الفصل الأول

بدء الكلام

(المسرح مستوياتٌ مُتعددة. في المستوى الخلفي تبدو من بعيدٍ أسوار أوروك وأطلالها المخرَّبة. إلى اليمين يقِف الراوية على منصَّةٍ عالية، في يده بضعة ألواح طينية أو أوراق يقرأ منها بين الحين والحين ويُعلق على الأحداث. في المستوى الأدنى يتوالى على الخشبة ظهور الشخصيات واحدة بعد الأخرى، وتتجمع إلى اليسار منها جوقة الشيوخ والعجائز من أهل أوروك، ثم ينضمُّ إليهم عدد من الشباب والنساء والأطفال في المستوى نفسه. إلى أقصى اليسار شبح كومة بشرية يصدُر عنها أنين وبكاءٌ متصل، حتى يُسلَّط عليها الضوء فيظهر حطام جلجاميش البائس اليائس. في عمق الخلفية أمام الأسوار المخرَّبة، منصَّةٌ تظهر عليها بعض الشخصيات أو تسقط عليها بعض الصور والرسوم، ثم تُطفأ أنوارها أو تُسدل عليها الستار. تسمع من البداية دقَّات الطبول الخافتة التي ترتفع شيئًا فشيئًا مع تتابع ظهور الشخصيات واحتدام الأحداث. الراوية في ملابسه الحديثة مشغول بالتقليب في الألواح والصحائف.)

