الفصل الرابع

مصرع خمبابا في الغابة والجبل الأخضر

(في غابة الأرز، الصديقان يدخلان ويداهما مُتشابكتان. إنكيدو يقترب من البوَّابة، يُحاول أن يفتحها فيصرخ من الألم.)

إنكيدو (صارخًا) :
آه يا جلجاميش! حاذِرْ!
لا تتوغل في الغابة.
فذراعي فقدت قوَّتها حين لمست البوابة.
احذر يا جلجاميش هذا السحر القاتل!
جلجاميش (يُسرع إليه) :
إنكيدو.
لمَ تتكلم كالجُبناء؟
هل قاسينا السفر،
وواجهنا الخطر،
لنرجع من حيث أتينا؟
إنكيدو :
أصرخ من ألمٍ مُضنٍ،
والموت يشلُّ ذراعي،
يكبِّل جنبي ويخنقني.
جلجاميش :
انسَ الموت. اتبعني.
يتلاشى شلل ذراعَيك ويهدأ روعك.
يحمي كلٌّ منا الآخر.
فإذا سقط يُخلد اسمًا لا يفنى.
الراوية : امَّحت خمسة أعمدة من هذا اللوح الذي يصف رحلة الملك وصديقه إلى غابة الأرز، ولم تبقَ منه سوى شذرة قصيرة تُصور تجربة البطلين؛ فبعد عشرين ساعةً مُضاعفة١ توقَّفا لبعض الزاد، وبعد ثلاثين ساعةً أخرى مضاعفة أخلدا للراحة مع هبوط الليل. قطعا خمسين ساعةً مضاعفة في النهار، واجتازا مسيرة شهر ونصف الشهر في ثلاثة أيام. وفي المساء استراحا وحفرا بئرًا سكبا منه لشمش القربان. بيْدَ أن اللوح الذي انطمست معظم أعمدته وسطوره لا يسمح لنا بتتبع ما جرى لهما؛ فبعد الكلام عن الساعات التي قطعاها في رحلتهما نُلاحظ ضياع ما يقرُب من مائتَي سطر كاملة، ثم نجد البقية الباقية غامضة ومليئة بالفجوات. ونفهم منها أن جلجاميش وإنكيدو وصلا إلى بوابة الغابة، وأن إنكيدو حاول أن يفتحها فصرخ من الألم كما سمعنا الآن. ويبدو أن جلجاميش قد راودته الشكوك في إمكان الدخول من البوابة والتخلص من الحارس الذي عيَّنه المارد خمبابا عليها؛ إذ يستنهض إنكيدو همته في هذه السطور التي اجتهد العلماء في إصلاحها.
إنكيدو : تذكَّر ما قلت في أوروك. انهض وتقدَّم منه لتقتله، أي جلجاميش يا ابن أوروك.
الراوية : سمع جلجاميش كلام صديقه وعاودته الثقة. وهذا ما شجَّع إنكيدو على مُواصلة كلامه.
إنكيدو : أسرِعْ إليه حتى لا يهرب، وينحدر إلى الغابة فيفلت من أيدينا.
فمن عادة هذا الحارس أن يلبس سبعة دروع، لا يقدر أي سلاح أن ينفذ فيها. إنه يضع عليه الآن درعًا واحدًا، والستة الباقية منزوعة ومطروحة على الأرض أمام قدمَيه.
الراوية : ولا يلبث النص أن يتشوَّه في هذا الموضع، بحيث لا نستطيع أن نفهم منه أكثر من أن أحد الصديقين قد انقضَّ كالثور الوحشي، وأن حارس الغابة قد صرخ واستولى عليه الرعب وأخذ يستغيث بخمبابا الذي دعاه حارس الغابات. ثم تأتي فجوة من اثنين وعشرين سطرًا، ربما تكون قد قدَّمت وصفًا للمعركة التي نشبت بين الصديقين وبين حارس الغابة حتى تمكَّنا في النهاية من فتح بوابتها. ولا بد أن إنكيدو قد أدرك مدى خطورة المغامرة على حياة جلجاميش المُتردد بين الاقتحام والإحجام؛ إذ يفتح فمه ويُحذره بهذه العبارة الوحيدة الباقية من كلامه:
إنكيدو : فلتعدل عن التوغل في الغابة!
