شهريار

ثم يترك الشاعر عزيز أباظة التاريخ وأحداثه ليختار موضوعًا أسطوريًّا من أسطورتنا الشرقية الشهيرة؛ أسطورة «ألف ليلة وليلة»، فصاغ منها في سنة ١٩٥٤ مسرحية «شهريار» بالاشتراك مع الأستاذ الشاب عبد الله البشير، الذي نعلم من مقدمة المسرحية أنه كان قد ألَّف باللغة الإنجليزية مسرحية عن نفس الموضوع، ومثَّلها تلاميذه بكلية المعلمين. ولما كانت هذه المسرحية الإنجليزية غير مطبوعة، فإننا لم نستطع العثور عليها لنتبين مدى اختلافها عن المسرحية الشعرية التي كتبها الشاعر عزيز أباظة بأسلوبه الشعري التقليدي المعروف.

وعلى أية حال، فالأستاذ عبد الله البشير لم يكن أول أديب عربي أو أجنبي اتخذ من أسطورة شهرزاد وشهريار موضوعًا لمسرحية، فهذا الموضوع قد طرقه كثيرون من كُتَّاب الغرب، بل وصيغت من هذه الأسطورة أوبرات لا مسرحيات فحسب. ولعل من أروع هذه الأوبرات أوبرا الموسيقي الروسي الكبير «رمسكي كور ساكوف»؛ ملحن أوبرا «شهرزاد».

وفي مصر عالج الأسطورة عدد من أدبائنا، فكتب توفيق الحكيم مسرحية «شهر زاد» التي ترجمها إلى الفرنسية عضو الأكاديمية جورج ليكونت، وكتب الأستاذ علي باكثير أيضًا مسرحية «سر شهرزاد»، كما كتب الدكتور طه حسين قصة «أحلام شهرزاد»، وأخيرًا اشترك طه حسين وتوفيق الحكيم في تأليف كتاب حواري عن هذه الأسطورة ومراميها القريبة والبعيدة، وهو كتاب «القصر المسحور»، الذي كتبه أديبانا أثناء تمضيتهما الصيف في أحد المصايف الجبلية بفرنسا.

ولأول مرة، قام الشاعر عزيز أباظة بتقديم مسرحيته إلى الجمهور، وإيضاح وجهة نظره إليها، بدلًا من أن يعهد بهذا التقديم إلى غيره من الزملاء الأدباء كما فعل في المسرحيات السابقة.

وبالرغم من أن الأستاذ عزيز أباظة لم يُشر في هذا التقديم إلى مشاركة زميله الأستاذ عبد الله البشير في إعداده، إلا أننا نحس في وضوح بأن الأستاذ البشير قد كانت له بلا شك مساهمة كبيرة في إعداد هذا التقديم، الذي يتناول عدة دراسات تنمُّ عن إلمام واسع بتاريخ الآداب العالمية وتطورها. وهو إلمام لا نظن أن الشاعر عزيز أباظة قد توفَّر عليه، وإنما أتيح ذلك للأستاذ البشير أثناء بعثة تخصص في الأدب التمثيلي عامة، والأنجلو سكسوني خاصة.

وقد تناول هذا التقديم المسهب ثلاث مسائل كبيرة هامة؛ أولاها: مسألة الأساطير واستخدامها في الآداب العالمية المختلفة لتأليف المسرحيات منذ عهد الإغريق القدماء حتى اليوم، والمناهج المختلفة التي اتبعها الشعراء والأدباء في علاج هذه الأساطير وإخضاعها لمذاهبهم الفكرية المتباينة، منذ فلسفة القضاء والقدر الإغريقية حتى الفلسفة الاشتراكية عند «شو» في مسرحية «بجماليون»، والفلسفة الوجودية عند «سارتر» في مسرحية «الذباب».

والمسألة الثانية: هي مسألة الشعر واستخدامه كوسيلة للتعبير في الأدب المسرحي، وانصراف غالبية الأدباء الساحقة عنها إلى النثر، والمحاولات التي بذلها إليوت T. S. Eliot وبعض الشعراء الآخرين في العصر الحاضر لإحياء المسرحية الشعرية. وأخيرًا، كانت المسألة الثالثة: مسألة «الكورس» واستخدام الشاعر عزيز أباظة وزميله البشير له في هذه المسرحية.

ولما كنا قد عالجنا مسألتي الأساطير والشعر المسرحي في محاضرتنا السابقة، فإننا لا نعود هنا إلى مناقشة شيء مما جاء عنهما في هذه المقدمة، وإن يكن الكثير منه يقبل المناقشة، وقد لا يثبت لها، مثل قول الأستاذ أباظة: «إن الشعر هو أنسب لغة للحوار على المسرح، فللسذج من النظارة القصة كما يقول إليوت، وللمتأدبين منهم الديباجة المشرقة، ولهواة الموسيقى الإيقاع وجمال النغم، ولذوي الحساسية المرهفة المعاني البعيدة التي لا تلبث أن تتجلى رويدًا رويدًا.»

