الفصل السابع

جلجاميش والرجل العقرب، وحوار مع سيدوري ساقية الحانة، وكذلك مع أورشنابي ملَّاح مياه الموت

(جلجاميش أمام مدخل جبل ماشو. البشر العقارب يحرسون الجبل في هيئتهم المُخيفة. لا يكاد يراهم عن قرب حتى يُظلم وجهه خوفًا من هَوْل منظرهم والألق المُميت الذي ينبعث من نظرات عيونهم، غير أنه يتماسك وينحني أمامهم، وقبل أن يفتح فمه ينتهي إليه صوت كبيرهم الرجل العقرب الذي يُنادي زوجته قائلًا):١
الرجل العقرب (لزوجته) : انظري هناك!
الزوجة : نعم. نعم. إنه يتقدَّم نحونا.
الرجل العقرب (ضاحكًا) : يبدو أن جسده من لحم الآلهة.
الزوجة : بل يبدو من الطين البشري؟
الرجل : انظري كيف أظلم وجهه غمًّا وخوفًا، كيف تعثَّر خطوه.
الزوجة (في تعاطف) : لكنه يتماسك ويتقدم.
الرجل (مُتباهيًا) : ومن لا يرتجف رعبًا لرؤية الرجال العقارب؟ حُراس ماشو وبوابته الهائلة التي تغرب منها الشمس وتشرق، وترتفع إلى ذُرى السماء وتمتدُّ في باطن العالم الأسفل؟ من لا يرتعش فزعًا من الرجال العقارب الذين تُناطح صدورهم الأفق، وتغوص أجسادهم في أعماق الجحيم؟ تأمَّلي الهلع والذهول في نظراته، لا بد أنها وقعت على عينَيك وعينيَّ اللتين تشعَّان بالألق المُميت؛ الألق الذي يسقط كالصاعقة على الجبل فيتدحرج إلى الوادي.
الزوجة : ومع ذلك فهو يتقدم. تكلَّمْ إليه. إنه ينحني أمامك.
الرجل : أيها القادم العجيب، ما الذي جعلك تقطع الطريق البعيد، وتتسلق الجبال الوعرة، وتعبُر الأنهار العصيَّة على العبور؟ ما الذي دعاك للمُثول أمامي؟ ليتني أعرف الهدف من رحلتك!

(جلجاميش يقف جامدًا ويُحدق فيهما.)

الزوجة : تكلَّمْ يا جلجاميش!
جلجاميش : لأجل أوتنابشتيم جدي الخالد أتيت. أوتنابشتيم الذي دخل مجمع الآلهة وأنعموا عليه بحياة الخلود. أريد أن أسأله عن الموت والحياة.٢
الرجل (ضاحكًا) :
القادم البعيد،
يطمح في الخلود.
الرجال العقارب (ضاحكين) :
يطمع في الخلود.
يطمح في الخلود.
ما أفظع الطموح!
وأبشع الجموح!
من بطلٍ وحيد،
فؤاده حديد (يتضاحكون).
الزوجة : اسكتوا! ما الذي دعاك للحضور؟ ما اسمك؟
جلجاميش (يُحدق فيها ويهمس) : جلجاميش.
الرجل : لن يتكلم يا زوجتي. اسمع يا جلجاميش. لم يسبق لإنسانٍ أن قطع الطريق إلى هذا الجبل. لم يتسنَّ لبشرٍ أن يتوغل في أعماقه؛ فالظلام يغمرها اثنتَي عشرة ساعةً مضاعفة، والظلام كثيف وما من شعاعٍ ينفذ إليه. إن نفق الجبل يتقدم نحو مشرق الشمس ويتراجع إلى مغربها،٣ ونحن نحرس البوابة المؤدية لهذا النفق المُعتم. وراء سلسلة الجبال التي تراها يتَّسع البحر الذي يطوق بلاد الأرض، ووراء بوابة الشمس يعيش جدك البعيد، عند مصبِّ الأنهار في جزيرة الحياة الخالدة يسكن جدك أوتنابشتيم. هنالك خلف بحار الموت، وما من سفينةٍ يمكن أن تعبُرها.
الزوجة : تكلَّمْ يا جلجاميش. ما الذي حملك على كل هذه المَشاق؟
جلجاميش : الحزن على صديقي إنكيدو، فهد البرية ورفيقي في كل المشاق أدركه حظ البشر، فخِفت الموت وانطلقت إلى البرية. صار صديقي الذي أحببته ترابًا، ثقل على صدري عبء الفاجعة فرُحت أسأل نفسي: هل يمكن أن أصبح مثله طينًا من طين الأرض؟ أوَلن أصحو أبدًا من رقدتي الأبدية؟ لهذا خرجت من بيت آنو، من بلدي أوروك. قطعت القفار وارتقيت الجبال وعبرت الأنهار حتى أتيت إليك. الألم يقود طريقي، والهم يوجِّه قدري. ايذَنْ لي أن أدخل من بوابة هذا الجبل لعلِّي ألقى جدي، أسأله عن معنى العيش ومعنى الموت. اسمح لي أن أدخل حتى أجد حياة الخلد.
الرجال العقارب (ضاحكين) :
القادم البعيد،
فؤاده حديد،
يا لك من طموح،
مُغامرٍ جموح!
فردِّدوا النشيد،
للبطل العنيد،
يُطاول السماء،
ويهزم الفناء.
وكل ما يريد،
من جده البعيد،
المجد والخلود.
فحطِّموا القيود،
ودمِّروا السدود؛
لعله يعود،
بالمجد والخلود،
من جده السعيد.
القادم البعيد،
فؤاده حديد … إلخ. (يندمجون في الرقص والغناء ضاحكين.)
الزوجة (غاضبة) : قلت اسكتوا. (تتقدم من جلجاميش. يتراجع للخلف قليلًا ثم يثبت في مكانه. تمد يدها إليه وتأخذه من يده إلى زوجها الذي تقف أمامه كأنها تتحداه.)
الرجل العقرب : اذهب يا جلجاميش. أليس هذا ما تريد؟
الزوجة (مهدِّدة) : وما أريده أيضًا!
الرجل العقرب : اذهب لا تخشَ شيئًا. (للرجال العقارب الذين ما زالوا يغنُّون ويرقصون) قالت لكم اسكتوا. هيَّا يا جلجاميش الجسور، بوابة الشمس التي نحرسها مفتوحة أمامك. افتحوا البوابة! افتحوا البوابة! ولتجد الطريق وسط الظلام.
الزوجة : ولتخرج منه سالمًا يا جلجاميش.
أحد العقارب :
وتأخذ الخلود،
من جدك البعيد،
من جدك السعيد.

