الفصل الأول

رُومَة القديمة

كانت إيطاليا قديمًا أهم بلدان غرب المتوسط، وبما أن أرضها تنحدر إلى الغرب، فهي منه وإليه تنتمي. وتمتد شبه جزيرة إيطالية في البحر إلى مدى بعيد، ويبلغ طولها ٩٦٠ كيلومترًا، ومساحتها أربعة أمثال مساحة اليونان، ولا تقطعها الجبال إلى أودية متمعجة وسهول مقتضبة، فسلسلة الأبنين الرئيسة، وإن كانت تخترق شبه الجزيرة بانحراف من جهة الشمال، فهي موازية للسواحل، وليس من مثيل لسهول إيطالية الكبيرة الزراعية في كل بلاد اليونان، وفي أنجادها وهضابها مراعٍ خصيبة للأنعام والمواشي، لا تضاهيها مراعي بلاد اليونان، لا في رحابتها ولا في نضارتها، وسواحلها غير مفللة أو مشرشرة كسواحل بلاد اليونان، وبالتالي، فموانيها الصالحة لرسُوِّ السفن أقل؛ ولهذا أتقن أهلها الزراعة وتربية المواشي قبل أن يتقنوا التجارة.

(١) الهجرات الأولى

وجذبت سهول إيطالية ومنحدرات جبالها، التي تكسوها الغابات الغضة شعوب البلدان الشمالية الشديدة الزمهرير، ففي حوالي السنة ٢٠٠٠ قبل الميلاد، انحدر نحو الجنوب الدافئ سكان بحيرات سويسرة، واستولوا على بحيرات شمال إيطالية. وقد وجد العلماء المنقبون آثار مائة جالية من هؤلاء أو أكثر في وادي البو. وكان هذا الوادي مستنقعات فسيحة جدًّا، فتملكوها وبنوا فيها منازلهم الخشبية على عمد مغروزة في الماء والوحل، ولا تزال منازل البندقية قائمة على عمد، وإن كان جزء كبير منها مبنيًّا بالحجر.

وفيما كان سكان هذه القرى يهبطون وادي البو، كانت القبائل الهندية الأوروبية قد أخذت تشعر بجاذبية آكام إيطالية وهضابها الخضراء الدافئة، ويرجح أنه بعد وصول اليونان «الهنديين الأوروبيين» إلى بلاد اليونان بزمن غير طويل كانت قبائل أخرى من نوعهم قد دخلت إيطالية. وكانت أهم هذه القبائل تلك التي احتلت الأقسام الوسطى والجنوبية من شبه الجزيرة، وعُرفت هذه القبائل بالإيطالية، فأطلق اليونانيون اسمهم على القسم الجنوبي من شبه الجزيرة، ثم عليها كلها.

وبينما كان الإيطاليون يتحاربون بعضهم مع بعض، أبصروا جماعة من لصوص البحر البسلاء ينزلون في ساحل إيطالية الغربي، ويُعرَفون بالأترسكيين، ويُرجَّح أن هؤلاء الأترسكيين كانوا يستوطنون آسية الصغرى الغربية، والآثار المصرية تُنبئنا بما قاموا به من الغارات البحرية على شاطئ الدلتة منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد. فلا يُستبعد، والحالة هذه، أنهم وصلوا إلى إيطالية بالظروف نفسها، وفي حوالي السنة ١٠٠٠ قبل الميلاد، فصدوا قبائلها الهندية الأوروبية إلى الوراء، واستولوا على ساحل إيطالية الغربي من نابولي حتى جنوا.

وكان القرطاجيون ثاني المزاحمين الثلاثة، الذين تصدوا للقبائل الإيطالية في أثناء العصر الذي بلغ فيه الفينيقيون أوج نجاحهم التجاري، أي في حوالي بداية الألف الأول قبل الميلاد. خرج الفينيقيون بتجارتهم إلى غرب المتوسط، وشيدوا على الساحل الأفريقي مقابل جزيرة صقلية مدينة تجارية أسموها قرطاجة «قرت خودش» القرية الحديثة، ولم يمضِ عليها ردح من الزمن حتى صارت أهم مرفأ تجاري في غرب المتوسط. وبعد أمَدٍ قصير دخل في حوزة الفينيقيين ساحل أفريقية الشمالي حتى المحيط الأطلسي، وفضلًا عن استيلائهم على جنوب إسبانية طمحت أبصارهم إلى ابتلاع جزر غرب المتوسط، ولا سيما صقلية القريبة من إيطالية.

ورأى الإيطاليون خصمهم الثالث يهاجم الغرب، فيما كان القرطاجيون يبسطون سلطانهم عليه، فاليونانيون بدءُوا يتوسعون غربًا، وينشِئُون المستعمرات في صقلية وجنوب إيطالية في القرن الثامن قبل الميلاد، ولكن مستعمراتهم هذه لم تستطع أن تتحد فتكوِّن حكومة كبيرة. وكانت سرقوسة أشد المدن اليونانية الغربية حولًا، فتولت الزعامة عليها غير مرة، ولا يغيب عن البال أن أثينة حاولت فتح الغرب بمجرد الاستيلاء على سرقوسة.

(٢) النزاع بين أخصام الإيطاليين

ولم تكن القبائل الإيطالية في بادئ أمرها شيئًا يُعتد به، فانحصرت المزاحمة بين أخصامها الثلاثة، فكان اليونانيون في صقلية وجنوب إيطالية ضد الأترسكيين والقرطاجيين. ولا يبرح من البال كيف فاز اليونانيون في سرقوسة سنة حرب سلاميس الشهيرة فوزًا مبينًا على القرطاجيين، وكيف خلصوا صقلية من الدخول في حوزة القرطاجيين، وذلك في السنة ٤٨٠ق.م.، وبعد ذلك ببضع سنين، في السنة ٤٧٤ق.م.، قامت سرقوسة أيضًا، وهاجمت الأترسكيين فعقد النصر لها، وحطمت مراكبهم في مياه «كومي Cumae»، واستولى «هيرون Hieron» طاغية سرقوسة على خوذة أترسكية فكرَّسها في أوليمبية كجزء من الغنيمة، التي غنمها من الأترسكيين في كومي، وهي الآن في المتحف البريطاني. ولا تزال الكتابة التكريسية التي أمر بنقشها طاغية سرقوسة بادية عليها.
figure
الخوذة الأترسكية.

(٣) اللاتينيون

وأقام فريق من القبائل الإيطالية، عُرفوا باللاتين، على الضفة الجنوبية الشرقية من نهر التيبر. ولما جاء الغزاة الأترسكيون واحتلوا السواحل، كانت هذه القبائل اللاتينية قد احتلت سهلًا أقل من ٦٤ كيلومترًا طولًا في ٤٨ عرضًا، ودعته «لاتيوم Latium»، وعاش اللاتين كجيرانهم الإيطاليين جواليَ صغيرة متفرقة، يزرعون الحبوب ويرعون القطعان على الأنجاد والهضاب. ولما لم تكن أرضهم شديدة الخصب اضطرتهم الحال إلى الجد والاجتهاد. وكان مركزهم بلدة اسمها «ألبا لونغا Alba Longa» «الطويلة البيضاء»، كانوا ينضوون تحت لوائها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وكانوا يرقبون نمو المدن الأترسكية الزاهرة على الجانب الشمالي من نهر التيبر فيوجسون منها شرًّا، وقد كشف المنقبون عن آثار «كرايه Carac» أقرب المدن الأترسكية الهامة إلى لاتيوم واللاتين، ويشاهد في الرسم قبور هذه البلدة، وقد حوت من المصوغات والآلات والأسلحة ما ينبئ بازدهارها في ذلك العهد.
figure
قبور كرايه الأترسكية.

(٤) ظهور رومة

وحين كان اللاتينيون يرون أنفسهم في حاجة إلى شراء أسلحة أو بعض الأدوات الأخرى، كانوا يضطرون أن يحملوا كمية من الحنطة، أو يأخذوا ثورًا إلى سوق كانت تُقام في الجانب الجنوبي من نهر التيبر فوق المستنقعات المجاورة للساحل الممتدة إلى الداخل مسافة تتراوح بين ١٥ و١٨ كيلومترًا، وسهَّل عليهم عبور النهر رقة الماء ووجود جزيرة صغيرة عند هذه النقطة. وكان هناك فوق النهر جسر متين، بنوه بما كان لديهم من الآلات. وكان يشرف على الجسر رابية شاهقة تُعرف بالبلاتينية، كانت على قمتها قلعة مربعة الشكل لحراسة مخاضة الجسر. وكان في جوارها تلال أخرى مبثوث عليها بعض القرى، ولكن أهمها التل الذي شُيدت عليه القلعة، وكان التيبر وحده صالحًا للملاحة، ولكن المراكب الصاعدة في مجراه كانت تضطر للوقوف عند اقترابها من الرقارق والجسر، وهناك في العراء، على المنخفضات الغمقة التي تحدق بها الآكام، كانت تقام سوق لأهل القرى، وفيها كانت يجتمع الفلاح اللاتيني بالتجار الأترسكيين، ويستبدل بقمحه أو ثوره الآلات المعدنية أو الأسلحة التي كان يحتاج إليها. هكذا كانت — على الأرجح — حالة مجموع القرى، التي كانت تُدعى رومة في حوالي السنة ١٠٠٠ق.م.

figure
التيبر وجزيرته.

(٥) عهد الملوك

ثم تحققت مخاوف اللاتين من الأترسكيين، فإن أحد أمراء هؤلاء عبَر التيبر في حوالي السنة ٧٥٠ق.م.، وطرد آخر زعيم لاتيني، واستولى على القلعة القائمة على الرابية البلاتينية. ومن هذا المكان حيث كان قصره وقلعته ضبط شئُون القرى القائمة على التلال الأخرى، التي امتزجت فأظهرت رومة، ولا صحةَ في التقليد الروماني أن «رومولوس Romulus» و«ريموس Remus»، اللذين أرضعتهما الذئبة قضيا على ملك ألبا لونغا وأسسا رومة، فهذه أسطورة لا تعود إلى ما قبل القرن الرابع ق.م.،1 وبسط الملوك الأترسكيون سلطانهم على القبائل اللاتينية، وتوارتْ مدينة ألبا لونغا، وأصبحت رومة مملكة مؤلفة من رومة وأرباضها، وعليها ملك أترسكي كباقي المدن الأترسكية. ومع أن رومة بقيت قرنين من الزمان تحت تسلط الملوك الأترسكيين، فإن سكانها وسكان لاتيوم ظلوا لاتينيين، يتكلمون باللغة اللاتينية.
figure
كأس أثينية من أوائل القرن السادس قبل الميلاد.

وكانت السفن الأترسكية قد عرفت المياه اليونانية منذ العصر الميكاني، وكان الأترسكيون يزاولون التجارة في الموانئ اليونانية، فتعلموا فيها كتابة لغتهم بحروف يونانية. وكان من نتائج اختلاطهم باليونان دخول الأواني الخزفية إلى بلادهم. وهذه الكأس الأثينية النفيسة، التي صنعها الفنان اليوناني أرغوثيموس في زمان صولون، وزخرفها كلينياس المصور الأثيني، وُجدت في قبر أترسكي في إيطالية. وتعلم الأترسكيون كيف يصنعون صورًا مزخرفة مثلها، ولا يزال كثير من مثل هذه الصور يغشى جدران الضرائح الأترسكية. وبما أنهم تعلموا طريقة استخراج النحاس من معدنه، فإنهم استطاعوا منذ أول عهدهم أن يجيدوا صنع الأدوات البرونزية، حتى إنهم فاقوا اليونان بدقة الشغل أمدًا يسيرًا، فازدهرت تجارتهم بنتاج هذه الصناعة. ومن آثارهم التي تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، هذه المركبة البرونزية، التي وُجدت في ضريح أترسكي في إيطالية، وحُفظت في متحف مدينة نيويورك.

figure
مركبة أترسكية من البرونز.

(٦) الجمهورية الأولى

وأدخل الملوك الأترسكيون تحسينات وإصلاحات جمة، ولكن عسف الحكام حمل الناس أخيرًا على رفع لواء ثورة، قادهم فيها نبلاء الأترسكيين أنفسهم، فسقطت الملكية في حوالي السنة ٥٠٠ق.م.، وحلت محلها الجمهورية الأولى برئاسة المقدمين والقناصل.

