مسك الختام

الراوية : بعد أن شهدنا النهاية السابقة، ورأينا كيف واجه جلجاميش العدم والخراب، واكتأب وبكى وأحسَّ بالضياع والاغتراب؛ دعُونا الآن نُتابع نهايةً أخرى، ونُشاهد حلمًا ورديًّا ربما يبعث فينا شيئًا من الأمل والتفاؤل، وربما يُساعدنا — بعد أن نرجع إلى بيوتنا — على أن نحلم حلمًا سعيدًا لم يزُرْنا طيفه من أمدٍ بعيد. ولنتخيَّل أورشنابي وهو يُلحُّ على بطلنا اليائس بأن يكفَّ عن البكاء وينهض من مجلسه ليستقبل الحياة الجديدة، ويدخل أوروك دخول البطل المُنتظَر، وإن لم يكن هو البطل المُنتصِر. لقد وصلا قبل قليل إلى أبواب أوروك، وجرى جلجاميش كما عرفنا نحو السور الذي أمر ببنائه قبل سنوات، وبقي موقع فخره وفخر حضارته لآلاف السنين من بعده. لمس قاعدته مع صاحبه وتفحصَّ صنعة آجره، ومتَّع نظره بمشاهدة إفريزه النحاسي الذي يشعُّ كالذهب الساطع في ضوء الشمس. لثم الأعتاب ومرَّت كفَّاه على الأبواب، وأرسل البصر إلى الزقورة والأبراج المرتفعة فوق معبد آنو المقدَّس ومزار عشتار إلهة الحب والخصب والحرب، وسيدة الآلهة الجميلة والجليلة. أقلقه وهو الملهوف على صيحات شعبه وطبول حرسه وأحضان أمه وحكمة شيوخه وقوة شبابه — أقلقه ألا يجد أحدًا في استقباله، ولكن من كان يحسب اليوم الذي سيرجع فيه بعد الغيبة والغربة؟ من كان يتصور أن يعود فجأة بلا ضجيج؟
أخذ يتجول حول السور الحجري الهائل، وربما تفكَّر في الموضع المُلائم الذي سيُثبت فيه الحجر الذي سينقش عليه قصة أعماله وأتعابه ومغامراته، ولكن يبدو أنه راجع نفسه وكاشفها بأنه قد رجع كما سمعنا صِفر اليدين، واكتأب كعادته، واصفرَّ وجهه، وتغضَّن جبينه، وكسا الحزن قسماته.