(جلجاميش يتجه إلى النفق المُظلم في الجبل تُشيعه نظرات الزوجة الحنون. بينما تتردد من بعيدٍ أصداء الغناء من الرجال العقارب.)

الراوية : عندما سمع جلجاميش كلمات الرجل العقرب اتبع مشورته، ودخل من بوابة الجبل ليمضي على طريق شمش. ولما توغَّل لمدة ساعة مضاعفة، كان الظلام كثيفًا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه.٤ وعندما توغَّل ثلاث ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفًا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه. وعندما توغَّل أربع ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفًا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه. وعندما توغَّل خمس ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفًا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه. وعندما توغَّل ست ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفًا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه. وعندما توغَّل سبع ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفًا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه. وعندما توغَّل ثماني ساعات مضاعفة، صرخ صرخةً عالية، كان الظلام كثيفًا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه. وعندما توغَّل تسع ساعات مضاعفة، أحسَّ بريح الشمال، وابتسم وجهه، كان الظلام لا يزال كثيفًا، ولم يستطع أن يرى شيئًا أمامه ولا خلفه. وعندما توغَّل عشر ساعات مضاعفة، كان المخرج قد أصبح قريبًا. وعندما توغَّل إحدى عشرة ساعة مضاعفة، وجد نفسه في الخارج يُواجه مشرق الشمس. وبعد أن توغَّل اثنتَي عشرة ساعة مضاعفة، عمَّ الضياء.٥ هنالك وجد نفسه أمام بستان إلهي وقف أمامه مذهولًا، ثم دنا منه وأخذ يتجول فيه وهو يصيح:
جلجاميش : إلهي شمش! ما كل هذه الأشجار التي تنوء بالجواهر والأحجار الكريمة! هذه شجرةٌ تحمل فاكهة من عقيق، وتتدلَّى من أغصانها عناقيد الكَرْم. ما أجملها! ما أجملها! وهذه شجرةٌ أوراقها من اللازورد وثمارها من جواهر أخرى نفيسة، فتنة للنظر، أي فتنة! حتى الأشواك تلمع فيها الأحجار النادرة، ويتألق اليشب واللؤلؤ من أعماق البحار. والبستان يسطع كالثُّريَّا في نورك الباهر يا شمش. إلهي وحارسي السماوي، إني أرفع يدي إليك، تعلَم أن رحلتي كانت طويلة ومُضْنية. كان عليَّ أن أقتل حيوانات البرية لأغطِّي بجلودها جسدي، وأستمدَّ من لحمها طعامي، وسمح لي الرجال العقارب بالدخول من بوابة الجبل والسير على الطريق إلى مطلع الشمس عبر الظلمات الكثيفة. وها أنا ذا قد خرجت من النفق المُظلم لأرى بستان الآلهة أمامي، ومن ورائه البحر الواسع. دُلَّني يا إلهي على الطريق إلى جدي أوتنابشتيم البعيد. أرشِدني إلى الملَّاح الذي يعبُر بي البحر ومياه الموت لأحصل على الحياة. إلهي! يا إلهي وحارسي السماوي!٦
صوت شمش : جلجاميش، كم يُحزنني حالك! ها أنا ذا قريب منك أناديك وأجيب دعاءك: إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
جلجاميش : تعلَم أني قطعت البرية وحدي، انطفأت النجوم واحدًا بعد الآخر، مرَّت عليَّ السنوات وأنا أبيت الليل في القفار. لا الشمس ولا القمر ولا النجوم طلعت عليَّ في ذلك النفق المُعتم. دع عيني تراك يا شمش، دعني أشبع من سناك الوضَّاء. لقد ذهب الظلام وتبدَّد، وها هو ذا النور الساطع يغمرني من كل ناحية، فمتى يُكتب للفاني أن ينظر في عين الشمس؟ أليس من حقي أن أبحث عن الحياة وأن أجدها إلى الأبد؟ أم أن آخرة المطاف هي الرقاد في التراب؟
شمش : الحياة التي تريدها أمامك وحولك يا جلجاميش.
جلجاميش : أريد الحياة الخالدة يا إلهي؛ الحياة التي لا تنتهي إلى تراب لا أصحو منه أبدًا.
شمش : هذه الحياة التي تسعى إليها لن تجدها. ألم أقل لك ذلك؟
