الفصل العاشر

الأقربون والإمبراطورية

(١) اكتظاظ لا مكاظظة

وحافظ الخلفاء الأقربون على التقليد الأوغوسطي، فاتبعوا في سياستهم الخارجية — في غالب الأحيان — خطة السلم والمسالمة لا التوسع والمحاربة، فتحول الجيش الروماني في عهدهم من قوة مهاجمة مقاتلة إلى قوة مرابطة محافظة، فطيباريوس الذي تمتع بمواهب القيادة والشجاعة ومارس الحرب قبل وصوله إلى سدة الحكم لم يرغب في تحمل مسئوليات التوسع، وخلفاؤه الثلاثة الذين شكوا من نقص في المؤهلات للحرب وقيادة الجيوش خشوا أن يجر انتصار قادتهم في ساحات الوغى نفوذًا وشهرة، يقضيان على سيادتهم الشخصية، كما أدى انتصار القادة في الحرب الأهلية إلى تحويل الدولة من جمهورية إلى إمبراطورية.

(٢) ضم موريتانية

وكان غايوس قبيل انتهاء عهده، قد جرَّ المور إلى ثورة بإعداد بطليموس ملكهم لأسباب تافهة، فأخمد كلوديوس الثورة في السنة ٤١-٤٢ بمكاظظة المور في جبال الأطلس، وملاحقتهم حتى حدود الصحراء الكبرى، وذلك بفضل القائد الروماني «سوتونيوس پولينوس Suetonius Paulinus»، وقسَّم كلوديوس مورتانية إلى ولايتين: إلى موريتانية القيصرية وعاصمتها قيصرية، وهي شرشل الحديثة، وإلى موريتانية التنغية وعاصمتها «تنغس Tingis»، وهي طنجة الحديثة، ولكنه لم ينظم ما فتح تنظيمًا يؤدي إلى السكينة والتمدن والترقي، بل اكتفى بتعيين ناظر لكل ولاية من هاتين الولايتين وأبقى نظامهما العشائري ساري المفعول، وجل ما فعل أنه طوع بعض المور، وأدخلهم في قوى رومة المساندة.1

(٣) حرب في أفريقية

وكان «تكفاريناس Tacfarinas» الزعيم النوميدي قد فرَّ من الصفوف الرومانية، وبدأ يهاجم ولاية أفريقية على رأس قوة بدوية، معظمها من عشائر حدود الصحراء، وبعد قتال دام أربع سنوات (١٧–٢٠) طلب السناتور إلى طيباريوس أن يتولى الدفاع عن ولاية أفريقية الخاضعة لمجلس الشيوخ، فعين طيباريوس «واليًا legatus» إمبراطوريًّا اسمه «بلاييسوس Blaesus»؛ ليؤدب الثائر ومن شد أزره، وكاد بلاييسوس يقبض على تكفاريناس، ولكنه استبدل بوال آخر اسمه «كورنيليوس دولابلة Dolabella»، فسحق هذا كل مقاومة وقتل تكفاريناس (٢٤)، ونجم عن هذا الانتصار أن أبقى غايوس شئون الدفاع عن ولاية أفريقية في يد الإمبراطور، وأعاد إلى السناتوس تدبير أمورها الإدارية.

(٤) النيل والحبشة

وكان سنكة الفيلسوف الرواقي شديد العناية بالجغرافية وعلم أجناس البشر وعاداتهم، فلما خلا له الجو في عهد نيرون نظَّم حملة استكشافية لتتبع مجرى النيل، وتتعرف إلى واديه حتى منبعه، وتألفت الحملة من بعض جنود الحرس الإمبراطوري، ومن تريبون وقائدي مائة، واتجهت من الإسكندرية جنوبًا في خريف السنة ٦١، ووصلت إلى مستنقعات النيل الأبيض، وعادت بمعلومات جغرافية وحيوانية وخريطة وتأكيد أن مملكة الحبشة كانت في دور انحطاط واضمحلال.2
ورغب نيرون في السنة ٦٤ في زيارة مصر، وأنفذ بعد ذلك إلى الإسكندرية بعض الفرق الرومانية، فرأى بلينيوس في هذا كله استعدادًا للتوسع على حساب الحبشة،3 ويرى آخرون أن غاية نيرون كانت حماية الاتجار مع الهند من مطامع الأحباش،4 ومهما كان هدف نيرون، فإن حوادث فلسطين اضطرته إلى العدول عن أية خطة تبعد قواته عن معاقل الثورة في فلسطين.

(٥) بيلاطس واليهود

وكان أوغوسطوس — كما سبق وأشرنا — قد جعل اليهودية في السنة ٦ب.م. ولاية رومانية، يدبر شئونها «محصل Procurator» ذو صلاحية قضائية واسعة، وكان قد سمح باستمرار نظام التتراخية في كل من مقاطعتي فيلبوس وأنتيباس، وجاء طيباريوس فتقيد بسياسة أوغوسطوس، وحارب البلص وابتزاز الأموال بإطالة مدة الولاية للولاة، فلم يعين على اليهودية سوى محصلين اثنين طوال عهده، ولكنه لم يوفق في انتقاء هؤلاء كل التوفيق، فإن «غراتوس Valerius Gratus» الذي تولى محصلية اليهودية منذ السنة ١٥ حتى السنة ٢٦ب.م. لم يحفظ حرمة، ولم يثبت على عهد في علاقاته مع رؤساء المجمع، فاستبدل في سنواته الإحدى عشرة خمسة رؤساء، أولهم حنان، وآخرهم يوسف، الذي كان يدعى قيافا،5 وفي السنة ١٧ب.م. في عهد هذا المحصل نفسه، أسس أنتيباس عاصمة جديدة لتتراخيته، أسماها طبرية، تخليدًا لذكر طيباريوس، وجعلها هلينية في نظمها وقوانينها وملاهيها، فتوجست الأوساط اليهودية المحافظة خوفًا، واستشعرت رهبة وروعًا،6 وأسس فيليبوس في تتراخيته قيصرية فيليبوس عند منبع الأردن ويولية على ضفة بحيرة طبرية الشمالية، وسك النقود حاملة رسوم أوغوسطوس أو طيباريوس، وصورة الهيكل الذي كرسه هيرودس الكبير لأوغوسطوس في بانياس، مخالفًا بذلك نصوص التوراة في نظر اليهود المحافظين.7
وفي السنة ٢٦ب.م.، تولى بنطس البيلاطي شئون محصلية اليهودية، وظل يدير دفة الأمور فيها حتى السنة ٣٧، ولا نعلم الشيء الكثير عن أصله وفصله، وإنما يستدل من اسمه Pontius أنه تحدر من أصل سمني، ولعل الكنية «البيلاطي Pilatus» تنبئ باجاصة شرَّفه بها الإمبراطور، وكان «سيانوس Sejanus» مستشار طيباريوس قد قدمه إلى الإمبراطور مثنيًا، فعينه هذا محصلًا على فلسطين تابعًا — كما قضى النظام — إلى «والي legatus» سورية، الذي كان آنئذٍ لوكيوس فيتاليوس.
وحكم المحصل الروماني اليهودية من مدينة قيصرية، التي أنشأها هيرودس على ساحل فلسطين لا من أورشليم العاصمة التقليدية، وذلك لأسباب أهمها الابتعاد عن كل ما كان يثير حساسة اليهود في معتقدهم، فقيصرية فلسطين كانت آنئذٍ مدينة هلينية في سكانها ونظمها وعاداتها، وكان بإمكان الرومانيين فيها أن يمارسوا طقوسهم وعاداتهم ونظمهم كاملة غير ناقصة، ومذ أمست اليهودية محصلية رومانية أصبح قصرا هيرودس في قيصرية وفي أورشليم «مقرين Praetorium» للمحصل الروماني،8 وكان المحصل في اليهودية يستند عند الحاجة إلى القوات الرومانية المرابطة في سورية، ولكنه كان بالإضافة إلى ذلك يجند من اليهودية نفسها قوة مساعدة مساندة، ولما كان اليهود لا يزالون مستمسكين بإعفائهم من الخدمة العسكرية حسب ترتيب يوليوس قيصر، أمست هذه القوة المجندة محليًّا مؤلفة من غير اليهود من قيصرية وسبسطية وتوابعهما، ومن حوران ومن بعض عناصر رومانية إيطالية، وأمسى اليهود عزلًا وأمسى أخصامهم الأمميون مسلحين، وأدى هذا بطبيعة الحال إلى شيء من التوتر الكامن في صدور الناس.9