وكان تأثير العوامل اليونانية في غضون العصر الأترسكي في لاتيوم كتأثير العوامل الأترسكية. وكانت السفن القادمة من مدن جنوب إيطالية اليونانية إلى المرفأ الواقع تحت مخاضة التيبر تزيد عددًا حينًا بعد حين، وقبل طرد الملوك بأمد طويل كان التاجر الروماني قد تعلم أسماء بعض السلع التجارية من القوائم، التي كان يسلمه إياها التجار اليونان. وبعد أمد قصير صار التجار الرومانيون يقيدون مذكرات بسلعهم التجارية بالحروف اليونانية، وبعد تغيير طفيف في هذه الحروف اقتضته اللغة اللاتينية ظهرت حروف رومانية أيضًا، وهكذا تقدمت حروف الهجاء الفينيقية مرحلة أخرى في سفرها نحو الغرب.

ولم تكن أولًا سفن رومانية في أحواض التيبر، ولكن مع مرور الزمن تعلم بعض الصناع الرومانيين بناء سفن مثل السفن اليونانية الراسية في مياههم. ولما اتسع نطاق التجارة الرومانية وجد الرومان أن تأدية الحسابات المطلوبة حنطة وثيرانًا مشقة كبيرة، في حين كان اليونان يؤدون أثمان السلع التي يبتاعونها قطعًا من النقود النحاسية، فصبوا النحاس قطعًا، كالتي ترى في الشكل وعليها صورة ثور للدلالة على قيمتها، ثم وجدوا أن هذه القطع ضخمة، فحذوا حذو اليونان، وصبوا قطعًا صغيرة مستديرة أسموها «آسًا as»، وجعلوا على وجهها رأس الإله «يانوس Janus»، وعلى ظهرها مقدمة مركب روماني، وكانت هذه ثقيلة أيضًا، لا يقل وزنها عن ثلث الكيلو، فقُسمت إلى اثنتي عشرة قطعة، دعوا كلًّا منها «أونقية uncia». وصار لديهم قطع من النقود أوقية وأوقيتان وثلاث أواقٍ وأربع أواقٍ وست أواقٍ. وأخذ الرومان عن اليونان مقاييس الطول والحجم والكيل.
figure
نقود رومانية نحاسية قديمة.
figure
كبد العرافة.
وسمع الفلاح الروماني عن آلهة غريبة عند اليونان، فقيل له: إنها قسيمة لآلهته. أما هو، فكان يعتقد أن لكل قسم من الطبيعة إلهًا متسلطًا عليه، وكذلك كان لكل إله شأن من شئون الحياة البشرية، ﻓ «المشتري Jupiter» كان إله الجَلَد العظيم وملك جميع الآلهة، و«المريخ Mars» ولي أبطال الحرب، و«الزهرة Venus» ملكة الحب، و«يونة Juno» إلاهة قديمة للجَلَد وحامية النساء في الولادة والزواج، و«وستة Vesta» حارسة الحياة العائلية، وكانت نار موقدها دائمة الاضطرام منذ أيام بداوة الآباء في براري آسية. و«كيريس Ceres» إلاهة خصب الأرض وإنتاجها، وخصوصًا حقول الحنطة.
ووقعت تكهنات «سبلَّات sibillae» أبولون الدلفي اليوناني موقعًا ساميًا لدى الإيطاليين، وعد الرومان الكتب السبلية بيانات مدهشة عن أحوال المستقبل، وجاءهم الأترسكيون بطريقة أخرى من آسية الصغرى لمعرفة الغيب والكشف عن المستقبل. فادعى الأترسكيون نقلًا عن البابليين: أن في كبد الشاة الذبيحة علامات ورموزًا تميط لهم الحجاب عن أحوال المستقبل.

(٧) تبسط الجمهورية وفتح إيطالية

وكانت الدولة الرومانية عند طرد الملوك الأترسكيين صغيرة جدًّا لا يُعبأ بها؛ فإنها لم تشمل سوى مدينة رومة والحقول المجاورة لها إلى مدى بضعة كيلومترات حولها، وكان لا يزال يقيم على الجانب الواحد من التيبر الأترسكيون، الذين يُخشى بأسهم، وعلى الجانب الآخر، حول الجمهورية الصغيرة، القبائل اللاتينية، التي كانت قد اتحدت معًا، وألفت ما دعته حينئذٍ بالتحالف اللاتيني.

figure

وبقيت الجمهورية الجديدة جيلين تُجاهد للمحافظة على كيانها، ولحسن حظها دمر أسطول سرقوسة أسطول الأترسكيين تدميرًا تامًّا في السنة ٤٧٤ق.م.، كما سبق وأشرنا. ثم هاجم الغاليُّون الذين تدفقوا من مضايق الألب ساقة الأترسكيين، فعاثوا في مدن هؤلاء الشمالية فسادًا، وخرَّبوا ما وصل إلى أيديهم، فنجت رومة من حرب ثأر طاحنة، وتمكن أبناؤها من افتتاح الأراضي المحدقة، فكانت هذه حِمًى لهم ولبلادهم، ثم بلغ الغاليون البرابرة التيبر، وكسروا الجيش الروماني، ودخلوا المدينة في السنة ٣٨٢ق.م.، وأعملوا فيها النهب والنار. ولما لم يستطيعوا الاستيلاء على حصن الكابيتول رضوا أن يأخذوا فدية من الذهب، وأن يرتدوا إلى الشمال، وينزلوا في وادي البو، ولما استعادت رومة قوتها بعد هذه الكارثة رأت أن لا بد من تحصين المدينة بكاملها، فطوَّقتها بسور من حجر، وجعلتها على جانب عظيم من المناعة، فراع ذلك جماعات اللاتين وأوجسوا خيفة، فحاولوا أن يتملصوا من نفوذ المدينة المسوَّرة، فنشِبت حرب بين الفريقين دامت سنتين، وانتهت بتثبيت زعامة رومة على اللاتين (٣٣٨ق.م.).

figure
الملك بيروس (٣١٩–٢٧٢ق.م.).
figure
درهم فضي روماني.
ثم بدا لرومة عدو مخيف من القبائل الإيطالية، قوم يُعرفون بالسمنيين، وكان هؤلاء على جانب من المدنية اقتبسوه عن المدن اليونانية في جنوب إيطالية، وكان بإمكانهم أن يعبِّئوا جيشًا من الفلاحين الأشداء، فاستولوا على جبال الداخلية من أملاك رومة، ودخلوا في السنة ٣٢٥ق.م.، في حرب عوان مع الرومانيين، استمرت جيلًا كاملًا، وخسر الرومان في أثنائها بعض المعارك. وحاول السمنيون أن يوحدوا أعداء رومة، فنقلوا جيشهم إلى الشمال؛ لكي ينضموا إلى الأترسكيين والغاليين، واشترك في هذه الحرب جميع الجزء الأوسط من إيطالية ومعظم شمالها، والتقى جيش الرومان جيوش الحلفاء بين الجبال في منتصف المسافة بين التيبر الأعلى والساحل الشرقي من إيطالية، فشبت في «سنتينوم Sentinum» في السنة ٢٩٥ق.م. معركة شديدة دامية، دارت فيه الدائرة على الحلفاء، فتحطمت قواتهم تحطيمًا. وتقرر في هذه المعركة مستقبل إيطالية مدة ألفي سنة. ولم يغنم الرومان بهذه المعركة أواسط إيطالية فقط، بل أصبحوا القوة العظمى في شبه الجزيرة كلها، ولم يعد في طاقة الأترسكيين أن يحتفظوا بما كان لهم من الزعامة، فانتزع منهم الرومان مدنهم الواحدة تلو الأخرى، وغُلب الغاليون على أمرهم، فتحوَّل تيار غزواتهم إلى شبه جزيرة البلقان، ومن كان قد استقر منهم ظل مقيمًا في وادي البو، وأمسى تخم رومة الشمالي مجرى نهر أرنوس، فامتدت سيادتهم من هذا النهر في الشمال إلى المدن اليونانية في جنوب إيطالية.
وظلت المستعمرات اليونانية الغربية في جنوب إيطالية وصقلية مقطعة الأوصال، ولكن تبسط رومة راعهم، فحاولوا أن يتحدوا معًا، ودعوا لنجدتهم البطل المغوار «بروس Pyrrhus» ملك أبيروس عبر الأدرياتيك، وكان بروس عدوًّا مخيفًا؛ لأن جيشه كان مدربًا، ولأنه هو كان جنديًّا ماهرًا، وقد عزم على أن يؤلف أمة من اليونان الغربيين. وكسر بروس الرومان وهزمهم شر هزيمة، واستولى على جزيرة صقلية كلها، وكاد مسعاه في تأليف مملكة يونانية غربية ينجح لو لم يفاجئه القرطاجيون بأسطول قوي ظاهروا به رومة، فإنهم أوجسوا شرًّا من قيام خصم مخيف على بُعد بضع ساعات من قرطاجة. فلما رأى بروس ذلك فاوض رومة في أمر الصلح، فأبى السناتوس أن يعقد صلحًا معه ما دام جيشه محتلًّا لأرض إيطالية، فاختصم اليونان بعضهم مع بعض، فارتد بروس عن صقلية، وعاد إلى أبيروس، وسُلمت المدن اليونانية إلى الجيش الروماني الواحدة تلو الأخرى بلا شرط، واتحدت مع الرومانيين، فبسطت رومة في قرنين وربع قرن من الزمن (٥٠٠–٢٧٥ق.م.) سيادتها على شبه جزيرة إيطالية كلها جنوبي البو، ولم يبق في الغرب إلَّا خصمان: رومة وقرطاجة.

وبعد الاستيلاء على المدن اليونانية في جنوب إيطالية، أخذ الرومان يسكُّون نقودًا فضية (٢٦٨ق.م.)، ولم تعد القطع التي كانوا يتعاملون بها قبلًا ضرورية للدفعات الكبيرة، فصغرت فيما بعد إلى سدس حجمها الأصلي. وأصبح النقد الفضي قوام جميع المعاملات التجارية الكبرى.

(٨) رومة وقرطاجة

ولا مراء في أن المنافس الذي وقف الآن مقابل رومة كان يُخشى جانبه؛ فقد كان يجري في عروق القرطاجيين دم رجالِ باديةِ العرب الأشداء أصحاب القوافل السامية القديمة، الذين جعلوا أسواق بابل مركزًا لتجارتهم الشرقية القديمة قبل أن اقتنت رومة أول سفنها بألفي سنة. وسفن هؤلاء الفينيقيين كانت قد شقَّت لجج البحر المتوسط يوم كان الإيطالي لا يزال همجيًّا، يتوقع بفارغ الصبر قدوم التاجر الفينيقي إليه ومعه الأدوات المعدنية لبيعها منه، ويوم كانت رومة لا تزال قرية حقيرة، يومئذٍ رأى أبناء صور بعين فراستهم أهمية الرأس الناتئ إلى البحر تجاه صقلية، فأسسواعند الطرف الغربي من المكان المعروف الآن بتونس المدينة التي صارت مليكة التجارة في غرب المتوسط وأشد منافس لرومة. وكان لقرطاجة من موقعها الممتاز مندوحة للاتجار لا يباريها فيها مُبارٍ، فامتدت تجارتها تدريجًا إلى تخوم قيرونة شرقًا، وإلى المحيط الأطلسي غربًا، واستولى تجارها على جنوب إسبانية وما فيه من معادن الفضة الثمينة، واحتكروا الصفيح البريطاني عن طريق بوغاز جبل طارق. وانتشرت مستعمراتهم خارج هذا البوغاز على ساحل إسبانية شمالًا، وعلى الساحل الأفريقي الأطلسي جنوبًا حتى حدود الصحراء الكبرى، وتمكن «هنو» حنا، أحد ربابنتهم الجريء من رودان ساحل أفريقية إلى حدود غينية. واستولى القرطاجيون على قسم كبير من صقلية، وأنشئُوا لهم مستعمرات في سردينية وكورسكة، وسدوا بوغاز جبل طارق وموانئ الجزر في وجه السفن القادمة من المدن الأخرى، وكانت بوارجهم تهاجم السفن الأجنبية، التي كانت تدخل هذه المياه وتضربها بالمجانيق فتغرقها إلى أعماق اليم.