جلجاميش : أبتهل إليك. دُلَّني على الطريق إلى أوتنابشتيم الخالد.
شمش : لتلتمس عنده الحياة التي لن تجدها؟
جلجاميش : لأسأله عن سر الحياة والموت. وإذا لم أجده …
شمش : إذا لم تجده؟
جلجاميش : أرجع للبرية، أقطع الطريق مرةً أخرى.
شمش : إلى أوروك يا جلجاميش؟
جلجاميش : هناك أصلِّي لك في بيت آنو. أقدِّم لك الأضاحي وأسكب السكائب.
شمش : إذن فاذهب إلى سيدوري.
جلجاميش : سيدوري؟
شمش : ساقية الحانة الإلهية على شاطئ بحر الموت. هنالك تسكن وتعيش بالقرب من بوابة حديقة الآلهة المُطلَّة على البحر. هنالك تحرس شجرة الحياة.٧ اذهب إليها في الحديقة التي تراها على البعد، وسوف تدلُّك على الطريق إلى أوتنابشتيم.
جلجاميش : الحديقة البعيدة؟ أتكون هناك خلف الأشجار الشاهقة الضخمة؟ إلهي، إنها تتألق أيضًا بالجواهر والأحجار النفيسة، والأرض التي تفترشها ظلالها تبدو كبساطٍ من الزُّمرد. (يغذُّ السير نحو الحديقة) ما هذا؟ حتى الأشواك تتدلى منها اللآلئ والجواهر؟ ولمَ لا؟ ألم ينثر الآلهة بُذورها؟ ألم يُعيِّنوا سيدوري حارسة عليها؟ (يُسمع رنين كُئوس وأصوات غناء خافت من بعيد، نتبيَّن منه أصداءً من هذه الأغنية التي يترنَّم بها صوتٌ حزين وحنون):
متِّع نفسك ليل نهار.
اجعل أيام حياتك
عيدًا تملؤه البهجة
والنشوة والأسمار.
متِّع نفسك ليل نهار.
جلجاميش (مُندفعًا إلى مصدر الصوت) : سيدوري. سيدوري. سيدوري.
الراوية : سيدوري تجلس وحيدةً على شاطئ بحر الموت، تحرس بوابة حديقة الآلهة وترعى حانتهم وتسقيهم من خمرها المقدَّسة. يُغطي جسدَها ثوبٌ طويل شفَّاف، ويطوِّق خصرَها حزامٌ برَّاق. تنشغل بتنظيم الدِّنان والأباريق وترتيب الكئوس، ثم ترجع إلى مجلسها أمام البوابة التي تحرسها من اللصوص والمُتطفلين، بينما تترنم في صوتٍ خفيض بالأغنية التي سمعناها، وتميل بين الحين والحين على كأسٍ تشرب منها. تسمع صوت خُطًى مُسرعة، فترفع رأسها وتلمح القادم المُندفع الذي يفتِّش عنها في كل مكان وهو يهتف باسمها. ترى جلود الوحوش التي تكسو جسده المتَّسِخ، وترتجف خوفًا من هيئته المُرعبة.
سيدوري (تُكلم نفسها) : من هذا؟ أهو مُتجولٌ وحيدٌ تائه، أم لص وقاطع طريق مُتهور؟ يبدو من هيئته المُخيفة على صورة بطل له جسدٌ إلهي، وإذا حكمت على وجهه من بعيد فقد سكن الهم قلبه. إلى أين يذهب؟ ماذا يريد؟ لماذا يندفع بهذه السرعة؟ ولماذا يُناديني باسمي؟ فلأغلق الباب عليَّ ولأحكم المِزلاج. من يدري ماذا يحمل معه هذا الوحش الإلهي البشري؟ (تُسرع بالاختفاء وإغلاق البوابة وشد المِزلاج، غير أن جلجاميش الذي رآها وسمع صوت الباب والمزلاج يرفع ذقنه إلى أعلى، ويقترب من الباب الذي ثبت بصره عليه.)
جلجاميش : يا ساقية الحانة! يا ساقية الحانة! ماذا أنكرتِ مني حتى تُغلقي الباب وتختفي وراءه؟ ماذا رأيت حتى تُحكمي إغلاقه بالمزلاج؟ (يرفع البلطة في يده ويضعها على الباب) الباب سأحطِّمه! والمزلاج سأكسره!٨
سيدوري (من وراء الباب) : من أنت؟ إن منظرك مُخيف.
جلجاميش : وهل ترَينني من وراء الباب؟
سيدوري : من حقي أن أعرف؛ فأنا أحرس بوابة حديقة الآلهة.
جلجاميش : وتسقينهم أيضًا من خمر حانتك!
سيدوري : بشرط أن يكونوا من الآلهة!
جلجاميش : ألم تسمعي عن جلجاميش القادم من أوروك مسكن آنو كبير الآلهة؟
سيدوري : جلجاميش؟ من هذا؟
جلجاميش : البطل الذي ثلثاه إلهي والثلث الباقي بشري فانٍ!
سيدوري (لنفسها همسًا وإن كان يسمعها بأذنه الملتصقة بالباب) : نعم. نعم. أدركت هذا عندما نظرت إليك. قلت لنفسي: هذا جسد من لحم الآلهة وإن غطَّته جلود الحيوانات الوحشية، وماذا تريد مني؟
جلجاميش : لن تعرفي قبل أن تفتحي الباب؟ افتحي الباب!
سيدوري : وإلا حطَّمته ببلطتك، ومن يدريني أنك لست لصًّا أو قاتلًا أو قاطع طريق؟