وكان بنطس البيلاطي فارسًا رومانيًّا شديدًا عنيفًا متمسكًا بالقانون، متصلبًا، وكان يرى أن عهد التحالف بين اليهود ورومة قد انقضى، وأن اليهودية أمست ولاية رومانية، ورأى اليهود غير ذلك فتكتلوا في وجهه وصمدوا، ولم يستثمر بنطس طموح كبار الكهنة للوصول إلى كرسي الرئاسة كما فعل زميله قبله، بل اكتفى بقيافا، فظل هذا رئيس المجمع وحبر اليهودية طوال مدة بنطس.

وقدَّس بنطس البيلاطي شعائر الجيش وأعلام الفرق والأفواج، واعتبرها نقطة الدائرة في الحياة العسكرية والمدنية، فلما أرسل بعض الوحدات إلى أورشليم لتتولى حراسة الأمن فيها أرسل معها أعلامها وشعائرها، واتفق صدفة أن كان بين هذه الشعائر ما تضمن رسم الإمبراطور، فاحتج اليهود على ذلك، وطالبوا بإخراج هذه الشعائر من أورشليم وإعادتها إلى قيصرية.

figure
حامل العلم.
فأصر المحصل على إبقائها مع الجنود العاملين في ظلها، فهرع إليه إلى قيصرية وفد من الأتقياء المتزمتين، يصرون على إخراج الأعلام حاملة الرسوم من المدينة المقدسة، فأبى، فأكبوا على وجوههم خارج قصره خمسة أيام متتالية، فدعاهم إلى المدرج، وأمرهم بالرجوع عن مطلبهم، مهددًا بضرب أعناقهم … فأجابوا بمد العنق للضرب! فتراجع بنطس، وأرجع الأعلام إلى قيصرية،10 فتشوَّف اليهود وتواقحوا، ثم احتجوا على تعليق لوحات من ذهب Ex Voto على جدران القصر في أورشليم، كانت تحمل اسم الإمبراطور طيباريوس، وألحوا بوجوب إنزالها وتعليقها في هيكل أوغوسطوس في قيصرية، فامتنع بنطس، فكتبوا بذلك إلى طيباريوس نفسه، راجين احترام تقاليدهم الدينية، فأمر هذا الإمبراطور بتعليق اللوحات في قيصرية،11 وازداد اليهود تصلبًا وتزمُّتًا، حينما شرع بنطس في جر المياه إلى أورشليم من خزان العروب، من نقطة كانت تبعد سبعة وثلاثين كيلومترًا عن أورشليم، وتفصيل ذلك، أن بنطس رأى في جر المياه خيرًا لليهود وغيرهم من سكان المدينة المقدسة، فأخذ من مال القربان من الهيكل ما احتاج إليه، فغضب اليهود محتجين على إنفاق مال القربان لأغراض دنيوية، وتجمعوا صاخبين، فأنفذ بنطس رجاله لتفريقهم، فكان اصطدام أسفر عن مقتل عدد من اليهود،12 ووصل القول آنئذٍ بمسيح مخلص إلى الأوساط اليهودية المشاغبة، فقال به واستغله الغيورون أتباع يهوذا الجليلي، وأخلوا بالأمن، فأمر بنطس بهم في أثناء تقدمة صاخبة فقُتل منهم عددًا غير قليل، ومن هنا قول لوقا الإنجلي (١٣: ١): «وفي ذلك الوقت عينه، أقبل قوم وأخبروه بأمر الجليليين، الذين مزج بيلاطس دماءهم بدم ذبائحهم»، وهكذا، فإنه عندما أراد اليهود التخلص من «المخلص المسيح» شكوه إلى بنطس، واتهموه قائلين: «لقد وجدنا هذا الرجل يثير أمتنا، ويمنع من أداء الجزية لقيصر، ويدعي أنه المسيح الملك» (لوقا ٢٣: ٢)، فلما قال بنطس لهم أنه لم يجد فيه علة، وأراد أن يطلقه، صاحوا قائلين: «إن أنت أطلقته فلست مواليًا لقيصر؛ لأن كل من يجعل نفسه ملكًا يقاوم قيصر» (يوحنا ١٩: ١٢)، وغسل بيلاطس يديه، وقال: إنه بريء من دم هذا الإنسان، ولكن تكيتوس المؤرخ الروماني سجَّل للأجيال المقبلة المتتالية «أن المسيح أُعدم على يد بنطس بيلاطس محصل اليهودية في أيام طيباريوس».13

(٦) هيرودس أنتيباس (٤ق.م.–٣٩ب.م.)