صوتٌ يهتف (مع دقات الطبل الخافتة) :
جلجاميش.
جلجاميش.
جلجاميش.
الصوت (في نغمةٍ مَهيبةٍ عميقة) :
هو الذي رأى كل شيء حتى تُخوم البلاد.
هو الذي عرف البِحار وأحاط علمه بكل شيء.
هو الذي تغلغل ببصره في الهاوية المُظلمة.
امتلك الحكمة وتعمَّق كل الأشياء.
رأى الأسرار وكشف الخفايا،
وجاء بأنباء ما قبل الطوفان.
الراوية : أعرف هذه الكلمات. قرأتها في اللوح الأول. إنها الكلمات التي تبدأ بها الملحمة، وهي التي سُمِّيت باسمها كما كانت عادة الكُتاب والنُّساخ البابليين.
الصوت (مُتابعًا دقات الطبول) :
مضى في سفرٍ بعيد، حتى حلَّ به الضنى والعناء.
ثم حفر على لوحٍ حجري كل ما أصابه من تعب وشقاء.
الصوت العميق (مع ارتفاع دقات الطبول) :
جلجاميش.
جلجاميش.
جلجاميش.
الراوية (وهو يُقلب في الألواح أو الأوراق) : جلجاميش، يمكن أيضًا أن تُنطق كلكاميش بالكاف الفارسية، أو «قلقميش» في الرسم العربي، الاسم الأصلي كما ورد في النصوص السومرية (يتتابع دق الطبول) مهلًا، سأحدِّثكم بعد قليل عن شعب السومريين العجيب وعن هذه النصوص الباقية. قلت مهلًا. لن أُطيل الحديث. إنها تالفة ومملوءة بالثغرات والفجوات، مثل كل النصوص المنقوشة بأيدي السومريين والبابليين والآشوريين بالخط المسماري على الرقم والألواح الطينية (تتوالى الدقات مع ارتفاع الصوت الهاتف قليلًا):
جلجاميش.
جلجاميش.
جلجاميش.
الراوية (مُسرعًا) : هي أقدم ملحمة في التاريخ، جرَت أساطيرها وحكاياتها على ألسنة الناس منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وبدأ تدوينها في العصر البابلي القديم على عهد حمورابي، الذي حكم من عام ١٧٩٢م إلى عام ١٧٥٠م أعظم إمبراطورية بابلية، وخلَّد اسمه بشريعته المشهورة. عُثر على نصها الأساسي الأخير في «نينوى» عاصمة الآشوريين بين آلاف الألواح التي وُجدت في أطلال مكتبة قصر آشور — بانيبال ملك العالم وملك آشور كما كان يُسمي نفسه من سنة ٦٦٧ إلى سنة ٦٢٦ قبل الميلاد، هذا الملك المجنون بالقتل والمعرفة، بقطع رءوس أعدائه وتمزيق أشلائهم وحرق مدنهم، وبتذوُّق الغناء والموسيقى وجمع تراث الآباء والأجداد — يُعزى هذا النص إلى كاهنٍ بابلي يُدْعى سين-ليكي-أونيني، عاش في القرن الثاني عشر حوالَي عام ١١٠٠ قبل الميلاد. ومن المؤسف أننا لا نعرف شيئًا عن هذا الشاعر الموهوب الذي نسج من القصص السومرية التي ذكرتها هذا العمل الأدبي الفريد.
الصوت (وهو يتوالى مرتفعًا بعض الشيء) :
جلجاميش. جلجاميش.
الراوية : انتظِروا. لا بد من كلمة عن هذا العمل الذي لا نكاد نعرفه ونحن ورثته، ولا يكاد يقرؤه أو يدرسه إلا المُختصون بعلوم الآثار والتاريخ القديم واللغات السومرية والأكدية، مع أنه أثَّر على مدى أكثر من ثلاثة آلاف سنة على أجيال وأجيال من شعوب الشرق الأدنى القديم، بل يحتمل أن يكون قد أثَّر على بعض أساطير الإغريق وعلى شاعرهم هوميروس حتى استحقَّ أن يُسمى أوديسة البابليين.
الصوت (مع دقات طبول مرتفعة) :
جلجاميش. جلجاميش.