جلجاميش : افتحي الباب وانظري إليَّ. سترَين المُتجول الوحيد، من قطع الطُّرق المُوحشة، وارتقى الجبال الوعرة، وعبر الأنهار والبحار والسهول والمراعي والوديان. سترَين …
سيدوري (تفتح الباب وتتأمله. يرى الكأس التي كانت تشرب منها في يدها، تمدها إليه) : اشرب وسأعرف من أنت!
جلجاميش : قبل أن ترَيني وتسمعيني؟
سيدوري (تتملَّى وجهه ثم تقول) : آه! لمَ يبدُ الذبول على وجنتَيك؟ لماذا انقبضت جبهتك وتجعَّدت؟ ولماذا اكتأبت روحك وانحنى قوامك؟ هل سكن الألم فؤادك فبدَوت كجوَّالٍ تائه؟ لقد لفحت الشمس والعاصفة وجهك وأحرقه البرد والهجير، فلماذا قطعت البرية واندفعت إليَّ؟
جلجاميش : كيف لا تذبل وجنتاي وتتجعَّد جبهتي؟ كيف لا يسكن الألم فؤادي ولا ينحني قوامي؟ وكيف لا أبدو على هيئة مُتجول يجوب المسالك البعيدة؟ وكيف لا تحرق الشمس والعاصفة والبرد والهجير وجهي؟
سيدوري : لماذا يا جلجاميش؟
جلجاميش : لأن أخي الأصغر، فهد البرية إنكيدو، لأن صديقي ورفيقي في المُلمَّات والمَشقَّات، إنكيدو الذي أحببته، قد أدركه مصير البشر. إنكيدو الذي لازَمني ونحن نرتقي جبل الأرز، ونصرع خمبابا حارس الغابة، ونقبض على الثور الذي أنزلته عشتار من السماء ونذبحه، صاحبي الذي ساعدني على قتل الأسود في ممرات الجبال، وشاركني كل المتاعب وواجه معي الأخطار، صاحبي وأخي وحبيبي قد أدركه حظ البشر الفاني. بكيت عليه ليل نهار ولم أسلمه للدفن علَّه من بكائي عليه يُفيق. سبعة أيام وسبع ليالٍ بكيت عليه حتى هجم الدود عليه، وسقطت دودة من أنفه. منذ أن مضى ما لي حياة. منذ أن ذهب وأنا أبحث عن الحياة ولا أجدها. هكذا رُحت أجوب المراعي والسهول كلصِّ البرية.
سيدوري : أرأيت لماذا خِفت منك؟ (ترفع الكأس لحظة إلى فمها وتمد يدها إليه فيُشيحها بعيدًا عنه.)
جلجاميش : قدر صديقي يرزح على صدري. كيف يمكنني أن أسكت؟ كيف يمكنني أن أصرخ؟ سيدوري! أخي وصديقي صار ترابًا. إنكيدو أصبح طينًا من طين الأرض، جسده الذي طالما عانقته …
(تمد ذراعها بالكأس فيُشيح بها بعيدًا عنه) ألن أرقد مثله فلا أصحو إلى الأبد؟ سيدوري.
سيدوري : ماذا يا جلجاميش؟
جلجاميش : إني أنظر إليك لكيلا أرى الموت الذي أخشاه.
سيدوري : ولو تذوَّقت هذه الكأس لما رأيته ولا خشيته.
جلجاميش (بعد لحظات) : ماذا تفعلين هنا يا سيدوري؟
سيدوري (فجأة) : أعيش.
جلجاميش : وحياتك، هل تظنين أنها الحياة الخالدة؟
سيدوري : لا أظن لأنني على يقين.
جلجاميش : تقولين إنها حياة الخلود؟
سيدوري : لا أقولها، بل أشربها!
جلجاميش : ماذا تعنين؟ ابعدي هذه الكأس.
سيدوري (ترفعها إلى فمها) : وهل أجد الحياة الخالدة إذا أبعدتها؟ إنني أذوق قطرات من رحيقها فأجد فيها حياة الخلود.
جلجاميش : قلت لك الحياة الخالدة ولم أقصد …
سيدوري : ولم تقصد لحظة الخلود؟ هل هذا ما يجعلك تُبعد كأسي عنك؟
جلجاميش : أقصد الحياة التي لا تعرف الموت، الحياة التي لا تنتهي في التراب.
سيدوري : انظر في الكأس ولن ترى الموت. تذوَّقْ قطرة ولن تخشى التراب.
جلجاميش (يُشيح بوجهه ويُدير لها ظهره كأنه يتهيأ للانصراف) : لا. لا. ليس هذا هو الخلود، ليست هذه هي الحياة الخالدة التي أبحث عنها.
سيدوري (وهي تغنِّي وترقص حوله) :
جلجاميش. جلجاميش.
لمَ تتعجل سيرك؟
أين تقود خُطاك؟
إن حياةً تبحث عنها
لن تُدركها
مهما حاولت.
لما خلق الآلهة البشر قديمًا
كتبوا الموت عليهم،
واحتفظوا في قبضتهم
بخلود يتحدى الحد،
ويُوقف عجلات المولد والموت.
فاملأ بطنك.
متِّع نفسك ليل نهار،
واجعل أيام حياتك
أعياد البهجة،
وارقص والعب
يا جلجاميش ما شئت.
اخطر في ثوبٍ زاهٍ،
واغسل رأسك بالماء،
وضمِّخ جسدك بالزيت.
انظر للطفل الراقد بين يدَيك،
وأسعِدْ زوجك في أحضانك،
ذلك هو حظ البشر،
وقِسمتهم ما عاش الناس
وما عشت.٩

