الفصل السادس

حدَّقت إلينورا إلى السواد، حيث يحيط بها من كلا الجانبين ظلامٌ مُخْمليٌّ شائك، وقد ثنت ركبتَيْها وعقدت ذراعَيْها أمام صدرها دون قدرة على تحريكهما، ولم تستطع حتى أن تميِّز جدران الصندوق الذي كانت محبوسةً داخله. وفي مكان ما في أعماق السفينة، ارتفع صوت طقطقة المحرِّك البخاري وصريره، ثم أصبح ضجيجًا مرتفعًا، ثم هَدَأ مرَّة أخرى كما لو كان عملاقًا مُتملمِلًا يغطُّ أثناء نومه في كَهْفه. وكان يعلو شفتَيْها مذاقُ أحماض المَعِدة وتراب الفحم. وتنامى ألمٌ كالوخز بالإبر أسفل عَظْم كَتِفها، وارتعشت عضلات فَخِذها في قلق كما لو كانت فراشاتٍ محبوسة تحت الجلد. شعرت إلينورا وهي تحرِّك أصابعها بألم جديد ينتشر من عند الكتف، فأغلقت عينَيْها من الألم وازْدَرَدَتْ لُعابَها ذا المذاق المُر. لم تكن قد تناولت شيئًا منذ ظهر اليوم السابق، وكانت المؤن التي أحضرتها معها بعيدةً عن متناول يدها خلف كاحِلَيْها المثنيَّيْن. لو أنها تمكَّنت من الحركة وتغيير وضعها إلى وضع جديد، فسوف تتمكَّن من تخفيف الألم في ظهرها، وقد تجد نفسها على مسافة ذراع من المؤن. لوت ذراعها اليسرى للخارج جاذبةً إياها من تحت قفصها الصدري وهي تزفِر، ومالت بكَتِفها في المساحة الخالية المُتبقِّية. ولكن من هذا الوضع الجديد، كان أقصى ما تستطيع القيام به هو ترنُّح يائس إلى وضْعٍ أكثر مشقَّة. وفي نهاية الأمر، كان من حُسْن حظِّها أن تمكَّنت من العودة إلى وَضْع الجنين الأصلي.

لم يكن ذلك هو تخيُّلها عن الرحلة على الإطلاق، رغم أنها لم تستطع أن تتذكَّر ماذا كان تخيُّلها بالضبط. فرغم أنها قد فكَّرت في التفاصيل الدقيقة المختلفة لخُطَّتها، ورغم أنها قد راجعت قائمتها مرارًا وتَكْرارًا، لم تتخيَّل إلينورا بالفعل معنى أن يَحْبِس المرءُ نفسَه داخل صندوق أَمْتِعة. وعندما كان ذلك الأمر يخطر في بالها، كانت تتخيَّل أن الوقت سيمرُّ سريعًا، وأنها على غرار الأجزاء المُملَّة في الروايات يمكنها أن تتجاوز الرحلة سريعًا وتصل إلى إسطنبول وهي لا تُعانِي سوى الإرهاق. ولكنَّ الأمر لم يكن هكذا بالطبع، فالوقت يمر ببُطْء شديد يجرُّ أثقاله كما لو كان حصانَ نقْلٍ مُنهَكًا أُجْبِر على السفر أيامًا طويلة فوق طاقته. وإذا كانت حساباتها صحيحة، فقد مكثت في الصندوق ما يزيد قليلًا على سبع ساعات. ليست الساعات السبع بالوقت الطويل على مدار حياة المرء، ولكن تلك الساعات السبع مرَّت كما لو كانت سبع سنوات.