الراوية (مُندفعًا حتى لا يكاد يُبِين) : عاش بين سنتَي ٢٧٥٠ و٢٦٠٠ أو ٢٥٠٠ قبل الميلاد، وذكرت ثبت الملوك والسومريين أنه خامس ملك حكم مدينة أوروك بعد الطوفان. بلغت المدينة في عهده أوج العظمة والازدهار، وإليه يُنسَب بناء سورها العظيم، ومعبد إينانا المقدَّس وهيكل إله السماء آنو. فاض الخير والخصب على بلاده في حياته، وأُلِّه في حياته وبعد موته، ونصبته الأسطورة قاضيًا لأرواح الموتى في العالم السفلي المُخيف. وبناء السور العظيم (يُسلط الضوء على أطلاله وخرائبه في أقصى الخلف) دليل على اشتعال نيران الصراعات والحروب بين مدن السومريين التي كانت كلٌّ منها دولةً مستقلة تذكِّرنا بدولة المدينة عند الإغريق. والسومريون (يزداد ارتفاع الطبول) لا بد من كلمة وفاء لهذا الشعب الجدير بالوفاء. (يهدأ قرع الطبول) نعم نعم، فهو الذي وضع التقاليد الثقافية والحضارية، وأسَّس النُّظم والمعتقدات والنماذج الأدبية، واخترع أول كتابة عرفتها البشرية بالخط المسماري، وأبدع أساطير الخلق والبعث والجنة والطوفان، وكذلك أسطورة جلجاميش.
الصوت :
جلجاميش. جلجاميش.
الملك الحكيم.
البطل الوسيم.
الراوية : حقًّا حقًّا، هذا ما يُثبته اللوح الأول، وتؤكده كل الألواح الاثنا عشر. هل قلت لكم إن اسمه معناه الرجل الذي سيُنبت شجرة، أو المُحارب الذي يسير في المقدمة؟ لقد اختلطت منذ القِدم الأساطير التي تُروى عنه بالأخبار التاريخية التي ترجع للألف الثالثة قبل الميلاد، وارتبط اسمه بالبحث في مصير الإنسان، ومعنى الحياة والموت، والسعي إلى الخلود الذي استأثرت به الآلهة دون البشر.
الصوت (في شبه استغاثة أو دعاء) :
جلجاميش.
ثلثاه إله والثلث الباقي بشري فانٍ.
جلجاميش.
حباه الحسنَ إلهُ الشمس شمش،
وإله الرعد أداد القوة والبطش.
جلجاميش.
راعى أوروك الملك الحق على العرش
والثور الناطح والأسد الكاسح كالوحش.
الراوية (مؤمِّنًا على ما قاله الصوت) : وهذا أيضًا تُثبته الصور المنحوتة على النقوش والأختام الأسطوانية، فتُمثله ببطلٍ يحمل في إحدى يدَيه ساطورًا، وفي الأخرى أسدًا أو ثورًا يمسكه من ذيله أو من رجليه الخلفيتين، بينما تبرز من رأسه القرون التي كانت من شارات الألوهية (تسقط في هذه الأثناء صورة أو لوحة تُمثل جلجاميش وهو يمسك أسدًا من ذيله وأخرى على هيئة ثور بشري).
الراوية (يسترسل في كلامه دون أن ينتبه إلى الجموع التي بدأت تتوافد من يمين المسرح) : لكنه كان على الدوام مُضطرب الفؤاد. هذا ما قالته أمه الحكيمة نينسون، وهي تشكو حالها إلى رب الشمس والعدالة (وكأنه يُغني أثناء تقليبه في الألواح).
عملاق، فالصدر عريض؛ تسعة أشبار.
والقامة، عذرًا؛ فأمامي فجوات؛ عشرة أشبار أو أحد عشر.
جلجاميش طاغٍ جبَّار.
جذوة نار.
يقتل في ثورة غضبه،
ويثور الندم بقلبه،
ويفيض الألم بشعبه.
الجموع (التي لم يفطن إليها الراوية بعد؛ إذ يحسبها من الأصوات التي كان يسمعها) :
يوقظنا في أعماق الليل،
على صوت الطبل،
جلجاميش.
الراوية (مُرددًا كالحالم) : جلجاميش.
الجموع :
لا يترك ابنًا لأبيه.
ماضٍ في الظلم الفادح ليلَ نهار.
الراوية :
الملك العادل،
والراعي الكامل.
الجموع :
جبَّارٌ ظالم،
طاغيةٌ آثم.
الراوية (مُكملًا) :
أم بطلٌ حالم؟
جلجاميش شاعر،
وحكيمٌ ثائر.
ثلثاه إله،
والثلث الباقي
بشريٌّ زائل.
في الصدر الحائر والقلب الطاهر
تتصارع أرض وسماء،
والطين مع النور الباهر.
الجموع :
كذب، كذب
أسطورة شاعر.
الراوية (مُلتفتًا إليهم) : ما هذا؟ من أنت؟
الجموع : الشعب المقهور الثائر.
الراوية :
كيف أتيتم؟
ما مطلبكم؟
الجموع :
نشكو للعصر الحاضر،