(تغنِّي وترقص وهي تكرِّر بعض السطور السابقة.)

جلجاميش : لا. لا. لا أقدر أن أفعل هذا. ليست هذه هي الحياة التي أبحث عنها، ولا الطريق الذي جئت لأسألك عنه.
سيدوري : أي حياة وأي طريق؟
جلجاميش : الطريق إلى أوتنابشتيم.
سيدوري (ساخرة) : أوتنابشتيم البعيد؟ أوتنابشتيم الخالد؟
جلجاميش : نعم. نعم. جدي أوتنابشتيم. دُلِّيني على الطريق إليه، صِفيه لي، أعطِني علامة تُرشدني إليه، إذا استطعت عبرت البحر إليه وإذا لم أستطع …
سيدوري : لا موضع تعبُر منه يا جلجاميش، ولا استطاع أحد منذ الأزمنة القديمة أن يعبُر هذا البحر الذي لا يقدر على عبوره إلا شمش البطل.
إن الطريق إليه شاقٌّ، ومياه الموت العصية تحُول بينك وبينه، من أي مكان ستجتاز هذا البحر يا جلجاميش؟ وماذا ستفعل إذا تمكَّنت من اجتيازه؟ مع ذلك يا جلجاميش …
جلجاميش : مع ذلك …؟
سيدوري (يائسة) : عندك أورشنابي، ملَّاح سفينة أوتنابشتيم، ستجده في الغابة يقطف الثمار ويجمع الأعواد.
حاذِرْ أن تتعثر في الصور الحجرية التي معه؛ فبغيرها لا تتحرك السفينة. حاوِلْ أن تلقاه وتتفاهم معه. ربما استطعت أن تعبُر معه بحر الموت، فإذا لم تستطع فارجع أدراجك.
جلجاميش : سأرجع إلى البرية.
سيدوري : بل إليَّ يا جلجاميش لتجد الحياة.

(تمدُّ إليه الكأس وهي تترنم ببعض سطور الأغنية السابقة فينصرف عنها ساخطًا.)

جلجاميش : ليست هذه هي الحياة التي أبحث عنها.
سيدوري : جلجاميش.
جلجاميش : قلت لك ليست هذه هي الحياة التي أبحث عنها.

(يرفع بلطته في يده، يُجرد سيفه من حزامه، ويندفع للخروج وهو يُدمدم غضبًا.)

سيدوري (خائفة) : إذن فارجع إلى أوروك.
(ينصرف مُنفعلًا وهو يُنادي): «يا أورشنابي الملَّاح!» ترفع سيدوري الكأس إلى شفتَيها وتجرعه على مهل، ثم تُردد بعض سطور الأغنية التي سمعناها وهي تُشيعه بازدراء:
متِّع نفسك ليل نهار.
أسعِدْ زوجك في أحضانك.
آه! ليتك ترجع إليَّ أو إلى وطنك أوروك!

