الناصر

وفي سنة ١٩٤٩، أصدر الأستاذ عزيز أباظة مسرحيته الثالثة «الناصر» مصدرة بخطب إعجاب وتقدير من الأستاذ أحمد لطفي السيد، ومقدمة للأستاذ أحمد حسن الزيات.

و«الناصر» الذي يقصده الأستاذ عزيز أباظة في مسرحيته هو عبد الرحمن الثالث؛ ثامن الخلفاء الأمويين في الأندلس.

ولما كان عبد الرحمن الناصر — الذي دامت خلافته حوالي الخمسين عامًا (٩١٢–٩٦١) ميلادية — قد ازدهر في عهده وفي عهد ابنه الحكم الثاني مُلكُ العرب في الأندلس، واتسعت رقعته، وتوطدت أركانه، ونما فيه العلم والعمران، ودانَ له ملوك أوروبا في القسطنطينية وروما وألمانيا وغيرها، حتى لم يعد من الممكن لمؤلف مسرحي أن يعرض مأساة أي جانب مظلم في حياة ذلك الخليفة النابه، دون أن يُتَّهم بالتحيز وغمط الأمجاد، فقد رأينا الأستاذ عزيز أباظة ينفق الفصل الأول من مسرحيته ذات الأربعة فصول، وهو أطولها، في عرض بعض جوانب العظمة في تاريخ «الناصر»، وبخاصة في عرض وفود الملوك على «الناصر»، وتقديم فروض الطاعة له، وسؤاله العون على مشاكلهم، أو بسط الحماية عليهم، أو مدِّهم بما يحتاجون من علماء وأطباء. قد كنا نستطيع أن نقبل هذا الفصل الطويل لو أن المؤلف ربطه بالمأساة التي تدور حولها المسرحية، بل كنا نستطيع أن نقبله تجاوزًا لو أن المؤلف استطاع أن يستخدمه في تعميق إحساسنا بالمأساة، عندما نقارن بين ما وصل إليه من مجد وعظمة في الملك، وما شاع في قصره وفي حياة أسرته من فساد، وهو محور المأساة، ولكننا نلاحظ — لسوء الحظ — أن المؤلف لم يستطع أن يثير في نفوسنا أي إعجاب بالناصر، أو بابنه الحكم، بل ولا أن يثير في نفوسنا أي عطف على أحدهما أو على كليهما، بل لعله قد أثار في نفوسنا السخط والاحتقار؛ فشخصية الناصر في المسرحية شخصية باهتة، ممحوة المعالم، مضطربة الأبعاد، وشخصية ولديه المتناحرين على ولاية العهد؛ وهما: الحكم وعبد الله، لا يفضلان أباهما في اجتذاب إعجابنا، أو عطفنا، أو حتى مجرد انتباهنا.

وأقوى الشخصيات التي عرضها وأكثرها جذبًا لنظرنا هما شخصيتا الجاريتين: «منى» و«شفق»، وهما جاريتان نصرانيتان من ولاية «نافار»، أهديت إحداهما — وهي «منى» — إلى الناصر من وفد «نافار» كجاسوسة لبني جلدتها الموتورين. وكان الناصر قد تبنَّى الأخرى منذ الصغر — وهي «شفق» — بعد أن قتل أباها في إحدى الحروب.

ثم إننا لو طرحنا جانبًا الفصل الأول من المسرحية بما فيه من وفود ورُسُل، ولم نستَبْقِ منه غير الخيط الأول من المأساة، وهو دسيسة وفد «نافار» التي تتمثل في إهدائه الناصر الجاريتين «منى» و«تغريد»، لننظر بعد ذلك في المأساة ذاتها، لوجدنا فيها ازدواجًا يشتت انتباه القارئ أو المُشاهد، ويبدد إحساسه، ويُضعف من تشوفه إلى سد الأحداث وتطورها؛ فهناك أولًا مأساة الصراع بين الحكم وعبد الله ابني الناصر حول ولاية العهد؛ وهو صراع لم يجْلُ المؤلف نتيجته في وضوح، وإن كنا نحس أو نستنتج — ونحن لا نزال في وسط المسرحية — أن عبد الله قد لقي حتفه دون أن نتبين على وجه التحديد على يدِ مَن قد لقِيَ حتفه. اللهم إلَّا أن يكون ذلك عن طريق الاستنتاج، عندما نعلم أن «الناصر» قد اكتشف تآمر «عبد الله» مع الفاطميين المنافسين «للناصر» على اغتصاب الملك، وغضب الناصر الشديد على رسل أولئك المتآمرين. ومنذ تلك اللحظة تختفي مأساة عبد الله، وتظهر مأساة جديدة تنسج خيوطها «منى»، عندما ترسل إلى ذويها من أهل «نافار» كي يظهروا الخضوع والاستسلام للناصر، وإبرام العهود والمواثيق على الولاء له، وذلك عندما نحسُّ بأن الأمور قد أخذت تسوء بين الفاطميين وأمويي الأندلس، وذلك حتى لا يحتاط الناصر للأمر ويشتبك بجيوشه كلها مع الفاطميين، وعندئذ يستطيع أهل «نافار» أن ينتهزوا الفرصة ويغدروا به، وهو راقد في اطمئنانه إليهم.

