانغماس في الكتاب، شديدة التعلُّق بوفاة والدَيِ الآنسة هولفرت وخيانة النبيل أولاف وفُرَص الآنسة يونسكو المتضائلة في الزواج، حتى إنها لم تلحظ القرارات التي تُتخَذ بشأنها.

كانت قد سمعت مصادفةً أجزاءً من حديث عن رحلة، وكثيرًا ما رفعت عينَيْها عن الصفحة على ذكر إسطنبول، ولكن رغم ذلك لم تكن إلينورا مُستعِدَّة على الإطلاق للخبر الذي سمعته في ذلك المساء من أواخر شهر نوفمبر. كانت تجلس على مائدة العشاء حاملةً المُجلَّد الثالث، وكانت قد وصلت إلى المشهد الشهير حيث يجمع الجنرال كرزاب مَنْ تبقَّى من أفراد عائلته كي يوبِّخهم ويوزِّع الثروة التي اكتشف وجودها خلف خزانة والدته، بينما توقَّف والدها عند الباب الأمامي راكبًا عربة مُحمَّلة بأربعة صناديق أمتعة. وعندما انتهى هو والسائق من تفريغ الصناديق في ركن غرفة المعيشة، نظرت إليه إلينورا بفضول.

«ما كلُّ هذه الصناديق يا بابا؟»

«إنها من أجل رحلتي.»

وضعت الكتاب مَقلُوبًا على مائدة العشاء، ونظر أحدهما إلى الآخر في حَيْرة مُتبادَلة.

فقال لها: «ألا تذكرين؟ إنني ذاهب إلى إسطنبول الشهر القادم.»

«إسطنبول؟»

لم تكن إسطنبول بالنسبة إليها مجرد مكان يمكنك أن تُقْدِم على زيارته فجأةً، بل كانت مدينةً للأساطير، مدينة كبرى تعرَّضت للدمار تتلألأ عند حافة الصحراء، العاصمة المفقودة لحضارة عتيقة، تحجَّرت على مدى قرون بسبب الإهمال، أو دُفِنت في مكانٍ ما في قاع المحيط.

فأوضح قائلًا: «سوف أبيع السجَّاد، وقد أشتري بعضه. فالعمل لم يكن يَسِير على ما يرام في الأعوام الأخيرة، وأعتقد أنني سأغدو أفضل حالًا في إسطنبول.»

«وكم ستغيب؟»

فأجاب: «إنها ليست برحلة طويلة، ربما تستغرق أسبوعًا أو أسبوعًا ونصفًا حسب أحوال الطقس، ولكنني سوف أحتاج إلى الإقامة هناك أسبوعين على الأقل، أو ربما أكثر من ذلك. ولحسن الحظِّ، فالشخص الذي أعرفه هناك كريم مِضياف.»

كيف عساها أنْ تعلِّق على تلك الأخبار؟ عندما كانت إلينورا تبذل أقصى جهدها لاستيعاب الفكرة، ظهرت روكساندرا من المطبخ حاملةً وعاءً من حَساء الدجاج ووزَّعت ثلاثة أطباق. وحدَّقت إلينورا إلى طبقها وقلَّبته بملعقتها. كانت شرائحَ من الجزر والكرفس والبصل ودوامات من البقدونس المُجفَّف تطفو في دوائر بطيئة تحت طبقة من الزيت. تركت إلينورا قطعةً من صدر الدجاج يميل لونُها بين الوردي والأبيض تطفو في ملعقتها، وحاولت أن تتخيَّل شهرًا دون والدها؛ شهرًا تقضيه وحيدة مع روكساندرا. وقد أصابها مجرد التفكير في ذلك بالغثيان.

فاندفعت قائلة: «بابا، أرجوك لا ترحل.»

وضع والدها مِلْعقته ونظر إليها وهو يَلُوك في فمه قطعةً من الغضروف، فدفنت وجهها بين ذراعَيْها. تمنَّت لو كان لديها ما تقوله كي تتمكَّن من إقناعه بالبقاء، ولكنها كانت تعلم أن هذا لن يحدث؛ فقد حُسِم الأمر بالفعل.

قال: «سوف أفتقدك يا إيلي.» واتَّجه إلى الناحية الأخرى من المائدة ووضع يده على ظهرها قائلًا: «لكنني لن أغيب أكثر من شهر.»