(يتردد نداء جلجاميش على أورشنابي الملَّاح.)

(إظلام)

(على أطراف الغابة، جلجاميش مُندفعٌ غاضب، وفي يده البلطة والسيف.)

جلجاميش : أورشنابي! أنت أيها الملَّاح!
(ينهال في ثورة غضبه على بعض الرقم أو الصور الحجرية التي يجدها في طريقه تكسيرًا وتحطيمًا.) ١٠

إنني أسمعه ولا أراه. وها أنت ذي تحُولين بيني وبينه. (يُحطم الصور الحجرية): أنت أيها الملَّاح!

قالت حارسة الحانة إنه يحتطب في الغابة ويجمع الأعشاب والثمار.

كيف أسمح له بتعطيل طريقي إلى جدي الخالد؟
أورشنابي : (يظهر بين الأشجار ويرى البلطة في يده والشرر في عينَيه ويقول لنفسه): آه! طائشٌ جديد؟ (لجلجاميش): أراك تتعجل الوصول إلى جزيرة الحياة؟
جلجاميش : وإلى الخلود الذي فاز به جدي أوتنابشتيم.
أورشنابي : خلود الجد الخالد؟ نفس القصة! اسمي أورشنابي، ملَّاح سفينة أوتنابشتيم. ما اسمك أنت؟
جلجاميش : جلجاميش، من أوروك ذات الأسوار والأسواق من بيت إله الأفق العالي آنو. مضيت عبر المهالك والأخطار. عانيت الجوع والظمأ، وجرَّبت الموت والظلام، حتى دلَّتني ساقية الحانة عليك.
أورشنابي : سيدوري؟ ليتك بقيت عندها لتُجرب الحياة!
جلجاميش : الحياة التي عندها ليست هي الحياة التي أبحث عنها.
أورشنابي : ولذلك خرجت من عندها وأنا واقف على بابها لا أستطيع الدخول.
جلجاميش : وأنا واقف أمامك لتدلَّني عليه.
أورشنابي : وتُجرب الموت والظلام من جديد؟
جلجاميش : ماذا تعني؟ أريد أن أصل إلى جدي أوتنابشتيم.
أورشنابي : لتجد الحياة والخلود لديه؟
جلجاميش : وأسأله عن معنى الحياة والموت. هيَّا لا تُضيع وقتي!
أورشنابي : أنا الذي أضيعه؟ كانا بين يدَيك في بستان الآلهة وحانة سيدوري، لماذا تركتهما أيها الحفيد السعيد؟
جلجاميش : هل تجرؤ أن تسخر مني؟ ألِأنَّ وجهي …
أورشنابي : أنا لا أسخر إلا من نفسي، ولكن لماذا أرى الذبول على وجنتَيك، والتجاعيد على جبهتك؟ ولماذا رانَ الكمد على قلبك، وأحرق وجهَك برد الليل وحر الشمس، حتى أصبح شبيهًا بوجه مُتجول شريد؟
جلجاميش : كيف لا تذبل وجنتاي وينقبض قلبي؟ كيف لا يحرق البرد والحر وجهي ولا أهيم في البراري؟ إن صديقي إنكيدو، فهد البرية وحمار الجبل الوحشي، من لازَمني في كل المصاعب والمهالك، فقتلنا معًا ثور السماء، وصرعنا خمبابا الذي يسكن غابة الأرز، وقضينا على الأُسود في مسالك الجبال. صديقي الذي أحببته فوق كل الحدود وشاركني في كل المشقَّات، قد عاجَله حظ البشرية.
أورشنابي : وماذا في هذا؟ هل حسدته على حظه؟
جلجاميش (مُواصلًا كلامه) : بكيت عليه ستة أيام وسبع ليالٍ. لم أوافق على دفنه في التراب؛ لعل بكائي أن يُوقظه من نومه.
أورشنابي : يُوقظه من نومه؟
جلجاميش : حتى هجم الدود على وجهه، فأصابني الرعب من منظره، واشتدَّ عليَّ الخوف من الموت، فهِمتُ على وجهي في البرية. إن مصيره يرزح على صدري؛ فصديقي، من أحببت كثيرًا، قد صار ترابًا. صديقي، من أحببت كثيرًا، قد صار ترابًا. ألن أرقد مثله في التراب فلا أنهض أبدًا؟ أيكون مصيري كمصيره؟
أورشنابي : لهذا تسعى إلى جدك الخالد ليرزح مصيره على صدرك؟ (يضحك.)
جلجاميش (بغير أن يفهم) : والآن بعد أن عرفت يا أورشنابي، كيف الطريق إليه؟ ما العلامة التي تدلُّني عليه؟ أرجوك أعطِني العلامة! إذا استطعت عبرت البحر إليه، وإذا لم أستطع هِمت على وجهي في البرية.
أورشنابي : وكيف تستطيع وقد حطَّمت الصور الحجرية؟ يدك هي التي حالت بينك وبين عبوره.
جلجاميش : أتوسَّل إليك.
أورشنابي : هذه البلطة التي في يدك، خُذها يا جلجاميش وارجع للغابة. اقطع مائة وعشرين عودًا طولُ كل منها ستون ذراعًا. اصقلها واصفح أطرافها ثم جِئني بها. سأجهِّز السفينة ريثما تحضر، ثم ندفعها على الأمواج وننطلق بها إلى مياه الموت.
(جلجاميش ينحدر مُسرعًا إلى الغابة ويقتطع الأعواد المطلوبة، ويصقلها ويصفح أطرافها لتصلح للتجديف، بينما يُواصل أورشنابي كلامه.)