الراوية : إلا أن جلجاميش الذي نفخت الشجاعة والثقة صدره أخذ يؤنِّبه على تخاذله كما سمعنا قبل قليل، ثم استأنفا المسيرة والسُّرى حتى وصلا إلى الجبل الأخضر، فاحتبست الكلمات ووقفا ساكنين.
الشيوخ :
حقًّا، نحن سمعنا هذا أيضًا.
جلجاميش نظر إلى الجبل الأخضر.
نظر إليه الموت.
هربت منه الكلمات،
وران عليه الصمت،
وارتعشت أشجار الأرز،
فمسَّته الدهشة والذعر،
كغريقٍ أطبق سقف الكون عليه،
وطوَّقه موج البحر.
الراوية : نعم. نعم. وقفا يتأملان الغابة في سكون. أصابهما الذهول من ارتفاع أشجار الأرز وذُراها العالية، وتطلَّعا إلى جبل الأرز، مقام الآلهة وعرش عشتار. كانت الأشجار المُترامية أمامهما شامخةً تنشر حولها ظلال الجمال والسلام، والخضرة مُنبسطة على السهل والجبل والأكمة والدغل المُلتف الأغصان. ولمحا على أرض الطريق آثار قدمَي خمبابا، فأخذا ينتظران ظهوره. ولما طال انتظارهما طلب إنكيدو من صديقه أن يهجعا قليلًا ويتركا للأحلام أن تُريهما أثره. أما جلجاميش فحفر بئرًا قبل غروب الشمس، ثم ارتقى الجبل وتضرَّع إليه أن يرزقه حلمًا طيبًا.

(الصديقان راقدان على العشب. يصحو جلجاميش فجأة من نومه ويهتف بصاحبه):

جلجاميش : إنكيدو! ما الذي أيقظني من النوم إن لم تكن أنت؟ لقد رأيت حلمًا يا صديقي.٢ هيَّا انهض، اصعد على صخور الجبل، وانظر من شفا الهاوية. لقد حُرِمت النوم الإلهي وانقطع الحلم. آه يا صديقي! يا له من حلمٍ سيئ مُضطرب! رأيت أني أقبض على ثورٍ وحشي في البرية، خار الثور وأثار سحابة من الغبار فأظلمت السماء، وأمسك بذراعي فوقعت على ركبتي، ثم تقدَّم مني شخص فسقاني من قربته ماءً.
إنكيدو (وهو يفرك عينَيه) : يا صديقي! ليس الإله الذي نسعى إليه هو الثور الوحشي. الثور الوحشي الذي رأيته هو شمش الحارس. سوف يأخذ بيدك في وقت الشدة. أما الذي سقاك من قربته فهو إلهك لوجال بندا الذي يرعاك ويحميك، نريد أن نضع أيدينا في يده لنقوم بعمل لا تموت شهرته أبدًا.
إنكيدو : تشابكت أيديهما وأخلدا للراحة. أسرع إليهما النوم الذي ينسكب من الليل.٣ وفي منتصف الليل هرب منه النوم،٤ وروى لصديقه الحلم الثاني وهو يسأله في حيرة:
جلجاميش : ألم تهزَّني يا صديقي؟ فلماذا استيقظت إذن؟
إنكيدو : ربما رأيت حلمًا آخر؟
جلجاميش : نعم. نعم. رأيت حلمًا آخر. رأيتنا نقف في منحدرٍ عميق، أسفل جبل أبدو بالقياس إليه أشبه بالذباب الصغير الذي يتزاحم على أعواد القصب،٥ وانهار الجبل فجأة، فصدمني على الأرض وأطبق على قدمي فلم أستطع أن أخلِّصهما، ثم سطع ضوءٌ قوي لا يحتمل، وظهر لي رجل لم أشاهد أجمل منه في هذه البلاد. شدَّني من تحت الجبل وثبَّت قدمي على الأرض،٦ وسقاني ماءً فاطمأنَّ قلبي.