هو ابن هيرودس الأول الكبير من زوجته ملثقة — كما سبق وأشرنا — وأخو أرخيلاوس الأصغر، وتتراخوس الجليل، وبعض شرق الأردن Peraea، وكان قد أقلع إلى رومة؛ ليعترض على وصول أرخيلاوس إلى دست الملك بعد أبيه، ويحل محله ولكنه لم يفلح، وأحب البذخ والإنفاق، فشيد وبنى وأسس طبرية، وأثقل كاهل الأهلين بالضرائب، وأحب هيرودية زوجة أخيه فيليبوس رومة، فأحبته وطمعت بما لم يكن لزوجها الشرعي من مال وجاه وسطوة فألحت بالزواج، ولكن أنتيباس كان قد تزوج من بنت الحارث ملك الأنباط، فلما علمت هذه بما سيتم قريبًا فرَّت إلى حصن «المكاور Machaerus»، ومنه إلى بيت أبيها في البتراء، فأعلنها هذا حربًا على صهره، حفاظًا على شرفه.14
ووافق حدوث هذا كله ظهور يوحنا المعمدان، والبدء بكرازته في حوالي السنة ٢٧ب.م.، ولمس أنتيباس نجاح يوحنا لمس اليد لما شاهد من حماس في الإصغاء إليه وقبول المعمودية على يديه، فرغب في التخلص منه قبل أن تتحول دعوته إلى حركة صاخبة بين الجماهير، وأدرك «السابق» ما أبطنه أنتيباس له، فتحاشى الكرز ضمن حدود تترارخية أنتيباس، وعمد — قبيل نهاية عمله — داخل حدود المحصلية في مياه عين فار بين قريتين عينون وساليم،15 ولكنه وقع في النهاية في يد أنتيباس، عندما دفعه الإيمان إلى تبكيت هذا التترارخوس «من أجل هيرودية امرأة أخيه، ومن أجل جميع الشرور التي كان قد فعلها» (لوقا ٣: ١٩)، فبقبض عليه وزَجَّه في سجن في حصن المكاور، ثم طلبت هيرودية رأسه، فكان لها ذلك.16
واتسعت صلاحيات «فيتاليوس Vitellius» والي سورية (٣٥–٣٩)، فشابهت صلاحيات جرمانيكوس في أثناء تجواله في الشرق، فزار فلسطين في عيد الفصح سنة ٣٦، وخفف الضرائب، وأعاد الألبسة الحبرية من القصر إلى الهيكل، وأقام يوناتان بن حنَّان كاهنًا أعظم بدلًا من أخيه قيافا، وأشار بسحب بيلاطس، وأعاده إلى رومة قبل نهاية السنة ٣٦.
وفاوض فيتاليوس أرتبان ملك البرت، وتوصل إلى تفاهم ودي على جسر عبر الفرات،واشترك أنتيباس في هذه المفاوضات إلى حد ما، ولكنه ادعى بأكثر مما فعل، فكتب إلى طيباريوس متبجحًا بما لم يكن له، فاغبر الجو بينه وبين فيتاليوس الوالي وأظلم، ومات فيليبوس التترارخوس في السنة ٣٣-٣٤ بلا عقب، فدُفن في المدفن الذي أعده لنفسه في بيت صيدا Julia، وورث تترارخيته طيباريوس قيصر فضمها إلى ولاية سورية بجولانها ولجاها وبتثنيتها، ولكنه أمر بحفظ أموالها في صندوق خصوصي،17 وانتهز الحارث ظرف المفاوضات مع البرت فأثار مشكلة في الجولان تتعلق بحدود «جملة Gamala»، ولجأ إلى العنف ففوض أنتيباس نفسه بالدفاع وتأديب الحارث، ففر بعض جنوده، وانضموا إلى صفوف الحارث، فغُلب أنتيباس، وشكا أمره إلى صديقه طيباريوس، فأمر فيتاليوس بوجوب الاقتصاص من الحارث وإرساله إليه حيًّا أو ميتًا، فجيَّش فيتاليوس فرقتين، وأردفهما بالخيالة والقوى الخفيفة، وقام إلى عكة، وما كاد يصل إليها حتى قابله فيها وفد من اليهود، راجين عدم مرور الجنود في اليهودية بأعلامهم وشعائرهم، فوافق على ذلك، ومرَّ بجنوده عبر الجليل الأسفل حتى شرق الأردن، فتحاشى بذلك تدنيس اليهودية، ونهض هو بنفسه إلى أوروشليم في فصح السنة ٣٧، يرافقه هيرودس أنتيباس وأصدقاؤه، ورفع ثيوفيلوس إلى رتبة رئاسة الكهنوت، ونعى بريد رومة طيباريوس وبشر بخلافة غايوس، فتقبل ولاء الشعب للإمبراطور الجديد غايوس يوليوس قيصر جرمانيكوس المعروف بكاليغيولا، وعاد بجنوده إلى الثكنات، ولم يتابع زحفه على البتراء؛ لأن نفوذ أنتيباس انتهى بنهاية عهد صديقه طيباريوس.18

(٧) هيرودس أغريبة الأول

هو ابن أرسطوبولس بن هريودس الكبير من برنيقية، أرسله جده إلى رومة ليتهذب فيها، فنشأ مع دروسوس وجرمانيكوس وكلوديوس برعاية أمهم أنطونية، ولما مات دروسوس في السنة ٢٣ آثر والده طيباريوس إبعاد رفقائه عن البلاط؛ كي لا يتذكر حبيبه، فعاد أغريبة إلى فلسطين مستبدلًا عظمة رومة بحقارة أدوم، والبذخ بالتقتير، فحزَّ ذلك في صدره، ورغب في الامتناع عن الطعام ليموت جوعًا،19 فشددته زوجته قبرص، وشحذت عزيمته، وكتبت إلى شقيقته هيرودية في ذلك، فاستدعته إلى طبرية، وعينته مفتشًا لأسواقها براتب محدد، وساء أغريبة ما بان من التفاوت في المرتبة بينه وبين شقيقته وزوجها نسيبه، وشق ذلك عليه، وخاب رجاء أغريبة، فسرى بينه وبين صهره داء الضرائر، وذر الشقاق قرنه في صور، عندما أنب أنتيباس ابن عمه أغريبة في أثناء مأدبة أقيمت لهما، فهجر أغريبة صهره، والتجأ إلى والي سورية «بومبونيوس فلاكوس Pomponius Flaccus» القنصل السابق الذي عرفه جيدًا في رومة، وقرَّبه فلاكوس وأكرمه، ولكن حاجة أغريبة الملحة للمال جعلته يستغل هذه الصداقة، فإنه عندما نشأ الخلاف بين الصيدونيين والدمشقيين حول الحدود تبنى أغريبة ادعاء الدمشقيين، ودافع عنهم لقاء مبلغ كبير من المال، فلما علم فلاكوس بذلك أبعد أغريبة، فاستدان هذا مبلغًا من المال في عكة والإسكندرية، وأقلع مع زوجته إلى رومة ليستعطف طيباريوس، فأصغى إليه طيباريوس، ولكنه ردَّ ادعاءه على أنتيباس، ونصح إليه أن يُعنى بحفيده طيباريوس، وآثر أغريبة رفقة غايوس، وتمنى أمامه انتهاء عهد طيباريوس ووصوله هو إلى السدة، فعلم طيباريوس بذلك، وأرسله مكبَّلًا بالقيود إلى ثكنة الحرس الإمبراطوري.
ومات طيباريوس بعد ذلك بستة أشهر، وتولى أزمة الأمور بعده غايوس، فأطلق سراح أغريبة، ودعاه إلى البلاط، وألبسه الذياذمة شارة الملك، واستبدل قيده الحديدي بسلسلة من الذهب، وأنفذ إلى اليهودية «مرولوس Marullus» محصلًا، وذلك في ربيع السنة ٣٧،20 وقضى أغريبة سنة في رومة، ثم استأذن بالعودة على فلسطين ليدبر شئون مملكته، ومرَّ في الإسكندرية يحيط به حرسه بأسلحتهم المفضضة المذهبة، فأثار غضب الوثنيين من سكانها، فهاجوا وماجوا واضطهدوا اليهود، وأقاموا تماثيل الإمبراطور في بعض هياكل هؤلاء، وهدموا غيرها، وكان «أويليوس فلاكوس Avilius Flaccus» ناظر مصر راضيًا عما جرى، فشكاه أغريبة إلى الإمبراطور، فصودرت مجموعاته الفنية، ونفي إلى «أنذروس Andros»، ثم أُعدم في السنة ٣٩.21
واستوقد الحسد ضلوع هيرودية وزوجها أنتيباس، فأقلعا بدورهما إلى رومة، وما كادا يصلان إلى مقر غايوس في «بايس Baies» حتى لحق بهما «فورتونة Fourtunat» أحد عتقاء أغريبة، حاملًا رسالة إلى غايوس من أغريبة وهدايا، وادعى باسم أغريبة؛ أن أنتيباس كان له ضلع في مؤامرة سيانوس على طيباريوس، وأنه على تفاهم مع ارتبان ملك البرت، وأنه عثر على كميات كبيرة من الأسلحة في تترارخيته تجهز سبعين ألف مقاتل، فأمر غايوس بنفي أنتيباس إلى حدود إسبانية، وألحق تترارخيته بمملكة أغريبة، وذلك في السنة ٣٩.22