فهذه التقسيمات لم تعد قائمة بعد أن استقل المسرح عن غيره من الفنون، وأصبح للغناء والموسيقى والطرب فن مسرحي خاص هو فن الأوبرا الذي ظهر في أوروبا منذ عصر النهضة، وأصبحت القصة هي موضع الاهتمام الأساسي لجميع النظارة في المسرح الحواري، الذي يستهدف قبل كل شيء تصوير الشخصيات، والكشف عن خفايا نفوسها، ونزعات سلوكها، ومواضع اهتمامها من خلال أحداث القصة، كما أن هناك شكًّا كبيرًا في أن يكون الشعر أصلح من النثر للحوار المسرحي الدقيق، الذي لا تلتوي به ضرورات الشعر وقيوده، وبخاصة الشعر العربي. وإذا كان كبير الشعراء شكسبير قد اضطر في مسرحياته إلى أن يتحلل من الشعر الإنجليزي التقليدي؛ ليستخدم الشعر المرسل على سهولة قيود الشعر الإنجليزي التقليدي وزنًا وقافية، فكيف يكون الأمر بالشعر العربي، وبخاصة إذا كتب هذا الشعر بلغة عتيقة تبعد بهذا الفن الجماهيري عن سرعة فهم النظارة له، ومتابعة أحداث القصة ومراميها كما سبق أن أوضحت؟

وأما المسألة الجديدة التي تستحق المناقشة، فهي مسألة «الكورس»، فالكورس؛ أي الجوقة، نظام ظهر في المسرحيات الإغريقية القديمة يوم كانت المسرحية تجمع بين أجزاء حوارية وأجزاء غنائية ملحنة، ينهض بها الكورس بشكل جماعي، وإن انفرد رئيس الكورس أحيانًا بالتغنِّي ببعض مقطوعات تلك الأغاني، وأما ما يسميه الشاعر عزيز أباظة في مسرحية شهريار بالكورس، فشيء آخر لا يمكن تسميته بالكورس؛ لأنه لا يعدو أن يكون عبارة عن بعض شخصيات نكرة من الجواري اللائي يظهرن أحيانًا على المسرح؛ لتنطق كل منهن ببيت من الشعر، أو جزء من بيت، تعليقًا على الحوادث أو تفجُّعًا منها. والاسم الذي يجب أن يطلق عليها اسم معروف في وسطنا المسرحي؛ وهو «الكومبارس»، ولا محل لأن نقحم عليهن اسم الكورس الضخم الذي له معالمه ووظيفته الغنائية المتميزة في مسرحيات إسكيلوس ويوربيدس وسوفوكليس وأرستوفانس، ثم عند بلوتس اللاتيني، وعند قليل من شعراء أوائل عصر النهضة قبل أن ينفصل التمثيل المسرحي عن الغناء والموسيقى ويستقل بذاته.

وأما عن طريقة معالجة الشاعر عزيز أباظة وزميله البشير لأسطورة شهرزاد التقليدية، فإننا نستطيع أن نتبينها بوضوح عندما نقارن هذه المسرحية بمسرحيتي الحكيم وباكثير.

فالحكيم قد استخدم هذه الأسطورة تعبيرًا عن ظمأ الإنسان الذي لا يرتوي للحقيقة والمعرفة، فشهرزاد عنده لم تستطع أن تفلت من قتل شهريار لها إلا لأنها أثارت في نفسه الفضول إلى المعرفة، التي كانت تقص عليه كل ليلة طرفًا منها، وتتركه في ظمأ إلى الباقي، حتى أصبحت شهرزاد نفسها في مسرحيته رمزًا للحقيقة الكونية الشاملة التي لا تنفد، ولا ينفد ظمؤنا لها، وذلك بينما رأى فيها الأستاذ باكثير حالة مرضية أصابت شهريار، واستطاعت شهرزاد أن تشفيه منها، فشهريار سيطر على نفسه الضعفُ الجنسي، وأخذ يستثير هذا الضعف بالعبث مع الجواري، وأرادت زوجته الأولى «بدور» أن ترده عن هذا العبث بحماقة بالغة جعلتها تمثل دور الزانية مع أحد العبيد، فقتلها شهريار هي والعبد الذي وجده في مخدعها، مع أنه كان خصيًّا، ولم يكتفِ بذلك، بل صمم على الانتقام من كافة النساء، فكان يتزوج عذراء في كل ليلة ويقتلها عند الصباح، حتى انتهى إلى شهر زاد، التي أدركت سر مرضه فأعادت تمثيل الدور مع عبد خصيٍّ، وأظهرت شهريار على حقيقته، فانفكت عقدته النفسية بعد أن أدرك أن العبد السابق كان كالعبد اللاحق في عجزه عن أية علاقة جنسية.