وبالرغم من هذا التفكك الواضح في المسرحية بين أجزائها الثلاثة، ونعني بها الجزء الأول الخاص باستعراض عظمة الناصر، والجزء الثاني الخاص بمأساة عبد الله، ثم الجزء الثالث الخاص بالمأساة التي دبَّرتها الجارية «منى»، فإن المؤلف قد قدَّم لنا في شخصية «شفق» عملًا دراميًّا ناجحًا.

ففي الفصول الأولى من المسرحية نرى «الحكم» يتودد إلى «شفق»، بل ويعلنها بحبه، ولكن «شفق» ترده عن هذا الحب وتُذكِّره بأنها ترى فيه أخًا لها، وقد نشأت معه منذ الصغر، ثم تدخل «منى» القصر وما تزال ﺑ «شفق» تثير حقدها ضد الخليفة وأسرته والمسلمين كافة، الذين استذلوا وطنها «نافار» وقتلوا أباها، حتى تنجح في أن تدخلها في المؤامرة التي تدبرها، وتدفعها إلى أن تستغل هيام الحَكَم بها؛ لكي تختلس منه وهي بين أحضانه أسراره العسكرية كقائد عام لجيوش «الناصر»، التي ستلتقي بجيوش الفاطميين، وبالفعل تنجح في أن تعرف منه أنه سيقود معه الجيوش كلها، وتنقل هذه الأسرار إلى «منى» التي كانت سترسل بها إلى ذويها من أهل «نافار»، لولا أن الأمور تعقَّدت، ﻓ «شفق» التي كانت تتصنَّع في أول الأمر دَوْرًا لكي تكيد «للحكم» وأبيه وللمسلمين كافَّة؛ لم تلبث أن أُخذتْ فيما يبدو بحرارة الحب الذي أظهره نحوها «الحكم»، وبخاصة بعد أن طلب إليها أن تكون زوجة له، وأيقظ الحب ضميرها، فنشب في نفسها صراع درامي عنيف بين حبِّها للحَكَم وحبها لوطنها الأصلي «نافار» وأهل ذلك الوطن.

وأظهرنا المؤلف على بعض مظاهر هذا الصراع الذي وقع عليه المؤلف ككنز درامي غني، ولكنه — لسوء الحظ — لم يستخرج كل ما في هذا الكنز، بل قطع عليه السبيل سريعًا عندما رأينا إحدى جواري القصر — وهي «الزهراء» — تفاجئنا بالمثول بين يدي الناصر؛ لكي تحذره من مؤامرة تُدبر، دون أن نعلم من أين للزهراء بأنباء هذه المؤامرة، بل ودون أن تفصح «الزهراء» عن تلك الأنباء، إذ يكتفي المؤلف بتلميحات بعيدة، يتوجه الناصر بعدها بغضبه نحو «الحكم»، الذي يحاول الدفاع عن نفسه في ضعف واستخذاء، حتى تدخل «شفق»، فنعلم منها أن ضميرها قد انتصر، وأنها قد أتت لتعلن عن ندمها وتوبتها.

وفي تلك الأثناء، تفاجئها الجارية العنيدة «منى»، ويكون بينهما حوار عنيف ينتهي بأن تطعن «منى» «شفق» بخنجر، ويدخل «الحكم» من جديد فتلقي «شفق» بنفسها بين أحضانه بعد حوار غرامي مؤثر، وفي النهاية تموت على صدره، ويدخل «الناصر» ليستحث «الحكم» على السير لملاقاة العدو، ولكن «الحكم» يتردد ليواري جثَّة «شفق»، فيعلن أبوه أنه مستعدٌّ لقيادة الجيوش بنفسه، ولكن «الحكم» لا يقبل طبعًا هذا الحل، فينهض خارجًا، ويُسدل الستار.

ومن الغريب أن نلاحظ — بوجه عام — أن الأستاذ عزيز أباظة يطيل الحديث والحوار في فصوله ومشاهده المتعددة حول الأمور التافهة التي لا تدخل في صميم البناء الدرامي لمسرحياته، ثم يكتفي في المواقف الحاسمة بإشارات وتلميحات بعيدة؛ حتى يضطرنا في هذه المواقف الحاسمة إلى أن نستنتج بدلًا من أن نقرأ أو نشاهد؛ مما يبلبل الفكر، ويهشم السياق، ولا يعمق الإحساس، بل يكمل الصورة. ولعل هذا العيب أوضح ما يكون في هذه المسرحية؛ حيث يطول وينبسط الحوار بين الخدم والجواري، بل وتتعدد المشاهد داخل الفصل الواحد في غير مبرر غير خروج خادم أو دخول آخر؛ لنسمع منه عددًا من التوافه الأخرى، مما يضعف التركيز الدرامي في المسرحية، ويصرف ضوء الانتباه عن الشخصيات الرئيسية وأحداث المأساة الأساسية، وذلك مع أن التأليف المسرحي السليم يتطلب تركيز الأضواء على المواقف الحاسمة والشخصيات الهامة في المسرحية، بل إن هذه القاعدة لا يؤاخذ بها المؤلف فحسب، بل ويؤاخذ بها أيضًا المخرج المسرحي، الذي يتطلب نجاحه أن يركز انتباه الجمهور على المواقف والشخصيات الأساسية في المسرحية، حتى لا تأتي كلها مسطحة متساوية، فلا تتركز أحاسيس المشاهدين وتفكيرهم في المشاهد الحاسمة من المسرحيات، ويغيب عنهم هدف المؤلف ومواضع اهتمامه.