في بادئ الأمر تغلَّب عليها الخوف. كانت قلِقةً من أن يُكتشَف أمرها، أو أن ينتابها السعال أو العطس، أو تبتلع ريقها فيكتشف والدها أو روكساندرا وجودها. ولكن لا بدَّ أنها قد استغرقت في النوم في نهاية الأمر؛ لأن أوَّل ما تتذكَّره بعد ذلك هو شَحْن الصندوق في حقيبة الأمتعة لإحدى سيارات الأجرة واهتزازها أثناء هبوط التلِّ. وبعد أن انتظرت فترة طويلة فيما افترضت أنه أحد طوابير التفتيش الجمركي، فُتِحت حقيبة الأمتعة، وتسلَّل بصيصٌ من الضوء خلال الصَّدْع الموجود في الغطاء، واعتقدت أنها سمعت صوت والدها. تزاحم حَشْدٌ صاخِب من الرجال حول السيارة، وانتقل الصندوق من يدٍ ليد كما لو كان كيسًا من الرمل. ولا بدَّ أن أمتعة والدها كانت آخِر ما وُضِع على مَتْن السفينة، فبعد تحميلها سرعان ما أُغلِق بَدَنُ السفينة بسلاسل حديدية أصدرت صريرًا، ودار المحرِّك، ونفثت السفينة دخانها منطلقةً بعيدًا عن المَرْفأ. وفي تلك اللحظة فقط، سمحت إلينورا لنفسها أن تُطلِق تنهيدة وتتأمَّل موقفها. كانت خُطَّتها قد نجحت نجاحًا تامًّا، ولكن ها هي محبوسة، وألمٌ حادٌّ يسري في ظهرها، والجوع ينهشها كالحُمَم البركانية.

صاحت وصوتها يتحشرج في حَلْقها: «مرحبًا، هل يسمعني أحد؟»

لم يكن الأمر ذا جدوى، فلم يكن أحدٌ هناك، حتى لو كان هناك أحد فلن يسمعها مع هدير المحرِّك. رَكَلَت قاعدة الصندوق بقوة؛ لشعورها بالإحباط من ناحية وأملًا في أن تجد طريقًا للخروج من ناحية أخرى. ورغم أن الخشب ظلَّ صُلبًا، سقط شيء من جيب إلينورا الأمامي أثناء تلك الحركة المفاجئة السريعة، فحرَّرت ذراعها من أسفلها ومرَّت بإبهامها على ذلك الشيء. كان مؤشِّر الكتاب، وهو أحد المتعلقات الشخصية القليلة التي أخذتها والدتُها معها من بوخارست إلى كونستانتسا، أو على الأقل أحد المتعلقات القليلة التي تبقَّت. كان قطعةً رقيقة من خشب البلوط منقوشةً عليها أشكالٌ سداسيَّة الأضلاع متداخِلة، وبدا كما لو كان به ضوء داخليٌّ يخترق الظلام. تخيَّلت إلينورا والدتها وهي شاردة الذهن تلفُّ خصلات شعرها حول المؤشِّر وهي تعيد قراءة إحدى الفقرات المفضَّلة لديها من «الساعة الرملية». وبينما كانت إلينورا نفسُها تلفُّ خصلات شعرها بين إبهامها وسبَّابتها، تذكَّرت ذلك المشهد الذي هربت فيه السيدة هولفرت المسنَّة من سجن عمِّها عن طريق كَسْر أصفادها بواسطة دبوس شعر أطْبَقَت عليه بين أسنانها.

كان الأمر يستحق المحاولة، حتى وإن كان ذلك لأنه لا توجد خيارات أخرى لديها. ثَنَتْ مِعْصَمها للداخل كما لو كانت دجاجة، وضغطت ذقنها إلى صدرها وأطبقت على أسنانها، وبإطباق أسنانها وحافة لسانها تمكَّنت من تحريك المؤشِّر بمهارة مُذهِلة، وبعد بضع دقائق تمكَّنت من إدخاله عبر الصَّدْع بين غطاء الصندوق وجسمه. قطَّبت عينَيْها إمعانًا في التركيز، ومرَّرت المؤشِّر للأمام وللخلف بطول المجرى حتى وصل إلى آليَّة الإغلاق، وبضغطة واحدة انزاح الغطاء.