(٨) اليهود وتمثال غايوس

وألَّه الرومانيون غايوس، وأقاموا له التماثيل في هياكل الآلهة، وأحب غايوس ذلك فكثر المتملقون، وشيَّد «كبيتو Capito» مدبر مقاطعة يمنة الصغيرة القريبة من يافة في السنة ٤٠ مذبحًا لغايوس يوبيتر لمناسبة نجاحه في ألمانية، فهاج اليهود ودمروا المذبح، فكتب المدبر بذلك إلى سيده الإمبراطور، فأمر هذا بإقامة تمثال ضخم مذهب للإمبراطور الإله في هيكل أوروشليم، وكتب بذلك إلى «بترونيوس L. Petronius» خلف فيتاليوس الوالي على سورية، وأمره بصنع التمثال وباتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين نصبه وصيانته في الهيكل في أورشليم، فأوصى الوالي أمهر الصناع في صيدا لإعداد تمثال من النحاس المذهب، وقام يفاوض ويمهد لتنفيذ الأمر الصادر، فاجتمع باريطوبولوس أخي أغريبة وغيره من أمراء اليهود، واتفق الطرفان أن يكتب الوالي إلى سيده يبين أسباب التأخير، فغضب الإمبراطور، وأمر بصنع تمثال في رومة، ولمس أغريبة نفسه هذا الغضب مباشرة، فأعد بالتعاون مع فيلون الفيلسوف اليهودي رسالة في موقف اليهود من هذا الأمر، ونهض وفد من اليهود إلى رومة يفاوض في المشكلة القائمة،23 ولكن دون جدوى، وأمر غايوس ممثله بترونيوس بالانتحار، ولكن خنجر كاسيوس الذي قضى على حياة غايوس في مطلع السنة ٤٠ خلَّص بترونيوس واليهود.

(٩) كلوديوس وأغريبة

وكان أغريبة لا يزال في رومة، وشهد حوادث الاغتيال، وعمل بجد ونشاط لصالح كلوديوس، فلما استتب الأمر لهذا كافأ أغريبة؛ بأن ألغى نظام المحصلية في اليهودية، وتنازل عن حقوق الإمبراطور في مقاطعتي يمنة «وأوزوتوس Azotos»، وأحيى مملكة هيرودس، واعترف بأغريبة ملكًا عليها، وأمر بنقش ذلك على لوحات من القلز، أي من النحاس والقصدير، وبتعليقها على جدران الكبيتول الروماني،24 وأنعم في الوقت نفسه على هيرودس أخي أغريبة بإمارة خلقيس مجدل عنجر، وأوصى كلوديوس الإسكندريين بالتسامح في موقفهم من اليهود، كما أوصى اليهود بالاعتدال والخلود إلى السكينة.25
وأبقى كلوديوس القديم على قدمه في معظم الإمارات الحليفة في الشرق كله، فظل سُهيم يحكم العيطوريين من عرقة، وعاد أنطيوخوس الرابع إلى كوموجينة في آسية الصغرى، وخص مدينة صور بعطفه، فحملت اسمه Claudiopolis،26 وأنشأ لأبطال الفرق الرومانية المستقرة في سورية مستعمرة جديدة في «عكة Ptolemais Ace»، وامتد نفوذه وعطفه إلى تدمر نفسها، فحملت اسمه إحدى عشائرها.27

(١٠) أغريبة واليهود والنصارى

ورغب أغريبة في إرضاء الرومانيين واليهود في آن واحد، فسك النقود في أورشليم، يهودية خالية من كل شائبة، وأصدر عن قيصرية وبانياس وطبرية نقودًا تحمل رسمه أو رسم قيصر،28 ودعا نفسه على بعض المسكوكات والنقوش «محب قيصر Philokaisar»، أو «محب الروم Philoromaios»، وزين قصره في قيصرية بالتماثيل، ولا سيما تماثيل بناته برنيقة ومريم ودروسيلة، وأكرم بيروت المستعمرة الرومانية الكبرى، فشيد فيها مسرحًا جميلًا وميدانًا وملعبًا وحمامات وأروقة، وبعد إنجازها دعا إلى تدشينها فأنفق المبالغ، وفكَّه الحضور بالمجالدات بين عدد ممن حُكم عليهم بالموت.29
وجعل أغريبة أورشليم مقره العادي، وظهر فيها بمظهر الملك اليهودي المحافظ، فعلق السلسلة الذهبية التي زينه بها غايوس قيصر في الهيكل، وجزَّ شعر الناذرين؛ لأن لبس الذياذمة الملكية قضى بتطويل شعره، وكان يحمل على كتفه سلة البواكير؛ ليقدمها للرب في الهيكل، بينما كان المرتلون يرددون المزمور الثلاثين: «أعظمك يا رب؛ لأنك نعشتني، ولم تُشمت بي أعدائي»،30 وذهب أغريبة إلى أبعد من هذا، فدافع عن اليهود وتقاليدهم خارج حدود مملكته، فإنه حينما أكره المتهلنون اليهود في دورة في داخل حدود ولاية سورية على إقامة تمثال للإمبراطور في هيكل هذه البلدة كتب أغريبة إلى بترونيوس والي سورية، مذكرًا بسياسة الإمبراطور كلوديوس، راجيًا رفع التعدي.31
واضطر أغريبة أن ينظر في أمر المدرسة aïresis الجديدة التي أسسها يسوع الناصري لإصرار أعضائها على اعتبار يسوع مسيحًا فاديًا مخلصًا، وعلى ترجي قيامة الموتى في الدهر العتيد، ولأن بعضهم أراد أن يحطم الحواجز بين اليهود والأمم بعد دخولهم في الإيمان، وكان مجمع اليهود قد بدأ اضطهاد هؤلاء، فحكم أغريبة على يعقوب بن زبدي بالموت، وقبض على سمعان بطرس الغيور الناطق بلسانهم، وزجه في السجن.

(١١) طمع في غير مطمع

وتمادى أغريبة في إرضاء اليهود، وركب رأسه، فبدأ في السنة ٤٢ في إنشاء سور ثالث لمدينة أورشليم، فتدخل «ويبيوس مرسوس Vibius Marsus» والي سورية وأوقف الأعمال، ثم دعا أغريبة حلفاء رومة في الشرق في السنة ٤٣ إلى الاشتراك في تدشين الأبنية، التي شيد في بيروت وبعد ذلك إلى طبرية، فلبى الدعوة صهره هيرودس زوج بنته برنيقة ملك خلقيس البقاع وأنطيوخوس الرابع خطيب دورسيلة وملك كوموجينة و«بوليمو Polemo» ملك البونط، و«كوتيس Cotys» ملك أرمينية الصغرى، و«شمسي Shampsiceramus» أمير حمص العربي، وكان أغريبة قد فاوض هؤلاء في الاختتان وقبول الدين اليهودي، فلما اجتمعوا في طبرية أوعز مرسوس الوالي إلى كل منهم على انفراد بالانسحاب من هذا المؤتمر ففعلوا، وعادوا إلى إماراتهم،32 فسكت أغريبة مكرها، ثم مات بعد فصح السنة ٤٤ في قيصرية، شاكيًا من ألم شديد في أحشائه.33