إنكيدو (هاتفًا) : ما أطيبَه من حلم يا جلجاميش! ما أروعه من حلم! الجبل الذي رأيته هو خمبابا. سوف نقبض عليه ونقتله يا صديقي. سنُلقي بجثته في العراء، وسيتم كل شيء غدًا.٧
الراوية : وفي الغد قطعا عشرين ساعةً مضاعفة وتناولا بعض الزاد، ثم توقَّفا للراحة بعد ثلاثين ساعةً أخرى. حفرا بئرًا قبل غروب الشمس، وصعد جلجاميش على الجبل. نثر الدقيق على أرض الجبل وقال:
جلجاميش : أيها الجبل! يا مَسكن الآلهة! هَبْني حلمًا طيبًا، هَبْني كلمة من شمش!
الراوية : يبدو من السطور الغامضة التي جاءت بعد هذه الكلمات أن الجبل أهداه حلمًا، وأن ريحًا باردة لفحت وجهه وبلَّلته برذاذها فتكوَّم كسنابل القمح تحت عاصفة مُمطرة. وبينما جلجاميش جالس وذقنه مُسندة على ركبتَيه، زحف عليه النوم الذي ينسكب على البشر جميعًا. ولما انتصف الليل انقطع عنه النوم، فنهض على قدمَيه وقال لصاحبه:
جلجاميش : إنكيدو! يا صديقي! ألم تُنادِني؟ فلماذا استيقظت من النوم؟ ألم تلمسني؟ فلماذا اعتراني الخوف؟ ألم يمرَّ إله من هنا؟ فلماذا ارتجفت أطرافي رعبًا؟ لقد رأيت حلمًا ثالثًا يا صديقي، وكان هذا الحلم مُخيفًا. أرعدت السماء وزُلزلت الأرض. احتجب ضوء النهار وحلَّت الظلمات. الْتَمع البرق واشتعلت النار. تكثَّفت السحب وأمطرت الموت. ثم خبا بريق النار المُتوهجة بغتةً، وتحوَّل كل ما تساقط حولنا إلى رماد. تعالَ نهبط الجبل ونتشاور فيما نفعل.
الراوية : هنا فتح إنكيدو فمه ليردَّ على صديقه. ولا بد أنه فسَّر له الحلم الثالث وإن لم تُمكنَّا الفجوة التي فغرت فاها في هذا الموضع من معرفة ما قاله، والأرجح أنه أثنى على هذا الحلم وتفاءل به؛ إذ قرَّر الصديقان أن يبدأ في قطع أشجار الأرز بفئوسهما. فلما أن سمع خمبابا الضجيج تملَّكته ثورة الغضب وصاح: من هذا الذي جاء لينتهك حرمة أشجاري التي ربَّيتها في جبالي؟ من الذي قطع أشجار الأرز؟ يبدو أنهما ارتبكا وأصابهما الذعر، فهبط عليهما صوت شمش السماوي وخاطبهما قائلًا:
صوت شمش : تقدَّما! لا تخافا!
الراوية : ولولا ثغرةٌ كبيرة من حوالَي ثمانين سطرًا لعرفنا ما قاله شمس للصديقين عندما الْتَمسا منه العون والمشورة في معركتهما المُقبِلة مع خمبابا. والظاهر أن إله النور والعدل قد حذَّرهما من مغبَّة القتال؛ إذ نقرأ سطرين يقولان إن دموع جلجاميش قد سقطت من عينَيه جداول مُنهمرة، وإنه تضرَّع لشمش السماوي قائلًا:
جلجاميش : لقد أطعتك دائمًا يا شمش السماوي، وسِرت على الطريق الذي رسمته لي.
الراوية : غير أن جلجاميش أصابته نوبة إعياء مفاجئة، فأطبق عليه نومٌ عميق، وتمدَّد على الأرض فاقد النطق، كأنما غرق في حلمٍ جديد. مدَّ إنكيدو يده ولمسه فلم يتحرك، كلَّمه فلم يرُد عليه.
إنكيدو : جلجاميش! يا سيد كلَّاب!٨ هبط الظلام فوق العالم، وانتشرت فوقه الظلال. لقد رحل شمش، ودفن رأسه الساطع في حضن أبيه ملك العالم السفلي. إلى متى تستسلم لهذا الرقاد؟ لا تجعل أمَّك التي ولدتك تضطرُّ للبكاء عليك في أوروك ذات الأسواق.٩
الراوية : أفاق جلجاميش من الرعب الذي غشِيه حين لسعته كلمات إنكيدو الأخيرة. انتفخ وتدرَّع ﺑ «صوت الأبطال» الذي يزِن ثلاثين شَيقلًا، وراح يخطر فيه كأنه معطفٌ خفيف، ويوسع ما بين قدمَيه ويزفر كالثور الذي يضرب الأرض، ويصرُّ بأسنانه فتصطكُّ كأنياب الوحوش.