ردَّدت روكساندرا: «إنه مجرد شهر، ولدينا الكثير كي نفعله في المنزل في تلك الأثناء. سوف يعود قبل أن تُدْرِكي أنه قد سافر بالفعل.»

نظرت إلينورا إلى والدها وخالتها روكساندرا، وشعرت كما لو كان عالَمُها بأَسْرِه يَتدَاعى حولها، كما لو كان يتصدَّع منذ أسابيع ولكنها لم تَطَّلع على الموقف إلا الآن. ازْدَرَدَتْ لُعابها بقوة، وعضَّت على شفتها السفلى. إن الشهر فترة طويلة للغاية، ثلاثون يومًا أو ربما واحد وثلاثون، وهي رحلة خَطِرة؛ فثمة لصوص وحيوانات مفترسة وانهيارات صخرية وقُطَّاع طرق. وماذا لو حدث له مكروه؟ تجمَّع الأسى في حَلْقها كمَوْجة مالحة، لكنها أدركت أن البكاء لن يُجْدِي، بل سيزيد الأمرَ سوءًا. وبدلًا من الاستسلام للحزن، طردت إلينورا هذا الشعور من رأسها. تذكَّرت الكلمات التي تفوَّهت بها الآنسة هولفرت إلى ابن عمِّها بعد وفاة والدَيْها المأساويَّة: «لِمَ لا أقرِّر لنفسي كيف أشعر؟ فهي في نهاية الأمر مشاعري أنا. وإذا رغبتُ في أن أبكي في وقت لاحق فسوف أفعل، ولكنني لا أرغب في ذلك اليوم.»

بعد تناوُل العشاء، استأذنت إلينورا في الانصراف، وذهبت مباشرةً إلى الفراش. رَقَدت على ظهرها وغطاؤها مَطويٌّ تحت عَقِبَيْها، وأنصتت إلى أصوات المنزل وهي تخفت. راقبت الظلال تتحرَّك على السقف وهي تقارن بين صوت تنفُّسها وبين صليل حيوانات الليل. إنه عالم مُختلِف، عالم الليل، قاع البئر، فتحة قد لا نخرج منها أبدًا. وفي لحظةٍ بَدَت حُلُمًا مرَّ ظبيٌ بجوار نافذتها، ورَمَقَها بعينَيْن تعكسان بعض الضوء المُختبِئ كما لو كان سلسلةً من المنارات تتضاعف على الشاطئ، ثم اختفى مرة أخرى في الظلام.

عندما استيقظت إلينورا في صباح اليوم التالي كانت تعلم جيدًا ما عليها أن تفعله، لم يكن لديها خيارٌ آخر. فاستمرَّت في حياتها كالمعتاد على مدار الأسابيع القليلة التالية. كانت تقرأ وتقشِّر الخضراوات وتمسح الأرض، بل تستمع أيضًا إلى بعض القصص التي يرويها والدها، ولكنها في تلك الأثناء كانت تخطِّط لتفاصيل الهَرَب. قرَّرت أنَّ أهم شيء هو تحضير حقيبةٍ من المؤن كي تُقِيم أَوَدَها في الأيام الأولى حتى تتمكَّن من إيجاد وسيلة للحصول على الطعام. واستخدمت للحقيبة غطاءَ وسادةٍ قديمًا، مصنوعًا من قماش قطنيٍّ باللون الأزرق الفاتح، يزيِّنه صفٌّ من الورود الصفراء في الأعلى. وكان الحصول على المؤن أيسر كثيرًا مما تخيَّلت، فقد احتفظتْ ببقايا الشموع وأَخْفَت قِطَعًا من الجبن غير المأكول في جيبها، وكلما أتتها الفرصة اختلست كمِّيات قليلة من أغراضٍ غير ظاهرة من حجرة المؤن. وكان عليها أن تُجرِي تلك الترتيبات في سرِّية تامة؛ فسوف يفسد الأمر برُمَّته لو شعر والدها أو روكساندرا للحظةٍ بما تنوي فعله.