من ظلم العصر الغابر،
نشكو جلجاميش.
الراوية :
الملك الشاعر،
والبطل الظافر؟
الجموع :
والثور الهادر،
والوحش الغادر.
أصوات :
لا يترك بكرًا لأمها،
ولا ابنًا لأبيه.
ليلَ نهار يُمعن في ظلمه.
هو راعي أوروك الحمي،
وهو القوي الوسيم الحكيم.
لا يترك العذراء لحبيبها،
ولا الابنة لأبيها المُحارب،
ولا الزوجة لزوجها.
الراوية (يسترد نفسه، يُقلب في الصحائف والألواح) :
حقًّا! حقًّا! أذكر هذا.
ورفعتم أصواتكم بالشكوى والأنين
لآنو إله السماء، وإله أوروك.
الجموع :
واستمع الآلهة لشكوانا،
فدعوا سيدة الخلق آرورو قائلين:
أنت يا من خلقت جلجاميش،
اخلقي له الآن ندًّا جامح الفؤاد،
فيدخلان في تنافس وتستريح أوروك.
الراوية :
إنكيدو.
صاحبه الطيب إنكيدو.
صوت من الجموع :
وحش البرية
يرعى الكلأ مع الغزلان،
ويرد الماء مع الحيوان.
خلقته على صورة آنو،
وحباه القوةَ نينورتا،
رب القنوات وراعي الشُّطآن.
الشعر المُنسدل سنابل قمح،
والملبس جلد الحيوان،
كربِّ القُطعان سموقان،
لا يعرف شيئًا عن طبع البشر ولا البُلدان.
صوتٌ آخر :
رآه صياد عند مورد الماء،
فتجمد وجهه واضطرب قلبه.
شل الرعب لسانه ودخل جوفه،
فانطلق مذعورًا إلى أبيه:
وحش البرية تُشبِه قبضته قبضة آنو.
ردم الحُفر التي حُفرت.
مزَّق الشِّباك التي نُصبت.
جعل طرائد البرية تفلت مني.
فتح الأب فمه وقال للصياد:
يا ولدي، في أوروك يُقيم الملك الرائع جلجاميش.
من لا يُشبِهه أحد في قوة بأسه.
امضِ إليه وأنبئه بنبأ الوحش الجبَّار،
وسيُعطيك بغيًّا من معبد سيدة الحب الكبرى عشتار.
خُذها للبرية، تغلب قوَّتها قوَّته،
وصنعتها توقظ فيه الإنسان،
فيهرب منه الوحش وتُنكره الغزلان.
شمخات (لا تظهر على المسرح) : ونضوت ثيابي، وكشفت مفاتن صدري.
أصوات الجموع : شمخات بغيُّ المعبد؟
شمخات :
بل قولوا كاهنة الحب.
قاربني وحنوت عليه.
عانقني فرويت العطش، وأشبعت الجوع، وهدهدت القلب.
يومًا، يومين،
سبعة أيام وليالٍ، نصِل الصبح مع الليل.
وإلى أوروك قُدتُ خُطاه على الدرب،
كما تفعل أم مع طفل.
الراوية :
وقسمت الثوب الواحد نصفين،
فلبس الثوب،
وبفضلك أكل الخبز،
وذاق مع الناس رحيق الخمر العذب.
شمخات :
ودخلنا أوروك،
وقلبي يهتف: يا أهلي، يا أحباب القلب،
هذا هو إنكيدو المُنقذ،
عَوْن المظلوم التعِس،
وأمل الشعب.
الجموع :
كنا ننتظر هناك،
على الأبواب وفي الساحات.
ننتظر شهابًا أرسله آنو،
نجمًا يخترق الظلمات.
ننتظر الفأس المطروحة في الطرقات،
وتجمعنا حول البطل.
ضحِكنا، صِحنا، قبَّلنا الثوب.
لثَمْنا اليد والقدم.
هتفنا: هذا هو حلم الشعب.
آه! وا أسفاه!
أصوات :
الحلم تبدَّد مات.
الحلم تبدَّد مات.
الراوية :
لماذا؟ ما الذي حدث؟
ألم يصبح إنكيدو صديق جلجاميش؟
ألم يُحقق الحلم الذي رآه وفسَّرته أمه؟
ألم يشغله عنكم يا أبناء أوروك؟
صوت من الجموع : معك الحق، شغله عنا.
الراوية : واسترحتم منه.
الصوت : إن كانت في الموت الراحة.
صوتٌ آخر : إن كانت في الجوع أو القحط الراحة.
صوتٌ ثالث : إن كانت في اليتم الراحة.
الراوية :
الجوع؟ القحط؟ اليتم؟
ماذا تقصد؟
الصوت :
تركانا،
وانطلقا للمجهول.
شمخات :
ومع الأيام انهارت أوروك،
وطمعت فيها الأعداء،
ومات الحلم الوردي،
وخاب الأمل المأمول.
أصوات :
مات الحلم الوردي،
وخاب الأمل المأمول.

