الفصل الثامن

زُيِّن سقف غرفة المقابلات الخاصة بالسلطان بتصميم مذهَّب باللونين القرمزي والأخضر، وهو شبكة متداخِلة من الدوائر تُذكِّره دائمًا بذيل طاووس يُبسَط في ضوء الشمس. وبالمقارنة ببقية القصر، كان المكان عبارة عن غرفة صغيرة، لا يزيد حجمها عن مسكن كبير الأطباء أو مطبخ صانع الحلوى، ومع ذلك كانت هذه الغرفة تلعب دورًا محوريًّا في شئون الإمبراطورية؛ ففيها يستمع السلطان إلى الشكاوى والطلبات التي يحضرها رعاياه، وفيها يُطالع التفاصيل اليومية لمُلْكه ويتواصل معها. جلس جلالة السلطان عبد الحميد الثاني على أريكته يُحِيط به من كلا الجانبين زوجٌ من حرَّاس القصر الصُّمِّ واضعًا ساقًا على الأخرى، منحنيًا إلى الأمام كي يستمع إلى سَنجَق بِك — حاكِم — نوفي بازار وهو يعرض طلبه. يبدو أن أحد جامعي الضرائب الريفيين قد هُوجِم بشدة من قِبل جمهرة من مُلَّاك الأراضي وشُنِق في ميدان المدينة. وفي ضوء تلك الأحداث، سعى السَّنْجَق بِك في طلب المساعدة العسكرية من القصر؛ حيث أكَّد أن كَتِيبةً أو كتيبتين تكفيان لحفظ النظام.

كان من المُستبعَد أن تُكلَّف القوات الملكية بفضِّ نزاع بعيدٍ كهذا لا علاقة لها به، ولكن لمَّا كان السَّنجَق بك قد قطع كلَّ تلك المسافة من نوفي بازار كي يطلب هذا الطلب بنفسه، بدا صوابًا أن يدعه يقدِّم الْتِماسه. ولمَّا كان الأمر يتطلَّب اتخاذ إجراء فوري، ظلَّ الضابط العسكري السابق ذو الوجه الشبيه بالماعز يستعرض الموقف في غرفة المقابلات، متوقِّفًا بين الحين والآخر كي يحكَّ مؤخِّرة رأسه أو يمسح آثار اللعاب عن شفتيه. وقبل أن يُكلَّف السَّنجَق بِك بإدارة نوفي بازار، كان قد خدم ثلاثين عامًا في الفِرقة الثالثة من الجيش العثماني؛ حيث اشتُهر بالوحشية في المقام الأول؛ إذ يُشاع — على سبيل المثال — أنه قد أمر بارتكاب مَذْبحة لمدينة بلغارية بأكملها لرفضها إِيواء قوَّاته. لم يكن هذا السلوك بالنسبة إلى السلطان عبد الحميد يستحقُّ المكافأة، ولكن الجنرال سيبا أوغلو قد رشَّح السَّنجَق بِك تحديدًا للمنصب ووافق الصدر الأعظم. ولكن للأسف، أثبت السَّنجق بك عدم كفاءته حتى الآن في الإدارة، فلم يكن قادرًا على أي شيء حتى على قَمْع تمرُّد يُعَدُّ الأبسط من نوعه بسبب الضرائب. إنه موقف آخر كان الأفضل للسلطان فيه أن يستمع إلى صوت عقله فقط، مرةً أخرى يَخِيب أَمَلُه في مستشاريه.