جلجاميش (زاعقًا) : بحياة أمي نينسون التي ولدتني، بحياة أبي الإلهي لوجال بندا، لأعيشنَّ لأصبح مفخرة لهما ولكل الناس. والطريق الذي سلكت إلى أرض الأحياء لن يرجع أبدًا إلى مدينتي حتى نقتل هذا الرجل إذا صح أنه رجل من أبناء البشر، أو هذا الإله إذا كان واحدًا من الآلهة.
إنكيدو : يا صديقي ومليكي، إنك لا تعرف هذا الوحش؛ ولذلك تتكلم عنه بلا خوف. أما أنا فأعرفه؛ ولهذا أرتجف من الخوف. فأسنانه أنياب تنِّين، وقدماه مَخالب نَسْر، ووجهه وجه أسد، وعلى رأسه قرونٌ أحدُّ من قرون الثور، وذيله ينتهي برأس ثعبان، وتُغطيه تُروسٌ لا يكسرها السيف، ولا ينفذ فيها الحربة والرمح. إن أنفاسه هدير الطوفان، ونظراته تسحق أشجار الغابة وأقصاب المُستنقعات والأهوار، أي صديقي ومليكي.١٠
جلجاميش : بحياة أمي نينسون وأبي …
إنكيدو : توغَّلْ إن شئت في هذه الأرض.
جلجاميش : الطريق الذي قطعته إلى أرض الأحياء …
إنكيدو : سمعت هذا، لن يرجع للمدينة أبدًا.
جلجاميش : حتى أصرع هذا الرجل إن صح أنه رجل، أو هذا الإله إن كان أحد الآلهة.
إنكيدو : أما أنا فسأرجع للمدينة يا جلجاميش.
جلجاميش : ماذا أسمع؟
إنكيدو : وسأحكى لأمك الحكيمة عن كل أمجادك حتى تصيح فرحًا، ثم أروي لها قصة موتك حتى ينفطر قلبها من البكاء عليك، وتندبك في كل الشوارع والأسواق ومن شرفات المعابد والأبراج، وتُقدم الأضحيات والقرابين.
جلجاميش (مُسترسلًا في غضبه) : لم يحِن الوقت لتقديم الأضحيات والقرابين على روحي، لم أفكر في القارب الذي يحملني عبر بحار الموت إلى جزر الخالدين. ولن يُطوى بعدُ الثوب الذي سأكفَّن فيه ثلاث طيَّات. لا يا إنكيدو، لن يحزن شعبي عليَّ، ولن توقد المحرقة في بيتي، ولن تُخرب قصري وتُحيله إلى رماد.
إنكيدو : إني أعرفك كما أعرف الوحش؛ لذلك حذَّرتك.
جلجاميش : كما حذَّرني العجائز في أوروك فضحكنا عليهم وشبعنا سخرية منهم، ألا تتذكر يا إنكيدو؟ سنمضي معًا ونُثبت أعيننا في عين الوحش. إن كان فؤادك يرتعش من الخوف فألقِ الخوف بعيدًا عنك. إن كان الرعب بداخلك فقاوِم هذا الرعب. خذ فأسك وتقدَّم! ألم تتعهد أن تحميني وتحمي نفسك؟ من لا يُنهي المعركة لا يشعر بالسلام.
إنكيدو : حاذِرْ يا جلجاميش! ها هو ذا يظهر ويُغادر بيته المحصَّن. ها هو يخرج من بين الأشجار.
جلجاميش : أين؟ أين؟ ماذا قلت؟
إنكيدو (ساخرًا ولكن في عطف) : تذكَّر مزاعمك الآن وفي أوروك. تقدَّم يا جلجاميش! اهجم يا ابن أوروك!