ولهذا أقبل أورشنابي الملَّاح العجوز الذي كان قد أكمل جولته السريعة في المكان، وأحاط به إحاطة النسر النهم الجسور، أقبل عليه مُحاولًا أن يُبعد عنه شبح الضياع والاكتئاب. أليس كذلك يا أورشنابي الملَّامح؟
أورشنابي :
أجل. أجل.
حاولت أخفِّف عنه
حمول القلب المُتعَب،
وأردَّ البسمة
للوجه الشاحب،
وأعيد الخضرة
للروح المُجدِب.
يا جلجاميش لا تُتلف نفسك،
لا تذرف دمعك،
كالطفل المُذنب.
بعد قليل يحدوك الموكب،
ويغنِّي الشعب.
تدخل أوروك،
العش الدافئ،
والقصر الهانئ.
تحضنك الأم
مع الزوجة والأب والجد الطيب.
بعد قليل تجد جواريك وخدمك،
وتضاء شموع الحب.
هل تتذكر وعدك،
بالبيت الهادئ،
والعش الدافئ،
والبستان العامر،
بالنخل أو العنب الرطب؟
قم يا جلجاميش
وافرح بالأمل العذب.
الراوية : لكن جلجاميش لا يستطيع أن يتخلص من حزنه ولا حلمه؛ فهو يتطلع إليه والدموع تملأ عينَيه، ويفتح فمه ليقول:
جلجاميش :
آه! تتحدث يا أورشنابي
عن أملٍ عذب،
لكن ضاع الأمل وتاه،
وهجر الحلم يديَّا.
قل لي ماذا أفعل
ولمن أضنيت يديَّا
ونزف القلب دماه؟
وإذا جاء الشعب
ورحَّب بالبطل العائد
ماذا بقي لأعطيه؟
ماذا بقي لديَّا؟
أورشنابي (يُمسك بيده ويُساعده على النهوض) : ويلك يا جلجاميش؟ أبعد هذه الصحبة الطويلة لم تتعلم مني الرقص على الجمر؟
جلجاميش : ماذا تقصد بالرقص على الجمر؟
أورشنابي : أن تبتهج وتفرح وتصيح وتهتف رغم الجرح النازف بالدم.
جلجاميش : لا تذكِّرني بالنبتة الضائعة. لقد ضاع معها كل شيء.
أورشنابي : الضائعة! الضائعة! أليس لديك غير هذه الكلمة؟ لم يضِع شيء يا جلجاميش. لا يمكن أن يضيع كل شيء. ما زِلت حيًّا. ما زالت الأبدية …
جلجاميش : الأبدية؟ وأنت الذي تقولها؟
أورشنابي : نعم يا جلجاميش. هل نسيت ما قالته زوجة جدك الخامل؟ معذرة! جدك الخالد؟
جلجاميش : وكيف أنسى اللغز الذي همست به في أذني؟
أورشنابي : هيَّا إذن! ذكِّر نفسك به!
جلجاميش : أجل. أجل. لن أنسى غضبي وسخطي وأنا ألعن أبديةً بلا حياة وحياةً بلا أبدية.
أورشنابي : وماذا قالت لك؟
جلجاميش : ربما تجد الحياة والأبدية معًا عندما ترجع إلى أوروك.
أورشنابي : حقًّا يا أورشنابي! لكن قل لي كيف.
أورشنابي : أقول … أقول؟ هذا شيء لا يُقال!
جلجاميش : شيء لا يُقال؟
أورشنابي :
ألا ترى معي؟
أنظر إلى يدَيك؟ إنه شيء يتم بالعمل.
جلجاميش : أي عمل؟
أورشنابي : اقتربت السفينة من الشاطئ. هذا هو ما يقوله أورشنابي الملَّاح، والآن انظر.
جلجاميش : أنظر أم أعمل؟
أورشنابي : ها هي أبواب أوروك تُفتح على اتساعها، لا بد أنهم سمعوا أصواتنا عندما جرينا نحو السور.
جلجاميش : نعم. نعم. الحُراس مُقبِلون، وأفراد الشعب يتقاطرون واحدًا بعد الآخر. إنهم يُقبِلون علينا ويلتفُّون حولنا. انظر يا أورشنابي. تكلَّمْ. قل شيئًا.
أورشنابي : ألم نتفق على التخلص من الكلام والقول؟
جلجاميش (وهو يُتابع ببصره تدفق الناس على المكان) : وها هم بعض الشيوخ يقتربون، أعرفهم من مجلس الحكماء، والشباب القوي الذي طالما حارب في صفوف جيشي، طالما حصَّن الجدران في سوري المشهور، والفعَلة والصُّناع؛ الحدادون والبناءون والنحاتون والنحاسون والصاغة الذين نفَّذوا أوامري، وأبدعوا تمثال إنكيدو ورصَّعوه بالذهب واللازورد، والسحرة والعرافون والمُنجمون والمُعوذون، حتى الأُجراء الفقراء، وزُراع الحقول، حتى البستاني العجوز في قصري العظيم على ضفاف الفرات.