اتَّكأ عبد الحميد على مِرفقه للخلف وتفحَّص كُمَّ قُفْطانه، وفَرَك النسيج بين إبهامه وأصبعه الوسطى مُستشْعِرًا الخيوط الحريرية خيطًا خيطًا. ثمة العديد من الأمور الأكثر أهميةً التي يمكنه هو وجمال الدين باشا أن يهتمَّا بها. فبينما كانا يستمعان إلى طَلَب السَّنجق بِك المُزعِج على نحو مُتزايِد، كانت الحرب بين الصرب وبلغاريا تتصاعد، وكان اليهود والبولنديون يتعرَّضون للتهجير الجماعي من بروسيا. فلِمَ يشغل نفسه بتمرُّد بشأن الضريبة في مكان ناءٍ؟ كان أكثر قلقًا بشأن الخليَّة الوطنية اليونانية التي اكتشفها جمال الدين باشا في سالونيك، أو التذمُّر المتصاعِد للدستوريين الذين يَدْعُون إلى تأسيس برلمان جديد. ولأنه ظلَّ ذلك الوحش في ثوب رجل الإدارة، ترك السلطان لعقله العنان متذكِّرًا العام الماضي عندما كان ينتقد كعادته مؤتمرَ القوى العظمى المُثِير للغضب الذي عُقِد في برلين. وبناءً على طلبٍ شخصيٍّ من بيسمارك، أرسل عبد الحميد فريقًا من أفضل الدبلوماسيين لديه لمساعدة سعد الله بِك في برلين، ولكن اتضح أن رجاله ليسوا سوى أحجار على رقعة الشطرنج، مجرد أصوات إضافية تدعم موقف بروسيا وتسانده. فبينما كانت القوى العظمى تقسِّم غنائم القارة، كان مبعوثوه يدخِّنون ويحتسون شراب «أكوافيت» الكحولي مع ممثلي السويد والنرويج. لقد أصبحت الإمبراطورية العثمانية العظيمة سابقًا، التي كانت حدودها تمتدُّ من بوابات فيينا حتى شواطئ الخليج الفارسي، والتي كانت موضع احترامٍ ومهابة في جميع أنحاء العالم؛ أمَّةً من الدرجة الثانية من الصيادين والسُّكارى.

قال جمال الدين باشا مقاطِعًا طَلَب السَّنجق بِك أخيرًا: «كما تعلم، فقد طلبنا سابقًا بعض القوات لتسهيل جَمْع الضرائب في بلاد الشام وأجزاءٍ من البوسنة، ولكنك سوف تتفهَّم بالطبع أن قواتنا محدودة على نحْوٍ لا يمكِّننا من اتِّباع تلك السياسة في كلِّ مرة.»

«بالطبع.»

تابع الصدر الأعظم قائلًا وهو يهذِّب أطراف شاربه: «في عالم مثاليٍّ، نودُّ لو نتمكَّن من تقديم العون في كلِّ مأزق يُعرَض علينا، ونودُّ لو نتمكَّن من إرسال المساعدة حيثما تكون مطلوبة، ولكن كما تعلم لسنا في عالم مثاليٍّ.»

«نعم، على العكس.»

توقَّف جمال الدين باشا لحظات كي يدوِّن بضع كلمات في مفكِّرته.

«آمل ألَّا تفسِّر عدم استجابتنا بأنه تجاهُل.»

«على الإطلاق.»

«لا يعني ذلك أنَّنا لا نهتمُّ بالأحداث الأخيرة في نوفي بازار أو بجمع الضرائب، بل على العكس، فإنَّنا نهتمُّ بكليهما، وإذا توافرت الظروف المثاليَّة فلا شكَّ أننا سوف نرسل القوات التي طلبتها في الحال، ولكن في ضوء الموارد المحدودة علينا أن نرتِّب الأولويات.»

قال السَّنجق بِك: «بالطبع، شكرًا يا جمال الدين باشا للسماح لي بالتعبير عن مشاكلي.»

«على الرُّحْب والسَّعة.»

فتابع السَّنجق بِك وهو ينحني بشدة للسلطان: «وشكرًا لك يا فخامة السلطان. يشرِّفني أنْ تعطَّفتم ووافقتم على مقابلة شخصي المتواضِع.»

فأجاب السلطان: «إنني حريص دائمًا على تحسين أحوال رعاياي، وخاصةً أولئك الذين في الأقاليم النائية.»

«نعم يا فخامة السلطان. يمكنكم أن تثقوا تمامًا في أن مُواطني نوفي بازار يتقدَّمون بخطًى سريعة.»

فقال السلطان: «يسعدني سماع ذلك، ورجاءً أن تعذُرنا لمقاطعة مقابلتك.»

وهنا قاد أحد حرَّاس القصر سَنجق بِك نوفي بازار، خارج غرفة المقابلات وأغلق الباب خلفه.