في اليوم السابق لرحيل يعقوب كانت أكثر مرة تعرَّضتْ فيها للخطر ونَجَت بأعجوبة. كان عصرًا صافيًا، وهو أول يوم صافٍ منذ أسابيع، وأعلنت روكساندرا أنها ستخرج كي تنفِّض السجاد. راقبت إلينورا خالتها وهي تحمل ما بدا عددًا لا نهائيًّا من السجاجيد واحدةً تلو الأخرى إلى الحديقة، فأخذت مَقْعدًا واتجهت نحو حجرة المؤن، وصعدت عليه كي تُلْقي نظرةً على الأغراض: اللحم المدخن وقوالب متراصَّة من الجبن وجميع أنواع المخللات والمربى وفاكهة مجفَّفة وفطيرة كبيرة باللحم المفروم. كان ثمة طعام يكفيها لمدة شهر. وفي نهاية الأمر، استقرَّت إلينورا على برطمان من مربى العليق وقطعة من السمك المُقدَّد المملَّح. كانت قد أخذت البرطمان تحت ذراعها بالفعل، وكانت تحاول الوصول إلى السمك عندما شعرت بإضاءة المدخل تُحجَب.

«ظننتُ أنكِ قد تختلسين القليل من المربى؟»

فزعت إلينورا وأطاحت بالبرطمان على الأرض، ونظرت هي وروكساندرا إلى الزجاج المُتهشِّم ومربى العليق وهي تسيل ببطء كالحيوان الرخوي الذي دهسته الأقدام.

«بينما كنتُ مشغولة في الحديقة خَطَر لكِ أن تصنعي لنفسك شطيرة من المربى، أليس كذلك؟ كان هذا هو آخر برطمان من مربى العليق، هل تعلمين ذلك؟»

بينما كانت روكساندرا تتحدَّث، نزلت إلينورا عن المقعد وخفضت رأسها في استسلام. لقد ضُبِطتْ مُتلبِّسة، ولكن روكساندرا لم تكن لديها فكرة عما تنوي فعله بالمربى، والقَصدُ هو المهم.

قالت: «أنا آسفة أيتها الخالة روكساندرا.» وتسلَّلت ابتسامة إلى شفتَيْها، ولكنها كَتَمَتْها وتابعت قائلة: «كنتُ جائعة.»

«حسنًا، سوف تظلِّين جائعة حتى موعد العشاء. والآن نظِّفي تلك الفوضى، ويُفضَّل ألَّا أراكِ تتسكَّعين في أرجاء حجرة المؤن مرةً أخرى.»

في تلك الليلة أعدَّت روكساندرا وجبةَ الخريف المفضَّلة عند يعقوب: دجاج بصلصة البرقوق، وحَساء القرع، وفطيرة التفاح. ورغم أن إلينورا كانت تتضوَّر جوعًا، فإنها لم تتمكَّن من تناول الطعام من شدة الاضطراب، فخلال أقلَّ من اثنتي عشرة ساعة سوف تختبئ في السفينة المُرتحِلة إلى إسطنبول. اضطربت مَعِدتها للفكرة، وظلَّت تستمع إلى والدها وروكساندرا وهما يناقشان التفاصيل الأخيرة لرحلته، ومتى تأتي سيارة الأجرة لتُقِلَّه، وموعد رحيل الباخرة، وما إذا كان قماش فيينا المُطرَّز قد وصل، ومَنْ سيكون رفيقه في الرحلة، وهكذا من أمور. وفي تلك الأثناء، كانت تتسابق في عقل إلينورا صُوَر إسطنبول وتفاصيل خُطَّتها وكلُّ المشاكل التي قد تحدث.

بعد العَشاء الذي لم تتناول منه شيئًا تقريبًا، استأذنت في الانصراف، متعلِّلةً بأنها ليست على ما يرام. وأخبرها والدها الذي كان مشغولًا بتعبئة حقائبه في اللَّحظة الأخيرة بأنه سوف يطمئن عليها عندما ينتهي، وكالعادة كان صادقًا في حديثه.

قال وهو يسترق النظر إلى الغرفة: «إيلي، هل أنتِ مستيقظة؟»

فانقلبت على جانبها وأغمضت عينَيْها. ورغم أنها لم تكن قد نامت، فقد رأت أنه من الأفضل أن تتظاهر بذلك. كان والدها يرتدي حُلَّته الرمادية الصوفيَّة المعتادة، ولكنها بدت أكثر تجعُّدًا من المعتاد. وكان شاربه مُهذَّبًا، وثمة نبرة من التوجُّس في صوته.

