الفصل التاسع

قضت إلينورا ووالدها بقية الأيام في إسطنبول على غرار اليوم الأول، فكلَّ صباحٍ بعد تناول إفطارٍ مكوَّن من الخبز والعسل والزيتون وقِطَع الجبن الأبيض، كانا يستقلَّان عربة مُنصِف بِك، ويركبان عربة القطار المُعلَّق صاعدَيْنِ التلَّ إلى شارع لو جراند رو دو بيرا؛ حيث يصرُّ البِك على شراء المزيد من الهدايا لإلينورا وكذلك ليعقوب. وكانا في بداية الأمر يشعران بعدم الارتياح تجاه ذلك الموقف؛ بالنسبة إلى إلينورا فإنها لم تتلقَّ هدايا قطُّ من أيِّ شخص، وبالنسبة إلى والدها فلم يكن يرغب كما ردَّد مرارًا في أن يُثقِل على مضيِّفهما. حاول يعقوب أكثر من مرة أن يُجازِي البِك صنيع معروفه، ولكن البِك كان يقابل تلك المحاولات بالرفض التامِّ. أصرَّ مُنصِف بِك على أن التسوُّق ليس إزعاجًا على الإطلاق، بل إنه في حقيقة الأمر متعة. فهو لم يكن لديه أطفال أو أبناء أشقاء أو أيُّ شخص يمكنه شراء هدايا له؛ ولذلك كان يستمتع بتلك الفرصة لإنفاق نقوده على آنسة حسناء كإلينورا. فما فائدة النقود على أي حال؟ وعندما ينتهون من التسوُّق كانوا يجمعون أغراضهم ويتوقَّفون لتناوُل الغداء في أحد المطاعم الراقية في الطريق، ثم يتوجَّهون أسفل التلِّ إلى سوق الأقمشة حيث يرتِّب مُنصِف بِك مجموعة من المواعيد ليعقوب، وفي المساء يعودون إلى منزل البِك ويأخذون قِسْطًا من الراحة؛ حيث يهتمُّ كلٌّ منهم بشئونه على حِدَةٍ.

عادةً ما كانت إلينورا تقضي ذلك الوقت في غرفتها بالطابق الأعلى تقرأ نسخةَ البِك من «الساعة الرملية» وهي مُسترْخِية على المقعد المجاور للنافذة البارزة. كانت قد عثرت على الكتاب مُصادفةً وهي تتصفَّح المكتبة في ليلتها الثانية في إسطنبول. كانت واقفةً على سلَّم في منتصف المسافة إلى أَرْفف الكُتُب تتصفَّح مجموعة البِك الضخمة من دفاتر الخرائط عندما خطف بصرَها الغلافُ المألوف ذو اللونين الأزرق والفضي لكتاب «الساعة الرملية». قضت بقيَّة الليلة وكلَّ ليلة منذ ذلك الحين غارقةً في المجلدات الأخيرة المعروفة باسم مجلدات تريستي من الرواية الملحمية. تجلس إلينورا وقد ضمَّت أطرافها في مقعدها والساعة الرملية متوازنة على حافة ركبتها، لا يمكن أن تكون أسعد من ذلك. كم يسعدها أن تقرأ بحرية وتستغرق في كتاب دون أن تخشى أن تحدِّق إليها روكساندرا من الخلف. ورغم انهماكها في الكتاب، كانت تنظر بين حين وآخر إلى النافذة مُتتبِّعةً رَفْرفة سِرْبها من الإفريز حتى الغصن، أو مداخن السفن البخارية وهي تحلِّق بمحاذاة تلال البرتقال الدَّاكنة.