ولم تكن قرطاجة الدولة الحربية كرومة؛ لأنها كانت تعتمد في نفقاتها الحربية على أرباح تجارتها، فكان المال عندها أساس القوة، فما دامت تجارتها رابحة وأرباحها طائلة كانت تستطيع أن تستأجر جنودًا للقيام بالخدمة العسكرية اللازمة لها. ولم يكن لديها فلاحون قائمون على حراثة أراضيهم، تستطيع أن تجند منهم جيشًا وطنيًّا مؤمنًا برسالة دولته كما كانت تفعل رومة. كان في أرض تونس المخصبة الغنية فلاحون وطنيون يحرثون أراضيهم ويعيشون من غلالها، ولكن القرطاجيين اغتصبوهم إياها، وأنشئُوا فيها مزارع فسيحة، وعينوا لها أرقاء يقومون بأعمال الفلاحة والزراعة، ولكن لم تكن هذه المزارع تقدم جنودًا قرطاجيين للحكومة؛ لأنه لم يكن فيها جماعة من صغار الفلاحين يعيشون على نتاجها كما كان في سهول إيطالية. ولم يكن لحكام المدينة ثقة بالجيش المؤلف من أجانب، ولا كان لهم ثقة في القادة المولودين قرطاجيين؛ لأنهم خشوا استئثارهم بالسلطة. ومع أنه كان على رأس الحكومة حاكمان منتخبان يلقبان بقاضيين، فإن قرطاجة خضعت في الواقع إلى فريق من كبار التجار الأشراف، تألف منهم مجلس قبض على زمام السلطة. وكان اليونان يدعون حكومة كهذه أوليغارخية، أي حكم الأقلية، ولكنهم، على قلتهم، كانوا ذوي نشاط وحنكة في الأمور السياسية، وظلوا قرونًا يسيرون بالشعب والبلاد في مناهج الحكمة والسداد، حتى جعلوا قرطاجة دولة عظيمة تفوق أية دولة من دول اليونان، بما في ذلك أثينة نفسها.

وظلَّت قرطاجة شرقية في مدنيتها، فحينما كشف المنقبون عن آثارها رأوا فيها التقصير، الذي بدا على الفن الشرقي في أول عهده، ولم يروا فيها من التأثير اليوناني إلا قليلًا. وحافظ القرطاجيون على استعمال سبائك المعدن، ولم يسكوا النقود إلا في صقلية، ولكن لما اتسع نطاق تجارتهم أصدروا نقودًا من جلد هي أقدم سلف للنقد الورقي، وكانت تُختم بخاتم الدولة ضمانًا لقيمتها، ودوَّن هنو — رحالتهم الشهير — أخبار رحلته حوالي أفريقية، كما كتب ماغو، أحد رجال السياسة عندهم، رسالة في الزراعة، نقلها الرومان إلى اللاتينية، وعولوا عليها في الشئون الزراعية في جميع إيطالية.

وفي أثناء الحرب اللاتينية، أو قبل نهايتها (٣٣٨ق.م.) بقليل، رغب تجار رومة إلى مجلس شيوخهم أن يعقد معاهدة مع قرطاجة، يرسم بموجبها حدودًا في البحر، لا يسوغ لسفن الفريقين أن تتعداها، وفي حوالي السنة ٣٠٦ق.م. في أثناء الحرب السمنية، عقدت رومة مع قرطاجة معاهدة ثانية، قضت شروطها ألا تدخل السفن القرطاجية مرافئ إيطالية، ولا تدخل السفن الرومانية مرافئ صقلية. فلما استولى الرومان على المدن اليونانية في جنوب إيطالية أمسى يونان صقلية تحت رحمة قرطاجة والقرطاجيين، فتقدم هؤلاء شرقًا تقدمًا مستمرًّا، حتى ابتلعوا صقلية، فهددوا بذلك مواصلات رومة مع موانيها في ساحل الأدرياتيك. وأمست صقلية نفسها رقبة جسر تستعمله قرطاجة في الحرب التي شاءت، وكان السناتوس الروماني يُوجس، بلا ريب، خيفة من الأمر، الذي روَّع قلوب التجار الإيطاليين. ولا بد أن كثيرين من الشيوخ سأل نفسه: تُرى إذا نشِبت حرب بيننا وبين قرطاجة، فلمن يكون الفوز فيها؟ وأي أمل لنا بالنجاح؟ ومع أنه لم تكن لرومة قوة بحرية، فإنها كانت تستطيع أن ترسل إلى ساحة القتال ثلاثمائة ألف مقاتل، فكان الجيش الروماني أكبر جيش تنظم في حوض المتوسط. وجيوش قرطاجة لم تكن وطنية، تضطرم قلوبها بمحبة الوطن كجنود رومة، بل من المرتزقة، الذين خلت أفئدتهم من الإيمان بالوطن والحماس له. وفي الرسم الأسلحة التي كان يقاتل بها الجندي الروماني آنئذٍ، وهي رمحه المشرع القابض عليه بيمينه الممدودة، ورأسه متجه إلى فوق، وسيفه القصير الذي تقلده على جنبه الأيمن. أما السلاح الواقي، فكان خوذة ودرعًا من جلد وترسًا.

figure
رسم جندي روماني منقوش على الضريح الذي شيده أخوه تذكارًا له.

(٩) الحروب القرطاجية

ولم يلبث الرومان أن اقتنعوا أن لا مناص من الحرب؛ فإنه فيما كان جنود سرقوسة يحاصرون «ميسانة Messana» هب فريق من المحاصرين واستنجد الرومان، وفريق آخر استنجد القرطاجيين، فبعث هؤلاء للحال حامية احتلت القلعة، فأصبح بوغاز ميسانة تحت إمرتهم. أما الرومان، فبعد تردد طال أمده لبوا نداء الذين استغاثوا بهم، وأرسلوا إليهم جيشًا رومانيًّا من إيطالية بطريق البحر، فابتدأ العراك مع قرطاجة في السنة ٢٦٤ق.م.
وحالفت رومة سرقوسة، وسيطرت على القسم الشرقي من جزيرة صقلية، ولكن إعوازها إلى أسطول حربي عاقها كثيرًا، وفي السنة الخامسة من الحرب أنجز بمساعي السناتوس بناء أسطول حربي روماني، وأُنزل إلى البحر، وكان عدد سفنه الحربية مائة وعشرين. والتقى هذا الأسطول بأسطول قرطاجة في مياه صقلية الشمالية عند «ميلاية Mylae». فاستخف القرطاجيون بالرومان ومراكبهم، وانقضوا عليها بدون روية. وكان الرومان بقيادة «غايوس دويليوس Gaius Duilius» قد صنعوا لكل سفينة من سفنهم جائزًا من الخشب، وناطوه بالدقل بحلقة من حديد عند أسفله، وبحبل وبكرة من أعلاه، ورزوا في طرف الجائز الأعلى «شصًّا corvus»، فكانوا إذا اقتربت سفن قرطاجة ينزلون الجوائز فترتز شصوصها في ظهور تلك السفن، فتكون جسورًا إليها فيعبر الرومانيون، ويقاتلون القرطاجيين عن كثب بالسلاح الأبيض. ففاجأوا القرطاجيين بهذا الاختراع الجديد، وربح غايوس دويليوس المعركة مكبدًا القرطاجيين خسارة قُدرت بنصف عدد بوارجهم، ومما تجدر ملاحظته في الرسم البومبايي، أن الدفة لم تكن قد نشأت، وأن مجاذيف كانت تقوم مقامها على كل جانب من مؤخر البارجة.
figure
سفينة حربية رومانية قديمة على جدار في بومباي.
وعاد دويليوس إلى رومة منتصرًا، وشيد من غنائم المعركة التي فاز بها معبدًا للإله «يانوس Janus»، وأكرمه المواطنون، فكانوا يواكبونه في الليل حاملين المشاعل على الطريقة اليونانية، وأقاموا في «الساحة العمومية Fourm» نصبًا تذكاريًّا له، عمودًا مزينًا بمؤخرات بعض البوارج التي حطم في ميلادية، مكتوبًا عليه اعترافًا صريحًا بما تم على يده،2 ودعوا هذا النصب التذكاري «عمود مؤخرات البوارج Columna rosrata».
ولكن لسوء حظ الرومان، قام لهم بعد ذلك من البحر نفسه عدو، فحطم أساطيلهم الواحد تلو الآخر، وكسر أحدها القرطاجيون شر كسرة في مياه صقلية الجنوبية عند «إكنوموس Ecnomus»، ففقد الرومان سيادتهم البحرية التي لم يطل عليها الأمد، وأمسوا عاجزين عن الثبات على الحرب زمنًا مديدًا، وكان أمير البحر القرطاجيان «أذربعل Adherbal» و«قرثالو Carthalo» يخربان بأساطيلهما سواحل إيطالية. وجاء صقلية في السنة ٢٤٧ق.م. هملقار برقه القائد القرطاجي الشاب، فشنها حرب عصابات أقضت مضجع رومة، وجرت الحرب وئيدًا سنة بعد سنة، حتى نضب معين الخزينة الرومانية. ولكن الأريحية هزَّت أفرادًا من الرومانيين، فجادوا بالمال، فتمكنت رومة من بناء أسطول جديد أنزلته إلى البحر في السنة ٢٤٢ق.م.، وكانت باكورة أعمال هذا الأسطول، الذي قاده «لوتاتيوس كاتولوس Lutatius Catulus» أنه هزم في السنة ٢٤١ق.م. قوَّة قرطاجية، جُهزت على عَجَل في مياه «ذريبانة Drepana» عند زاوية صقلية الشمالية الغربية، فلم يبقَ في طاقة القرطاجيين أن يرسلوا مددًا بطريق البحر إلى جيشهم في صقلية، فاضطروا أن يقبلوا شروط صلح ثقيلة، تخلَّوا بمقتضاها عن صقلية والجزر المجاورة لها، وأدوا في غضون عشر سنين غرامة حربية قدرها ثلاثة آلاف ومائتا وزنة.3
figure
Columna Rostrata.

وانصرف الخصمان بعد ذلك إلى زيادة قواتهما، ولم تتردد رومة في أن تفعل ذلك على حساب قرطاجة، فإنها بعد إقرار الصلح بثلاث سنين فقط استولت على سردينية وكورسيكة، فصار لديها ثلاث نقط انطلاق حربية خارج بلادها تناوئ قرطاجة منها. وبعد ذلك ببضع سنين، اشتبك الرومان في حرب جديدة مع الغاليين، الذين انقضوا عليهم من وادي البو، فانكسر الغاليون انكسارًا عظيمًا، واستولى الرومان على أراضيهم، ولم يمنحوهم الحقوق الرعوية، فامتدت سلطة رومة حتى سفح جبال الألب.

وحفظًا لتوازن القوات، وجه القرطاجيون أنظارهم إلى إسبانية، فامتدت سلطتهم فيها بهمة هنيبعل بن هملقار إلى حدود نهر الإبرو، ومع أنه لم يكن لهنيبعل سوى أربع وعشرين سنة من العمر، فإنه رسم الخطط الخطيرة لمفاجأة رومة في عقر دارها وسحق قوتها في إيطالية نفسها.

figure
هنيبعل.

ولكن قبل أن يعبر هنيبعل بجيشه إلى إيطالية نشِب بينه وبين رومة قتال على تخوم إسبانية؛ لأنه نكث العهد الذي كانت قرطاجة قد قطعته؛ بأنها لا تتخطى إلى ما وراء نهر الإبرو، ثم زحف بجيشه أربعين ألفًا، متبعًا ساحل إسبانية الشرقي؛ ليقطع جنوب غالية ويهاجم إيطالية، والذي حداه على اتخاذ هذه الخطة في زحفه هذا، هو إيقانه أن أسطول قرطاجة الذي انكسر في حرب صقلية لا يستطيع أن يحميه وجيشه إذا حاول أن يذهب به رأسًا من قرطاجة إلى جنوب إيطالية. وفضلًا عن ذلك كان معه ستة آلاف فارس، ونقل مثل هذا العدد بحرًا لم يكن بالأمر الذي يُستخف به. زد على ذلك، أنه لو نزل في جنوب إيطالية للَقِي من السكان هناك مقاومة عنيفة من أول الأمر؛ لأنهم كانوا مقيمين على ولاء رومة. وأما في الشمال، فلم تكن الحال كذلك؛ لأن مراجل حقد الغاليين كانت لا تزال تغلي في صدورهم على الرومانيين، ولأن جماعات منهم كانوا قد التحقوا مرارًا بجيوش قرطاجة جنودًا مرتزقة. وفيما كان أعضاء السناتوس يرسمون خطتهم لغزو إسبانيا وأفريقية فاجأهم هنيبعل من الشمال غازيًا مفتتحًا.