قال وهو يضع قطعةً من الفطيرة على خزانة الملابس: «لقد أحضرتُ لكِ هذه في حال شعورك بالجوع، فقد لاحظتُ أنكِ لم تتناولي طعامك في العشاء.»

كان بوسع إلينورا أن تسمع صوت مَعِدتها وهي تُقرقِر جوعًا حول رئتَيْها، كما لو كانت بركانًا نافد الصبر.

«شكرًا يا بابا.»

فقال وهو يداعب جبهتها: «إني راحل غدًا، وخطر لي أن أودِّعكِ الآن كي لا أوقظكِ في الصباح.»

نظرت إلينورا إلى والدها وهو ينحني على فراشها. كان الضوء القادم من الباب المفتوح يصنع هالةً حول رأسه، وبدا للحظة كما لو كان على وشك أن يتفوَّه بشيء، ولكنه لم يفعل.

«سوف أفتقدكِ يا إيلي.»

«وأنا أيضًا يا بابا.»

انسالت دمعة من رموش عينَيْه كقطرات المطر التي تتجمَّع على حافة ورقة الشجر، ثم نهض راحلًا.

«تُصبِحين على خير.»

لم تشعر إلينورا بالارتياح تجاه ما تُضمِره من خداع والدها، ولكنها كانت تدرك أن ذلك هو الأفضل؛ فعندما تَكْشِف عن وجودها على مَتْن الباخرة المُتَّجِهة إلى إسطنبول، عندما تصبح العودة مستحيلة، سوف يضمُّها بين ذراعَيْه ويشكرها. وكانت تعلم أنه سيفعل ذلك. وإذا كان ثمة درسٌ مُستفاد من «الساعة الرملية»، فهو أن تَتَّبعَ ما يُملِيه عليك قلبُك دائمًا، ﻓ «لا حكيم أعظم من أوامر قلبك.» هكذا صاغتها الآنسة يونسكو. فكَّرتْ للحظة فيما إذا كان قول الآنسة يونسكو يتعارض مع قول الآنسة هولفرت، وقرَّرت أن الإجابة بالنفي، بل إن كلَيْهما يدفع القارئ باتجاه النهاية نفسها؛ أن يغوص في أعماق قلبه ويحدِّد الأفضل ويفعله بلا ندم.

وبعد ساعات عديدة قضتها إلينورا قلقةً متوجِّسة، وعندما تأكَّدت أن والدها وروكساندرا قد استغرقا في النوم، تسلَّلت من فراشها وارتدت ثياب السفر في صمت، واتجهت مباشرةً إلى صفِّ صناديق الأمتعة بجوار الباب الأمامي. وبضغطة واحدة فتحت الصندوق الأقرب إليها ورفعت الغطاء، وكما تخيَّلت وجدته محشوًّا بالسجَّاد، فلفَّت ذراعَيْها حول سجادة أرجوانية ضخمة صُنِعت في هيريكي، واستندت إلى أسفل الصندوق ثم طوَّحت بها إلى الأرض بكلِّ ثقلها. تحرَّكت بأسرع وأهدأ ما يمكنها، ساحبةً السجادة عبر غرفة المعيشة إلى غرفة نومها، وجذبتها بكلِّ قوتها إلى فراشها، ودسَّتها تحت الأغطية، ثم أخذت خطوة للخلف وتأمَّلت المشهد. لم يكن مثاليًّا، ولكنه يجب أن يُجدِي نفعًا.

وعندما أوشكت على الرحيل، توقَّفت إلينورا كي تُلقِي نظرةً أخيرة على غرفتها؛ خزانة ملابسها، فراشها، والمجلد الخامس من «الساعة الرملية» على المنضدة. فكَّرت للحظة في أن تأخذه معها، ولكن لم يكن ثمة مكان لأمتعة زائدة، وبدلًا من ذلك فتحت الكتاب وأزالت المؤشِّر الخشبي الذي وجدته في المجلد الرابع. وعندئذٍ، تأهَّبتْ للرحيل. حملت حقيبة المؤن على ظهرها، وتسلَّلت إلى غرفة المعيشة، ودسَّت نفسها في صندوق الأمتعة القديم البالي إلى حدٍّ ما، والمُمتلِئ بالسجَّاد الذي ينوي والدها بيعه عند وصوله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