أورشنابي : وهذه الكاهنة الجليلة التي تتوسط العذارى والنساء.
جلجاميش : أورشنابي! إنها أمي!
أورشنابي : نينسون الإلهية؟ نينسون الحكيمة؟
يجري جلجاميش نحوها ويغيب بين ذراعَيها يُقبِّلها. تبتلُّ عيناه بالدموع بينما تحوطهما الجموع التي يتزايد عددها ويتطلعون نحوهما في خشوع وهم يُردِّدون:
أصوات الجموع :
جلجاميش!
جلجاميش!
مَرْحى! مَرْحى!
بالبطل العائد،
لحِماه الصامد.
مَرحى بالقائد،
والنجم الرائد،
للشعب الواحد.
بالملك الكامل،
والراعي العادل.
بالثور الناطح،
والأسد الكاسح،
لعدوٍّ حاقد.
مرحى بالعائد،
لحِماه الصامد.
نينسون (همسًا وهي تُمسك بيده) : مَرْحى يا جلجاميش!
جلجاميش : أمي.
نينسون : مَرحى بالقلِق الحائر!
جلجاميش : ما زِلت كذلك يا أمي؟
نينسون : ولماذا يا ولدي؟ وكل هؤلاء البشر من حولك؟
جلجاميش : أعرف الآن أنني واحد منهم.
نينسون : كانت أمنيتي أن تعرف هذا.
جلجاميش : أعرفه الآن وأعترف به.
نينسون : وما العجب في هذا؟ بعد كل الأسفار والأخطار.
جلجاميش : وبعد كل الضياع والتشرد والبحث عن الخلود.
نينسون : الخلود؟ أما زِلت تحلم بالحلم المستحيل؟
جلجاميش : خشيت أن تلوميني لأنني أعود فارغ اليدين.
نينسون : فارغ اليدين؟ وهذه القلوب التي تنبض بحبك؟ هذا السور وهذه المعابد والأبراج والحصون والبيوت والمروج والبساتين؟
جلجاميش : كنت دائمًا الأم الحكيمة؛ الأم الإلهية.
نينسون : الإلهية؟ ألست بشرًا أمامك كما أنك بشر؟ كم حاولت أن أخبرك بهذا.
جلجاميش : فهمت يا أمي، بعد أن ضاعت النبتة من يدي.
نينسون : أية نبتة يا بُني؟ عمَّ تتكلم؟
جلجاميش : إنها قصةٌ طويلة يا أمي. أردت أن يأكل منها الشيوخ فيرجعوا لصِباهم، أن يذوقها الشباب فيزدادوا قوة، أن أقسِّمها على أوروك ثم آخذ ما بقي منها.
نينسون : لا أفهم شيئًا يا جلجاميش.
جلجاميش : لكنها ضاعت يا أمي، وضاعت معها الحياة والخلود.
نينسون : ما زِلت حيًّا يا ولدي، وهؤلاء …
جلجاميش : هل تذكرين ليلة مات إنكيدو؟ هل تذكرين بكائي عليه وتمزيق شعري وثيابي؟ خرجت من أوروك بحثًا عن الخلود، خِفت أن يُحولني قدر البشر الذي أصاب صديقي إلى تراب. تعبت وقطعت الطرق الوعرة والجبال العالية والأنهار والبحار إلى جدي الخالد.
نينسون (مُقاطعة) : وها أنت قد عُدت، وتطهَّرت.
جلجاميش : ماذا قلت؟
نينسون : أقول تطهَّرت يا ولدي. بكيت كثيرًا وعرفت أنك بشر.
جلجاميش : ولكن لم أتطهَّر بما يكفي.
نينسون : وماذا تريد الآن يا ولدي؟ ألا تريد أن تدخل أوروك؟ أتترك هؤلاء ينتظرون؟
جلجاميش : حتى أتطهَّر يا أمي، حتى أتطهَّر. (يُنادي) أيها الكهنة الأجلَّاء، يا كُهان الرُّقى والتعاويذ، أنتم أيها السحرة والمعزِّمون والعرافون، تعالَوا! تعالوا!
(يقترب بعض الكهنة منه ويحنون رءوسهم أمامه) إليَّ بروح حبيبي وصديقي وأخي.
الكهنة : إنكيدو الطيب؟ وحش البرية؟ هل نستدعيها يا مولاي؟
نينسون : تريد أن تستدعي روح إنكيدو؟ أهذا هو الوقت المُلائم يا جلجاميش؟
جلجاميش : نعم يا أمي، وقبل أن تطأ قدمي أرض أوروك الحبيبة لا بد أن أكلِّم روح حبيبي، لا بد أن أتأكد منه.
نينسون : تكلِّمه وتتأكد منه؟ من ماذا يا ولدي؟
جلجاميش : ربما أتطهَّر يا أمي، ربما أتطهر. هيَّا أيها الكهنة.
الكهنة : لا بد من تقديم الأضاحي يا مولاي، لا بد من سكب السكائب على قبره.
جلجاميش : وماذا تنتظرون؟