(١٢) عودة إلى نظام المحصلية

وكان أغريبة الثاني بن أغريبة الأول لا يزال في السابعة عشرة من عمره يتابع دروسه في رومة، ورغب كلوديوس لأول وهلة أن ينفذه ملكًا محل والده، ثم عدل عن ذلك، وعاد إلى نظام المحصلية، ولعل السبب في ذلك أنه ذكر مطامع أغريبة وسياسته الدينية، فخشي انتشار اليهودية في الشرق، كما خشي انتشار «الدرودية Druidism» في الغرب، ولعل رجال بطانته طمعوا في استدرار المال، فرأوا في العودة إلى المحصلية وسيلة لإشباع مطامعهم، وظل كلوديوس عاطفًا على أغريبة الثاني، فإنه أنفذه ملكًا على خلقيس بعد وفاة عمه هيرودس في السنة ٤٨، ثم أضاف إلى ملكه وادي بردي واللجا والبثنية.34
وبينما كانت ولاية سورية تنتظر وصول الوالي الجديد الفقيه الكبير «كاسيوس لونجينوس Cassius Longinus» (٤٥–٥٠) ووالي آسية سابقًا، أطل على قيصرية فلسطين المحصل «كسبيوس فادوس Cuspius Fadus» (٤٤–٤٦)، فحل المشادة بين يهود شرق الأردن وبين سكان فيلادلفية حول حصن زي القريب من السلط، واقتص من «طولوميوس Tholomaios» رئيس العصابة، الذي عاث فسادًا في أدوم وبين القبائل العربية، ثم قتل «توداس Theudas» الذي سطا على عقول جماعة من اليهود، زاعمًا أنه بإمكانه أن يشق الأردن كما شق موسى البحر الأحمر،35 وحاول المحصل الجديد بعد ذلك إعادة الألبسة اليهودية الحبرية إلى القصر في أورشليم، وسانده في ذلك والي سورية لونجينوس الفقيه، فنشبت مشادة جديدة، ورُفع الأمر إلى الإمبراطور، فحكم لليهود وأوجب إبقاء تاج الكاهن الأعظم وثيابه الحبرية في الهيكل، وأمر الإمبراطور في الوقت بأن يتولى هيرودس خلقيس شئون الهيكل في أورشليم، وتعيين الكاهن الأعظم، وظل الحال على هذا المنوال حتى السنة ٧١ب.م.36 وحل محل فادوس في السنة ٤٦ وحتى السنة ٤٨ المحصل طيباريوس ألكسندروس، وكان هذا أحد أنسباء فيلون الفيلسوف اليهودي الإسكندري، فجحد اليهودية واعتنق الوثنية، وخدم رومة بأمانة وإخلاص، فسعى لتوطيد الأمن في فلسطين، وصلب يعقوب وسمعان ابني يهوذا «الجليلي الغيور»، ولكن مجاعة السنة ٤٦ عرقلت أعماله الإصلاحية،37 وجاء بعده «ونتيديوس كومانوس Ventidius Cumanus» (٤٨–٥٢) فكان أسوأ حظًّا، وتفصيل ذلك، أن بعض العناصر العسكرية السبسطية القيصرية كانت لا تزال مقيمة في اليهودية منذ وفاة أغريبة الأول، وأن هذه العناصر شاركت السامريين والوثنيين في كرههم لليهود، ولما جاء الفصح تواقح أحد هؤلاء على اليهود في أروقة الهيكل، فطالب اليهود بمعاقبته، وشتموا كومانوس وأهانوه، فخشي هذا سوء العاقبة، واستقدم قوة جديدة، فدب الرعب إلى صفوف الشعب، واحتشدوا في الهيكل وجواره، ولجأ بعض اليهود إلى الإخلال بالأمن، فسلبوا اسطفانوس أحد أرقاء الإمبراطور جميع أمتعته في ضواحي أورشليم، وأنفذ كومانوس قوة إلى محل الحادث فأساءُوا التصرف، ودنس أحدهم نسخة من التوراة، فطالب اليهود باحترام دينهم! واعترض السامريون سبيل اليهود القادمين من الجليل إلى أورشليم عند جنين ومنعوهم من الدخول إلى منطقتهم، فشكا الجليليون السامريين إلى كومانوس في قيصرية، فلم يرَ رأيهم، فتجدد الإخلال بالأمن في تلال اليهودية، ومشى بعض اليهود إلى حدود السامرة فأحرقوا وذبحوا، فنهض كومانوس إلى أورشليم على رأس قوة من الجند، ولكنه تحاشى فأغضب السامريين، فقام وفد من هؤلاء إلى ولاية سورية، وشكوا أمرهم إلى الوالي «أوميديوس كوادراتوس Ummidius Quadratus» (٥٠–٦٠)، ومثل أمامه في صور وفد من اليهود يتهمون السامريين وكومانوس بالتعدي، فنهض إلى قيصرية وصلب بعض اليهود فيها، ثم قام إلى اللد، وحزَّ رقاب غيرهم، وأرسل المتداعين إلى رومة، ولدى وصولهم إليها نشبت مشادة عنيفة بين عتقاء كلوديوس من رجال البطانة وبين أغريبة الثاني، فأمر كلوديوس بثلاثة من كبار الوفد السامري، ونفى كومانوس، وأنفذ التريبون «كيلر Celer» إلى فلسطين مفوض مطلق الصلاحية.38

(١٣) المحصل أنطونيوس فيلكس (٥٢–٦٠)

هو عتيق أنطونية أم الإمبراطور كلوديوس، وأخو بلَّاس كبير عتقاء البلاط في عهد كلوديوس، وخليل أغريبينة أم نيرون،39 تولى المحصلية بفضل أغريبينة الأصغر، وتلبية لطلب يوناثان الكاهن الأعظم (٣٧-٣٨)، الذي أمَّ رومة على رأس الوفد اليهودي المفاوض بعد الادعاء على المحصل كومانوس وجماعته، ولم ينس «فيلكس Felix» — فيما يظهر — فضل أغريبينة، فإنه أطلق اسمها على البرج كشَّاف الأهلة الذي أنشئ في عجلون في قلعة الربَّاد.40
وما كاد فيلكس يتسلم أزمة الحكم في اليهودية حتى ضرب بيد من حديد على عناصر الشغب، فقبض على اليعازر بن ديناي حيًّا، وأرسله إلى رومة، وصلب وقتل عددًا كبيرًا من أتباعه، ولعله استعان ﺑ «الأسخريوطيين Sicarii» ذوي الخناجر القصيرة للقضاء على يوناثان الكاهن الأعظم السابق،41 وزاد الطين بلة عندما استهوى دروسيلة بنت أغريبة وزوجة عزيز ملك حمص العربي المتهود، فتزوج منها مخالفًا التقليد والناموس،42 وقبيل انتهاء حكمه في السنة ٦٠ نشبت مشادة عنيفة بين اليهود والأمميين في قيصرية فلسطين، فاليهود فيها طالبوا ﺑ «حقوق المواطن isopoliteia»، وكانوا قد كثروا واغتنوا، فأبى المواطنون — وجلهم من الأمميين المتهلنين — أن يسمحوا بذلك، فكان لجوء إلى العنف، وكان بين الأمميين والجند، فسقط عدد من اليهود وزاد التوتر، فأرسل فيلكس وفدين إلى رومة؛ ليترافعا أمام نيرون الإمبراطور، فجاء حكم الإمبراطور في صالح الأمميين، فازداد اليهود حقدًا وضغينة.43

