أوراق الخريف

يحدِّثنا الأستاذ عزيز أباظة في تقديمه لهذه المسرحية عن الانقلاب الذي حاول أن يحدثه في تأليفه للمسرحيات، فينبئنا بأنه قد عدل في هذه المسرحية التي أصدرها في آخر عام ١٩٥٧، عن الموضوعات التاريخية التي كان يستهدف منها أمرين؛ أولهما: إحياء بطولاتنا التاريخية، وثانيهما: معالجة قضايا الحاضر من خلال أحداث الماضي.

فقد آثر أن يعالج مثل هذه القضايا هذه المرة من خلال واقع عصره، ولكننا نستطيع هنا أيضًا أن نناقش مدى توفيقه في تحقيق ما أراد، كما ناقشناه من قبل في أهدافه السابقة ومدى تحقيقه لها، فنحن ننظر في «أوراق الخريف» لنحاول أن نتبين مدى مطابقة ما يروي فيها من أحداث لواقع حياتنا، بل ومدى إمكان وقوع مثل هذه الأحداث في هذا الواقع الذي نحسُّه، فنرى شططًا لا نحسب أن له مثيلًا في بيئتنا الشرقية، إن لم نقل في أية بيئة تحتفظ بشيء سليم من القيم الأخلاقية، بل ومن أصول الحياة الاجتماعية السليمة.

فأحداث المسرحية تجري في أسرة الأستاذ «قاسم»، الذي استطاع أن يتزوج من «وداد» التي كانت في ولاية عمها «أكرم باشا» بعد وفاة أبيها. وقد أنجب «قاسم» من «وداد» بنتًا «إقبال» بلغت سن الزواج، وخطبت ﻟ «عدنان» بن أكرم باشا. وفي فترة عقد الخطبة نفاجأ بشخصية جديدة هي شخصية «مهيب»، الذي نعلم أنه شريك لقاسم في التجارة، وأنه عائد من دمشق؛ حيث كان قد هاجر منذ عشرين عامًا. وقد استضاف «قاسم» مهيبًا في بيته. ونحن نظن أنها استضافة شريفة، ولكننا لا نلبث أن نفاجأ بغرام عارم يُبعث بين «مهيب» و«وداد»، كما نعلم بأن مهيبًا كان قد حاول أن يتزوج من «وداد» في صدر شبابه، ولكنه لم ينجح. وهنا نتساءل: هل من الممكن أن نعتبر «قاسم» و«أكرم باشا» والأسرة كلها جاهلة لهذه العلاقة القديمة؟ وإذا كانوا يعلمون بها؛ فإلى أي حد نستطيع أن نعقل دعوة «مهيب» إلى الإقامة داخل الأسرة، ثم كيف نعقل قصائد الغزل الحار الطويلة التي تجرى بين «مهيب» و«وداد» في منزلٍ الزوجُ على قيد خطوات منه، بل وتحت سمعه وبصره، إلى حد أن نرى «وداد» تصارح زوجها بأنها لم تحبه يومًا ما، وأن حبها كان وقفًا على «مهيب»، بل وتطلب منه أن يطلقها لكي تعود إلى حبيبها القديم! ومع ذلك لا يثور الزوج، ولا تثوب الزوجة إلى رشدها، وإنما تنحل العقدة بتدخل «إقبال» التي تضرع إلى «مهيب» ألا يحطم حياتها وسعادتها، وألا يحطم الأسرة كلها بالتفريق بين والديها تفريقًا أصبح من المؤكد أن تؤدي الفضيحة الناشئة عنه إلى فسخ خطبتها من «عدنان».

ونحن إذا كنا قد عِبْنا على الأستاذ عزيز أباظة تصديقه لبعض الروايات القديمة السخيفة في قصة «قيس ولبنى»، واعتماده لتلك الروايات في المسرحية التي عالج فيها هذه القصة، مثل رواية استعانة «قيس» بعبد الله بن عتيق خدن الحسين بن علي على تطليق «لبنى» من زوجها لتعود إلى «قيس»، واستنكرنا إمكان حدوث مثل هذه السخافة في بيئة الحجاز المسلمة، فإننا هنا أيضًا لا نستطيع إلا أن نستنكر في مسرحية «أوراق الخريف» نفس هذه المواقف، التي لم يكتفِ الأستاذ عزيز أباظة بإلصاقها بالبيئة الإسلامية القديمة، فألصقها هنا ببيئتنا الشرقية المعاصرة. وباستطاعتنا أن نؤكد أن المؤلف لم يَسْتَقِ هذه الأحداث من واقع حياتنا، وإنما حاول أن يتصور بخياله وقائع لمسرحيته، فعجز به هذا الخيال عن أن يتصور أحداثًا تُشاكِل أو يمكن أن تُشاكِل هذا الواقع. وهذه المشاكلة أو إمكانها عقلًا شرط أساسي لكل تأليف مسرحي أو قصصي يريد أن يوهم القراء بأنه واقعي مستمد من حياتنا المعاصرة.