ما دُمت مُصرًّا؟ هذا شأنك. ستكون أول بشر يعبر مياه الموت، وسيكون عليَّ أن أرجع بك. آه لو سمعت نصيحتي! لو كنت مكانك! لكنك بشر لا يتعلم إلا بعد أن يُجرب، ومهما جرَّب لا يتعلم، فلأجرب أنا أيضًا. لقد تعِبت من نقل الآلهة إلى هنا، يدخلون بستانهم ويتركونني. تعِبت من رؤيتهم من وراء السور وهم يأكلون ويشربون في حانة سيدوري. آه يا سيدوري! وأنت أيضًا لا تتعلمين. ألم تملِّي من الخالدين؟ ألا تحنِّين لبشرٍ يُحبك ويحنُّ إليك. ودائمًا من وراء السور؟ هل يمكن أن تفهم يا جلجاميش؟
جلجاميش (عائدًا يحمل الأعواد) : فهمت يا أورشنابي، وهذه هي المائة والعشرون.
أورشنابي : اغرز واحدًا منها في أعماق الماء. اغرزه بكل قوَّتك.

(جلجاميش يفعل ما يأمره به.)

أورشنابي : لكن حذارِ أن تلمس يدك الماء وإلا مت على الفور. اغرز عودًا ثانيًا. ألا يستحق الخلود هذا الجهد؟ وعودًا ثالثًا. هيَّا يا جلجاميش! وثالثًا ورابعًا. جدك ينتظر هناك، لكن هل ينتظرك أنت؟ آه! وعودًا خامسًا وسادسًا. أبدًا لم يزُره أحد من البشر؛ ولذلك لا ينتظر أحدًا ولا شيئًا. والسابع هيَّا والثامن، ادفعه بكل قوَّتك إلى عمق الماء. سيُعاقبني حتمًا حين يراك، لكن كيف يكون عقابه؟ والتاسع والعاشر، لا تيئس، لا تتململ؛ فالملل هناك وفير، والعدم كذلك يا جلجاميش. هيَّا كي تصل إليه. اغرز فيه التاسع أيضًا، والعاشر والحادي عشر بقوة. ستُعانقه حتى تفنى فيه ويفنى فيك، ستقول لنفسك: ليتني سمعت كلامك يا أورشنابي! ليتني استجبت لك يا سيدوري! ادفع الثاني عشر ثم الثالث عشر، ادفعه إلى الأعماق بقوة. آه يا سيدوري! أأموت ولما أتذوَّق كأسك؟ والرابع عشر والخامس عشر، اغرزه، اغرزه وحاذِرْ أن تلمس يدك الماء. لو كنت مكانك لشربت ومت. والسادس عشر والسابع عشر. وستشبع من هذا الموت الميت وتُلح عليَّ: عُد بي للموت الحي! وإذا خِفت سآخذه من يد سيدوري بدلًا عنك. والثامن عشر والتاسع عشر، لكن آه! بعد فوات الوقت، بعد فوات الوقت. والعشرين اغرزه بقوة، ادفعه لقلب الأعماق، وتكتمل المائة والعشرون. ها هي ذي اكتملت، لم تبقَ سوى خطوات، ما أروع هذا منك! نفدت منك الأعواد وها أنت تفكُّ حزامك، تخلع جلد الأسد وتصنع منه شراعًا. والشاطئ يقترب، اقترب. وها هو أوتنابشتيم الخالد، ينظر ناحيتك، يعجب، ويُشير إليك. اسمعه، سيُنادي الآن عليك.
أوتنابشتيم : من هذا القادم مع أورشنابي؟ ماذا يطلب مني؟١١ وبأي حق ركب سفينتي؟ هل هو إنسان؟ لا. لا. لم يسبق أن وصل إنسان إليَّ. عجبًا! إنه يُشبهني. أنت أيها الغريب! ما الذي جاء بك؟ لماذا تعبر بحر الموت إليَّ؟ اذكر اسمك. أنا أوتنابشتيم الخالد، من أعطاه الآلهة حياة الخلد. ماذا تبغي؟ من هذا يا أورشنابي؟
أورشنابي (يُنادي على البعد) : هو من نسلك وحفيدك. تكلَّمْ يا جلجاميش!
أوتنابشتيم : ولماذا اختفت الصور الحجرية؟
أورشنابي : اسأل بلطته عنها، من شدة لهفته لك حطَّمها.
أوتنابشتيم : كيف يُحطمها؟ كيف سمحت له أن يفعل هذا؟
أورشنابي : تكلَّمْ يا جلجاميش.
جلجاميش : اسمي جلجاميش، جئت إليك من أوروك ذات الأسوار والأسواق، قطعت طريقًا بعيدًا إليك، وها أنا أراك أخيرًا، يا أوتنابشتيم البعيد.