هذا، والأستاذ أحمد حسن الزيات في المقدمة التي كتبها لهذه المسرحية يتحدَّث عن بعض جوانب العظمة في حكم «الناصر»، ثم يشير إلى بعض النواحي المظلمة في حياة هذا الخليفة الكبير، ويقول بعد ذلك إن المؤلف كان يستطيع أن يعرض في مسرحيته جانب العظمة أو جانب الضعف، ولكن الأستاذ عزيز أباظة لم يشأ أن يختار بين الجانبين، وآثر أن يجمعهما معًا في مسرحيته، فعرض جانب العظمة في الفصل الأول، ثم عرض جوانب الضعف في الفصول الأخرى، وكأن الأستاذ أحمد حسن الزيات يريد من المؤلف المسرحي أن يصبح مؤرِّخًا يظهر جوانب العظمة وجوانب الضعف. وهذا أمر يتنافى مع طبيعة العمل المسرحي، الذي يقوم على عرض قطاع من الحياة لا الحياة كلها، وإلَّا جاء عملًا مفككًا غير مترابط الأجزاء.

ومسرحية «الناصر» — بعد ذلك — تصوِّر حياة ملوك المسلمين حتى كبارهم «كالناصر والحكم» في أقبح صورة؛ فهم قوم شهوانيون، أقرب إلى الحيوانات منهم إلى البشر المهذبين، صغار العقول، طاغيةٌ شهواتُهم، عبيدُ الملذَّات، وفي أخطر المواقف نرى أمراءهم لا يحسون بهذه الخطورة التي لا تصرفهم عن العبث ومغازلة الجواري، بل ومحاولة إغراء جاريات أبيهم وانتزاعهن من بين أحضانه، حتى لكأن قصورهم قد استحالت إلى مواخير.

وعلى العكس من ذلك، نرى أعداءهم الموتورين، حتى الجواري منهم، شخصيات إيجابية فعَّالة، مسيطرة على نفسها، قوية الإرادة، واسعة الحيلة، عميقة الدهاء، على نحو ما نشاهد في شخصية «منى» بنوع خاص؛ تلك الشخصية التي صوَّرها المؤلف جبَّارة، وفية لوطنها ولذويها، مسيطرة على الأحداث ومُسيِّرة لها، حتى لنحسَّ بأن شخصيتها أقوى من شخصية الأمراء، بل ومن شخصية الخليفة نفسه.

وإذا كنا نلاحظ أن الحوار الدرامي قد استقام في هذه المسرحية، كما استقام في مسرحية العباسة، على نحو يبزُّ الحوار في المسرحية الأولى «قيس ولبنى»، التي طغت عليها الروح الغنائية التي تصلح لفن الأوبرا، ولا تصلح لفن المسرحية. وإذا كنا نلاحظ أيضًا أن الأستاذ عزيز أباظة قد تقدَّم في هذه المسرحية خطوة أخرى فلم يلجأ إلى التضمين، ولا أدرج في حواره قصائد من تأليفه، فإننا ما زلنا نلاحظ أنه قد استمر في هذه المسرحية أيضًا على المعاظلة والولوع بالبذخ اللغوي الذي لا يحتمله الفن المسرحي، باعتباره موجهًا إلى الجماهير التي يجب أن تتابع الحوار في يسر وسهولة، ولا تمنعها صعوبته اللغوية عن متابعة الأحداث والانفعال بها، فضلًا عما في المعاظلة من تكلُّف واضح يزيد المسرحية بعدًا عن مشاكلة الواقع ما استطاع المؤلف إلى تلك المشاكلة سبيلًا، حتى ولو كان ذلك في مسرحية تاريخية، وذلك بدليل ما أكَّده الكلاسيكيون أنفسهم عندما حاولوا تبرير اختيار موضوعاتهم من التاريخ بقولهم: «إن الصفة التاريخية لهذه الموضوعات تُدنيها من التصديق، ومن مشاكلة واقع الحياة، باعتبار أنها تروي أحداثًا قد وقعت فعلًا في فترة من فترات التاريخ؛ فالتاريخ يحملنا على أن نعتقد بمعقولية ما يبدو غير معقول، ومن ثمَّ فكلُّ ما يبعدنا عن المعقولية؛ أي عن مشاكلة الحياة أو إمكان مشاكلتها يعتبر إفسادًا لطبيعة العمل المسرحي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