انتهت من قراءة المجلَّد الأخير من «الساعة الرملية» قبل موعد رحيلها هي ووالدها من إسطنبول ببضعة أيام. ورغم أنها تساورها رغبة قوية في العودة إلى المجلد الأول وقراءة الكتاب بأكمله مرةً أخرى وهي تضع المصائر النهائية للشخصيات في ذِهْنها، فقد رأت من الأفضل أن تستريح الليلة. كان العشاء في تلك الليلة مكوَّنًا من الباذنجان ويَخْنة لحم الضأن بالصلصة البيضاء. وعقب تناول العشاء قادهما البِك أسفل البَهْو إلى المكتبة حيث تراصُّوا حول المِدْفأة في ثلاثة مقاعدَ جلدية ذات لون بنيٍّ فاتح. كانت المكتبة تشغل حيِّزًا داكنًا مَكْسوًّا بألواحٍ خشبية مزيَّنًا بكرات أرضية عتيقة وأدوات ملاحية، وكانت مغطَّاة من الأرضية إلى السقف بالكتب؛ دراسات في فقه اللغة، وكتب جغرافية، وموسوعات، ومعاجم خاصَّة بسِيَر الأشخاص، وقصائد، وروايات، وبعض الأوراق الدينية مغلَّفة كلُّها بالجلد المغربي الأحمر والأزرق والأخضر والبني. قدَّم لهم السيد كَروم حلوى البقلاوة بالفستق وأكوابًا من الشاي على شكل أزهار التُّوليب، بينما جلس البِك يستعدُّ كي يلعب الطاولة مع يعقوب. كان لوح الطاولة الخاص بالبِك مُزيَّنًا بتصميمٍ رباعي الأضلاع على هيئة شجرة أَرْز صغيرة، وكان تحفةً دالة على البراعة والفخامة. جلست إلينورا تراقب يدَيْه الكبيرتين وهما تنزلقان على سطح اللوح، تدفعان القطع الزجاجية المصنوعة من العقيق في أماكنها، وحاولت أن تفهم اللعبة، ولماذا تُرتَّب القطع هكذا، وكيف تتحرك على سطح اللوح.

سألها البِك عندما الْتقَتْ عيونهما: «هل لعبتِ من قبل؟»

شعرت إلينورا بوَجْنتَيْها تتورَّدان خَجَلًا.

«كلا.»

«يمكنني أن أعلِّمك إذا رغبتِ في ذلك. لن يستغرق الأمر وقتًا طويلًا.»

«أشكركَ، ولكنني أفضِّل أن أشاهد اللعبة فحسب الآن، وذلك إذا لم يكن في الأمر إزعاج.»

نظرتْ إلى البِك ثم إلى والدها الذي كان مشغولًا في ضبط السيجار.

«لا إزعاج على الإطلاق يا إيلي، وإذا كان لديكِ أي أسئلة يمكنك أن تطرحيها.»

رغم أن مُنصِف بِك ويعقوب كانا أَرِسْتُقراطيَّيْن، فقد لَعِبا الطاولة بقوة مُطلَقة؛ حيث أخذا يقرعان اللوح بالقطع ويقذفان زهرَي النَّرْد العاجي بقوة في الزوايا. ومن وقت لآخر كانا يتوقَّفان لأخذ رشفة من الشاي أو أخذ نَفَس من دخان السيجار ونَفْثه، ولكن ما يحكم إيقاعهما كان اللعبة، وقرع العاج على الخشب، وخلط العقيق والزجاج. كانا يلعبان دون أن يتوقَّفا للتفكير في تحرُّكاتهما، بنفس الثقة اللامُبالِية لحدَّادٍ سحقَ نفس القالب آلاف المرات. ولم يتحدَّث أحدهما حتى الدور الأخير من اللعبة.

قال مُنصِف بِك وهو يهزُّ زهرَي النَّرْد بين راحتَيْه: «نسيتُ أن أذكر أنني مدعوٌّ غدًا إلى رحلة بحرية بمناسبة عيد الميلاد الخامس والسبعين لنائب القنصل الأمريكي.»

وضع والد إلينورا الرماد في المِنْفضة الفضية المجاورة له.