وأما الشاعر عزيز أباظة وزميله البشير فقد حلَّا عقدة شهريار على طريقة الحوار، الذي نهضت به شهرزاد في ثنايا الألف ليلة التي قضتها معه في القصص المتصلة. وفي هذا الحوار كانت تهدف دائمًا إلى أن ترد إليه ثقته في نفسه، وفي سطوته، وعزة ملكه. كما استخدم دنيازاد أخت شهرزاد لنفس الغرض؛ إذ جعلها تتكالب على شهريار وتظهر باستمرار عشقها له، وإعجابها برجولته، وتتودد إليه، وإن يكن هذا التكالب قد بدا ممجوجًا من أخت مع زوج أختها. وإذا كان المؤلف قد قصد أن يرمز بدنيازاد إلى سحر الجسم، وبشهرزاد إلى سحر العقل، فإن هذا التعارض الرمزي قد ظل دقيقًا لا نكاد نتبينه، وإنما الذي يتضح لنا هو أنه استخدم الأختين في حل عقدة شهريار. وفي مثل هذه الحالة، كان من واجب المؤلف أن يسوق هذا الحل على أنه قد تم باتفاق أو تآمر على الخير بين الأختين، لا أن يجعلهما تتصارعان على الرجل هذا التصارع الجنسي الممجوج، الذي يصل إلى حد السباب والشتائم في مسرحيته، بدلًا من أن يخبرنا بطريق أو بآخر أن دنيازاد تمثل دورًا، ولكن لا تحياه فعلًا. بل إن الحل الذي اختاره لا يستطيع المشاهد الخالي الذهن من الأسطورة التقليدية أن يتبين أصل العقدة وخطوات حلِّها في وضوح، وعلى العكس من ذلك، نحس بأن التحول الذي حدث في نفس شهريار من الشر والقسوة وسفك الدماء، إلى الخير الذي يبلغ حد التخلي عن العرش، والضرب في مناكب الأرض كولي من أولياء الله؛ يبدو انقلابًا مسرحيًّا مفاجئًا لم تسبقه المقدمات الكافية لتفسيره. وعلى العكس من ذلك تبدو مسرحية علي باكثير أكثر قبولًا من المُشاهد في طريقة حلِّها، كما أنها أكثر حركة درامية؛ لأن الحل جاء فيها عن طريق الأحداث وتكرار المأساة الوهمية، بدلًا من اقتصاره على مجرد الحوار كما هو الحال في مسرحيتي عزيز أباظة وتوفيق الحكيم، وإن تكن دقة الحوار وعمق الفكرة عند الحكيم قد عوَّضا في مسرحيته الضعف النسبي في حركة المسرحية.

وقد أقحم الأستاذ عزيز أباظة فوق ذلك على الأسطورة عدة مناقشات لمشاكل معاصرة، بل مشاكل جدَّت بعد ثورتنا، ولا علاقة لها أصلًا ببيئة الأسطورة التاريخية؛ كمشكلة إعادة توزيع الثروة، والمساواة بين الناس، وحكم الشعب بالشعب، وهي مناقشات طويلة تدور بنوع خاص بين شهريار ووزير ماليته «باقر».

وفوق كل ذلك، التجأ الأستاذ عزيز أباظة في مسرحيته إلى بعض الحيل التي تبدو غريبة على المسرح صعبة التنفيذ، وإن تكن قد تلائم سيناريو السينما، وهي الحيل التي جعل فيها شهريار يجري حوارًا مع ضحاياه الموتى، مثل زوجته الأولى «بدور»، ووزير ماليته «باقر»، الذي كان قد أمر بقتله، وغير ذلك من الأشباح التي تتراءى له. وكل هذه المناظر يمكن تنفيذها في السينما كأحلام يقظة.

وأما في المسرح فإنها لا بد أن تبدو مفتعلة. وكل هذا فضلًا عن بعض إشارات ظهرت في الحوار إلى أشياء عصرية بحتة، مثل «الضمير العالمي»، وخلافات رجال السياسة المصريين، فهذه أشياء لا علاقة لها بالبداهة بالبيئة التاريخية القديمة للأسطورة، ولا محل لورودها في مسرحية تتخذ كلها جوًّا تاريخيًّا أو رمزيًّا بعيدًا عن واقع حياتنا المعاصرة غير مرتبطة بها.

وأما عن الشعر ولغته، فهذه المسرحية لا تختلف في هذا عن سابقاتها، وإنما حاول الشاعر عزيز أباظة أن يغير من منهجه الشعري في مسرحيته التي ظهرت أخيرًا، والتي بقي علينا أن نتحدَّث عنها؛ وهي مسرحية «أوراق الخريف» العصرية الموضوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