وبلغ هنيبعل جبال الألب في خريف السنة ٢١٨ق.م.، فكابد ما لا يوصف من المشاق والأخطار لوعورة المسالك وتراكم الثلوج، وكانت المسالك في بعض الأماكن ضيقة؛ بحيث لم تتمكن الأفيال من المرور بها، فكان لا بد من توسيعها، ومما زاد في الطين بلَّة الحجارة الهائلة التي كانت تنهال عليه وعلى جيشه من الشواهق، يدحرجها الوطنيون من أعدائهم، هذا فضلًا عما كانوا يقاسونه من التعب والجوع والزمهرير، ولكن قائدهم الشاب لم يألُ جهدًا عن تشجيعهم، ونفخ روح النخوة والرجولة في صدورهم ومساعدة من كان منهم خائر القوى، ولما بلغوا وادي البو كانوا قد تجشموا خسائر جمة في النفوس حتى انحطَّ عددهم إلى أربعة وثلاثين ألف رجل.

بهذا الجيش الصغير دخل الشاب القرطاجي، غير هيَّاب ولا وجل، أرض أقوى دولة حربية في عصرها، كان باستطاعتها أن تستدعي إلى نجدتها سبعمائة ألف مقاتل. أما هنيبعل، فلم يكن في وسعه أن يستقدم النجدات؛ لأنه لم يكن لقرطاجة تسلط على البحر، فكان لا بدَّ له من فوز معجل؛ ليحيي الرجاء في صدور الغاليين، ويستفزَّهم إلى مناصرته بالتطوع في جيشه. وكان هنيبعل على صلة بكثيرين من اليونان، فوقف على أرقى الخطط الحربية وعلى الأعمال الباهرة التي قام بها الإسكندر وخلفاؤه. وكان القناصل قواد الرومانيين منتخبين لإدارة الأحكام، فلم يكن لهم، في غالب الأحيان، اختبار في الأمور الحربية. ولما كان هنيبعل ماهرًا في المناورة بالفرسان عُقد له الفوز العاجل في معركتين شبتا في وادي البو، فهبَّ غاليو هذه المنطقة وانضووا تحت أعلامه. وفي أوائل ربيع السنة ٢١٧ق.م. اجتاز هنيبعل سلسلة القلاع الرومانية، التي حمت مسالك الأبنين، وباغت جيش القنصل فلامينيوس Gaius Flaminius الآمن من شر مفاجئ. وكان القرطاجيون قد كمنوا له عند بحيرة «تراسيميني Trasimene»، فانقضوا على طليعته وساقته ومزَّقوهما كل ممزق. ووقع القنصل بين أيديهم، وأصبح هنيبعل قريبًا من رومة، لا يبعد عنها أكثر من مسافة بضعة أيام،4 وكان في طاقته أن يستأنف الزحف عليها توًّا، ولكنه امتنع عن ذلك؛ لأنه لم يكن لديه الآلات اللازمة لدك حصونها، فبات يعلل النفس بنصرة أخرى يوم يهبُّ حلفاء رومة، ويقلبون لها ظهر المجن.
figure
مصرع أرخميذس.
وفي إبان هذه الأزمة الشديدة عيَّن الرومان فابيوس Fabius Maximus Verrucosus دكتاتورًا، وكان هذا الرجل وقورًا رزينًا، فارتأى ألا يواقف هنيبعل، بل يبذل الجهد في نهك قواته بالمطل دون مواقعة فعلية، وأن يغتنم كل فرصة لمضايقة القرطاجيين وإزعاجهم، فلم تلقَ سياسته هذه استحسانًا لدى الرأي العام، فسُمي صاحبها فابيوس «المماطل Cunctator» ولبسه هذا الاسم عمره. ثم شرع القنصلان اللذان انتُخبا سنة ٢١٦ق.م. في تعبئة جيش مؤلف من سبعين ألف جندي، وزحفا به إلى الجنوب لملاقاة هنيبعل، والتقى الخصمان في «كانة Cannae»، فهزم فرسان هنيبعل الذين ألفوا ميمنة هنيبعل وميسرته فرسان رومة في الميمنة والميسرة، ثم قام الجناحان القرطاجيان بحركة التفاف سريعة، فأطبق القرطاجيون على قلب الجيش الروماني من كل جانب، ودارت رحى معركة شديدة عقبتها مجزرة هائلة، دامت بقية النهار. ولم يكد الليل يرخي سدوله حتى كان الجيش الروماني قد اضمحلَّ على بكرة أبيه، وأمست كل أسرة في رومة مرتدية ثياب الحداد على من فقدت من أحبائها. وقيل: إن هنيبعل أرسل إلى قرطاجة ملء مدَّين من خواتم الذهب، التي انتزعها جنوده من أصابع فرسان الرومان وأشرافهم.5

ثم هبَّت بلدان جنوب إيطالية والمدن اليونانية، ومن جملتها سرقوسة، وقلبت لرومة ظهر المجن، وانحازت إلى هنيبعل، ولم يبقَ أحد في الجنوب مناوئًا له إلَّا بعض المستعمرات اللاتينية. وأرسل هنيبعل سفراء من قبله إلى مقدونية، فوعدهم فيليبوس ملكها بإرسال النجدات. ولو أدرك خلفاء الإسكندر في مصر وسورية وآسية حقيقة هذا العراك العظيم في إيطالية، وكان في استطاعتهم أن يتحدوا على رومة، فلربما كانوا سحقوها إلى الأبد، ولكن السناتوس الروماني عقد بحنكته السياسية محالفة مع اليونانيين، وأوقد نار ثورة في بلادهم على المقدونيين، فمنع هؤلاء من إرسال النجدات إلى هنيبعل، فتمكنت رومة بثباتها وحكمتها من المحافظة على ولاء الإيطاليين في وسط إيطالية. واضطرتها الحال أخيرًا إلى تسليح الأرقاء وصغار الصبيان، وتقدمت بهذا النوع من الجيوش لمحاصرة المدن الثائرة، التي كانت قبلًا موالية لها، فاستولت عليها الواحدة تلو الأخرى، حتى سرقوسة، مع كل ما ابتكرته فكرة أرخميذس من الحيل لإنقاذها من الحصار الشديد، لم تنجُ من الوقوع في السنة ٢١٢ق.م. بين أيدي الرومانيين.

figure
القتال في زامة.

ولم يبقَ، بعد هذا كله، لهنيبعل إلا أمل واحد، وهو الزحف على رومة نفسها، فزحف عليها في السنة ٢١١ق.م.، يحف به رجال حرسه الخاص، حتى بلغوا إلى أحد أبواب المدينة العظيمة، التي كانت لا تزال كأنها في إبان قوتها، وربما أطل كثيرون من البطارقة من فوق الأسوار يتفرسون في طلعة ذلك الشاب القرطاجي، الذي ألقى الرعب في قلوبهم، وهزَّ إيطالية من أقصاها إلى أقصاها هزَّ الزلازل، ولكنهم لم يبلغوا درجة من الرعب تدفعهم إلى التماس الصلح، ولم يراسلوه في شيء على الإطلاق، ولما لم يكن جيش هنيبعل كافيًا لمحاصرة أعظم مدن إيطالية، ولا كان في طاقته أن يستقدم آلات الحصار، اضطر هو وجيشه إلى النكوص على الأعقاب دون أن يقوموا بعمل حربي.

وبعد أن أقام هنيبعل في إيطالية سبع سنين، تحقق له أن مساعيه ستخفق إن لم تتداركها نجدات قوية. وكان أخوه هسدروبعل قد جمع جيشًا، وشرع يزحف به إلى إيطالية، فعبر جبال البيرين (٢٠٨ق.م.)، وسلك الطريق الذي سلكه أخوه هنيبعل، فقطع جبال الألب، ووصل وادي البو على رأس ثلاثين ألفًا، وحاول الزحف على إيطالية الوسطى عن طريق الساحل، فصده جيش روماني قوي كان بين قادته كلوديوس نيرون، فسلك وادي «المتورس Metaurus»؛ إما ليعود إلى الشمال، وإما ليتصل بأخيه عن طريق آخر، فأدركه الرومان وسقط مقاتلًا (٢٠٧ق.م.)، وقذف رسول روماني برأس هسدروبعل إلى معسكر هنيبعل؛ ليعلن له نبأ الكارثة التي قضت على آماله.
وبقي هنيبعل بعد ذلك بضع سنين يجاهد في أقصى جنوب إيطالية، وأظهرت محن الحرب مواهب شاب روماني من أسرة «سكيبيو Scipio»، كان يُدعى «بوبليوس كرنيليوس Publius Cornelius»، فإنه بعد أن خلَّص حياة والده في موقعة «تيكينوس Ticinus» في السنة ٢١٨ق.م. وجمع أشتات الجيش الروماني بعد موقعة كانة، تسلم قيادة الجيش، الذي أنفذ إلى إسبانية للقضاء على استعدادات هسدروبعل فيها، فأظهر تفوقًا ملموسًا في التعبئة والمناورة. فلما حصر هنيبعل أعماله في أقصى جنوب إيطالية أرسله السناتوس بناء على طلبه إلى أفريقية؛ ليغزو أملاك قرطاجة فيها كما غزا هنيبعل أملاك رومة في إيطالية.
ولما جاءت السنة ٢٠٣ق.م.، كان سكيبيو قد قهر جنود قرطاجة مرتين في أفريقية، فاستدعت قرطاجة هنيبعل إليها، فنشبت في زامة في داخلية البلاد المعركة الفاصلة، ورأى هنيبعل بصدق فراسته أن لا مناص من انكسار جناحي جيشه أمام جحافل سكيبيو المتراصة؛ لأنه لم يكن لديه عدد كافٍ من الفرسان؛ ليعزز جناحي جيشه الضعيفين مقابل جناحي سكيبيو القويين. ولما وقع ما كانت ينتظره وتوارى جناحا كل من الجيشين الروماني والقرطاجي، عمد هنيبعل إلى حيلة سنحت له، وهي نفس الحيلة التي أتلَفَ بها الجيش الروماني في كانة، فسيَّر من وراء صفه فرقتين إلى جهتين متقابلتين، بحيث صار طرفا صف جنوده أبعد مدى إلى اليمين واليسار من طرفي صف الجنود الرومانية. وقد قصد بذلك أن يطبق على جنود عدوه من كل جانب، فرأى سكيبيو بريق الفولاذ الذي تحرك وراء صفوف القرطاجيين، وأدرك الخطر المداهم، فأمر الفرقة الأمامية من الصف أن تقوم بالمحاربة وحدها، دون أن تتوقع إسعافًا من الفرق التي وراءها، وقسم الجنود الذين في مؤخرة جيشه، فذهبوا إلى الميمنة والميسرة، فلما تقدم جنود هنيبعل؛ ليقوموا بحركة الالتفاف وجدوا أمامهم سورًا رومانيًّا من الفولاذ، واستمرت المعركة في صفين متوازيين إلى أن عاد الفرسان الرومان من مطاردة القرطاجيين، وهجموا على جناحي هنيبعل، فلما رأى هنيبعل صفوف جيشه آخذة بالتساقط والانهزام أمام العدو لا تلوي على شيء، راضية بالفرار حبطت آماله ونجا بنفسه. وفي المعاهدة التي عقبت معركة زامة أجبر الرومانيون قرطاجنة أن تؤدي لهم في غضون خمسين سنة عشرة آلاف وزنة، وأن تتخلَّى لهم عن سفنها الحربية ما خلا عشر سفن، ولم يعد في طوق قرطاجة أن تثير حربًا على أحد دون رضى الرومانيين.6

(١٠) حكومة الجمهورية

وكانت حكومة المملكة الرومانية مؤلفة من «ملك rex»، و«مجلس شيوخ senatus» يمثِّل عقلاء الدولة. وكان هنالك «شعب populus» مقسَّم إلى عشائر ومئات، فلما قامت الجمهورية اتخذت شكلًا أرستوقراطيًّا، فتألفت من طبقة ممتازة ومن جمهور الشعب، وحل محل الملك «مقدمون praetores» ثلاثة متساوون في الرتبة والمقام، منتخبون لمدة سنة واحدة بأيديهم «سلطة الحكم imperium». وبما أن حق الانتخاب للمقدمية كان محصورًا في طبقة الأشراف الأغنياء كان الحكم جائرًا، فأبى جمهور الشعب أن يقيموا على الضيم.