(١٤) حننيا وبولس

ويُستبعد أن يكون حننيا قد استمر في رئاسة الكهنوت منذ السنة ٤٧ حتى السنة ٥٩، ولكنه لا يُستبعد أن يكون قد ظل نافذ الكلمة، ولا سيما بعد أن عاد من رومة بريئًا مما اتُهم به في قضية السامريين في عهد كومانوس المحصل، ويستدل من كلام يوسيفوس؛ أن هذا الكاهن الأعظم تكبر وتجبر بعد عودته من رومة، وأنه لم يترفع عن أخذ معظم لحوم التقدمات إلى بيته، وأنه أرسل رجاله إلى البيادر، واغتصب العشر حق الكهنة العاديين من المواسم.44
وكان بولس الرسول قد عاد من ميليتس إلى صور وعكة فقيصرية، فاليهودية فأورشليم، فقبله الأخوة بفرح، وقص عليهم ما صنع الله بين الأمم بخدمته، فمجدوا الله، ثم قالوا له: أنت ترى كم ربوة من اليهود قد آمنوا، وكلهم ذوو غيرة على الناموس، ولقد بلغهم عنك أنك ترد عن موسى، فخذ هؤلاء الرجال الأربعة الناذرين، وطهر نفسك معهم، وأنفق عليهم؛ ليحلقوا رءُوسهم، فيعرف الجميع أن ما بلغهم عنك ليس بشيء، بل إنك أنت أيضًا محافظ على الناموس، فدخل الهيكل وبيَّن أجل أيام التطهير، ولما قرب انقضاء السبعة الأيام رآه اليهود الذين من آسية في الهيكل، فهيجوا الجمع كله، وألقوا عليه أيديهم، فهاجت المدينة كلها، وتبادر الشعب من كل ناحية، وقبضوا على بولس، وجروه إلى خارج الهيكل، وإذ كانوا يطلبون قتله بلغ الخبر قائد الفرقة «الخيليوس» كلوديوس ليسياس، الذي كان يقيم في قلعة أنطونية إلى الشمال الغربي من الهيكل، فأخذ لساعته جندًا وبادر إليهم، فلما رأوه أمسكوا عن ضرب بولس، فقبض عليه، وأمر أن يوثق بالسلاسل، وذهب به إلى الثكنة، وفيما هو داخل وقف على الدرج، وخاطب الشعب بالعبرية، وروى قصته كلها، فرفع اليهود أصواتهم، وطالبوا «برفعه عن الأرض؛ لأنه ليس بخليق أن يحيا»، ومضوا يصرخون، ويحركون أرديتهم، ويذرون في الجو، وأمر القائد بجلده، فأعلم بولس الجلادين أنه روماني، فامتنعوا عن الجلد،45 ثم حله القائد، وأمر رؤساء الكهنة وكل المجمع أن يجتمعوا، وأنزل بولس وأقامه لديهم، فقال بولس: لقد تصرفت حتى اليوم بكل نية صالحة، فأمر حننيا رئيس الكهنة بضربه على فيه، فأجاب بولس: سيضربك الله أيها الحائط المبيَّض، ورأى بولس أن قسمًا منهم صديقيون، وقسمًا فريسيون، فقال بولس: أنا فريسي على رجاء إسرائيل، وعلى قيامة الأموات أُحاكم، فنشب نزاع بين الفريسيين منهم والصديقيون، فاختُطف الجند بولس من بينهم، وأعادوه إلى الثكنة، وتآمر أربعون من اليهود أن لا يأكلوا ولا يشربوا حتى يقتلوا بولس، وسمع ابن أخت بولس بالمكيدة فأخبر خاله بها، ثم قائد الألف، فأنفذه هذا محروسًا إلى فيلكس المحصل في قيصرية.

(١٥) بولس وفيلكس المحصل

وانحدر حننيا نفسه إلى قيصرية، ومعه بعض الشيوخ ومحام اسمه ترتلوس، وعرضوا شكواهم على بولس، واتهموه بالفتنة وتنجيس الهيكل، وكان فيلكس «يُعرف بتدقيق ما يخص الطريقة (المدرسة) النصرانية»، فأمهلهم قائلًا: متى انحدر ليسياس أبحث في دعواكم»، وبعد أيام استحضر فيلكس بولس، وسمع منه عن الإيمان بالمسيح يسوع في حضور دروسيلة امرأته، التي كانت يهودية كما سبق وأشرنا، وإذ كان بولس يفيض في الكلام عن البر والعفاف والدينوية الآتية، أجاب فيلكس مرتاعًا: اذهب الآن، ومتى حصلت على فرصة استدعيتك، وكان يأمل أن يُصيب من بولس فضة، فلذلك كان يستقدمه مرارًا ويحادثه، وإذ أراد أن يرضي اليهود ترك بولس في السجن.46

(١٦) المحصل بوركيوس فستوس (٦٠–٦٢)

وخلف فيلكس في المحصلية في منتصف السنة ٦٠ «بوركيوس فستوس Porcius Festus»، وتبع اليهود فيلكس حتى رومة، وادعوا عليه أمام نيرون، ولكنهم نسوا — أو تناسوا — أنه كان أخا بلاس، فعادوا خائبين،47 وصعد فستوس من قيصرية إلى أورشليم، فأقبل رؤساء الكهنة وأعيان اليهود يوردون شكواهم على بولس، وألحوا باستحضاره إلى أورشليم، وقد جعلوا له كمينًا في الطريق ليغتالوه، فأجاب المحصل: أن بولس في السجن في قيصرية، وأنه هو سيعود إلى هناك سريعًا، وقال: لينحدر معي المقتدرون، وليشكوا هذا الرجل، وعاد فستوس بعد عشرة أيام إلى قيصرية، وفي الغد جلس على المنبر وأمر بإحضار بولس، فقذف اليهود عليه شكاوى كثيرة وثقيلة، ولكنهم لم يقدروا أن يثبتوها، ودافع بولس عن نفسه أنه ما أجرم قط تجاه ناموس اليهود، ولا تجاه الهيكل، ولا تجاه قيصر، وأصرَّ أنه واقف لدى منبر قيصر، وأنه رافع دعواه إليه، حينئذٍ فاوض فستوس مجلس شوراه وقال لبولس: إلى قيصر رفعت دعواك، فإلى قيصر تذهب.
وبعد بضعة أيام أقبل أغريبة الثاني الملك وبرنيقة أخته إلى قيصرية، وسلَّما على فستوس، وقصَّ فستوس قضية بولس، فرغب أغريبة في سماع بولس، فأقبل وأخته بأبهة عظيمة ودخلا المجلس مع قواد الألوف وأعيان قيصرية، وأُحضر بولس فروى قصته أمام أغريبة، فقال أغريبة قوله الشهير: إنك بقليل ستقنعني أن أصير مسيحيًّا، وقال أغريبة لفستوس: إن هذا الرجل لم يأت شيئًا يستوجب الموت، ولقد كان ممكنًا أن يطلَق سراحه لو لم يرفع دعواه إلى قيصر، وأُسلم بولس وأسرى آخرون إلى يوليوس قائد المائة في فرقة أوغسطة، وأقلع من قيصرية إلى صيدا حيث شاهد الأخوة، ومنها إلى ميرة في ليكية، ثم إلى رومة.48