ثم قال: «أنا واثق من أنني وإيلي سوف نتمكن من شغل وقتنا، ربما نزور برج العذراء أو قلعة روملي.»

فقال البِك وهو يلقي زهرَي النَّرْد رابحًا اللعبة: «كلا، ما أعنيه أنني أرغب في أن تنضمَّ إليَّ أنت والآنسة كوهين، فلستُ أَحْضر تلك المناسبات عادةً، ولكنني ظننت أنكما ربما تستمتعان بها، وأؤكِّد لكما أن ذلك لا يُعَد إزعاجًا. هذا حقيقي بالفعل في الظروف العادية. أعني أنني ما كنت لأَحْضر تلك المناسبة، ولكن من المُفِيد لي أن أَظْهَر في الأوساط الاجتماعية.»

التقط يعقوب إحدى زهرَي النَّرْد ونقَرَ بظفر إبهامه عليه.

ثم قال وهو ينظر إلى إلينورا كي يتأكَّد من موافقتها على ما يقول: «إننا نقدِّر بالفعل كلَّ ما قمتَ به من أجلنا، وأعلم أن كلينا حزينٌ لمغادرة إسطنبول.»

قطَّبت إلينورا عينيها وأمالت رأسها. كانت تعلم طوال الوقت أنهما سيُضطَران لا محالة إلى مفارقة البِك وإسطنبول والنمط اليومي الذي اعتادت عليه سريعًا، ولكن إدراك المرء أنه يتحتَّم عليه المغادرة يختلف تمامًا عن المواجهة بالرحيل الوشيك. فكلٌّ منا سوف يرحل مغادِرًا هذا العالم يومًا ما، ولكن مَنْ منَّا مُستعِد للرحيل؟ نظرت إلينورا للأسفل نحو حذائها الجلدي الأسود الجديد وقرعت كعبَيِ الحذاء معًا.

«هل تلعب معي يا بابا؟»

لم تسأل لأنها ترغب في اللعب، بل لأنها خشيت أن تكون تلك فرصتها الأخيرة للَّعب على لوح البِك. وبينما ظلَّ السؤال عالقًا في الأثير بينهما، تزاحمت في عقلها فُرَصٌ أخيرة أخرى واحتمالات بعيدة، ولكن ما من مراتٍ أخرى.

فاعترض البِك قائلًا: «سوف ألعب معكِ أنا، وذلك إذا لم تمانع يا يعقوب.»

«بالطبع لا أمانع، فلا ضيرَ في القليل من لعبة الطاولة، كلُّ ما في الأمر أنهما كانا أسبوعَيْن حافلَيْن.»

قال البِك: «بالطبع»، ثم أدار المائدة وشرع في الإعداد للَّعب مرةً أخرى. «هل أنتِ متأكِّدة من أنكِ تفهمين قواعد اللُّعبة جيدًا؟»

فقالت إلينورا وهي تحدِّق بشدة إلى اللوح: «نعم، أعتقد ذلك.»

ناولها زهرَي النَّرْد فأخذتهما، وبعد لحظةِ صمتٍ استشعرت فيهما ملمس العاج البارد في راحة يدها. ألقت بالزهرَيْن، فحصلت على واحد-اثنين، وهو أسوأ استهلال ممكن. ألقت نظرةً على والدها، ومالت للأمام. فكَّرت في الخيارات المتاحة لديها، ثم حرَّكت إحدى القطع ثلاث خانات لليسار.

سألها البِك: «هل أنتِ متأكِّدة من أنكِ تريدين ذلك؟ فتلك الخطوة تعرِّضكِ لخطر الهجوم.»

فهزَّت رأسها.

تابع قائلًا وهو يحرِّك القطع الخاصَّة به على نحو افتراضي نحوها: «انظري، إذا حصلتُ على اثنين أو أربعة فسوف أصطدم بكِ.»

«إنني متأكِّدة.»

هزَّ البِك كَتِفيه، ثم التقط زهرَي النَّرْد وألقى بهما: ثلاثة-خمسة.