جلجاميش (محاولًا أن يستجمع شجاعته) : أسرِع أنت أيضًا يا صديقي ورفيقي في الأخطار! هيَّا نُوقعه في الفخ! لا تتركه يهرب للغابة ويختفي عن أعيننا! إنه يضع عليه درعًا واحدًا من دروعه السبعة. عاجِلْه بالضربة قبل أن يتسلح بكامل عدته!
ها أنا أصرخ يا إنكيدو وأضرب الأرض بقدمي كثورٍ وحشي (يفعل هذا).
إنكيدو : وهو يصيح ويزأر يا جلجاميش.
جلجاميش : ويهزُّ رأسه ويُهددني. إنكيدو! أين أنت يا إنكيدو؟ إنه يُثبت عينه عليَّ، يُثبت عين الموت. (يضع يده على عينَيه ويبكي بصوتٍ مرتفع): إلهي شمش! يا شمش الراعي والحامي، أطعتك وتبعت طريقك. إن لم تُنجدني الآن، فكيف سأهرب منه؟ كيف سأنجو؟ أنقِذْني يا شمش الراعي! أوفِ بوعدك لي ولأمي نينسون!
الشيوخ :
لم يتأخر شمش الراعي عنه.
سمع صلاته.
رق لمطر الدمع الهاطل من عينَيه،
ودعا كل عذارى الريح إليه؛
الريح الجبَّارة،
والزوبعة الدوَّارة،
والعاصفة الهدَّارة،
والأعصار وريح الجبل الثلجية،
جاءت من غرب وشمال،
من شرق وجنوب كالتنِّين،
كألسنة النار الموَّارة،
كالحية والثعبان تشلُّ القلب،
كالطوفان أو البرق الخاطف كالرعب،
لفحت خمبابا والتفَّت حوله،
ضربت عينَيه وشلَّت ساقَيه وذراعَيه،
فتحجَّر فوق الدرب.
جلجاميش (صائحًا) : بحياة أمي المقدَّسة وأبي الإلهي! لقد اكتشفت مسكنك في أرض الأحياء، وأتيت إليها ومعي ذراعاي القويتان وأسلحتي الجبَّارة لأحاربك وأصارعك. ها أنت تقف عاجزًا مشلولًا أمامي، وسأدخل بيتك وأقطع أشجارك كما أشاء.

(يتقدم جلجاميش من خمبابا الذي وقف أمام عرينه كثورٍ وحشي مقيَّد إلى الجبل، أو مُحاربٍ مكتوف الذراعين والساقين. يقوم بحركاتٍ إيمائيةٍ صامتة ومُضحكة، يمكن أن تؤدي المؤثرات الضوئية والصوتية دورًا كبيرًا في إبرازها، فيطعن الهواء بسيفه وفأسه وبلطته، ويستعرض فنون الكر والفر والنزال، بينما يُصارع في الحقيقة خوفه من خمبابا الذي لا يزال منظره يبعث على الرهبة وإن كان يقف مشلولًا أمامه.)

خمبابا (باكيًا شاحب الوجه) : جلجاميش، دَعْني أتكلم.
جلجاميش (ضاحكًا لصديقه) : يريد أن يتكلم بدلًا من أن يهجم ويُصارع! انظر إليه يا إنكيدو وهو يبكي كالجدي الخائف أمام الثور الهائج!
إنكيدو : يا صديقي ومليكي، لا تأمن له! ابتعد يا جلجاميش!

(جلجاميش يجري مذعورًا.)

خمبابا : جانبتَ الحق يا إنكيدو! اسمعني يا جلجاميش!
جلجاميش : لا يزال يُصرُّ على الكلام، فلنسمعه يا إنكيدو. مِن طبع المُحارب النبيل أن يكون كريمًا مع عدوه حتى آخر نفَس فيه.
خمبابا : جلجاميش، إني لم أعرف أمًّا ولا أبًا يرعاني. لقد وُلدت في الجبل، والجبل هو الذي ربَّاني، وإنليل إله العاصفة هو الذي جعلني حارسًا على هذه الغابة. أطلِقْ سراحي يا جلجاميش، وسأصبح عبدًا لك وتصبح سيدًا. كل أشجاري التي رعيتها في هذا الجبل ستكون ملك يدَيك. سأقطعها وأبني لك منها قصرًا وبيوتًا. هذه يدي ممدودة إليك.