(ينصرف بعض الكهنة لإعداد مراسيم التضحية وشعائرها، بينما يتجه بعضهم الآخر إلى ركن على يسار المسرح ينحني عليه شبح لا نتبيَّنه في الظلام.)

جلجاميش : ما هذا؟ من هذه؟
أصوات : إنه قبر إنكيدو، منذ أمرت بدفنه بجوار السور وهي تأتي لزيارته كل يوم.
جلجاميش : من؟ (يتجه إلى القبر، يتبيَّنها ويهتف) شمخات!
شمخات (تُجفف دموعها) : جلجاميش! بطل الأبطال!
جلجاميش :
يعود بنفسٍ طاهرة حرة.
ويُجدد عهد الحب لصاحبه ويُخلد ذكره.
شمخات : جئت أخيرًا لتجود عليه بنظرة؟ (تبكي.)
جلجاميش :
أنا أيضًا يا شمخات
ذرفت عليه دموعي المُرة.
شمخات :
انظر يا جلجاميش،
في هذا الركن ترى قبره.
أحضر كل صباح
كي أضع عليه زهرة.
أسكب من بحر الحزن عليه قطرة.
أورشنابي (يقترب منهما) : عطشان، ولا أجد بهذا القفر المُوحش قطرة.
جلجاميش :
أورشنابي؟ ملَّاح بحار الموت
وتشكو الظمأ.
أورشنابي : لقطرة حب أو خمرة.
جلجاميش : هذي شمخات.
أورشنابي : كاهنة الحب؟
جلجاميش : وسوف تقودك للنبع.
أورشنابي : أعرفها من كلماتك، مما قلت.
شمخات :
تعرفني؟ كنت وكنت.
لم يبقَ لديَّ سوى الموت،
ولم يبقَ سوى الصمت.
أورشنابي : مُدِّي يدك! تعالَي!
شمخات : وإلى أين؟
أورشنابي :
أعبر بك بحر الموت،
وأمسح من عينَيك الدمع.
جلجاميش : سِيري معه يا شمخات.
شمخات : أمرٌ مليكي، للمعبد أم للنبع؟
أورشنابي :
بل لك أنت؛
فأنت المعبد والنبع،
وأنت حياتي والموت.
جلجاميش (همسًا في أذنه) : وحلم الزوجة والبيت.

(يضحكان وينصرفان يدًا في يد. جلجاميش يُتابعهما بعينَيه حتى يغيبا عن بصره، ينكفئ على قبر إنكيدو ويُناجيه):

جلجاميش : إنكيدو! يا حبيبي وأخي إنكيدو!

(يُحيط به الكهنة والمعزِّمون وفي أيديهم المباخر والأضاحي وأوعية السكائب.)

صرت الكهنة : لن يرد عليك.
جلجاميش : أريد أن أراه وأسمعه.
صوت الكهنة : لن ترى شبحه، ولن تسمع صوته، حتى تتطهر.
جلجاميش : حتى ماذا؟ قولوا أيها الكهنة.
صوت الكهنة : حتى تتطهر يا جلجاميش.
جلجاميش : عُدت إلى الأرض، إلى الناس، ألا يكفي هذا؟
صوت الكهنة : لا. لا يكفي. إذا أردت أن تهبط لعالمه السفلي أو تصعد روحه إليك.
جلجاميش : أريد أن أسأله عن مصيره ومصيري.
الصوت : لا بد أن تخلع ثوبك النظيف.
جلجاميش : ثوبي خلق من طين الأرض.
الصوت : لا تتطيَّب بالزيت أو العطر.
جلجاميش : هل تصعد مني إلا رائحة العرق من الجسد المُتعَب؟
الصوت : لا تُمسك في يدك هراوة، لا تأخذ معك الطبلة والتاج.
جلجاميش : ها أنا صِفر الكفَّين.
الصوت :
لا تضع حذاءً في قدمك. لا تُثِر الضوضاء هناك.
لا تقبِّل المرأة التي أحببتها ولا الطفل الذي أحببت.
لا تضرب المرأة التي أغضبتك ولا الطفل الذي غضبت عليه.
جلجاميش : لن أفعل شيئًا من هذا.
الصوت : حتى لا تُطبق عليك صرخة الأرض، كما أطبقت عليها صرختك.
جلجاميش : أُقسِم بالآلهة جميعًا، لن ترتعش أمامي روح من أرواح الموتى.
الصوت : حان الوقت لكي ترتعش أمامها.
جلجاميش : ها أنا أرتعش وأنفض عني الذنب.
الصوت :
ردِّد معنا: يا ربَّة مملكة الموتى،
يا نرجال الجبَّار،
يا حُراس الأبواب السبعة،
حلُّوا شبح الطيب إنكيدو!
فكُّوا عنه الأغلال!
دعوه يُكلم جلجاميش!
ملك أوروك وسيد كلاب وبطل الأبطال.
جلجاميش : بل صاحبه ورفيق الدرب.
الصوت :
بحق الآلهة جميعًا،
آنو، إنليل، وشمش العادل،
وبحق آيا الطيب
راعي البشر
ورب الحكمة والماء العذب.
جلجاميش :
وبحقك يا نرجال،
خلِّص شبح صديقي
من أرض الرعب.
الصوت :
وافتح في الأرض الثقب
لتخرج.
جلجاميش : وتُطهر مني القلب.
(يظهر الشبح. تُدمدم الرياح والأصوات والأصداء. يتراجع الكهنة ويتقدم إليه جلجاميش ويُعانقه.)

