كلمة المؤلف

يعود الفضل في تحبيب رومة إلينا، وتدريبنا في تأريخها إلى معلمنا الدكتور كارل هوت، أستاذ تاريخ رومة في جامعة شيكاغو، فإنه جمع في شخصه الكريم تعمُّق الألمان وإحاطتهم، ومنطق الإفرنسيين وسلاستهم، واستقلال الإنكليز في الرأي بدون تطرفهم، وتزويق الأميريكيين وتشويقهم. وتعود بنا الذاكرة إلى ربيع السنة ١٩٢٤م، عندما جلسنا مع أستاذينا الدكتور جايمس هنري برستد، إمام علماء عصره في تاريخ مصر والشرق في العصور القديمة، والدكتور هارولد نلسن، أستاذ التاريخ القديم في جامعة بيروت الأميريكية، نبحث في حاجة الشرق العربي إلى كتاب في التاريخ القديم يسد حاجة الطلبة العرب، فلم نرَ آنئذٍ أفضل من كتاب برستد في العصور القديمة، ولكننا لفتنا نظره إلى وجوب التوسع في أخبار الشرق القديم، فأطلق يدنا في ذلك، وانبرينا نعد مع الدكتور نلسن نصًّا جديدًا لهذا الكتاب، يتفق وحاجة الطلاب العرب، ووكلنا أمر الترجمة إلى أستاذنا داود قربان؛ لما كان يتمتع به من مقدرة في النقل من الإنكليزية إلى العربية، وتعاونا معه في ذلك لضبط معاني المصطلحات التاريخية الفنية، فظهر في صيف السنة ١٩٢٥م كتاب «العصور القديمة»، وهلل لظهوره رجالُ التربية في جميع الأقطار العربية.

ودخلنا في دور من الانتداب كان الاستقلال فيه هدفًا مشروعًا، فنالت اللغة العربية اهتمامًا رسميًّا أكثر بكثير من ذي قبل، وتمتع رجال الفكر من العرب بحرية فكر وانطلاق قول لم يتمتعوا بمثلهما في ظل الأتراك العثمانيين. وأُرسلَت البعثات العلمية إلى جامعات الغرب، وكثر عدد رجال الاختصاص، وأنشئت الجامعات الوطنية الرسمية، فدخلنا في يقظة علمية عالية مباركة، لا نزال نجني فوائدها ونوسع نطاقها، ونقلنا كثيرًا من اللغات الغربية إلى لغتنا، فأحسنَّا الاختيار أحيانًا وأسأنا أحيانًا أخرى، ثم دخلنا في دور التصنيف، وكان من الطبيعي جدًّا أن نُعنَى بتاريخ العرب، فكثُر العمل في هذا الميدان، وتعددت المصنفات الحديثة وتنوعت، وارتفع مستوى البحث والتصنيف في هذا المضمار، حتى ساوى في بعض الأحيان أرفعَ ما وصل إليه العمل في جامعات الغرب، وشعر زملاؤنا في الغرب بهذا الارتفاع في المستوى واعترفوا به، فأشركونا في العمل العلمي الإجماعي، كلًّا في حقل اختصاصه، ومن يقلِّب صفحات الموسوعة الإسلامية في طبعتها الأولى ويقارنها بطبعتها الثانية؛ يلمس لمس اليد كثرة العلماء العرب الذين يشتركون اليوم في إخراج هذه الموسوعة في طبعتها الحالية.

ولكن التاريخ سلسلة متسلسلة، فلا سبيل إلى فهم دور من أدواره دون الالتفات إلى ما سبقه من حوادث وأحداث، وحاضرنا لا يزال مدينًا بنوع خُصوصي إلى حضارة اليونان والرومان وفكرهم وفنهم. ومن هنا اهتمامنا بعصر أوغوسطوس قيصر وخلفائه الأقربين، ومع أننا نقدر جهود زملائنا في جامعاتنا العربية في هذا المضمار حق قدرها، فإنه لا يسعنا إلَّا أن نلفت أنظار من يعنيهم الأمر بأن ما فعَلْناه وبذلناه في تاريخ اليونان والرومان لا يزال ضئيلًا جدًّا، وأنه لا بد من مضاعفة الجهود لإعطاء هذه العصور العظيمة في تاريخ الحضارة المنزلةَ اللائقة بها، إِنْ من حيث التفرُّغ لها في الجامعات، أو من حيث الوقت المخصَّص لتدريسها في الدورتين الابتدائية والثانوية وفي الكليات العالية.

أسد رستم
عن رأس بيروت
في ١٥ آب سنة ١٩٦١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