وينبئنا الأستاذ عزيز أباظة في نفس المقدمة التي كتبها لمسرحيته بأن اختياره موضوعًا عصريًّا لهذه المسرحية قد اقتضاه كارهًا أن يغير من منهجه الشعري، أو من رصانة أسلوبه؛ ليقترب بمسرحيته من واقع الحياة، وبخاصة وأنه يلاحظ — كما يقول — أن النثر الرصين الفصاحة نفسه قد أخذ يبدو في العصر الحاضر عامة، وفي بيئتنا العربية خاصة، أمرًا نابيًا يبعد بالمسرح عن الواقعية التي أصبحت تتطلب في أعمالنا الأدبية الجديدة، ولكننا نلاحظ هنا أيضًا أن ما أراده الشاعر عزيز أباظة شيء، وما استطاع عمله شيء آخر؛ ففي بعض المواضع نراه يقصد عمدًا إلى التعابير المبتذلة البعيدة عن روح الشعر على نحو ما يتضح مثلًا من هذا الحوار:

أكرم (متلطفًا) : ما لديك اليوم من فاخر ألوان الطعام؟
وداد (في مرح) : عندي الصنف الذي تهواه؛ رز بحمام، ودجاجات سمان نظفت أمس أمامي.
أكرم : طيبٌ فخمٌ غدائي اليوم من غير كلام!

وذلك بينما نراه في مواضع أخرى كثيرة لا يستطيع مغالبة نفسه، فيعود إلى القصائد الغنائية الطويلة البعيدة عن طبيعة الحوار المسرحي، وإلى التعابير التقليدية التي يستمدها من ذاكرته الواعية لتراثنا القديم، الذي بعُد به الزمن عن روح العصر ولغة العصر، بل وعن الاجتهاد في تجديد التعبير، واستمداد الصور من واقع حياتنا، وإلا فأين نحن اليوم مثلًا من (الأراك) الذي لم يعُد يعرفه أحد، وذلك في قول «مهيب» ص١٠١:

فديتك يا أخت عود الأراك
سقاه الندى فانتشى وانثنى

وأمثال ذلك كثيرة؛ حيث ينتقل بنا الشاعر من السوقية إلى الجزالة التقليدية التي ما فتئت تستهويه.

والذي لا شك فيه أنه إذا كانت المسرحيات التاريخية تتطلب من المؤلف مجهودًا كبيرًا، وشيئًا من الخيال حتى يستطيع أن يخلق من أحداث التاريخ الفانية قيمًا إنسانية خالدة، دائمة الحياة، متجددة التأثير في الأجيال المتلاحقة، فإن الجهد الذي لا بد للمؤلف أن يبذله في تصوير قصة أو مسرحية من واقع حياتنا أكبر مشقة، والخيال اللازم لبناء تلك الأحداث وتحقيق وحدة هذا البناء، واستخدام الأحداث في إيضاح معالم الشخصيات، والكشف عن أبعادها النفسية والأخلاقية الاجتماعية؛ لا بد أن يكون هذا الخيال أقوى جناحًا، وأحدَّ بصرًا. كما أن اختيار موضوع عصري لا يتطلب من المؤلف أن يصطنع لغةً معينة، وإنما يتطلب منه أن ينسى ذاكرته وأكثر ما يستطيع من محفوظه؛ ليبتكر التعبير عن هذه الحياة المعاصرة، حتى يقدم لنا الصورة الجديدة في ثوب جديد، ليس من المحال أن يبلغ في جماله وتأثيره ما بلغته الأثواب القديمة التي لا يزال يتشبث بها بعض أدبائنا وشعرائنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