(١٠-١) الأشراف والعوام

figure
بطريق من البطارقة.
وعرف الأشراف عند الرومان ﺑ «البطارقة patricii»، بأولئك الذين تحدروا من اﻟ patres من الآباء المؤسسين، وتميزوا عن سائر الشعب باللباس والحذاء، ﻓ «قميصهم tunica» حمل قلمًا «أرجوانيًّا عريضًا laticlava»، امتد من الرقبة إلى الطرف الأدنى، و«حذاؤهم calceus» كان أحمر اللون، يحمل هلالًا من العاج، واحتفظوا بجميع الوظائف الدينية وبمعظم الزمنية، فجعلوا من أنفسهم طبقة ممتازة مغلقة، ولم يدخل في صفوفهم من أفراد الشعب إلا نزر يسير لمع في خدمات عمومية معينة.7
figure
شيشرون يؤنب كتيلينة أمام السناتوس.
و«العوام pleps» كانوا خلاف الخاصة، أي خلاف البطارقة. ولا يجوز القول مع بعض المحدثين أنهم انتسبوا إلى أصل غير الأصل الذي انتسب إليه البطارقة، وجل ما هنالك أنهم لم يشتركوا في الحكم اشتراك البطارقة، وأنه لم يُسمح لهم بالتزاوج مع هؤلاء، ويرى بعض رجال الاختصاص أن هذا التفريق بين الطبقتين لم يكن واضحًا في عهد الملوك، وإنما نشأ بعد قيام الجمهورية.8
و«الأجناس gens gentis» الرومانية هي الأسر الكبيرة التي تألفت من عائلات متعددة، وألفت في مجموعها طبقة البطارقة، وكان كل جنس يعتبر نفسه متحدرًا من أب واحد. وأقدم الأجناس أولئك الذين انتموا إلى قبيلتي «الرمنس Ramnes» و«التيتيس Tities». واعترف الرومان بالأجناس الألبية أيضًا، التي تفرَّعت عن قبيلة «اللوكيرس Luceres». وفرَّق الرومان بين «الأجناس الكبيرة gentes maiores» و«الأجناس الصغيرة gentes minores»، وكان بين هؤلاء عائلات شريفة وعائلات من العوام. ونظر أبناء الجنس الواحد مجتمعين في الوصيات والتركات، وتقاسموا هذه في حال الوفاة بدون عقب ولا وصية، ونظروا أيضًا في اتحاد العائلات وانضمامها وفي عتق الرقيق. ورفعوا قراراتهم مرتين في كل سنة إلى «مجلس خصوصي Comitia Calata» للبت فيها وإبرامها، وصلوا «مجتمعين أجناسًا sacra gentilicia» كما صلوا عائلات للآباء المؤسسين، وأشركوا معهم في هذه الصلوات الموالي cliens, clientes والخدم والحشم، وسمحوا بدفنهم في قبور العائلات السائدة.9

(١٠-٢) السناتوس

وعزا الرومان إنشاء «مجلس الشيوخ Senatus» إلى الملك روميولوس، فقالوا: إنه انتقى مائة «شيخ senex» من شيوخ رومة واستشارهم في أمور الدولة، فأسس بذلك السناتوس. وقالوا أيضًا: إنه بعد سقوط النظام الملكي، وخروج الملوك في حوالي السنة ٥٠٠ قبل الميلاد، أصبح عدد الشيوخ في هذا المجلس ثلاثمائة، وظل كذلك زمنًا طويلًا حتى أيام «سولة Sulla». وقالوا كذلك: إن عضوية السناتوس انحصرت في بادئ الأمر بالبطارقة، وأنها دامت ما دام العضو المنتخب حيًّا. ويرى رجال البحث أن أعضاء السناتوس كانوا، منذ النصف الثاني من القرن الخامس، من البطارقة والبلابية أيضًا، وأن الأعضاء البطارقة عُرفوا بالأعضاء اﻟ patres، والبلابية بالأعضاء اﻟ conscripti، وأنه من هنا القول عن جميع الأعضاء patres et conscripti. ولم يُنتخب الأعضاء انتخابًا، وإنما عُينوا تعيينًا من قبل السلطة التنفيذية.
ودعت السلطة التنفيذية المجلس إلى الانعقاد، وعقدت الجلسات في ضوء النهار بين الشروق والمغيب، وفي أماكن عمومية مكرَّسة مقدسة، إما في داخل رومة أو في ضواحيها القريبة. وكان لا بد من انعقاد الجلسة الأولى في السنة في هيكل «يوبيتر الكبيتولي Jupiter Capitolinus». وعلى الرغم من إبقاء الأبواب مفتوحة في أثناء الاجتماع، فإن الدخول إلى قاعات الجلسات لم يكن مباحًا للجمهور، ولم يُحدد العرف عددًا معينًا لاكتمال «النصاب quorum»، ولكنه قضى بعدم تغيب الأعضاء وعدم ابتعادهم عن رومة. وإذا ما حان وقت افتتاح الجلسة قدم الداعي إليها ذبيحة لإله الهيكل الذي انعقدت فيه، ثم عرض القضية موضوع البحث ﺑ «التلاوة relatio»، وأباح المناقشة بتوجيه «الأسئلة rogatio»، داعيًا كل عضو باسمه متبعًا في ذلك أهمية الرتبة والمقام، ثم استخلص الآراء المختلفة، وعرضها بإيجاز وطرحها للتصويت، وكان التصويت يتم بتجمع أصحاب الرأي الواحد في مكان واحد discessio. فإذا ما حاز رأي معين أكثرية مطلقة ارفض الأعضاء؛ ليفسحوا المجال للجنة تصوغ «القرار المشيخي Senatus Consultum». وكان هذا الرأي الرسمي يصدر بذكر أسماء أصحاب السلطة التنفيذية، فتاريخ الجلسة ومحل انعقادها، وأسماء المقترحين وأسماء لجنة الصياغة، ثم يأتي نص القرار نفسه، وكان القرار يُعلَن إما شفهيًّا وإما كتابة، وكان يعمَّم في المجالس الشعبية إذا كان ذا صبغة عمومية، ويُكتب على لوحات خشبية أو برونزية في نسختين، تُقام إحداهما في هيكل «فيدس Fides» إلهة الشرف وحفظ العهود في رومة، والأخرى في هيكل الأمة أو الجماعة صاحبة العلاقة.
وكان السناتوس يبدي رأيه في كثير من الشئون الداخلية الإدارية والتشريعية والمالية. فكان يحدد واجبات الحكام، و«يمدد سلطتهم prorogation imperii»، ويرشح من يراه لائقًا بالدكتاتورية، وينقض القوانين إذا بان عيبها، ويحدد الضرائب، ويُشرف على الدخل والخرج، وعلى سك النقود، ويعدل الالتزامات الحكومية أو يلغيها. وكان يوجه السياسة الخارجية ويبرم المعاهدات، ويحدد الحشد ويراقب سير العمليات الحربية، وكان له القول الفصل في الأمور الدينية، وله حق تعليق القانون ﺑ «قرار فوق العادة Senatus Consultum Ultimum».10

(١٠-٣) الكوميتيات

ولم يكن للرومان في أي دور من أدوار تاريخهم مجلس عمومي على شكل مجالس اليونان يمثل الشعب بكامله سيدًا مطاعًا، وجل ما توصل إليه الرومان في هذه الحلبة هو تنظيم مجالس ثلاثة، عُرفت باﻟ «كوميتيات Comitia»، ومثلت هيئات من الشعب معينة للنظر في أمور معينة أيضًا. ﻓ «مجلس العشائر Comitia Curiata»، ضم عشائر البطارقة الثلاثين، ومارس صلاحيات معينة؛ أهمها منح «السلطة imperium» إلى المقدمين، فالقنصلين لدى انتخابهم، وتثبيت قرارات السناتوس في تعديل القوانين العامة. والتأم البطارقة في مجلس آخر دُعي Comitia Calata؛ لأن الدعوة إليه كانت «علنية calare»، ولكن صلاحياته كادت تنحصر في أمور التركات والوصيات وما إلى ذلك.
و«مجلس المئات Comitia Centuriata»، ضم البطارقة والبلابية، ولكن صلاحياته ظلَّت محدودة أيضًا، فإنه انتخب المقدمين والقناصل ورجال «الإحصاء Censores» والقضاة، ونظر في الأحكام بالإعدام عند استغاثة المتهم، وفي إعلان حروب الهجوم بعد اقتراح السناتوس، وفي إقرار قانونية بعض الشرائع، ولكنه ظل أرستقراطيًّا في كيفية تنظيم المئات وتصويتها، فالرومان انتظموا مئات على أساس الثروة، وعدد الأصوات المخصصة للمئات تفاوتت بتفاوت الثروة. ﻓ «الفرسان Equites»، صوَّتوا أولًا وسجلوا ثمانية عشر صوتًا من مجموع مائة وثلاثة وتسعين، ثم جاء المشاة بصفوفهم الخمسة، فتمتع الصف الأول منهم بثمانين صوتًا من مائة وخمسة وسبعين، فإذا ما تفاهم الفرسان والصف الأول من المشاة، وجميعهم من الأغنياء، ضمنت أكثرية الأصوات، وأمسى رأي الجمهور لا قيمة له.11
وكان هنالك مجلس ثالث هو «مجلس القبائل Comitia Tributa»، الذي نظر في الغرامات، ورشح الأحبار الكهنة لدخول كليات الأحبار. ولم تكن «القبيلة tribus» عند الرومان مجموعة من أبناء أب واحد، وإنما كانت مجموعة من المواطنين يقطنون محلًّا معينًا محدودًا، فالملك «سرويوس Servius» قسم الدولة الرومانية إلى ثلاثين قبيلة، «أربع مدينية Tribus Urbanae» وست وعشرين «قبيلة ريفية Tribus Rusticae»؛ وذلك لتسهيل أعمال الإحصاء وجباية الضرائب وجمع الجنود، وتخلفت القبائل الريفية عن حضور الجلسات؛ لبعد المسافات، فلم تشترك في غالب الأحيان في أعمال مجلس القبائل سوى قبائل المدينة.12

(١٠-٤) المقدمون والقناصل

ولدى قيام الجمهورية في حوالي السنة ٥٠٠ قبل الميلاد، قبض السناتوس على أزمَّة الحكم، وأحلَّ مقدمي «القبائل الثلاثة Praetores» محلَّ الملوك، فتولى اثنان منهم قيادة الجيش، وعني الثالث بالأمور المدنية، ولم يطلق اللقب القنصل على المقدمين إلا بعد السنة ٣٦٧، وعندئذٍ أصبح قائدَا الجيش قُنصلين، و«الحاكم المدني Praetor Urbanus»، وفي هذه السنة عينها أجازت القوانين الليكينية انتخاب القناصل من البطارقة والبلابية. وفي السنة ١٧٢ق.م. أصبح القناصل من البلابية فقط، وذلك لأول مرة في تاريخ رومة.13
figure
قنصل روماني.
وكان السناتوس يرشح لهذه المناصب الخطيرة من يرى فيهم اللياقة، فيلتئم مجلس المئات، وينظر في الأمر وينتخب، ولم يحدد العرف يومًا معينًا للانتخاب، ففي السنة ٢٢٢ق.م. جرى هذا الانتخاب في الخامس عشر من آذار، وفي السنة ١٥٣ في أول كانون الثاني، وقضى العرف بمواكبة القناصل يوم وصولهم إلى الكرسي، فمشى الشيوخ والفرسان والوجوه والأعيان مع المنتخبين إلى الكبيتول، واشتركوا في تقدمة الثيران البيض إلى الإله يوبيتر. واعتبرت السلطة القنصلية مشتركة بين القنصلين، فإذا توفي أحدهما في أثناء مدة القنصلية انتُخب غيره Consul suffectus ليحل محله، واعتزل هذا الوظيفة مع زميله عند انتهاء مدتها القانونية، واعتُبر الاثنان متساويين، فاقتسما الأعمال بينهما وتبادلا، وقاد كل منهما فرقتين، أي ما قارب ستمائة فارس وستة آلاف ماشٍ، فإذا وجدا في جبهة واحدة تناوبا القيادة يومًا بعد يوم، وتبادلا الرأي في شئون الولايات، فإذا لم يتفقا اقترعا!
ومثَّل القناصل السلطة العليا في المدينة، فانصاع المواطنون لأوامرهم، وأظهروا لهم كل إكرام واحترام، ولبسوا الطوغة ﺑ «المقلمة الأرجوان toga practexta»، وجلسوا على «كراسي العاج sella curulis»، ومشى أمامهم اثنا عشر «حاجبًا lictor»، بيَد كل منهم حزمة «عِصِي fasces»، تنتأ من بينها فأس، ترمز إلى السلطة والقوة.14