احتفظت إلينورا بالمؤشر بين أسنانها، وجلست تُغمض عينَيْها وتفتحهما في غرفة الأمتعة المُظلِمة التي تكْتسِي بتراب الفحم. وعلى وهج التَّنُّور القادم من بعيد استطاعت أن ترى الشكل الخارجيَّ لصندوقها الخاص وحَفْنة من الصناديق الأخرى يتغيَّر لونها إلى الأسود الحُبيبي. استطاعت أن تميِّز الأشكال لا الألوان، والروائح لا مصدرها. وببعض المجهود خرجت إلى الأرض المعدنية الدافئة، ومدَّت ذراعَيْها فوق رأسها، وانحنت كي تلمس أصابع قدمَيْها. دلَّكت موضع الألم لديها بمَفصِل إبهامها، وحرَّكت رقبتها بحركة دائرية وهي ترتعش. وعندما تمدَّدت للدرجة القصوى جلست على صندوق قريب، وأخرجت حقيبة المؤن الخاصة بها وأخذت تتناول الطعام، ملقيةً بكِسْرات الخبز وقِطَع الجبن في فمها كما لو كانت حيوانًا جائعًا.

وبينما بدأت عيناها تألف الظلام الحالِك لبدن السفينة، رأت أنها محاطة بحشد من الأمتعة، وصفوف متراصَّة من الصناديق وأقفاص الشحن والمنقولات التي لا يُضِيئُها سوى وهج التَّنُّور. عاينت المنظر الخَرِب، وبحثت عن إشارة تدلُّها على الصناديق التي يختبئ فيها السردين أو الرقائق أو الكَرَز المُجفَّف أو الجَوْز أو اللحم المفروم، فقد التهمت ما يزيد على نصف المؤن التي أحضرتها في أكلة واحدة، وما زالت مَعِدتها تطلب المزيد. وبالطبع لن يمانع أحدٌ ممن كُتِبت أسماؤهم على الأمتعة في إعطاء حِصَّة من طعامهم لطفلة تتضوَّر جوعًا. اتجهت إلينورا من صندوق إلى آخر، مستخدمةً المؤشر كما لو كان أداةً لفتح الأقفال، فاتحةً الصناديق التي تمكَّنت من فتحها ومبتعِدةً عن تلك التي لم تتمكن من فَتْحها، منقِّبةً وسط الملابس والكتب والحُلِيِّ والعطور بحثًا عن طعام. وجدت مجموعةً من الأدوات المكتبية الفاخرة المُزيَّنة بالنقوش، والكئوس البلورية، وآلة ساعة ضخمة، وحقيبة مُتخمَة بالخطابات الغرامية، ولكنها لم تجد ما تأكله.

وأخيرًا، وجدت صفًّا من خمسة صناديق خشبية بمَعْزِل عن بقيَّة الأمتعة في ركن بعيد من السفينة، كلٌّ منها بطول إلينورا ذاتها، ويحمل خِتمًا ذهبيًّا بتوقيع الخطَّاط. ورغم فخامة تلك الصناديق، أو ربما بسبب فخامتها، لم تكن تحمل أقفالًا، بل كان التحصين الوحيد بها مِزلاجًا ومِسمارًا خشبيَّيْنِ. كان الصندوق الأول الذي فتحته مليئًا بالكتب، وخاصَّةً الروايات، التي كُتِبت بالفرنسية والألمانية والإنجليزية. ألقت نظرةً عاجلة على عناوين الكتب، ثم انتقلت إلى الصندوق التالي. قد تُثِير الكتب اهتمامها لاحقًا، ولكنها الآن بحاجة إلى الطعام. كان الصندوق الثاني مُكدَّسًا بالكافيار والسمك المُدخَّن والرنجة ومئات العلب الحمراء والذهبية التي تحمل كلٌّ منها بضع كلمات بالروسية أو صورة لسمكة. تلفَّتَتْ إلينورا حولها، ثم سحبت إحدى العُلَب من الصفِّ العلوي وفتحت غطاءها كاشفةً عن طبقة من الكرات البرتقالية اللامعة. لمست بيض السمك بأصبعها الخنصر بحذرٍ ثم تذوَّقته، فتقلَّص أنفها اشمئزازًا؛ لم يكن هذا المذاق اللاذع المالِح هو ما تأمل فيه، ولكنه كان طعامًا على أي حال. وفي أقلِّ من ساعة، كانت إلينورا قد الْتَهَمت ثلاث عُلَب من الكافيار، مُغترِفةً حَفْنة تِلْو الأخرى حتى ثَمِلَت من البطارخ.