(١٧) يعقوب أخو الرب

ومات فستوس في أثناء محصليته في السنة ٦٢، فانتهز حنان الثاني رئيس الكهنة فرصة شغور كرسي المحصلية، وركب رأسه وراح ينتقم من النصارى بعد نجاة بولس وخروجه من فلسطين، فقبض على يعقوب أخي الرب وأسقف الكنيسة في أورشليم، وعقد مجمعًا، واستدعى يعقوب، وقال له: إن الشعب يتخذون يسوع مسيحًا، فعليك أن تزيل من أذهانهم هذا الضلال، ثم أقاموه على سطح الهيكل ليسمعه الجميع، وصاح الكتبة والفريسيون: أن الشعب قد سلك سبيل الضلال باتباعه يسوع المصلوب، فقل أيها الصديق، ماذا نفعل؟ فأجاب يعقوب: إن يسوع الذي تسألونني عنه هو المسيح ابن الله، وهو جالس عن يمين الله، وسيأتي على سحاب السماء ليدين العالم بأسره، فقذفوا بيعقوب من فوق إلى الحضيض فلم يتأذ، بل جثا مصليًا قائلًا: اغفر لهم؛ لأنهم لا يدرون ما يفعلون، ثم انهالوا عليه بالحجارة، وتناول أحدهم مطرقة كبيرة وهوى بها على هامة القديس، فأتم استشهاده.49

(١٨) ثورة اليهود (٦٦–٦٩)

ونهج «لوكيوس ألبينوس Lucceius Albinus» المحصل الجديد سياسة لين ومسالمة، فاتُهم بالرشوة،50 وجاء بعده «غيسوس فلوروس Gessius Flours» (٦٤–٦٦) شديدًا مؤدبًا، فإنه في آيار السنة ٦٦ صادر سبع عشرة وزنة من خزانة الهيكل؛ ليسد بها النقص في المال المفروض على اليهود، فغضب اليهود، ونزلوا إلى الشوارع متظاهرين صاخبين، ففرَّقهم غيسيوس بقساوة، واستقدم من قيصرية فوجين لمساندة الحامية، وتراجع اليهود عن تطرفهم، وأظهروا ميلًا للتفاهم، ولكن الجنود تكبروا فتجدد النزاع، ونجح اليهود في قطع المواصلات بين قلعة أنطونية والهيكل، فاضطر غيسيوس أن يخرج من أورشليم، تاركًا فيها حاميتها وفوجًا واحدًا من الجنود.
وهرع أغريبة من الإسكندرية وأَمَّ أورشليم لردع سكانها عن موقفهم، ولكنه لم يفلح، فالجماهير طالبت بإلغاء التقدمة اليومية للإمبراطور، وتمكن بعضهم من الاستيلاء على قلعة المسدة المشرفة على ساحل البحر الميت الغربي، ثم استحوذ الجمهور على قلعة أنطونية في أورشليم، وأكرهوا حاميتها على الالتجاء إلى أبراج قصر هيرودس، واستسلم رجال أغريبة وتبعهم في ذلك رجال الحامية فذُبحوا.51
وفي خريف السنة ٦٦، عمت الثورة فلسطين بكاملها، ودخل اليهود بها في حرب أهلية مع غير اليهود، فثار يهود الإسكندرية في وجه طيباريوس ألكسندروس حاكمها الروماني، وخف غير اليهود في قيصرية وبيسان وصور إلى ذبح اليهود، فقتلوا عددًا كبيرًا منهم، وكان «كستيوس غالوس Cestius Gallus» والي سورية قد نهض على رأس الفرقة الثانية عشرة Fulminata وغيرها إلى أورشليم؛ ليخضع الثوار فيها، فما كاد يصل إليها حتى تراجع عنها خشية الاضطرار إلى الدفاع عن جانبيه ومؤخرته والهجوم على الثائرين في أورشليم في آن واحد، وقيامًا بواجب المحافظة على الأمن في ولايته، وإخماد الفتنة بين اليهود وغير اليهود فيها، وما إن بدأ بالتراجع حتى انقض عليه اليهود من كل جانب، فتحول تراجعه إلى هزيمة، واضطر أن يتخلى لليهود الثائرين عن شيء كثير من عتاده ومئُونته،52 وعلم الدمشقيون بذلك، فأحاطوا باليهود في بلدتهم، وذبحوا أكثر من عشرة آلاف منهم.53

واضطر المعتدلون المسالمون من اليهود أن يماشوا العناصر الثائرة، فتسلم القيادة والدفاع عن أورشليم حنان رئيس الكهنة الأسبق ويوسف بن غوريون، وقسمت البلاد إلى مناطق عسكرية، وتولى القيادة في كل منها قائد معين، وإذا جئنا نقيس خبرة القادة وحنكتهم بما نعلمه عن قائد منطقة الجليل المتاخمة لولاية سورية، التي كانت تعتبر الجبهة الرئيسة، قلنا: إن هؤلاء القادة لم يكونوا مدربين مجربين، فقائد الجليل كان يوسف بن متياس، الذي أمسى فيما بعد يوسيفوس مؤرخ اليهود الشهير، كان يوسف كاهنًا في الثلاثين من عمره، ملمًّا بالناموس والمذاهب اليهودية على أنواعها، وكان قد زهد، واعتزل في البرية على يد بانوس ثلاث سنوات متتالية، ثم عاد إلى الاختلاط بالناس، فعُرف فريسيًّا معتدلًا محبًّا لرومة، فأُنفذ إليها؛ ليفاوض في أمر الكهنة الذين حُجزوا فيها، وانتقاء يوسيفوس لقيادة الثورة في الجليل يدل على أن كبار الزعماء لم يرغبوا في حرب حقيقية ضد رومة، وإنما أرادوا التظاهر بالعنف؛ ليصلوا بالمفاوضة مع رومة إلى حل وسط يعيد المياه إلى مجاريها.