(١٠-٥) النزاع بين الأشراف والعوام

وغضب العوام منذ بدء الجمهورية لكرامتهم وحرمتهم، فجاهدوا في سبيل العزة والمَنَعة، وأقسموا ألَّا يقفوا موقف التذلل، فأقاموا لأنفسهم بين السنة ٥٠٠ والسنة ٤٥٠ عددًا من حماة الذمار، تراوح بين الاثنين والعشرة، وأعلنوا أنه بإمكان هؤلاء أن يكسروا حكم أيٍّ كان من موظفي الحكومة حتى حكم القناصل أنفسهم. فعُرف حق الاعتراض باﻟ intercessio، وحق الإلغاء باﻟ veto، وعُرف «الحماة بالترابنة tribunus, tribuni»، وعجز الأشراف عن القيام بأعباء الدولة وحدهم، فلم يجادلوا ولم يعترضوا.
figure
التريبون المحامي.
ثم ألحَّ العوام والترابنة بكتابة الشرائع؛ لكي يعلموا متى حوكموا بأية شريعة يحاكمون، فكان لهم ما ابتغوه، فكتبت الشرائع في حوالي السنة ٤٥٠ق.م.، ثم حُفرت على اثني عشر لوحًا من البرونز، وعُلقت في ساحة الفوروم،15 ولم يكتفِ العوام بذلك، بل طلبوا أن يكون لهم نصيب في سن الشرائع، وهددوا بالانسحاب من رومة والتخلي عنها، ثم خرجوا إلى سهل «الأفنتينة Aventine»، الذي يطل على نهر التيبر، فوافق الأشراف على قيام «مجلس شعبي قبيلي Concilium Plebis Tributum»، ينتخب الترابنة العشرة و«مراقبين aediles» شرطيين يشرفان على سير الأمور وحفظ الحقوق في الشوارع والأسواق. ويقول «ليبيوس Livius»: إن مجلس الشعب القبيلي أجاز في السنة ٤٤٥ في عهد التريبون «كنوليوس Canuleous» زواج العوام من الأشراف، وفي السنة ٤٣٣ أُنشئت وظيفة تريبون عسكري، «يتمتع بصلاحيات قنصل Tribuni Militares Consulari Potestate»، وأبيح الوصول إليها للعوام، ثم طالب التريبونان ليكينيوس وسكستيوس في السنة ٣٧٦ بانتقاء أحد القنصلين من العوام، فرد السناتوس الطلب، ثم وافق عليه في السنة ٣٦٦. وفتحت الأبواب في الوقت نفسه للعوام لولوج وظائف أخرى، كانت موصودة في وجوههم، فصار يُنتخب منهم «مديرو المال quaestores»، ومأمورو النفوس «المراقبون censores»، و«القضاة praetores»، وفي السنة ٣٥٦ق.م.، انتُخب العامي «مركيوس روتيلوس Marcius Rutulus» دكتاتورًا. فتم بذلك تحويل الجمهورية من منظمة أرستوقراطية إلى منظمة أوليغارخية، تولى السلطة فيها الأغنياء من الأشراف والعوام.16

(١١) تبسط الجمهورية وأثره

وأدت الحروب الإيطالية المتتالية إلى تغيب الفلاحين مدات طويلة عن مزارعهم وإلى إهمال العمل فيها، كما أدت إلى خسارة في الأرواح، ونقص في اليد العاملة وفقر ودين، وأدى الفقر والدين بدورهما إلى بيع هذه المزارع لكبار المزارعين المجاورين، وإلى اتساع هذه المزارع الكبيرة اتساعًا لم تعرفه إيطالية من قبل. وتمكن كبار المزارعين أيضًا من شراء الرقيق وتشغيله، ومن استثمار رقاع كبيرة من أراضي الدولة الجديدة، فزادت الحروب الغنيَّ غِنًى، والفقير فقرًا، وأثارت مشكلة اقتصادية اجتماعية سياسية داخلية كان لها أثرها، فيما بعد، في تمهيد الطريق لزعامة الفرد ووصوله إلى السلطة المطلقة في الدولة. واشتد تذمر الفلاحين في النصف الأول من القرن الرابع، فانبرى التريبونان ليكينيوس وسكستيوس يطالبان منذ السنة ٣٧٦ق.م. بإعانة الفلاح وتشجيعه، وأعدَّا مشروعًا لهذه الغاية حمل فيما بعد اسم «ليكينيوس Licinius Rogationes»، وأُقر قانونًا في السنة ٣٦٦ق.م.، وقضى مشروع ليكينيوس بحسم ما دفع من الفوائد من أصل الدين، وبتقسيط الباقي من الدين وتوزيعه على سنوات ثلاث. وحدد المشروع مساحة الأراضي التي يجوز اقتطاعها من أراضي الدولة بخمسمائة «يوغرمة jugerum»، أو ما يعادل مائة وخمسين هكتارًا، واتُّخذت إجراءات للحد من قساوة القانون، الذي قضى باسترقاق المديون في حال عجزه عن دفع الدين.17

(١٢) السيطرة على العالم والانحطاط

وكان خلفاء الإسكندر لا يزالون مثابرين على إثارة الفتن والمكايد والحروب. وكان هنيبعل قد أغرَى مقدونية بالاتحاد معه على رومة، فلم تستطع هذه أن تغض النظر عن أية خطة عدائية. وكان على مقدونية ملك على جانب كبير من الذكاء والمقدرة الحربية اسمه فيليبوس الخامس. فاتفق فيليبوس مع أنطيوخوس الثالث على اقتسام أملاك مصر بينهما، فرأى الرومان أن الحال تضطرهم إلى توجيه قواتهم شرقًا لسحق فيليبوس قبل استفحال أمره، وكانت حرب مقدونية أولى (٢١٤–٢٠٥)، أدت إلى انسحاب فيليبوس، وإلى توقيع معاهدة «فونيكية Phoenice». واتجه فيليبوس شرقًا وجنوبًا متوسعًا، فاستنجدت «برغامة Pergamum» ورودوس برومة، فكانت الحرب المقدونية الثانية (٢٠٠–١٩٦). ولم يكن لحكومات اليونان من باعثٍ يستفزها إلى تأييد تسلط مقدونية عليها، وكان أنطيوخوس الثالث منهمكًا في الاستيلاء على أملاك مصر في آسية، فلم يسمح له الوقت بإرسال أقل مساعدة إلى مقدونية، فوجد فيليبوس نفسه وجهًا لوجه مقابل جيش روماني، دون أن يكون بجانبه حلفاء أقوياء يعتمد عليهم. ثم جاءت الساعة الرهيبة التي اضطرت الوحدات المقدونية الكثيفة المسلحة بالرماح الطويلة أن تقف أمام الكتائب الرومانية المسلحة بالسيوف القصيرة المنظمة تنظيمًا مكَّن الساقة منها من تغيير مراكزها بحسب الاقتضاء، الأمر الذي رَبَك الجنود المقدونيين وحيَّرهم؛ لأن تنظيمهم لم يكن على شيء من اللدونة يمكنهم من مقابلة حركات العدو، ولما نشِبت معركة «كينوسكيفالوس Cynoscephalos» رأس الكلب في السنة ١٩٧ في تلال ثسالية، انكسر جيش فيليبوس، ودخلت مقدونية في حوزة رومة، وأنعم الرومان على الحكومات اليونانية بالحرية؛ لأنها كانت موالية لهم.18
وحاول أنطيوخوس الثالث أن يغتنم فرصة اندحار فيليبوس ويستولي على بعض أملاكه، التي كان الرومان قد صرحوا بأنها حرة، وكان هنيبعل قد لجأ إلى صور بعد موقعة زامة، ثم التحق بأنطيوخوس مستشارًا. وكان القائد الروماني الذي قهره سكيبيو أفريكانوس مرافقًا للجيش الروماني بصفة مستشار لأخيه قائد الجيش الروماني في مقدونية «لوكيوس سكيبيو Lucius Scipio»، فكان لا بد من متابعة الحرب، ولم يكن لجنود أنطيوخوس غير المدربة أقل رجاء بالفوز على كتائب رومة، ففي مغنيسية في آسية الصغرى في السنة ١٩٠ غلبت رومة أنطيوخوس، وأملَتْ عليه شروطًا، أهمها ألا يقطع نهر هاليس غربًا، وألا يرسل سفينة ما حربية إلى أي مكان يقع إلى غرب خط الطول الذي يمر في هذا المكان، وهكذا في غضون اثنتي عشرة سنة (٢٠٠–١٨٩) أخضعت رومة اثنتين من الممالك الثلاث العظيمة، التي انقسمت إليها إمبراطورية الإسكندر، وأما مصر المملكة الثالثة، فكانت صداقتها لرومة من أول عهدها متينة العُرى، وبعد أن ظهرت في العالم الهليني طلائع الجيش الروماني بثلاثين سنة أو أكثر قليلًا صرحت مصر بولائها وتبعيتها لرومة (١٦٨ق.م.).19
ولم يكن للرومان في بدء أمرهم خبرة في إدارة أحكام البلدان التي افتتحوها، فقسموها إلى ولايات، وجعلوا على كل ولاية واليًا رومانيًّا مطلق الصلاحية، وفوضوا إليه جباية الضرائب على اختلاف أنواعها، فكان في طاقته أن يجبي من الأهلين ما يقوم بنفقات الجنود تحت إمرته، وبسائر النفقات التي اقتضتها مصالح الحكومة، وكانت مدة ولايته سنة واحدة، فغدا شديد الجشع في جمع المال؛ لكي يحشد ثروة قبل انصرام المدة، وأمسى منصبه ذريعة للسلب والنهب،20 فضاع بذلك احترام الشعوب لأمانة الرومان واستقامتهم، ولم يبقَ أي أثر لتقدير بساطتهم وزهدهم، وكان الناس قد خاضوا بخبر استقامة الوفد الروماني، الذي جاء إلى الإسكندرية في السنة ٢٧٣، فحمى بطليموس فيلادلفوس من مطامع أنطيوخوس الثاني، وقدَّم إلى خزينة رومة جميع الهدايا التي تسلمها أعضاؤه من بطليموس، وكان الرواة قد تداولوا وتحدثوا عن فبريكيوس القائد الروماني، الذي أنذر بروس خصمه بأن طبيبه يستعد لدس السم له، ورووا كيف أن بابيريوس اكتفى بأن تكون حصته من غنائم ترنتوم كأسًا خشبية. وسن السناتوس القوانين للضرب على أيدي العابثين بالنظام، ووضعِ حد لتماديهم في الإسراف والمنكرات، ولكن هذه القوانين لم تصلح الفاسد، ولا حسنت الأحوال.
وزاد دخل الحكومة الرومانية زيادة فاحشة، حتى لم يبقَ حاجة لجباية شيء من الضرائب من المواطنين الرومانيين، ولم ينحصر الإثراء في الدولة فقط، بل كان للظافرين من القواد وجنودهم قسط وافر من الغنائم والأسلاب. وفي الوقت نفسه كان أرباب التجارة من الرومان يغشون الولايات على رحبها. وكان فيهم «جماعة من العشارين ordo publicanorum»، الذين كانوا يعقدون مع الحكومة مقاولات على جباية الجزي والضرائب، فيربحون من مقاولاتهم أرباحًا كبيرة، وكانوا أحيانًا يستأجرون أراضي الدولة، ويعملون فيها لحسابهم الخاص، وتبع العشارين إلى الولايات الرومانية «المرابون feneratoris»، الذين كانوا يقرضون سكان الولايات دراهم برباء فاحش. وكان هؤلاء مضطرين إلى اقتراض المال؛ لكي يؤدوا الضرائب الباهظة التي كان يفرضها عليهم الولاة الرومانيون. فأمست ضربة هؤلاء المرابين أشد كثيرًا من ضربة الحكام الطامعين.21
وحين رجع هؤلاء من الولايات إلى إيطاليا، تألفت منهم طبقة تقلبت في مهاد الغنى والسعة لم يُشاهَد مثلها في البلاد من قبل ordo equestro، أو equites في بعض الأحيان. ودفعتهم مهارتهم التجارية إلى استيراد الكثير من البضائع سدًّا لحاجة البلاد، فكانت السفن الشراعية الرومانية تملأ البحر من خليج نابولي حتى مصب التيبر، وتغشى مواني رومة، فالذين كانت بأيديهم أزمَّة هذه التجارة أصبحوا من أرباب الثروة، واقتضت إدارة هذه الأموال الطائلة إنشاء مصارف وبنوك. وقد كانت المصارف الأولى في رومة في غضون الحرب القرطاجية عبارة عن صف من الخيام المبنية بغصون الأشجار على جانبي ساحة الفوروم. وبعد السنة ٢٠٠ق.م. قُضي على هذه الخيام بالهدم، وقام مقامها بناء الباسيلقة الجميلة الشبيه بالأبنية التي شاع أمرها في المدن الهلينية. وفي الباسيلقة كانت تلتئم طبقة «الأغنياء الجديدة ordo equestro»؛ لتعقد الصفقات المالية، وتؤلف الشركات الكبيرة لجباية الجزي والضرائب، وعقد الاتفاقات مع الحكومة لبناء الطرق والجسور، وتشييد المباني العمومية.22

(١٣) أثر اليونان وحضارتهم

وحين كان يعود أحد الولاة من أفريقية، ويشيد منزلًا جميلًا كان جاره الساكن في بيت أبيه العتيق يغار منه، ويستنكف أن يظل ساكنًا في ذلك البيت الرث القديم المبني باللبن. وكان روماني العصر الجديد قد شاهد في جنوب إيطالية منازل اليونانيين، وخَبَر ما يتمتع بها أصحابها من الراحة والهناء، فضلًا عن ابتهاجهم بجمال منظرها الخارجي، فلم يلبث أن أضاف إلى بيته رواقًا معمدًا، تنفتح منه أبواب تؤدي إلى غرف النوم والطعام والمكتبة والاستراحة، وكان في مؤخره المطبخ، وربما كانت هنا غرفة الأكل أيضًا. وصارت الدار الوسطى التي تحدق بها سائر غرف المنزل، الذي كان يظهر فيه رب البيت ما لديه من التماثيل والتصاوير وثمار الفنون ونفائس غنائم الحرب، التي جيء بها من الشرق.