افترشت في تلك الليلة النسيج السميك لسجادة إيرانية فاخرة ولِفافة مُخْمليَّة. ألقت رأسها على زاوية مطوية من السجادة وجذبت المُخْمل حول أكتافها، ثم أغلقت عينَيْها وشرد ذهنها. كان عقلها يموج بالخوف والشك، ولكن بقدر خوفها وبقدر شكِّها في مدى حكمة قرارها بالهرب، كانت إلينورا متعبة للغاية. وبينما هدأت قرقرة الجوع واستقر التَّنُّور على صوت دقَّات ثابتة، انزلق ذهنها إلى محيط النوم الدافئ المالِح؛ مرتفعات وأمواج بيضاء، وطيور النورس تحلِّق فوق الرءوس، وكلَّ حين وآخر تلوح اليابسة من بعيد. وبينما كان التيار يجرفها بعيدًا، تحوَّل البحر إلى طريق ريفي؛ بقرة وحيدة تجْتَرُّ الأعشاب، والكوخ الحجري الذي يظهر من حين لآخر، ومجموعة من أشجار السَّرْو، وخلف ذلك كلِّه رُقَعٌ شاسعة من أراضي المَزارع التي يتراوح لونها بين الأصفر والأخضر. وسرعان ما تحوَّلت الأكواخ إلى قرًى، والقرى إلى مدن، واستطالت المدن وأصبحت ذات شوارع عريضة وقِباب بلَّوْريَّة وحدائق ليلية تعبَق برائحة ماء الورد والياسمين.

في باطن السفينة فقدت إلينورا شعورها بالوقت، فكانت حركة الأمواج وصوت الطقطقة المتقطِّع للتَّنُّور هما العلامتين الوحيدتين على مرور الوقت. كانت تنام عندما تشعر بالتعب، وتتناول الطعام عندما تشعر بالجوع، وتقضي حاجتها في زاوية خالية من السفينة كما لو كانت حيوانًا برِّيًّا محبوسًا في طابق أرضي. وبمرور الوقت اعتادت عيناها ضوء التَّنُّور الخافِت القاتِم، ورغم أنها كانت تصيبها نوبات كثيرة من السعال فإنها اعتادت غبار الفحم. وأكثر من مرة جذبت كتابًا من صندوق السلطان وحاولت أن تقرأ، ولكن الكلمات كانت تتداخل بعضها في بعض وتتلاشى عبر الصفحة، مُتيحةً لها أن تقرأ فقرة واحدة فحسب قبل أن يتمكَّن منها صداع مرهق. ولمَّا كانت القراءة مُستحِيلة، ولا تُوجَد شمس، ولا توجد مهام تؤدِّيها، فقد شغلت إلينورا نفسها بتفحُّص أمتعة المسافرين، متذكرةً كتبها المفضَّلة، ومتسائلةً مثل ديفيد كوبرفيلد عمَّا إذا كانت ستصبح بطلة حياتها الخاصة أم أن تلك المكانة سيحتلها شخصٌ آخر.

لم تكن إلينورا تعلم أن السفينة مُخطَّط لها التوقُّف مرتين قبل إسطنبول، وهكذا فعندما أبطأ المحرِّك لأول مرة وارتفع صوت النفير على سطح السفينة، ارتجف قلْبُها. هل مرَّ أسبوع بالفعل؟ وكي تُؤمِّن نفسها أخفت فِراشَها واندفعت خلف صناديق السلطان. صدر صوتُ طقطقة وصرير، ثم أخذ بابُ بَدَن السفينة يُفتَح. كان الوقت منتصف النهار والشمس تخترق الصَّدْع الذي يزداد اتساعًا، والضوء ينصبُّ في كهفها كما لو كان وابلًا من السهام المُشتعِلة. كتمت عطسةً بينما شرع ثلاثة من عمال السفن في شَحْن الصناديق في مقدِّمة بَدَن السفينة وتفريغها. وبينما كانوا يُحضِرون آخِرَ قطعة من الأمتعة للشحن، تشمَّم أحدهم الهواء وصاح متفوِّهًا ببعض الكلمات، فردَّ عليه زميله ضاحكًا. ورغم أنها لم تفهم ما يقولونه، فقد جعل وقْعُ أصواتهم الدم يرتجف في عروقها.