إنكيدو : حاذِرْ يا جلجاميش. لا تلمسها!
خمبابا : سامحتك الآلهة يا إنكيدو! هذه يدي يا جلجاميش، ضع يدك فيها وتعالَ إلى بيتي. أقسم لك بحياة الآلهة، وبالأرض، وبالعالم السفلي.
جلجاميش (وقد رقَّ له قلبه) : إنكيدو! يا صديقي!
إنكيدو : قلت حذارِ يا جلجاميش!
جلجاميش : ألا يصح للطائر الذي وقع في الفخ أن يرجع إلى عشه؟ ألا يحق للأسير أن يعود إلى ذراعَي أمه؟
إنكيدو : لا تستمع لكلمةٍ مما قاله خمبابا. لا تتركه يعيش. إذا رجع الطائر الحبيس إلى عشه، وإذا عاد الأسير إلى ذراعَي أمه، فلن ترجع أبدًا إلى المدينة التي تنتظرك فيها أمك.
جلجاميش : ألا يرقُّ قلبك؟
إنكيدو : ويخاف عليك أيضًا. أنا مسئول عنك أمام شعب أوروك وأمام أمك التي ولدتك. اضربه يا جلجاميش!
خمبابا : تكلَّمت بالشر يا إنكيدو. أيها الأجير الذي أذلَّه رغيف خبزه! إنك تحسدني وتخاف أن أكون مُنافسًا لك.
إنكيدو : لا تُصغِ له يا جلجاميش. خمبابا لا بد أن يموت. وإذا لم يحكم القوي بالعدل كان أول الضحايا. اقتل خمبابا يسهل عليك بعد ذلك أن تقتل أبناءه. أوقِع الطائر في الفخ، ولن يستطيع صغاره أن يفلتوا منك. هيَّا يا جلجاميش! خذ فأسك في يدك! جرِّد سيفك من غِمده الذهبي! اضرب ضربتك الأولى في عنقه، وسأعاجله بالضربة الثانية!
الراوية : وسقط خمبابا مع الضربة الثالثة. اهتزَّت أشجار الغابة على مدى ساعتين مُضاعفتين عندما وقع الحارس الذي اعتادت جبال هيرمون ولبنان أن ترتجف من صوته، وزُلزلت الجبال والتلال لأن حارس الغابة قد قُتل. هجم البطلان على أشجار الأرز، وأطفآ أنوار خمبابا السبعة المُتألقة، واقتحما المساكن المقدَّسة لآلهة الآنوناكي العلويين بعد أن اجتثَّا الأشجار التي كانت تُخفيها. وأخذ جلجاميش يقطع الأشجار، وإنكيدو يُنظف الجذور ويهتف به: اضرب أشجار الأرز! اصرب أشجار الأرز! ثم حملا جثة خمبابا ووضعاها أمام الآلهة. قبَّلا الأرض، وفتحا الكفن فسقط منه الرأس، وعندما أبصر إنليل رأس حارسه غضب وثار وصاح قائلًا: لمَ فعلتما هذا؟ لتكن النار منذ اليوم على وجوهكما! لتأكل الخبز الذي تأكلان، ولتشرب حيث تشربان!
الشيوخ :
صدَّق جلجاميش نفسه،
وتحدَّى رب العاصفة الشرسة،
وسيدخل أوروك دخول الفاتح
خلَّد اسمه،
ويغنِّي الشعب لمن حقَّق حلمه.
قتل المارد خمبابا
ومحا الشر،
وأعلى راية أوروك بين المدن،
ومجَّد قومه.
سار الموكب في أوروك
وحيَّاه الشعب،
فزاد غرور البطل إلى حد التخمة.
أسكره المجد فأنساه أوروك، وأوشك أن ينسى أمه.
وتضخَّم بطل الأبطال
فلم يذكر شمش ولا إنكيدو بكلمة.
هل تعجب والحال كذلك
أن يرفض أعظم نعمة؟
الراوية :
كيف أصدِّق أن يرفض وردة حب من عشتار؟
هل غاب عن البطل الجامح
أن الجالسة على عرش الحب
إلهة حرب ودمار؟
(تُطفأ الأضواء. إظلام.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