ولم يكن في المنازل الرومانية القديمة شيء من الأثاث الفاخر. وكان المعتمدون السياسيون من القرطاجيين يضحكون حين كانوا يرون في المآدب المتتابعة التي كانوا يُدعون إليها آنية المائدة الفضية تنتقل من بيت إلى بيت بطريق العارية. وقبل الحرب القرطاجية بأمد يسير غُرِّم أحد القناصل المعزولين؛ لأنه وُجد لديه من الآنية الفضية ما زنته أربعة كيلوغرامات ونصف كيلو. وبعد ذلك بجيل واحد كان لدى أحد أغنياء الرومان من الآنية الفضية ما زنته أربعة آلاف وخمسمائة كيلوغرام. وروي أن أحد القواد الذين فتحوا مقدونية دخل رومة ومعه مائتان وخمسون مركبة مشحونة تماثيل وتصاوير يونانية. والقائد الذي أخضع اليونان غنم خمسمائة تمثال، بعضها من البرونز والبعض الآخر من الرخام، والذي دمَّر قرطاجة ملأ رومة بالمنحوتات اليونانية، وبلَّط أحد أغنياء بومباي البلدة الصغيرة غرفة الطعام في منزله بفسيفساء هلينية، تمثل الإسكندر في موقعة إيسوس. وكانت هذه الصورة قبل أن وصلت إلى بومباي، تزين أرض أحد المنازل الفخمة في الإسكندرية في العصر الهليني.

وأدخل الرومانيون إلى منازلهم كثيرًا من أسباب الراحة، التي كانت في منازل الهلينيين كالأنابيب لجر المياه والحمامات وأشياء أخرى، وكانت البيوت المتقنة تحوي أنابيب فخار لنقل الهواء الحار إلى الغرف المهمة في المنزل. وكان في المطبخ كثير من أواني البرونز أنفس مما نشاهد في مطابخ اليوم.

واستدعت عيشة الرفاهية والرخاء وجود عدد كبير من الخدَم، فكان لكل عمل في البيت خادم خصوصي، حتى فَرْكُ جسم رب البيت بعد الحمام كان له خادم خصوصي أيضًا، ولكن وجود الطهاة لم يكن أمرًا سهلًا، وكان الروماني الغني يؤدي خمسة وعشرين ألف فرنك ذهبًا أجرة طاهٍ يجيد الطبخ.23
وإذا كان لعيشة الرفاهية والترف التي دخلت من الشرق تأثير سيئ في أخلاق بعض الرومانيين، فإنها أيقظت البعض الآخر، ونقلتهم إلى حياة جديدة أرقى جدًّا من حياتهم الأولى بتأثير العبقرية اليونانية في الفن والأدب والعلم والفلسفة. فقد كان في رومة عند ختام الحرب الصقلية (٢٤١ق.م.) رقيق يوناني اسمه أندرونيكوس، أعتقه سيده فأصبح حرًّا. فهذا إذ رأى شغف الرومان بالآداب اليونانية، شرع في نقل الأوديسي إلى اللاتينية؛ لتكون ترجمته كتابًا مدرسيًّا لأولاد الرومان، ثم ترجم للكبار المآسي اليونانية وكثيرًا من الروايات الهزلية، فكان أول أديب في التاريخ توخى ترجمات فنية، صقلها الأدب، وجلاها حسن الذوق.24
وبعد استيلاء رومة على بلاد اليونان، زاد امتزاج اليونانيين بالرومانيين، وتوثقت بينهم عُرى الألفة والوئام، وكان بين الألف يوناني الذين أُتي بهم رهائن (١٦٨) إلى رومة، وكلهم من الأكابر والأعيان، رجل فذ على جانب كبير من العلم والفضل ودماثة الأخلاق يُدعى بوليبيوس. واتفق حين وصوله أن حلَّ ضيفًا في بيت سكيبيو وأخيه، اللذين حظي عندهما ورافقهما في حملاتهما الحربية، وكان عزيزًا مكرمًا. وقد شاهد بأم عينه خراب قرطاجة وكورنثوس، وكتب تاريخًا خالدًا للحروب الرومانية باللغة اليونانية،25 وفي السنة ١٥٥ق.م. تزعَّم فلاسفة ثلاثة وفد أثينة إلى رومة، فاستقروا فيها وأدخلوا إليها درس الفلسفة اليونانية. وهؤلاء الثلاثة هم: «كرنيذس Carneades»،26 و«ذيوجانس Diogenes» الرواقي البابلي،27 و«كريتولاوس Critolaus»،28 وأمَّ رومة غيرهم بين حين وآخر لإلقاء محاضرات على مسامع الجمهور، فأقبل عليها الراغبون في التهذيب إقبال الظماء إلى الماء، وقصد أثينة شبان رومانيون لإتمام دروسهم فيها. وشغف «أميليوس بولوس Ameilius Paullus» الفاتح الروماني بالمخطوطات اليونانية، فاستولى في أثناء الحرب المقدونية على مكتبة برسفس، وأحضرها معه إلى رومة، وأسس أول مكتبة خصوصية فيها،29 وأصبح أغنياء الرومانيين بعد ذلك حين تشييد منازل جديدة يحسبون للمكاتب حسابًا، فيعينون لها غرفًا مخصوصة، ونشأت طبقة من أهل الأدب كان من ضمنها أفضل القواد الرومانيين.
ولم يكن يسوغ لأحد أن ينتمي إلى هذه الطبقة الراقية ما لم يكن لديه مكتبة مملوءة بأنفس الدروج اللاتينية واليونانية. وكانت هذه الطبقة المهذبة تحسن استعمال اللغة اليونانية كما تجيد اللاتينية، وتكون بين هذه الطبقة الراقية والطبقة الجاهلة هوَّة عظيمة، لم يكن لها وجود في أول عصر الجمهورية أيام كانت البلاد في طور الزراعة وسكانها من طبقة الفلاحين.30