(تتجه إلى مقدمة اليسار مجموعة من الشيوخ والعجائز، وجوههم كاسفة، ورءوسهم مُطرِقة، ويؤلفون جوقةً مستقلة عن بقية الجموع.)

الشيوخ :
نحن شهدنا موت الحلم،
ووقع الظلم
على المرأة والشاب اليافع،
والطفل العاجز والأب والأم.
الراوية :
لكن، من أنتم؟
من أين أتيتم؟
الشيوخ :
نحن شيوخ أوروك.
فينا الكاهن والسادن،
والكاتب والحاجب،
والصانع والزارع،
والراعي المسئول عن القطعان.
كنا أعضاء الشورى في أوروك،
وأرباب الحكمة والأعيان.
جئنا من هاوية الزمن المُوغِل في ظلمات القِدم
ومن أغوار الوجدان؛
كيما نُنذر ونذكِّر
من أنسَتْه الأيام ومرُّ الأزمان
بحقيقة ما قد كان،
وما أغفله الكتبة والكهان.
نحن المتهم، ونحن القاضي.
نضع الميزان،
ونُشارك في محكمة الحاضر والماضي.
الراوية : أية محكمة؟
الشيوخ :
ولماذا نجتمع الآن؟
جلجاميش.
الراوية : قلت نُحاكمه؟
الشيوخ :
ونُحاكم أنفسنا،
ونُحاكمكم.
نجتثُّ جذور اللعنة من أرض الإنسان.
فالداء قديم، والشجرة يُثقلها الشوك
على الأغصان، تسكنها القردة
والحيات، تُعشش فيها الغربان.
الراوية :
أتُحاكم فخر الأجيال،
وبطل الأبطال؟
من سافر في الأرض وغامر
عبر بحار الموت،
وقطع الأنهُر والوديان.
واقتحم الأرض المجهولة؛ أرض الأحياء،
وقتل الوحش الغادر،
ومحا الشر وصدَّ العُدوان؟
أنُحاكم من دخل أوروك دخول البطل،
فصِحتم في موكبه الظافر:
بطل الأبطال!
أشجع من كل الشجعان!
أنُحاكم من خلَّد ذكر أوروك
فوق المدن الأخرى والبُلدان؟
الشيوخ :
غير صحيح بالمرة.
أبدًا ما خلَّد جلجاميش إلا اسمه.
ما حفر على الحجر
وفي النقش البارز إلا رسمه.
الراوية : لكن الملحمة تؤكد.
الشيوخ :
نحن الشعب،
ولم تذكرنا الملحمة بكلمة؛
ولهذا جئنا لنُحذركم،
ونُذكركم؛
لنُعيد قراءتها معكم،
ونُطالع فيها الدرس الخالد والحكمة.
الراوية : هل تُنكر ما فعل البطل؟
الشيوخ :
وأنفي عنه المجد الفاسد،
وأدين طموحه.
الراوية : لكن الملحمة ستشهد.
الشيوخ :
وسيشهد هذا الجمع الحاشد
ويفض على الملأ جروحه.
والميت منذ قرون
سيُغادر في التوِّ ضريحه.
وستشهد شمخات.
الراوية : بغيُّ المعبد؟
شمخات (تظهر في المستوى الأعلى) :
بل كاهنة الحب.
وكم حذَّرت حبيبي.
الشيوخ :
وكذلك إنكيدو الطيب،
شبح المسكين المُتعب،
يفِد علينا من عالمه السفلي المُرعب.
إنكيدو (تظهر صورته في المستوى الأعلى) :
أنا إنكيدو.
وحش البرية.
أرعى الكلأ مع الغزلان،
وأرِد الماء مع الحيوان.
ما زِلت وفيًّا لعهود الحب،
وإن عهود القلب وثيقة.
وسواء سمَّاني الكتبة خادمه،
أو سمَّتني الملحمة صديقه،
فلقد كنت ضحيته،
والسكين بيده،
والفأس المطروحة في طرقات أوروك،
والنجم الثاقب يشتاق بريقه.
آه! كم حذَّرتك يا جلجاميش!
وظللت أردك لجموع الشعب،
لنبض القلب،
وأمر الحب؛
لعلك أن تستمع نداه،
وتأخذ منه الكأس العذب،
وتمتص رحيقه.
آه كان حبيب القلب،
رفيق الدرب،
وكنت رفيقه،
وبكاني حين مرضت.
ولما اختطف الطير الصاعق روحي
شبَّت فيه النار،
فما أطفأ مرُّ الأيام حريقه،
ومضى كالثور الجامح والنَّسر الجارح،
خاض بحار الموت،
غريبًا يبحث عن حلم لا يُدركه البشر،
وما من حي يملك تحقيقه.
آه! كنت المصباح أضاء طريقه،
وسفينته في بحر التِّيه،
وكنت غريقه.