فقال وهو يتناول الرَّشْفة الأخيرة من الشاي: «حسنًا، أعترف أنني أخطأتُ.»

بنهاية الدور الأول من اللعب كان يعقوب يغطُّ في نومه، وهي تَذْكِرةٌ لطيفة متذمِّرة بأن الوقت قد تأخَّر، ولكن رغم ذلك فقد أنهَيا اللُّعبة التي ربحتها إلينورا، ثم ربحت لُعبة أخرى قبل أن تقرِّر أن موعد النوم قد حان.

صعدت إلينورا مُتثاقِلة على ضوء مصباح زيتي إلى غرفتها، تلك الغرفة التي ستكون عليها مغادرتها قريبًا. في غضون أقل من ثماني وأربعين ساعة سوف تُودِّع هذا المنزل والبِك والمدينة بأكملها. وإلامَ تتجه؟ رحلة بحرية عودةً إلى المنزل والكدح المضجر للحياة في كونستانتسا. وعندما تخطَّت العتبة، لاحظت أن إحدى النوافذ في غرفتها مفتوحة. هبَّ عليها نسيمٌ مُعتِم جعل المصباح يُصدِر حفيفًا، فاقْشعَرَّ بدنُها. وعندما استدارت كي تُغلِق الباب خلفها، هبَّ طائر من أحد أعمدة الفِراش وحطَّ على حافة النافذة. كان أحد أفراد سِرْبها، ويبدو أنه كان يريد شيئًا ما. وضعت إلينورا المصباح على عمود السرير، وعبرت الغرفة إلى الجانب الآخر، ثم جَثَت على ركبتيها أمام حافة النافذة، مُتكِئةً بذقنها على ذراعيها. كان الهدهد قد أحضر معه بُرْعمَ كَرَزٍ معظمه أخضر اللون، به بتلات بيضاء ظاهرة في أعلاه. وبدلًا من أن يطير مُبتعِدًا، نظر إليها مباشرةً وهو ينفض الريش المُخطَّط باللونين الأرجواني والأبيض في تاجه.

التقطت بُرْعمَ الكَرَزِ ووضعته عند أنفها.

ثم تساءلت بصوت عالٍ: «لِمَ لا يمكننا البقاء في إسطنبول؟»

عندما سمع الهدهد صوتها، أمال رأسَه إلى الجانب كما لو كان يرغب في الاستماع إليها بمزيد من الاهتمام. ألقت إلينورا نظرةً على المدينة الغارقة في الضباب، التي تلمع كما لو كانت مجموعة شاردة من النجوم وقعت في شَرَك المضيق المُظلِم. وعندما أخذت نَفَسًا عميقًا كي تتحدَّث، غرقت المدينة في صمت مُترقِّب، وأبطأت الأرض من دورانها.

«أتمنى لو أبقى، أتمنى لو أبقى في إسطنبول إلى لأبد.»

وهنا وثب زائرها إلى حافة النافذة وطار محلِّقًا في الظلام. رَفْرف بجناحَيْه وانحدر نحو الماء، ثم انضمَّ إلى السرب واختفى في ظلام الليل.

استيقظتْ في الصباح التالي على صورة السيدة داماكان وهي تقف في مدخل غرفتها حاملةً كومة من المناشف وقِدْرًا نحاسيَّة مليئة بالماء الساخن. ورغم أن إلينورا كانت مُتحفِّظة عندما اغتسلت للمرة الأولى، فقد أصبحت تتطلَّع إلى زيارات السيدة داماكان والماء الساخن المُزعِج والرائحة العذبة لصابون الياسمين والمِنْشفة الدافئة المُنعِشة في نهاية الأمر. وكان الجزء المفضَّل لديها من هذا الطقس الروتيني يأتي بعد الاغتسال؛ فعندما تجفِّف إلينورا نفسها وترتدي ملابسها كانت السيدة داماكان تُجلِسها على أحد المقاعد المُخْملية الحمراء المجاورة للباب، وتمشِّط لها شعرها وهي تترنَّم بأغانٍ من الفولكلور التتاري تستدعي ذكريات إلينورا الأولى كما لو كانت حُلمًا يُعاد نَسْجه. لم تُدرِك إلينورا حتى ارتدت ملابسها واستعدَّت لتناول الإفطار أن تلك قد تكون المرة الأخيرة التي تحمِّمها فيها السيدة داماكان.