أوتنابشتيم : وأنا أراك كما تراني، لكن لماذا ذبلت وجنتاك وشحب وجهك؟ لماذا نفذ الكمد إلى قلبك وتغشَّى الأسى وجدانك، فبدوت كجوَّابٍ أحرق البرد والحر وجهه وانطلق يهيم في البراري؟
جلجاميش : كيف لا تذبل وجنتاي وينقبض وجهي؟ كيف لا يغشى الأسى فؤادي، وتضمُر قسماتي، وأُشبه جوَّاب البراري الذي أحرق البرد والحر وجهه؟ إن صديقي إنكيدو، فهد البرية وحمار الجبل الوحشي، من لازمني في المصاعب والمشاق، فارتقينا الجبال وقتلنا ثور السماء، وصرعنا خمبابا الذي يسكن غابة الأرز، وقضينا على الأُسود في مسالك الجبال، صديقي إنكيدو الذي أحببته فوق كل الحدود، وعبر معي كل المهالك؛ قد أدركه حظ البشر وقِسمتهم. بكيت عليه ستة أيام وسبع ليالٍ، لم أوافق على دفنه في التراب، حتى هجم الدود على وجهه، داهَمني الرعب من منظر صديقي، واشتدَّ عليَّ الخوف من الموت، فانطلقت جريًا في البراري. ظل مصير صديقي يرزح فوق صدري، حتى قطعت الطريق البعيد في البرية. آه! صار صديقي وحبيبي ترابًا، كيف تُراني أسكت أو أصمت؟ إنكيدو صار ترابًا، أوَلن أرقد مثله في التراب فلا أصحو أبدًا؟ (فترة صمت.)
أوتنابشتيم : أكمِلْ يا جلجاميش!
جلجاميش : ولكي أصل إلى أوتنابشتيم الذي يُسمونه البعيد، رُحت أجوب البلاد، وأجتاز الجبال الوعرة، وأعبر كل البحار. لم ينعم وجهي بالنوم الحلو، أتْلفتُ نفسي بالأرق، وأسكنت الوجع في أعضائي، وقبل أن أبلغ بيت ساقية الحانة كانت ثيابي قد أصبحت مِزقًا بالية، وكنت قد قتلت الدب والضبع، والأسد والفهد، والنمر والأيل والوعل، ووحوش البرية وحيوان الفلاة. قتلتها، وأكلت لحومها، واكتسيت بجلودها.١٢  (أوتنابشتيم يتفكر طويًلا حتى ليبدو كالغارق في النوم، ثم يشير لجلجاميش أن يتقدم منه.)
أوتنابشتيم : تقدَّمْ يا جلجاميش! تقدَّمْ! أما أنت فلا.
أورشنابي : سيدي الخالد …
أوتنابشتيم : أنت مطرود. اذهب يا أورشنابي!
أورشنابي (في فرحٍ ظاهر) : هل قلت اذهب؟ هل قلتها؟
أوتنابشتيم : اذهب مطرودًا من الشاطئ؛ عسى ألا يُرحب بمقدمك المرفأ، وليبرأ منك موضع العبور. تقدَّمْ أنت. تقدَّمْ يا ولدي.
أورشنابي (ساخرًا) : أنا يا جدي الخالد؟
أوتنابشتيم (غاضبًا) : قلت اذهب مطرودًا من هذا الشاطئ. (أورشنابي يُدير ظهره ويتهيأ للانصراف) بل انتظر. انتظر. انتظر لترجع من حيث أتيت.
أورشنابي : إلى شاطئ بحر الموت؟ قريبًا من سيدوري؟ من بستان الآلهة؟
أوتنابشتيم : قلت انتظر أيها المطرود إلى الأبد. انتظر أوامري وتعليماتي.
أوتنابشتيم (فرِحًا يرقص ويغنِّي لنفسه) :
مطرودًا وإلى الأبد؟!
من هذا السأم الأزلي بأرض الخلد؟
من خدمة أوتنابشتيم الخالد؟
من جنة هذا العدم الراكد؟
شكرًا يا أوتنابشتيم الخالد!
شكرًا وانعم بخلودك وحدك.
سيدوري يا سيدوري!
ما أقسى بعدك!
آه يا جلجاميش لو تصدُق وعدك،
وأعيدك لأوروك ذات الأسوار،
وأحتفل بنصرك وأبارك مجدك!

(يختفي أورشنابي مؤقتًا من المكان. يُسمع صوت أوتنابشتيم وهو يُنادي من بعيد):

أوتنابشتيم : تقدَّمْ يا جلجاميش! أنا وزوجي في انتظارك. تعالَ لأُفضي لك بالسر.
(إظلام وستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