(ينبعث من الكومة البشرية المُعتِمة في أقصى اليسار نواحٌ مر. يتلفَّت الحاضرون نحو الصوت الذي لا يتبيَّنون مصدره. تعقد الدهشة ألسنتهم لحظات قبل أن تتحرك رءوسهم وأيديهم بالإشارات والإيماءات، وتند عن شفاههم صيحات التعجب والاستفسار.)

إني أبكيك.
أنصِتوا إليَّ يا شيوخ أوروك.
أنصِتوا إليَّ.
إنني أبكي إنكيدو،
أبكي صديقي،
أُطلِق شكواي المُرة كالندَّابة.
أنت يا من كنت الفأس إلى جنبي
وفي متناول يدي.
أيها السيف في حزامي،
والدرع الذي يحمي صدري،
أنت يا حلة عيدي،
وحزام بأسي وقوَّتي،
سرقك مني شيطانٌ ملعون.
إنكيدو، يا صديقي،
ما هذا النوم الذي أطبق عليك
حتى غشيك فلم تعُد تسمعني؟
الشيوخ (يتلفتون حولهم) :
هذا الصوت المفجوع المُحزِن
ينسكب كدمع العين.
هل أعرفه؟
هل أذكره؟
هل هو؟ لا، لا.
من هو؟ من؟
إنكيدو (يردِّد أغنيته) :
آه! كنت المصباح أضاء طريقه.
كنت سفينته في بحر التيه،
وكنت غريقه.
أورشنابي (وهو ملَّاح أوتنابشتيم أو نوح البابلي، يظهر في المستوى الأعلى، ويقول في مرح) :
بل أنا ملَّاح سفينته.
خوَّضت به في بحر الموت
ليجد لأوتنابشتيم طريقه.
كم أنذرت وحذَّرت
من الملل القاتل،
للجد المُكتئب الخامل.
فأصرَّ ولم يبلع ريقه.
لما طردني الخالد من جنته،
قلت لنفسي:
صعلوكٌ وجد رفيقه.
الشيوخ (يضحكون) :
حتى سيدوري الحلوة
تعبت معه.
مدَّت بالكأس يدَيها
لتبلَّ عروقه.
لكن الوهم تمكَّن منه،
فعجزت حكمتها المرِحة أن تنتشل
المفتون الذاهل
من سحب الحلم القاتل وتُفيقه.
سيدوري (تظهر في أعلى المسرح) :
بالحق نطقت،
وأنا ساقية الحان
على شاطئ بحر الموت.
مددت إليه الكأس.
دعوت. دعوت.
لعل الخمر تُزيل اليأس،
تُميت الموت الرابض
في أعماق النفس.
آه! كم حذَّرت وكم أنذرت!
لعل النسر التائه في سحب الحلم
يعود لحضن الزوجة والبيت.
قلت وكرَّرت، وبحَّ الصوت:
يا جلجاميش، هذا بستان البهجة.
فاقطف فاكهة اللحظة، قبل فوات الوقت.
لمَ تتعجل سيرك؟
أين تقود خُطاك؟
إن حياةً تبحث عنها
لن تدركها، لن تصل إليها،
مهما حاولت.
لما أن خلق الآلهة البشر
قديمًا قسَّموا لهم الموت،
واحتفظوا في قبضتهم
بخلودٍ يتحدَّى الحد،
ويوقف عجلات المولد والموت.
فاملأ بطنك.
متِّع نفسك ليلَ نهار،
واجعل أيام حياتك أعياد البهجة،
وارقص والعب يا جلجاميش ما شئت.
اخطر في ثوبٍ زاهٍ،
واغسل رأسك بالماء،
وضمِّخ جسدك بالعطر والزيت.
انظر للطفل الراقد بين يدَيك،
وأسعِد زوجك في أحضانك.
ذلك هو حظ البشر،
وقسمتهم ما عاش الناس وعشت.
صوت جلجاميش :
آه! لا أقدر أن أفعل هذا.
ماذا أصنع؟
وإلى أين أوجِّه وجهي؟
مذ سقطتْ من أنفِ صديقي الدودة
لا أحتمل العيش ولا أحتمل الموت.
أنَّى قلبتُ الطرف وجدتُ الموت
يربض في مخدعي ويسكن عيني،
يُلازم خطوي
أنَّى رحتُ وأنَّى جئت.
صوت من الجموع : هذا الصوت. هذا الصوت.
صوتٌ آخر : لكأنِّي ألمح ظله.
صوتٌ ثالث : وأراه وأُبصر شكله.
صوتٌ رابع :
لكأنَّ عيون الرعب عليَّ من الأسوار مُطلة.
والأمس الذاهب والغد واليوم الشاحب بؤس ومَذلَّة.
صوتٌ خامس :
صوتٌ مُرعب.
حتى وهو يئنُّ ويندب
أُوشك أن أسمع معه صوت الطبل،
يوقظ أوروك بجوف الليل،
ويسوق الخلق لِنير السُّخرة وسياط الذل.
يخشاه الرجل ولا يرحم حتى العذراء أو الطفل.
صوتٌ سادس :
صوتٌ مُرعب.
صوتٌ مُرعب.
أسمعه فتُرفرف أطيار الصدر
وقد أعماها الذعر،
فأسأل نفسي:
هل يبكي الأسد أو النمر
أو الذئب؟
أورشنابي (يظهر أعلى المسرح) :