عندما وصلت إلينورا ووالدها والبِك إلى بيشكطاش بير، كان سِرْب الهداهد بأكمله ينتظر في صمت في أَفْرع شجرة تتدلَّى على المَبْنَى. وبعد أن ركب ضيوف نائب القنصل وشقَّت المركب طريقها بعيدًا عن الرصيف، انفصلت مجموعة صغيرة من السِّرْب وتبعتها من أعلى، ولكنها رغم ذلك احتفظت بمسافة حذرة. ألقى مُنصِف بِك نظرةً على الطيور، ثم على الشاطئ نحو منزله، هناك حيث قضت الطيور معظم الأسابيع السابقة. هبَّ نسيمٌ قارس على البوسفور، واكْتَست السماء بنفس لون البلاط الأزرق الزاهي في مسجد السلطان أحمد. أمسكت إلينورا بالسياج في يدٍ ولوَّحت بمنديل والدها الذي كانت تُمسكه في اليد الأخرى لعمَّال السفن والبحَّارة المُتجمْهِرين حول المبنى. كانت ترتدي فستانًا من اللون الأخضر الفاتح، ذا أكمام قصيرة مُنتفِخة وشريط من نسيج التفتة الحريري المتدلِّي للأمام، وهو نسخة معدَّلة من أحد التصميمات المعروضة في واجهة محلِّ مدام بواريه. كَمْ تبدو بعيدةً الرحلة الأولى إلى بيرا، ولكن في حقيقة الأمر لم يمضِ على وجودهما في إسطنبول سوى أقل من ثلاثة أسابيع. كانت قد رأت الكثير من المدينة، والآن مهما تقل ومهما تعترض فسوف يرحلان قريبًا. كان التفكير في رحيلهما الوشيك أصعب مما تستطيع احتماله، فطردتْهُ بعيدًا عن ذهنها.

أشار البِك إلى نادِل عابِر، ورفع كأسَيْ شراب عن صينيَّته ثم أعطى يعقوب إحداهما.

قال وهو يرفع كأسه: «في صحتك.»

فرفع يعقوب كأسه أيضًا وتبادلا قرْع الكئوس.

«في صحتك.»

طبقًا لرواية مُنصِف بِك، كان من بين الحاضرين في ذلك المساء الليدي كاترين دو برج، والمُلحَق العسكري البروسي، ورسَّام فيينيٌّ ذو صِيت واسع ينتمي للمدرسة التجريبية، والسفير الفرنسي، ومدام كورفيل، وبالطبع نائب القنصل الأمريكي. لم يكن القنصل نفسه حاضرًا، فقد استُدعِي في ذلك الصباح في مهمة عاجلة تتعلَّق بترحيل الأجانب من بروسيا. اتَّكأت إلينورا بكتفها على السياج وتابعت سَيْر الحَفْل؛ النُّدُل ذوو المعاطف الحمراء يقدِّمون الكافيار والمُقبِّلات عبر حَشْد من الملابس الرسمية للرجال والفساتين الواسعة المنفوشة، والشراب في أيدي الجميع، وفي كلِّ كأس من الشراب قطعة من الثلج تعكس ضوء الشمس. كان البِك يتحدَّث مع سيدة أمريكية عجوز عندما التقط يعقوب فطيرةً من صينيَّة أحد النُّدُل العابرين، وذلك بعد أن فرغ من تناوُل شرابه. وبينما كان يلوك قطعة من المُقبِّلات في فمه، لاحظت إلينورا الكاهن جيمس مولر وهو يشقُّ طريقه نحوهما عبْرَ الحشود.