عدَّل السلطان جِلسته على الأريكة قبل أن يلتفت إلى الصدر الأعظم.

«أخبِرْني، ما الأعمال الأخرى التي علينا القيام بها قبل تناوُل الغداء؟»

«لقد تسلَّمنا خطابًا آخر من فون سيمنز.»

فأطلق عبد الحميد نَفْخةً من أنفه وأغمض عينيه. لم يكن من مركزه التعامُل باستمرار مع هؤلاء المَصْرِفيين وأصحاب المصانع، ولكنه يدرك أن سكك حديد بغداد لا يمكن أن تُبنَى دون مساندتهم.

«وكيف تقترح أن نجيب عليه؟»

«أقترح أن نَدْعُوه إلى القصر، ويمكنكم الحديث معه بإيجاز في الأمور العامة، وتُترَك التفاصيل لرؤساء الخزانة وإدارة الدَّين العام.»

مرَّر السلطان إبهامه على حافة الوسادة.

ثم تساءل: «وهل إدارة الدَّين العام مَعْنيَّة بالأمر؟»

«أعتقد أنهم سوف يرغبون في ذلك.»

كزَّ عبد الحميد على شفته وهزَّ رأسه، فإدارة الدَّين العام تُعَد انتهاكًا صريحًا لسلطته، ولكن لم يكن ثمة ما بوسعه أن يفعله للإطاحة بها؛ فالإمبراطورية غارقة في الديون، وتلك هي الشروط التي توصَّلوا إليها لسداد الديون، أو في حقيقة الأمر تلك هي الشروط التي فُرضِت عليهم.

استأنف جمال الدين باشا حديثه قائلًا: «إذا كنا نريد تطوير المناطق النائية، فعلينا أن نسهِّل تدفُّق البضائع بانتظام.»

قال السلطان بحدَّة: «إنني على دراية بالحُجَج التي تؤيِّد بناء السكة الحديدية، كما أُدْرِك رغبة برلين في الربط بين إسطنبول وبغداد، تمامًا كما أُدْرِك مَيْلَك نحو القيصر. ولكنني أطلب منك ألَّا تقاطِع أفكاري.»

«معذرةً يا فخامة السلطان، أعتذر لجلالتك.»

«يمكنك أن ترسل الدعوة. قُمْ بذلك في الحال.»

فقال الصدر الأعظم وهو يهبُّ واقفًا: «حسنًا، سأقوم بذلك يا جلالة السلطان.»

رغم أن السلطان كان يعلم أنَّه لا داعي للتمسُّك بالشكليات مع مستشاريه، فقد شعر بالاضطراب إلى حدٍّ ما بعد هذا الحوار، وداهمتْه الرغبة في أن يَخرج ليستنشق بعض الهواء النقي. هزَّ رأسه مُحَييًا حرَّاس القصر على جانبَي أريكته، وخرج من الباب الخلفي لغرفة المقابلات، وأخذ منظاره الميداني الجديد من مكتبة أحمد الثالث، ثم تسلَّل بين حوائط جناح الخدم إلى حديقة التُّوليب. كان صباحًا مشرقًا على غير العادة في ذلك الوقت من العام، ورغم أن أزهار التُّوليب لم تكن قد تفتَّحت بعْدُ، فقد أضفت أشعَّة الشمس الثابتة الدفْء على الأرض كما لو كانت عاشِقًا قديمًا. كان الهواء يلفح وجهه بشدة وهو يتجوَّل بين أزهار التُّوليب النائمة وحول ظُلَّة بغداد وصولًا إلى حديقة الفيل. إنَّ الحاكِم الناجح بحاجة قبل كلِّ شيء إلى أن يظلَّ على مسافة مناسبة من الأحداث التي تقع داخل مُلْكِه، فإذا ترك نفسه فريسةً للقلق بشأن تفاصيل كلِّ معركة وكلِّ مشروع للبِنْية التَّحْتية، فلن يتمكَّن من التركيز أبدًا على القرارات المهمَّة. وللأسف، فإن الصدر الأعظم قد أثبت مرة تِلْو الأخرى أنه عاجز عن إدراك ذلك المفهوم.