(١٤) الانحطاط في المدن والريف

وصحب حياة الترف الجديدة شرور وشرور، فانبرى روماني من الطراز القديم وجماعة من أضرابه إلى التضافر على سن قوانين لمقاومة الإسراف على اختلاف أشكاله، والمحافظة على بساطة الحياة الرومانية القديمة وفضائلها. والإشارة هنا إلى «مرقس بوركيوس كاتو Marcus Porcius Cato» الزعيم الروماني الكبير، الذي وُلد في «تسكولوم Tusculum» في الريف في السنة ٢٤٦ق.م.، ورافق تطورات رومة حتى السنة ١٤٩ التي توفي فيها. وُلد فلاحًا، فالتحق بالجيش في السابعة عشرة من عمره، وحارب في حروب قرطاجة وغيرها، فأظهر نبوغه فتدرج في سلم الوظائف حتى أصبح قنصلًا في السنة ١٢٥، و«مراقبًا Censor» في السنة ١٨٤، بعد أن ضرب أنطيوخوس الثالث ضربة مؤلمة عند ثرموبولي في السنة ١٩١، ولم يرضَ عن تطور الحياة في رومة وإيطالية، فقاوم كل جديد ولا سيما تيار التهلن، بحزم وعزم غير مكترث بنقد النقاد ولوم اللائمين. فمنع السيدات عن التنافس في اقتناء الحلي والجواهر الثمينة، وعن ركوب المركبات إلى الأماكن التي كُنَّ يذهبن إليها سعيًا على الإقدام، ولم يكترث لنقدهن في النوادي والمجتمعات، ولام الأخوين سكيبيو وهاجمهما لإيقاف التهلُّن، وصنَّف كتابًا في تاريخ رومة لهذه الغاية دعاه «الأصول Origines»، ووصل به إلى السنة ١٥٠ق.م. وضمنه خطبه، وأعد كتابًا ووجهه لابنه، وأسماه «الوصايا Praecepta ad Filium»، ذكر فيه كل ما يجب أن يفعله ابنه؛ ليكون «رجلًا محمودًا vir bonus»، وخلف أيضًا الوصايا اليومية دعاه Carmen de Moribus، وكتابًا في «الزراعة De Re Rustica»، ولكنه لم يفلح في مقاومة التهلن، وأقدم هو بذاته في أيامه الأخيرة على تعلم اليونانية.31
وظلت قوة رومة تزيد مع مرور الزمن، ولكن دون أن يرافقها من جانب الفضيلة الرومانية القديمة وازع يرد الناس عن ارتكاب الرذيلة ويكبح جماحها. وكان هذا الأمر باديًا بنوع خصوصي في حياة الطبعة الأمية، والصعاليك الذين مالوا إلى الحضارة اليونانية كما مالت الأكثرية الساحقة من سائر الطبقات الأخرى إلى ما في تلك الحضارة من دواعي الترف ورغد العيش، فلم يفقهوا المعنى الحقيقي لها، وفي أوائل الحرب الصقلية بين رومة وقرطاجة أُدخلت عادة أتروسكية قديمة، هي المجالدة الفردية بين المجرمين المحكوم عليهم أو بين الأرقاء الذين كانوا يتضاربون بالسيوف؛ احتفاء بمأتم وجيه من الوجهاء، ودعي هؤلاء «مجالدين gladiatores»،32 وكان بعض الموظفين الذين يقومون بتدبير حفلات الأعياد العمومية ينظِّمون لوائح مطولة يعينون فيها جماعات من هؤلاء المجالدين؛ ليقوموا بالمجالدات تسلية للجماهير المتألبين، ورغبة في نيل أصواتهم وقت الانتخاب للوظائف العليا. وكانت هذه الألعاب الدموية البربرية تجري أولًا في أماكن مؤقتة، توضع فيها بعض مقاعد للجلوس، ولكنهم بنوا لها بعد ذلك مباني حجرية مخصوصة مدرجة سموها امفتياترات.33 ثم أنشأ الرومان ميادين عظيمة لسباق المركبات، تحيط بها مقاعد جمة يجلس عليها المتفرجون، دعوا الواحد منها circus مضمارًا.
وعظمت نفقات الخطط السياسية، فكان الشاب الروماني الذي يهوى الانخراط فيها يضطر إلى اقتراض الدراهم؛ ليؤدي نفقات المجالدات الكثيرة، فضلًا عما كان يؤديه رشوة للمنتخبين، وحين كان يُنتخب للمنصب الذي يطمح إليه لم يكن يقبض راتبًا بدل خدمته، بل كان مضطرًّا أن يقوم بنفقات الكُتَّاب، الذين يقومون بالعمل الملقى على عاتقه في منصبه الجديد. وكان رجل السياسة الروماني يطلب الوظيفة الآن؛ ليتمكن بها من الحصول على النفوذ الذي يبوِّئه حاكمية ولاية غنية، وحين رجوع أحد هؤلاء الولاة إلى وطنه بعد انتهاء مدة ولايته لم يعش عيشة ذلك الروماني الساذج في الأيام القديمة. بلى كان يعيش عيشًا ملكيًّا محفوفًا بجميع ضروب التنعم والترف. وقد كان هؤلاء النفعيون الذين كان بأيديهم زمام القوة العليا في ولاياتهم خطرًا على الجمهورية؛ لأنهم كانوا قد ذاقوا لذة سلطة الملوك بلا وازع الشريعة الرومانية، ولا قيود نُظُم الجمهورية.34
ولم تكن هذه الشرور أقل ظهورًا خارج رومة مما كانت داخلها. وبما أنه لم يكن لائقًا في نظر الرومانيين أن يتعاطى شيوخهم ونبلاؤهم التجارة ولا الأشغال الأخرى، أخذ هؤلاء يشترون المزارع الصغيرة، ويضمُّونها بعضها إلى بعض، فتتكوَّن منها مزرعة كبيرة جدًّا شاسعة الأطراف. ولم يبقَ من تلك المزارع الصغيرة القديمة إلا نزر مبثوث هنا وهناك. وكان يستحيل على أرباب الأملاك الأغنياء أن يديروا العمل في عقاراتهم الواسعة باستئجار عملة أحرار. ولم يكونوا مجبرين على ذلك؛ فالفتوحات الرومانية كانت ينابيع تتدفق منها أسارى الحرب فيباعون أرقَّاء. ولم تكن حياة هؤلاء في العقارات التي أُخذوا إليها بأرقى من حياة البهائم، فكانوا يُكوَون بالمياسم ويُساقون إلى الحقول، ولما نقص عدد أسرى الحرب غضت رومة النظر عن أعمال النخاسين، الذين كانوا يخطفون الأولاد من شرق البحر المتوسط، ويبيعونهم عبيدًا، فداوموا على هذا العمل الشرير سنين عديدة.35
وامتلأت إيطالية وصقلية من الأرقاء، فقاموا بثورات أقلقوا البلاد بها، وفي صقلية تجمع نحو ستين ألفًا منهم، وقاموا على سادتهم بقيادة أفنوس السوري، وقتلوهم واستولوا على المدن والقرى وأسسوا مملكة، فاقتضى إخضاعهم جيشًا رومانيًّا بقيادة القنصل «بيسو Piso» في السنة ١٣٣ق.م. وحربًا دامت بضع سنين،36 وفي غضون ثورة العبيد في صقلية، قام أصحاب الحقول الأحرار من صغار المزارعين، وأخذوا يحرقون المزارع الكبيرة، التي أنشأها كبار الملاكين في إيطالية. فالفتوحات العظيمة كانت قد جعلت الغني أغنى جدًّا مما كان، والفقير أشد فقرًا، فحروب هنيبعل غادرت جنوب إيطالية قاعًا صفصفًا، وكثيرًا من أواسطها في حالة أحسن قليلًا من حالة الجنوب، وأُهملت هذه المناطق المخربة وصارت مسرحًا للماشية ومرعى للبهائم، وفي المناطق التي لم تمسها يد الحرب غاب الفلاحون وأبناؤهم سنين عديدة عن بيوتهم يخوضون معارك الفتح. وحين كان يعود الواحد منهم إلى بيته الريفي لم ترقه أشغال الحقول، وكثيرًا ما كان يتفق للجندي حين عودته إلى أرض ميلاده أن لا يرى للمنزل الذي آواه في ولوديته عينًا ولا أثرًا، ويجد عائلته قد تشتت شملها، ومزرعته الصغيرة بيعت من أحد الأغنياء؛ إيفاء للدين وضُمت إلى مزارعه الكبيرة، فيلعن إذ ذاك الغني، ويؤم المدينة العظيمة حيث تُقدم له الحنطة مجانًا من لدن الحكومة، ويحضر الألعاب والمسابقات، ويزيد في عدد الفقراء. وإذا والاه الحظ، واتفق أن وجد بيته وحقوله لم تُصب بضرر فلا يلبث أن يرى جماعات العبيد القائمين بزراعة المزارع الكبرى ينتجون الحنطة بنفقة أقل من التي يبذلها هو، فإذا ما باع غلات أرضه وجد أن مجموع ثمنها غير كافٍ للقيام بنفقات عائلته. وفي الوقت نفسه، كانت أسواق إيطالية تكتظ بكميات الحنطة الرخيصة الثمن، الواردة إليها من صقلية وأفريقية ومصر، فتضطره الحال إلى بيع مزرعته الصغيرة، ومغادرة وطنه واللياذ برومة، حيث كان يجد ألوفًا وألوفًا من أضرابه بلا مأوى، يقاسون مَضض الفاقة ومرارة العيش، معتمدين في تحصيل القوت الضروري على الحكومة. هؤلاء هم الذين كانوا فيما مضى أصحاب الأراضي الزراعية وعماد الأمة الرومانية، الذين كانت تنظم منهم أعظم جيوشها وأفخرها. هؤلاء هم الذين كانوا قوام تلك القوة التي أسس عليها السناتوس الدولة الشاسعة الأطراف البعيدة الأكناف، هؤلاء الذين كانوا لرومة كل ما ذكرنا، أمسوا صائرين إلى البوار والاضمحلال.37
وهكذا، فإنه كان للقوة والثروة اللتين بلغتهما رومة بتسلطها على حوض المتوسط أسوأ تأثير؛ لأنهما جرَّاها إلى شَفَا جُرف الهلاك. ولم تكن الحال في معظم مناطق الدولة الرومانية خارج إيطالية، حتى في أرقاها مدنية، ولا سيما في بلاد اليونان، أحسن مما كانت في إيطالية، فإن فلاحيها، تحت نظام المزارع الكبرى الذي دخلها من آسية؛ حيث نشأ في أيام الفرس، كانوا قد تلاشوا كما كان فلاحو إيطالية آخذين في التلاشي. أضف إلى ذلك الغصب والاختلاس، اللذين كان يرتكبهما الحكام وجُباة الجزي والضرائب وغزوات النخاسين، الذين لم تستطع رومة أن تضرب على أيديهم وتحول التجارة اليونانية شرقًا، أضف كل ذلك تجد الأسباب الكافية لقتل الأعمال التجارية والزراعية، والقضاء المبرم على آمال العالم اليوناني وتقدمه.38

وبان العيب وتبين أن حكومة رومة المدينية الضيقة النطاق لم تعد كافيةً لتنظيم دولة كبيرة وإدارتها. ولكن، هل كان في الإمكان تحويل هذا النوع من الحكومة إلى حكومة إمبراطورية، تصلح لإدارة شئون العالم المتمدن آنئذٍ؟ هذا هو العمل الخطير الذي قامت به رومة، فوقت التمدن، الذي أصبح فيما بعد أساس المدنية الحديثة.

هوامش

(1) CARCOPINO, J., La Louve du Capitole.
(2) DESSAU, ILS, I, 65.
(3) Polybius, 1; TARN, W.W., The Fleets of the First Punic War, Journ. Hell. Studies, 1907; THIEL, J.H., Studies on the History of Roman Sea Power, (1946), ch. ii.
(4) JACOBS, K., Gaius Flaminius, (1938).
(5) Polybius, 3:107–118.
(6) POLYBIUS, bks. 1 and 3; LIVY, bks. 21–30; APPIAN, Lybica, 67–135; GSELL, S., Hist. anc. de l’Afrique du Nord, I–IV; DE SANGTIS, G., Stor, Rom., III; GROAG, E., Hannibal als Politikes (1929); SCULLARD, H.H., Scipio Africanus in the Second Punic War, (1930); Scullard, A Hist. of the Roman World, (1935).
(7) MOMMSEN, Th., Rom. Forsch., I, 69; Rom. Staatsr., III, 3; WILLEMS, P., Le Sénat de la République Romaine.
(8) MOMMSEN, Th., Rom. Staatsr., III; BINDER, J., Die Plebs.
(9) GREENIDGE, A.H.J., Roman Public Life, 9 ff.; DE SANCTES, G., Star. Rom. I, 299 ff.
(10) MOMMSEN, Th., Rom. Staatsr., III, 2; WILLEMS, P., Le Sinat de la République Romaine; O’Brien MOORE, Real-Encyclopadie, Suppl. VI, (1935); BLOCH et CARCOPINO, La Répub. Rom. (1940), 1–18.
(11) BLOCH et CARCOPINO, op. cit., 18–22; BOTSFORD, G., The Roman Assemblies, (1909).
(12) NICCOLINI, Le Tribu Locale Romani, (Studi in onore Bonfante), 1929, II, 237–251.
(13) DE SANCTIS, G., Star. d. Rom., I, 403 ff.
(14) MOMMSEN, Th., Rom. Steatsr., II, 74 ff.; DZ SANCTIS, G., op. cit., I, 403 ff.; KUBLER B., Real-Encyc.
(15) NICCOLINI, G., II Tribunato della Plebi, (1932); MYRES, J.L., Essays Presented to C.G. Seligman, (1934); ALTHEIM, F., Die Anfange der Plebischen Organisation, (1940).
(16) BLOCH et CARCOPINO, op. cit., 18–31.
(17) JONES and LAST, The Making of a United State, Cam. Anc. Hist., VII, 538–541; CARCOPINO, J., Rép. Rom., I, 153 f., 167 f.; SCULLARD, H.H., Hist. of Rom. World, 99 ff.
(18) HOLLEAUX, M., Rome and Macedon, Cam. Anc. Hist., VIII, 138–198; HOMO, L., Flaminius et la Politique Romaine en Grèce, Rev. Hist., 1916; DELBRUCK, H., Gesch. der Kiegskunst, I, 424 ff.
(19) HOLLEAUX, M., Rome and Antiochus III, Cam. Anc. Hist., VIII, 199–239; FRANK, T., Roman Imperialism, 163 ff.; TAUBLER, E., Imperium Romanum, I, 15 f., 88 f., 101 f., 442 f.; MOMMSEN, Th., Der Friede mit Antiochos, Rom. FORSCH., II, 511 ff.
(20) ABBOTT and JOHNSON, Municipal Adm. in Rom. Emp., (1926); CHAPOT, V., Le Monde Romain, (1928); STEVENSON, G.H., Rom. Prov. Adm. (1939).
(21) ROSTOVIZEFF, M., Gesch. der Staatspacht, 329 ff.; STEVENSEN, G.H., Comp. Lat. Stud., 342 ff.
(22) STEIN, A., Der Romische Ritterstand, (1927); KEYES, C.W., The Rise of the Equites in the Third Century of the Roman Empire, (1915).
(23) CARRINGTON, C., Some Anc. Italian Country Houses, Antiquity, 1934, 261 ff.; BOETHIUS, A., Develop of Domestic Arch. in Rome, AJ Arch., 1934, 158 ff.
(24) WARMINGTON, E.H., Remains of Old Latin (Loeb) II; MIRMONT, H. de la Ville, Etudes s. l’Ancienne Poks. Lat., (1903), 5–201.
(25) CUNTZ, O., Polybius und sein Werk, (1902); LAQUEUR, R., Polybius, (1913); WUNDERER, C., Polybius, (1927); WALBANK, F.W., JHS, 1938, Class. Quart., 1943, 1945.
(26) ARNIM, H. von, Real-Encyc., X, 1954.
(27) ARNIM, H, von, Stoicorum Veterum Fragmenta, III, 210–243.
(28) SUSEMIHL, Gesch. Gr. Lit. Alex., I, 153.
(29) POLYBIUS, XVIII, 35; PLUTARCH, Aemilius Paullus; De SANCTIS, Star. Rom., IV, 315, 419, 457, 613.
(30) KENYON, F.G., Books and Readers in Ancient Greece and Rome, (1935); JONES, H.S., Companion to Roman History, (1912), 138–141.
(31) LIVY, 29:25, 32:27; Bks. 34, 36, 38-39; CICERO, De Senectute; PLUTARCH, Cato Maior; SMITH, R.E., Class. Quart., 1940.
(32) FRIEDLANDER, L., Roman Life and Manners, II, 41–60.
(33) ASHBY-ANDERSON-SPEARS, Architecture of Ancient Rome; WRIGHT, J.A., Archatologiae 78:215.
(34) BLOCH et CARCOPINO, Rep. Rom., 63–75.
(35) BARROW, R.H., Slavery in the Rom. Emp., (1928); WARDE FOWLER, W., Social Life at Rome in the Age of Cicero, (1910), 204–236.
(36) LAST, H., Tiberius Gracchus, Cam. Anc. Hist., IX, 11–16.
(37) CLAUSING, R., The Roman Colonate, (1925); ROSTOVTZEFF, M., Studien zur Gesch. des Romischen Kolonates, (Arch. Pap. 1910); GRANT, M., From Imperialism to Auctoritas, (1946); BLOCH et CARCOPINO, Rép. Rom., 89–98.
(38) HERTZBERG, G.F., Gesch. Griechenlands unter der Herrschaft der Romer, (1868); FINLAY, G., Hist, of Greece, (1877), I; ACCAME, S., Il dominio Romano in Grecia della guerra Achaica ad Augusto, (1946).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