ومع إغلاق الباب الكبير وتدفُّق المياه للخارج وقعقعة السلاسل الحديدية على نحْوٍ غير مُنتظِم، رَفْرف أحد هداهد إلينورا مُتجِهًا إلى بَدَن السفينة. لم تلمح الطائر إلا للحظة واحدة بطرف عينها، ولكن لم يكن لديها شكٌّ في أنه أحد أفراد سِرْبها. حلَّق الطائر في دائرة حول بدن السفينة مرة واحدة، ثم رحل مع إغلاق الباب بالضبط. وعندما تحرَّكت السفينة مرة أخرى في عُرْض البحر، وجدت إلينورا أن الطائر قد ترك لها هديَّةً؛ برتقالة وُضِعت في منتصف صندوقها بالضبط. كانت برتقالة كاملة بالساق والأوراق، وتألَّقت في راحة يدها كما لو كانت شمسًا صغيرة. ظلَّت تحملها فترةً طويلة، تاركةً دِفْأها يتدفَّق في أطرافها. ولما كانت تحمل ثمرة الفاكهة في يديها، أدركت أن سِرْبها ما زال معها؛ ترك أعشاشه في كونستانتسا كي يتبعها عبر البحر، وكي يحرسها أثناء رحلتها. وعندما شعرت إلينورا بالجوع، قشَّرت البرتقالة والتهمتها قطعةً قطعة، مُتلذِّذةً بانفجار كلِّ جزء غزير العُصَارة بين لسانها وسقف حَلْقها.

تلك كانت حياتها في بدن السفينة. ورغم أن معظم احتياجاتها الأساسية كانت تُلبَّى، فإنها لم تكن طريقة لطيفة للعيش، وكثيرًا ما تمكَّن منها شعورٌ بالحنين الجارف إلى منزلها ووالدها، بل حتى إلى روكساندرا. وفي تلك اللحظات، لم تكن ترغب إلا في أن تُفصِح عن وجودها وتتحسَّس الطريق إلى السطح، وترتمي بين ذراعَيْ والدها. ولكنها كانت تعلم أنها لو أفصحت عن وجودها مبكِّرًا فسوف تفشل خُطَّتها، وسوف يتخلص منها والدها في ميناء التوقُّف التالي ويرسل برقيةً إلى روكساندرا، ولن تُسفِر كلُّ استعداداتها ومعاناتها إلا عن بضعة أيام من التأخير. وكان السؤال إذن كيف تعلم أن التوقيت مُناسِب، فلم يكن لديها ساعة أو تقويم أو معرفة واضحة لمسار الرحلة، لم يكن لديها سوى حَدْسها كي يدلَّها، وشعور ضبابيٍّ بموقعها في العالم.

كانت الليلةُ الأخيرة في رحلتهما، ليلةَ ما قبل الوصول إلى إسطنبول، عندما قرَّرت إلينورا أن تُفصِح عن وجودها. ولم تكن تعلم بالطبع أن السفينة سوف تدخل مصبَّ البوسفور في ذلك الصباح، ولكنها شعرت بتغيير طفيف في شدَّة الأمواج وانخفاضٍ في قوة التَّنُّور، وبأن الوقت قد حان. وبعد أسبوع طويل قضته في بدن السفينة، كانت مُتسِخة، وكانت رئتاها مليئتَيْن بالفحم، وقد بدأت تشعر بألم في بطنها. تخيَّلت هيئتها، وخطر لها أن تحاول الاغتسال، وغَسْل وجهها بطريقة ما، أو ابتكار رداءٍ جديد من أحد أثواب النسيج، ولكن لم تكن ثمة مياه في بدن السفينة، وأيُّ رداء يمكنها ابتكاره سوف يُفْسِد المزيد من بضاعة والدها. عليها أن تقدِّم نفسها كما هي.