تكلَّمْ يا صديقي! كلِّمني عن قانون الأرض التي رأيتها.
الشبح : لو أردت أن أكلمك عنه فلا بد أن تجلس وتبكي.
جلجاميش : سأجلس أمامك وأبكي، كما فعلت دائمًا يا إنكيدو.
الشبح : هل تذكر جسدي الذي كنت تلمسه فيفرح قلبك.
جلجاميش : وبكيته ستة أيام وسبع ليالٍ. لم أوافق على دفنه في التراب، ظننت أن بكائي عليه سيُوقظك من نومك.
الشبح : جسدي الآن تنهشه الحشرات كأنه ثوب بالٍ. يشوِّهه العفن ويملؤه التراب.
جلجاميش : يا ويلي! ها أنا أجلس وأبكي كما فعلت يوم موتك. ها أنا أمرِّغ رأسي في التراب حزنًا عليك.
الشبح : لم أقل لك هذا لتحزن ولا لتمرِّغ رأسك في التراب.
جلجاميش : ولماذا تقوله؟
الشبح : لكيلا تخاف الموت.
جلجاميش : وماذا أخاف غيره؟ لما هجم الدود على وجهك وسقط من أنفك أصابني الرعب. اشتدَّ عليَّ الخوف من الموت فهِمتُ في البرية. قطعت الطرق الوعرة والغابات وقدرك يرزح فوق الصدر. وصديقي، من أحببت كثيرًا، صار ترابًا.
الشبح : ماذا في ذلك يا جلجاميش؟
جلجاميش : قلت لنفسي: ألن أرقد مثله في التراب فلا أنهض أبدًا؟ هل سيكون مصيري مثل مصيره؟
الشبح : ومضيت تبحث عن الخلود لنفسك.
جلجاميش : لي ولك ولكل إنسان. صدِّقني يا إنكيدو.
الشبح : ولم تذكر ما قلته لك؟
جلجاميش : ماذا قلت يا إنكيدو؟ ومتى قلته؟
الشبح :
قبل دخول الغابة، حذَّرتك من قتل خمبابا وقلت:
أعطاك الرب القوة يا جلجاميش وحباك الملك.
أعطاك النصر الرائع في الحرب
لتحل أمور الناس وتعقدها،
وتكون ظلام العالم أو نوره،
لكن لم يُعطك ما أعطاه الآلهة وحسب.
جلجاميش : كنت أعرف هذا. قلته بنفسي مرارًا.
الشبح : ولم يمنعك من البحث عن الخلود.
جلجاميش : حتى ضيَّعت النبتة ففهمت.
الشبح : ليتك كنت تطهَّرت!
جلجاميش : ماذا تقصد يا إنكيدو؟
الشبح :
تصوَّرت أن القتل هو الخلود، أن قتل المارد خمبابا
وثور السماء يمكن أن يُخلد اسمك فوق الحجر.
جلجاميش : ألم يكن القضاء على الشر نوعًا من الخلود؟ ألم تتحسر على نفسك لأنك مت في فراشك ولم تمت على أرض المعركة؟
الشبح : نعم يا جلجاميش، لكنني عرفت وتطهَّرت.
جلجاميش : كيف يا صديقي؟ تكلَّمْ يا أخي.
إنكيدو : آه! أوشك الديك أن يصيح، ضاق الوقت عن الكلام عن الخلود.
جلجاميش : أرجوك تكلَّم! إني أبحث عنه.
إنكيدو : الخلود تصنعه أنت.
جلجاميش : ويلي! أتُكرر ما قالوه؛ سيدوري، زوجة أوتنابشتيم الخالد، أورشنابي.
إنكيدو : أجل يا جلجاميش. الخلود تصنعه بيدَيك.

(يتلاشى الشبح بالتدريج.)