«عزيزي السيد كوهين، يا لها من مفاجأة لطيفة!»

تصافحا بقوة، ثم أمسك يعقوب الكاهنَ من وَجْنَتيه وقبَّله في جَبِينه.

وعندما فرغا من العناق قال يعقوب: «مُنصِف بِك، أودُّ أن أُعرِّفك على صديقي الطيِّب ورفيق غرفتي السابق الكاهن جيمس مولر. إنه عميد كلية روبرت، وهو أمريكي من ولاية كونيتيكت.»

قال البِك وهما يتصافحان: «تشرَّفت بلقائك.»

«وهذا أيُّها الكاهن مولر أكْرَمُ مضيِّفٍ وصديقٍ وشريك عمل، مُنصِف باركوس بِك. لن تجد تركيًّا أفضل منه في إسطنبول.»

فقال الكاهن: «مُنصِف باركوس بِك! إنني أسمع هذا الاسم منذ أن وَطِئت قدماي أرض إسطنبول، وإنني سعيدٌ للغاية أن قابلتك شخصيًّا.»

«إنَّ سُمعتك تسبقك أيضًا أيُّها الكاهن مولر.»

«آمُل أن تكون سُمعة طيبة.»

ارْتَشف البِك رَشْفة من شرابه وابتسم.

«في الأغلب طيبة.»

«هذا يكفيني.»

قال البِك وهو يخطو جانبًا كي يُشرِك إلينورا في الحديث الدائر: «أظنُّ أنك تعرف الآنسة كوهين الصغيرة، إنها آنسة رائعة بكلِّ المقاييس، وكما اكتشفت بالأمس فإنها أيضًا خبيرة في لعب الطاولة.»

«حقًّا؟»

غضَّت إلينورا بصرها ونظرت إلى تبايُن الألوان بين حذائها الأخضر الفاتح وسطح المركب.

قال البِك: «لقد هزمَتْني مرَّتين مُتَتاليتين بذكاء. أودُّ لو أعزو نجاحها إلى الحظِّ، ولكن كما يُقال فالمرء لا يبحث عن الحظِّ، ولكن الحظَّ هو ما يبحث عنه.»

فقال الكاهن بالنبرة الجَهْوَريَّة التي يستخدمها في حالة الاستشهاد: «بالفعل، فالحظُّ يؤثِّر على كلِّ شيء. دَعْ صِنَّارتك مُلقاة دائمًا، وفي النهر الذي لا تتوقعه سوف تجد سمكة.»

فاعترض يعقوب قائلًا: «لا أعتقد أنه حظٌّ على الإطلاق، فكما أخبرتك على السفينة لقد قرأَتْ كلَّ الكتب تقريبًا.»

فردَّد الكاهن مولر: «كلَّ الكتب؟» ونظر في عينَيْ إلينورا مُبتسِمًا: «حسنًا يا آنسة كوهين، ما هو كتابُك المفضَّل؟»

فقال والدها وهو يضع يده على كَتِفها: «هيا يا إيلي، أَخْبِريه بكتابكِ المفضَّل.»

نظرتْ إلى الرجال الثلاثة وهي تقطِّب جبينها قليلًا في الشمس؛ فالحقيقة أنها لم تقرأ سوى العشرات من الكتب.

ثم قالت: «حتى الآن، كتابي المفضَّل هو الساعة الرملية.»

فانحنى الكاهن مولر إلى مستواها متسائِلًا: «كم قلتِ إنكِ تبلغين من العمر؟»

«ثماني سنوات.»

فردَّد: «ثماني سنوات وتقرئين الروايات؟ كَمْ هذا مثير للإعجاب!»