أما أنا فضحكت،
لما ضاعت منه النبتة
قطع الثوب،
مزَّق شعر الرأس،
وجدَّف في حق الرب.
الراوية (يستوقفه) :
أية نبتة؟
ذكِّرني إن كنت نسيت.
أورشنابي :
ظلَّت لغزًا يطويه البحر ولا يُعلن سره،
حتى كشف أوتنابشتيم أمره.
صارت أملًا يحمله معه إلى أوروك
لكي يتعزَّى عن خيبة أمله.
أخرجها من جوف الماء،
فجرح الشوك يدَيه.
ولما ضاعت جرح القلب.
الراوية :
ضاعت أم أكلتها الحية؟
من سمَّوها أسد الترب؟
أورشنابي :
لن أنسى الفرحة في عينَيه،
ولا الدم ينزف من كفَّيه،
وهو يُنادي:
صوت جلجاميش :
يا أورشنابي،
ما أعجبها نبتة!
يأكلها الشيخ فيرجع لصِباه بغتةً،
أحملها معي إلى أوروك،
وأقسمها بين شيوخ الحكمة.
آكل ما يتبقى
ليعود إليَّ شبابي وأجدِّد عهده.
الراوية (للشيوخ) :
أرأيتم؟
لم يستأثر بالنبتة وحده.
أثر أن يسبقه الشيخ الهرم،
ويتذوقها بعده.
الشيوخ :
لا تغترَّ بكلمات لا تكشف قصده،
أبدًا ما غيَّر جلجاميش جلده،
حتى آخر نفس لم يتذكر إلا نفسه،
والمجد الكاذب مجده.
صوت جلجاميش (وقد بدأ الضوء الخافت يظهر ظله) :
أورشنابي،
يا أورشنابي،
يا أوتنابشتيم الخالد،
يا ساقية الحانة سيدوري،
يا روح صديقي الطيب إنكيدو،
ضاعت مني النبتة.
راح الأمل وتاه.
فلمن أضنيت يدي؟
لماذا نزف القلب دماه؟
ضاع العمر سُدًى.
لم أكسب شيئًا (يبكي).
أورشنابي :
أقبلت عليه،
أخفِّف عنه
حمول القلب المُتعَب.
ودعونا شمش الطيب،
راعي الغرباء الحيرى،
في الليل الأعمى،
والتِّيه المُرعب.
يا جلجاميش لا تُتلف نفسك،
لا تذرف دمعك
كالطفل المُذنب.
بعد قليل يصِل الموكب
تدخل أوروك الساحة والملعب.
أوروك البيت الدافئ،
والأم الثكلى،
والأب والجد الطيب.
سِرنا الساعات مُضاعفة،
وتزوَّدنا من زاد الأرض،
وبارك شمش الرحلة والموكب.
حتى لاح على البعد السور،
ومعبد آنو رب الأرباب،
وهيكل إينانا سيدة الحب،
وراعية الخصب.
وجرى جلجاميش نحو السور،
ولثم العتبة والأبواب،
وصاح كطفلٍ غاب وعاد إلى صدر الأب.
صوت جلجاميش :
انظر يا أورشنابي.
اعلُ السور.
تمشَّ عليه.
تفحَّصْ صنعة آجُره.
المِسْ قاعدته.
أوَليس الحكماء السبعة
من أرسَوا أسسه؟
وانظر للإفريز المُعجب
يتوهج بنحاس،
يسطع كالنجم الأشهب.
اعلُ السور.
تمشَّ عليه،
ومُدَّ الطرف إلى الأفق الأرحب.
ثلث للبستان،
وثلثٌ آخر للمرج،
وثلث لأوروك.
الساحة والمعبد والملعب.
انظر والمس قاعدة السور.
تعجَّبْ!
الشيوخ (يتجهون نحو جلجاميش وأورشنابي في غضب) :
السور تهدَّم،
والمعبد والبرج تحطَّم،
والمرج هشيم ورماد،
والساحة والملعب مأتم.
انقضت كيش
على أوروك
فغرقت في بحر الدم.
والمجد الكاذب
شبَّ حريق فيه،
فلم يبقَ سوى
الطلل الأبكم.
الراوية : واللوح المشهور؟
الشيوخ : تفتَّت، والنقش تهشَّم.
الراوية :
لكن الملحمة تقول
بأن البطل العائد …
الشيوخ :
أعلم، أعلم.
لم يبقَ من المجد الغابر
حتى الاسم.
الراوية : والحلم الرائع؟
الشيوخ : سقط الحلم.
صوت :
سقط على رأسي
في جوف الليل.
صوت : قتل الزوجة والطفل.
صوت :
صرع الكرمة والحقل.
واغتال الشجرة والظل.
صوت :
وتركنا الدار إلى النار،
وضنك الحال إلى الذل.
الراوية :
جلجاميش، هل هذا حق؟
أأصدِّق قول الشاعر
في ملحمتك،
أم هذا القول هو الصدق؟
الشيوخ :
فرقٌ أزليُّ
بين الشعر وبين الشعب.
إن كنت تريد الحق،
اسمعنا، واسمع جلجاميش،
واحكم أيهما الكذب،
أيهما الصدق.
الكلمة ينقشها القلم،
أم الكلمة تنطقها الشفة من القلب؟
الراوية : جلجاميش، أرجوك تكلَّم.