مشَّطت شعرها للخلف، وعدَّلت ثوبها، ورتَّبت المكان حول الصندوق، ثم شقَّت طريقها عبر المنظر المألوف للأمتعة متجهةً إلى الباب الحديدي الكبير الذي يؤدِّي إلى خارج بدن السفينة. وقفت إلينورا أمام الباب، ومرَّرت أصابعها على سطحه المعدني الذي تشبه تجاويفه البثور في الباب المؤدِّي إلى علية السيدة براشوف. خلف هذا الباب يقبع والدها، وكلُّ ألوان الطعام ووسائل الراحة في النوم، والحساء الساخن، والوسائد المصنوعة من الريش، وهواء البحر النقي. سَرَت رجفة من القلق في أناملها، وتوقَّفت كي تنظِّم أنفاسها. لقد حانت اللحظة. كانت أكثر خوفًا مما توقَّعت؛ خائفةً من ردِّ فعل والدها، ومن أن يُلقَى القبض عليها قبل أن تجده، ومن أيِّ كَمٍّ من العواقب المُخِيفة التي لا يمكنها حتى أن تتخيَّلها. ولكن لم يكن لديها خيارٌ آخر. فلا مَخْرجَ آخر. أخذت نَفَسًا عميقًا كي تهدأ، وأمسكت بمِقْبض الباب بكلتا يدَيْها، ثم دفعته لِتجد نفسها في ممرٍّ رطب خالٍ يُعَدُّ معتمًا وفقًا للمعايير الطبيعية رغم أنه ساطع الإضاءة مقارنةً بظلام بدن السفينة.

فَرَكت عينَيْها وسارت في الممر بضعة أمتار حتى وصلت إلى غرفة مليئة بالأزرار والروافع والعجلات التي تُطلِق كلُّها أصوات صفير وطقطقةً كما لو كانت مقهًى مزدحمًا. وبينما وقفت إلينورا كي تختار الباب الذي ستمر عَبْره من بين الأبواب الثلاثة المتاحة، سَمِعت مجموعةً من الكلمات، التي لم تتمكَّن من رؤية أصحابها، تَعْبر واضحة وسريعة كالملائكة. استمعت إلى الأصوات وهي تقترب أكثر فأكثر حتى أصبحت أمام باب الغرفة تمامًا.

ارتفع صوت رجل وهو يفتح الباب: «لا بدَّ أنه هنا في مكان ما.»

واستطاعت من موقعها خلف كُتْلة من الأنابيب أن تلمح رجلين؛ أحدهما أكثر ضخامة من الآخر، وكان شارباهما وعمامتاهما تعكس ظلًّا مُنحنِيًا على الباب المفتوح خلفهما.

«أين قال إنه موجود؟»

وعندما تحدَّث الرجل الثاني، أدركت إلينورا أنهما يتحدثان بالتركية. لم تكن قد سمعت تلك اللغة إلا في الدروس التي لقَّنها إياها والدُها، ولكن بقليل من التركيز استطاعت أن تفهم جيدًا.

«قال إنه هنا.»

«أين؟»

«لو كنت أعلم ما كنَّا لنبحث عنه الآن.»

أخذ الرجل الأول خطوة صغيرة للخلف ورفع المصباح بحيث أضاء الغرفة.

«هل رأيت ذلك؟»

«كلا.»

ساد صمت طويل، وشعرت إلينورا بقلبها يخفق بين ضلوعها، وكان إحساس القبض عليها له مذاق المعدن في حَلْقِها.

قال الرجل الأول وهو يستدير راحلًا: «لا أرى شيئًا؛ فالمكان شديد الظلام هنا.»