توقَّف عبد الحميد كي يسوِّي قُفْطانه، وجلس على المقعد أسفل أَيْكَته المُفضَّلة من شجر القراصيا. لم يكن ذلك هو الوقت المناسب من العام لمشاهدة الطيور، ولكن مَنْ يدري؟ فتح العلبة المُبطَّنة بالحرير الأزرق، وأخرج منظاره الميداني وتفحَّص طول مضيق البوسفور. كان هذا المنظار الميداني الجديد الذي صنعه إميل بوش نفسه بناءً على أمر خاصٍّ، أكثرَ وضوحًا بمراحل من كلِّ ما استخدمه من قبل، ولكن لم يكن ثمة الكثير مما يمكن رؤيته؛ بضعة نوارس تحوم حول المَجْثم، وبرج جالاتا المُزوَّد بفتحات للرمي، ونسر ذو ذيل أبيض يجثُم على مِئْذنة مسجد علي باشا. كان السلطان على وشك أن يضع المنظار عندما رأى شيئًا غريبًا؛ سِرْبًا من الهداهد على ما يبدو، ذا ألوان مميَّزة من الأرجواني والأبيض، يجتمع حول منزل بالقرب من بيشكطاش بير. راقبه السلطان عدَّة دقائق، متعجِّبًا مما جذب السِّرْب إلى هذا المَجْثم تحديدًا. ففضلًا عن اللونين الأصفر والأبيض الزاهيَيْنِ للواجهة، لم يستطع أن يجد سببًا يجذب السِّرْب إلى هذا المنزل، خاصَّةً في ذلك الوقت من العام.

عندما أعاد السلطان مِنْظاره إلى عُلْبته، فُوجِئ بزوج من الهداهد الأرجوانية البيضاء نفسِها جاثم على فروع الشجرة القائمة فوقه. كانا يتحدَّثان ويتناولان فُتات البراعم البيضاء الوحيدة التي خُدِعَت في دفْء الأيام الماضية ظنًّا منها أن الربيع قد حلَّ. حدَّق عبد الحميد إلى أعلى ناظِرًا إلى الطائريْنِ، وتتَّبع رَفْرَفتهما من غُصْن إلى آخر. كان مُولَعًا بطائر الهدهد منذ رحلاته الأولى لمشاهدة الطيور عندما كان أميرًا شابًّا؛ فهو طائرٌ ملكيٌّ رائع يتمتَّع بالعظمة والأناقة اللازِمتَيْن للملوك، ولكنه في الوقت نفسه أحد أنواع الطيور الأكثر وعيًا، لا يتحرَّج من الاغتسال في التراب أو بناء عُشِّه من الفضلات. إنه يذكر أن الهدهد هو ما كان حلقة الوصل بين ملكة سبأ والملك سليمان، والهدهد أيضًا هو مَا أقنع الطيور الأخرى بالانطلاق بحثًا عن سيمرج العظيم (في الأسطورة الفارسية، وهو وحش ضخم مجنَّح على شكل طائر يعيش في الماء ويُعتقَد أنه يملك حكمة كل العصور)، وذلك في قصيدة فريد الدين العطَّار الشهيرة. لم يكن عبد الحميد بارعًا فيما يتعلَّق بالأسماء اللاتينية، ولكنَّه كان دومًا يتذكَّر الاسم اللاتيني للهدهد: أوبوبا إيبوبس.

«أوبوبا إيبوبس.»

وبينما كان يتلفَّظ بالاسم بصوت عالٍ، وثب الطائر الأصغر إلى الغصن الذي يعلو رأسه مباشرةً، وحدَّق الاثنان أحدهما إلى الآخر لبرهة قبل أن يرفرف الهدهد لأسفل ويحطَّ بجواره على المقعد. أمال الطائر رأسه كما لو كان يترقَّب شيئًا أو يتساءل عن شيء، ثم وثب مقترِبًا منه. لم يكن عبد الحميد واثقًا ممَّا يريده الهدهد، ولكنه اقتطف بُرْعمًا من الفرع الذي يعلوه وقدَّمه له. وَثَب الطائر مرَّتين ثم حمل البُرْعم في فمه، كما لو كان هذا ما ينتظره بالضبط، ثم حلَّق بعيدًا عبر المضيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