(جلجاميش يلوذ بالصمت.)

الراوية :
جئنا نقرأ ملحمتك
كي نعِي ونفهم.
الشيوخ : بل لنُحاكم من سمَّته البطل ونحكم.

(جلجاميش صمت.)

أورشنابي :
لن يتكلم.
إني أنظر في عينَيه وأفهم.
الراوية (مُخاطبًا جلجاميش) :
أشعر أنك تتألم.
ألِأنَّ الحلم تحطَّم،
تقف هناك كتمثالٍ أبكم؟
ألِأنَّ النبتة ضاعت
وانكشف الوهم؟
أرجوك تكلَّم.
ننتظر الكلمة منك لنفهم.
الشيوخ :
بل لنُحاكم،
ثم يكون الحكم.
الراوية :
من سيُحاكمه
أنتم؟ نحن؟
الشيوخ :
سنُحاكمه
ونُحاكم أنفسنا معه
باسم العدل
وباسم الظلم،
باسم الأرملة الثكلى
والشيخ العاجز
والأب والأم.
أورشنابي (ضاحكًا) :
ما زال الحالم يحلم.
يلمس أحجار السور
كتمثالٍ أبكم.
يتجول بين خرائب أوروك
شبحًا أضناه الهم.
كيف تكلِّمه؟
كيف سيسمع أو يفهم؟
الراوية : حقًّا، ما زال الحالم يحلم.
أورشنابي :
هذا ما قلت الآن.
وأخشى ما أخشاه
ألا أستيقظ أيضًا من هذا الحلم.
الراوية :
نحن سنحلم معكم
ونُعيد الحلم.
أورشنابي : أأعود إلى بحر الموت؟
الراوية :
ولأوتنابشتيم الخالد
في واحته النائمة
على صدر الصمت.
سيدوري : وأنا للحانة والنشوة والكأس؟
إنكيدو :
وأنا للمرض ولعنة عشتار
والموت الظالم والبؤس؟
شمخات : وأنا للحب الصامت واليأس؟
الراوية :
سنرجع للملحمة
نُعيد قراءتها معكم،
نتعلم منها الحكمة والعبرة والدرس.
الشيوخ :
ونعود لأوروك
ونرفع عنها الظلم،
ونُحاكم أنفسنا معكم
ونُحاكمكم.
الراوية :
سنرى لمن سيكون الحكم.
هيَّا نبدأ رحلتنا.
يا إنكيدو، يا سيدوري، يا أورشنابي، يا شمخات.
أيتها الأسماء الأخرى،
عُودوا للملحمة الكبرى.
هيَّا! هيَّا!
الجميع :
نحن على استعداد.
حتى أرواح الموتى،
حتى الآلهة،
ستحضر،
وتُشاركنا في نطق الحكم.
الراوية :
هيَّا يا جلجاميش.
يا من تحلم بالمجد الرائع
وخلود الاسم.
دَعْنا نحلم معك قليلًا
ثم نُفيق من الحلم.
صوت : هو الذي رأى.
صوتٌ آخر : هو الذي طغى.
أورشنابي :
جلجاميش.
جلجاميش.
ماذا يفعل؟
الشيوخ :
جلجاميش يحلم.
بعد قليل سيُفيق البطل من الحلم.
أورشنابي :
أسمع صوت بكاء
كسقوط المطر على الحجر الصلد.
عُدْ يا جلجاميش عُدْ.

(تسمع أصوات نشيج مكتوم بكاء يختلط فيها صوت شمخات وجلجاميش.)

الشيوخ :
دعه يحلم بخلود الذكر.
إن كان بكاءً ما أسمع
فالدمع يُطهر.

(جلجاميش يسمع صوت بكائه المستمر، بينما ترتفع أصواتٌ مُتقاطعة.)

صوت : هو الذي رأى.
صوت : هو الذي طغى.
الراوية :
لا توقظه من الحلم،
ولا تتعجل إصدار الحكم.
هيَّا يا جلجاميش.
يا إنكيدو. يا شمخات.
يا سيدوري. يا أورشنابي.
يا نينسون. ويا أوتنابشتيم الخالد.
يا شمش. ويا عشتار.
أصواتٌ مُتداخلة :
هو الذي رأى. هو الذي طغى.
هو الذي رأى. هو الذي طغى.
صوت جلجاميش (مع قرع طبول عالية) :
ضاعت مني النبتة.
ضاع الأمل وتاه.
لمن أضنيت يدي؟
لماذا نزف القلب دماه؟
آه! لم أكسب شيئًا،
وأضعت العمر سدًى.

(الجميع ينسحبون على صوت الطبول.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