عندما خرجت إلينورا من خلف الأنابيب كانت تَرْتَجف، فلو كان هذان الرجلان قد لاحظاها فلا أحد يعلم المتاعب التي كانت ستحدث لها. واستغرقت بضع لحظات كي تنتظم ضربات قلبها، ثم عدَّت حتى الرقم ثلاثين وتقدَّمت عبر الباب الذي خرج منه الرجلان، مُفترِضةً أنهما سوف يعودان إلى الجزء الأساسي من السفينة. مرَّت عبر غابة من الأنابيب التي تقْطُر ماءً والمصابيح التي لطَّخها سواد الفحم، حتى وجدت نفسها أخيرًا في مَمَرٍّ أكثر إضاءةً. وكان هذا المَمَرُّ الجديد مُبطَّنًا بالسجاد والألواح الخشبية، وبه صفٌّ من الأبواب، كلٌّ منها تزيِّنه نافذةٌ دائرية ولوحة نحاسية تحمل رقمًا. كانت الأبواب من ١٦ إلى ٣٠ مُغلَقة جميعها، ولكنها بينما كانت تشق طريقها أسفل الممر استطاعت أن تسمع سلسلة من الأصوات الخافتة المصاحِبة للنوم؛ الهمهمة والغطيط والتقلُّب في الفراش، تلك الأصوات التي تميِّز رحلاتِنا المُتقطِّعة في عالم الأحلام. وفي نهاية المَمَرِّ، تسلَّقت دَرَجًا معدنيًّا وخرجت منه إلى مدخل المطعم.

رفعت خُصْلة من شعرها خلف أذنها وألقت نظرةً على الغرفة الخالية. كانت الموائد مطويَّةً ومُكدَّسةً في انتظار دخول السفينة إلى المَرْفأ، ومجموعة من أُصُص النباتات مُكدَّسة في الزاوية، والبيانو يقف مُستنِدًا إلى الحائط كما لو كان تلميذًا مُشاغِبًا. سال لُعاب إلينورا لدى تخيُّل الطعام. وأملًا في أن تقودها تلك الأبواب الجلديَّة المزدوجة عند البيانو إلى المطبخ، عبرت إلى الناحية الأخرى من الغرفة كي تستطلع الأمر. وعندما اقتربت، استطاعت أن تسمع أصواتًا قادمة من استراحة التدخين كما تؤكِّد اللوحة النحاسية المُعلَّقة على الحائط. وعندما اقتربت أكثر، شعرت بآثار دخان غَلْيُون والدها. ربما يكون غَلْيُون أيِّ شخص آخر في حقيقة الأمر، ولكن إلينورا لم تكن في موقف يسمح لها بالمُراوغة. نحَّت تردُّدَها جانبًا واقتحمت الأبواب، وها هو كما تخيَّلت. كان والدها يرتدي السترة نفسها التي كان يرتديها ليلة رحيله، جالسًا في مَقْعد ضيِّق يحتسي زجاجة من النبيذ بصحبة رَجُل مُتورِّد البشرة يرتدي حُلَّةً زرقاء داكنة.

«بابا!»

في فترة الصمت الطويلة التي أعْقَبت ذلك، لاحظت إلينورا انعكاسها في المرآة المجاوِرة لرأس والدها. كان ثوبُها مُلطَّخًا بالطعام، وقد تمزَّق جَوْرَباها عند الركبتين، ووجهها مُتسِخ بغبار الفحم، وقد تدلَّت خُصْلة من الشعر الأشعث على عينيها. بَدَت مثل كيوبيد (إله الحب عند الإغريق) وقد عاد إلى منزله عقب معركة، مَهْزُومًا مسحوبًا عَبْر الأوحال وذقنه للأرض وجناحاه متلاصقان بالطين. فتحت فمها كي تشرح الأمر، ولكن كلَّ ما تدرَّبت عليه وكلَّ تبريراتها ودوافعها ذهبت أدراج الرياح. وبدلًا من ذلك، اندفعت عبر الغرفة وألقت بنفسها بين ذراعَيْ والدها، مُتسبِّبة في سقوط زجاجته وانسكاب الخمر على السجادة.

قال وصوته يُفصِح عن شعوره بالدهشة وقَدْرٍ لا يُستهان به من الاستياء: «إيلي، ماذا تفعلين هنا بحق السماء؟!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