جلجاميش : انتظر. أريد حل اللغز الحائر. لا أريد أن أخرج من ليل حياة بلا خلود، إلى سجن خلود بلا حياة!
إنكيدو : أجل. أجل. تصنعه أنت بعقلك ويدَيك.
جلجاميش : أصنعه بيدي؟ ماذا أصنع؟ ومتى؟ كيف؟
إنكيدو : في اللحظة يا جلجاميش.
جلجاميش : أوضِحْ. أوضِحْ.
إنكيدو : آه! انظر تحت القدمين وفي قلب الشعب. انظر تحت القدمين وفي قلب الشعب.
(يتلاشى الشبح تمامًا ويغيب صوته. يبقى في جلسته مُطرِقًا برأسه، وفجأةً ينثر عليها حفنة من تراب الأرض، ثم ينهض فاتحًا ذراعيه لكل المُحيطين به ويُنادي بصوتٍ هادئ مُطمئن):
الآن عرفت.
وتطهَّر مني العقل مع القلب.
يا شعب أوروك الطيب،
هيَّا نبتدئ السير على هذا الدرب.
اللحظة تهتف
والأرض تُنادي
فيُجيب الحاكم والشعب.
نينسون : ولدي! يا ولدي المضطرب القلب!

(يشير جلجاميش للجميع فيتحركون في اتجاه البوابة المفتوحة. تنضم إليهم نينسون الحكيمة ويغيبون وراء السور. يتخلف الراوية وجوقة الشيوخ.)

الراوية والشيوخ (مُنادين على جلجاميش وهو على وشك الدخول من البوابة الضخمة) :
قِف يا جلجاميش! مهلًا!
لا تتركنا في ليل الحيرة،
كالمارد فرَّ إلى القمقم
لم نعرف سره،
أو كالفخار أدار العجلة والدولاب
ولكن كسر الجرة.
أتُراك رجعت لتجد الموت أمامك
يقضى في بلدك أمره،
كرجوع اليائس يحفر بيدَيه قبره؟
وضللت طريقك في التيه،
وضيَّعت المعنى والفكرة؟
أم أنك عُدت لتتطهر
من كل ذنوبك
تبني أوروك العادلة الحرة؟
جلجاميش :
أنا جلجاميش
عُدت ومن أعمق أعماق الماضي،
مثَّلت الدور أمامك
مع أصحابي،
فكن الشاهد وكن القاضي.
أنا جلجاميش من بابل،
لكن رغم رُكام السنوات،
ومرِّ المِحن عليكم والنكبات،
فما زلت أعيش وأتنفس فيكم،
ناري تتأجج تحت ثراكم،
يمكن أن تحرق حاضركم، مستقبلكم،
والأمر يعود إليكم أنتم؛
أن أرجع كي أحكم بدويِّ الطبل،
وأجعل منكم جيش السخرة والذل،
أو أزرع زهرة أمل معكم
ونُقيم سويًّا بيت الحرية والعدل.
الراوية والشيوخ : الأمر يعود إلينا نحن؟
جلجاميش (يتردد صوته المضخَّم أثناء دخوله من البوابة) :
يعود إليكم أنتم؛
أن أحكم بدويِّ الطبل،
وأجعل منكم
جيش السخرة والذل،
أو أزرع معكم زهرة أمل،
ونُقيم سويًّا
بيت الحرية والعدل. (تتردد السطور السابقة بينما يدخل أورشنابي وشمخات مُسرعين.)
شمخات :
جلجاميش،
لا تتركنا.
لا تتركنا في الظل.
جلجاميش،
خذنا معك
ولا تتركنا في الظل.
أورشنابي :
نحن بنينا للحظةٍ عشًّا
أدفأناه بأنفاس الحب،
والتفَّ عجوز بعجوز
وتعانق قلب مع قلب،
والأمر يعود إليكم. (ثم مُتجهًا إلى الجمهور)
أنت وأنت وأنت!
لتحيا الأبدية مثلي
أنا وعجوزي شمخت،
في العمل وفي الحب
وفي ظل الصمت.
وبذلك نحيا
ونُقلم أظفار الموت (يلفُّ ذراعَيه حول شمخات، ويدخلان من البوابة بينما تتردد أصواتٌ مُتداخلة).
صوت : الأمر يعود إليكم أنتم.
صوت : الأمر يعود إلينا نحن؟
صوت :
أن نُحكَم بدويِّ الطبل،
ونصبح جيش السخرة والذل.
صوت :
أو نزرع زهرة أمل،
ونقيم سويًّا
وطن الحرية والعدل.

(ينصرف الجميع. إظلام وستار.)

(تمت بحمد الله.)
القاهرة، يناير ١٩٩١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