كان الكاهن مولر على وشك الإسهاب في أفكاره عندما ربَّتت شابةٌ مليئة بالحيوية على كَتِفه وهمست شيئًا في أذنه. كانت ترتدي ثوبًا أخَّاذًا بلون اليوسفي، والقماش البرتقالي الفاقع مزيَّن من أعلى بشريط أبيض يمتد إلى الخلف حتى يتجمَّع عند ظهرها الذي كان منفوشًا ببطانة ضخمة جدًّا. وخطر لإلينورا أنها تبدو كما لو كانت حلزونًا غريب الشكل.

قال الكاهن: «أرجو المعذرة، فقد ذكَّرتني مدام كورفيل بأمر عاجل علينا أن نهتمَّ به. لن يستغرق الأمر سوى لحظات.»

فقال البِك: «لا عليك. في الحقيقة كنت أعتزم الآن أن أُرِي آل كوهين المشهد من مؤخِّرة السفينة، فهو مشهد ساحر بالفعل. يمكنكَ الانضمام إلينا إذا أحببت.»

فقال الكاهن مولر: «عظيم.» واستدار إلى يعقوب قائلًا: «صديقي العزيز، علينا أن نناقش أمورًا تتعلَّق بالعمل. ولا تظن أنني قد نسيت أمر تلك السجَّادة المصنوعة في تبريز التي نصحتَنِي بها لمكتبي.»

«نعم، سجادة هيريكي. يمكننا مناقشة ذلك الأمر فيما بعدُ.»

فقال الكاهن وهو يبتعد مع مدام كورفيل: «حسنًا، أراكم لاحقًا.»

كان المشهد من مؤخِّرة السفينة ساحرًا بالفعل، فقد ألقت زُرْقَة الصباح الفاتحة المُشرِقة ببعض الظلال الصفراء، ولم تكن ثمة سُحُب في السماء على الإطلاق على مدى بصر إلينورا. تقلَّص قصر توب كابي إلى حَجْم إبهامها على مسافة ذراع واحدة، واختفت كلُّ المآذن خلف التلال فيما عدا أطراف المآذن الطويلة. وفي ذلك المكان، كانت ضفاف البوسفور مغطَّاةً برقعة كثيفة من أشجار الصَّنَوْبر تقطعها كلَّ بضعة كيلومترات قريةٌ صغيرة ورصيف بحري وبضعة رجال ذوو طرابيش رثَّة يحتسون الشاي. كان الهواء باردًا مُفعَمًا بالدخان يحمل رائحة الصَّنَوْبر. أخذت إلينورا نَفَسًا عميقًا، وتفحَّصَت الرائحة ثم أوْدَعَتْها ذاكرتها. فتلك هي الرائحة التي ستتذكَّر بها إسطنبول.

ولكن الذاكرة متقلِّبة كالقدر.

وعقب أن أعادهم البِك مرة أخرى إلى مؤخِّرة السفينة، اصطدمت السفينة بموجة هوجاء. تعلَّقت إلينورا بذارع والدها عند الهزَّة الأولى، وتعلَّق هو بالسياج. أخفى يعقوب تقطيب جَبِينه ثم استدار كي يتوجَّه إلى ابنته بسؤال. بدا كما لو كان قد انزعج لمقابلة شبح، فقد غارت وجنتاه وأصبح وجهه شاحبًا كلون فستانها، وتمْتَم بشيء عن دوار البحر، ثم أمسك بمَعِدته واندفع إلى مقدمة السفينة، فكادت قدمه تزل على مِجْداف غير مربوط.

«معذرة.»

وبينما ابتعد وَقْع خطوات والدها، حملت الرياح صوت أغنية «عيد ميلاد سعيد» من مقدِّمة السفينة. رَمَشت إلينورا بعينيها، وفتح البِك فمه كي يتحدَّث، ثم ترنَّحت السفينة كما لو كانت قد اصطدمت بصخرة، وبين الصرخات أسفل سطح المركب أخذت السفينة تغرق سريعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