وتضاربت آراء اليهود في الجليل، فانقسموا أحزابًا وعصابات، فمنهم من تزمت وتطرف فطالب بالاستقلال التام، ومنهم من والى رومة واعتدل وأحب المفاوضة، ومنهم من أيد أغريبة، ومنهم من عارضه، وكان زعيم المتزمتين المتطرفين يوحنا بن لاوي، الذي اعتصم في غيشالة في شمال صفد، وأراد أن يسيطر على الجليل الأعلى، ومن هؤلاء أيضًا، يسوع بن صفيا، الذي هدد كل محب لرومة، وجال في الجليل معربدًا محرقًا، وأعلنت صفورية ولاءها لرومة واستعدادها للدفاع، وثارت جملة في الجولان على أغريبة، واشتهر باعتداله يوستوس ابن بيستوس، ولكنه اضطر أن يماشي يوحنا بن لاوي، وعبثًا حاول يوسيفوس توحيد الصفوف للصمود في وجه الرومان الزاحفين من سورية،54 ولم ترضَ أورشليم عن سياسة يوسيفوس، فأنفذت إلى الجليل أربعة قواد ليحلوا محله، فامتنع يوسيفوس، وزاد امتناعه الطين بلة.55
وكان نيرون لا يزال في بلاد اليونان مستغرقًا في أحلامه منشدًا مغنيًا، فلما علم بانتحار غالوس الوالي أمام أورشليم استفاق من غفلته، ووكل أمور سورية وما جاورها إلى رجل عسكري قدير، كان قد أبعده؛ لأنه كان قد نام وهو يسمع غناء الإمبراطور، وكان هذا «طيطس فلاويوس وسباسيانوس Titius Flavius Vespasianus» ذا خبرة واسعة في الحرب، محبوبًا في أوساط الجنود، فمنحه نيرون «السلطة الكبرى maius imperium»، وعينه «واليًا legatus» على سورية وما جاورها، وأمره بالتوجه إليها فور تسلمه الأمر بذلك.56
وجاء وسباسيانوس أنطاكية في آذار السنة ٦٧، وتسلم قيادة الفرقة الخامسة Macedonica والفرقة العاشرة Fretensis، وكان ابنه طيطس قد وصل إلى عكة على رأس الفرقة الخامسة عشرة Apollinaris المصرية، وضم وسباسيانوس إلى هذه الفرق القوات المحلية المساندة ورجال الملوك المحليين الحلفاء، وبينهم أغريبة الثاني الملك اليهودي، وسهيم ملك حمص، ومالك الثاني ملك الأنباط، فتجمع لديه حوالي خمسين أو ستين ألفًا،57 وفي حزيران السنة نفسها، نهض إلى حدود الجليل، وآثر اليهود حرب العصابات، فرسم وسباسيانوس خطة طويلة الأمد، كان شعاره فيها عدم تفريق الجنود، وحاول يوسيفوس أن يجمِّع رجاله بالقرب من صفورية عند قرية الرينة Garis، ولكنهم ذابوا ذوبانًا قبل الشروع في القتال، فالتجأ يوسيفوس إلى حصن «يوتبات Jatapata» في شمال صفورية (خان جفات الحديثة)، وامتنع فيه فحصره وسباسيانوس سبعة وأربعين يومًا، وعند نهاية الحصار لجأ يوسيفوس وكبار ضباطه إلى صهريج تحت الحصن، واتفقوا على قتل بعضهم بعضًا، وفعلوا، ولما لم يبق منهم سوى يوسيفوس وضابط آخر استسلم يوسيفوس لوسباسيانوس، ونال عطفه حينما تنبأ بوصول القائد إلى منصة الإمبراطورية قريبًا، فلما تم ذلك عتق وسباسيانوس أسيره يوسيفوس.58
وفتحت طبرية أبوابها لجيش رومة، وتجزأت المقاومة في الجليل، وكادت تنحصر في «تريخية Taricheia» عند انطلاق الأردن من بحيرة الجليل، وفي غيشالة في شمال صفد، ولا سيما في جملة، وطال امتناع هذه المراكز حتى خريف السنة ٦٧، وقضى وسباسيانوس شتاء السنة ٦٧-٦٨ في قيصرية، وفي ربيع السنة ٦٨، بدأ يحصر المقاومة في اليهودية، فاحتل الساحل والسامرة بسهولة، وثبَّت سلطته في بيرية في شرق الأردن، وفي أدوم في جنوب الميت وأورشليم، وانحصرت مقاومة اليهود عند أول حزيران في هيرودية والمسدَّة والمكاور وأورشليم وتلالها، وبينما كان وسباسيانوس يستعد للزحف على أورشليم، فوجئ بانتحار نيرون، فأوقف أعماله الحربية، منتظرًا تجديد مهمته من قبل الإمبراطور الجديد، فطال انتظاره سنة كاملة.

(١٩) موقف النصارى

وكان ما كان من أمر يعقوب أخي الرب، فلما تم استشهاده خلفه بوضع الأيدي نسيبه سمعان بن كليوبة في رئاسة الكنيسة في أورشليم، وأطل كستيوس غالوس والي سورية في السنة ٦٦ بجنوده ومجانيقه وعقاربه، فذكر المؤمنون قول المسيح: «فإذا ما رأيتم رجاسة الخراب قائمة حيث لا ينبغي، فالذين في اليهودية فليهربوا عندئذٍ إلى الجبال، والذي على السطح فلا ينزل، ولا يدخل بيته ليأخذ منه شيئًا، والذي في الحقل فلا ينظر إلى الوراء ليأخذ رداءَه»، فخرجوا من أورشليم إلى «فحل Pella» المتهلنة في منطقة المدن العشر، وأقاموا بها.59

(٢٠) في داخل أورشليم

ولم يستفد اليهود من وقف القتال كثيرًا، وجل ما فعلوه، أنهم زادوا أسوار أورشليم مناعة، وأن سمعان «بن الغيورة bar Giora» احتل الخليل، وغنم منها غنائم كبيرة، وأن رجاله جالوا في التلال سالبين ناهبين، ولجأ إلى أورشليم في هذه الفترة عدد كبير ممن قاوم الرومانيين، واضطر أن يفر أمامهم، فأفادوا يوحنا بن لاوي الغشلاوي، ووصلوا به إلى مرتبة الزعامة، فضيق على المعتدلين من اليهود والمسالمين، ونكَّل بهم تنكيلًا، وفي ربيع السنة ٦٩، اضطر سمعان بن الغيورة أن يلجأ بدوره إلى المدينة المقدسة، ويحتمي بأسوارها، فاستُقبل فيها استقبالًا حارًّا، ثم نازع يوحنا بن لاوي الزعامة، فظهر زعيم ثالث اليعازر ابن سمعان.60

(٢١) مؤتمر بيروت

وتنازع السلطة العليا في رومة في السنة ٦٨-٦٩ كل من «غلبة Galba» و«أوتو Otho» و«فيتاليوس Vitellius»، فلما تم النصر لفيتاليوس عاد وسباسيانوس إلى القتال، فدخل الخليل، وأعاد الأمن إلى تلال اليهودية، ثم فوجئ في أول تموز بمناداة فرق الإسكندرية به إمبراطورًا مناوئًا لفيتاليوس، وتبعهم في ذلك بعد ثلاثة أيام الفرق المحاربة في اليهودية، وقبل منتصف تموز كانت فرقة سورية قد أعلنت تأييدها للقائد الذي أحب جنوده وحافظ على راحتهم، وعرض نفسه للخطر في سبيل انتصارهم، وكان والي سورية «ليكينيوس ميكانيوس Licininius Micanius» قد أيد رأيهم، وقال قولهم، واندفع في سبيل وسباسيانوس، فدعاه وغيره إلى تبادل الرأي في بيروت، وأكد أن فيتاليوس لن يرضى عن بقاء وسباسيانوس في القيادة، وأن مصير هذا سيكون حتمًا كمصير كوربولو، فرضي وسباسيانوس، وأرسل الوفود إلى البرت والأرمن؛ ليضمن حيادهما، ووافق أيضًا على تسليم قيادة الجند في فلسطين إلى ابنه طيطس، وكان من مقررات بيروت أيضًا أن يقوم وسباسيانوس إلى مصر؛ ليضمن ولاءها، ويمنع حبوبها عن الوصول إلى رومة.61

(٢٢) حصار أورشليم (٧٠)

figure
قوس طيطس.
figure
غنائم طيطس كما تظهر على القوس.

وتولى طيطس قيادة الجيش في اليهودية، وعاونه في ذلك طيباريوس ألكسندروس، الإسكندري الخبير بشئون الملة التي كان ينتمي إليها، وكانت ظروف وسباسيانوس المستجدة قد قضت بسحب بعض العناصر العسكرية من اليهودية وإنفاذها بإمرة موكانيوس إلى البلقان، فقلَّ عدد الفرق الثلاث الفعلي المرابطة في فلسطين، ولمس وسباسيانوس هذا الضعف، فتلافاه فإنفاذ الفرقة الثانية عشرة، وتقدم طيطس برجاله إلى جبل الزيتون، وبدأ أعمال الحصار، ولدى وصوله اشتد التنافر بين الزعماء في داخل أورشليم، فهجم يوحنا غيشالة على الهيكل، وقضى على زعامة اليعازر، فخفت صوت المعتدلين، ولجئُوا إلى العمل السري، فخرج المعلم الفريسي يوحنا بن زكَّا إلى المعسكر الروماني، مختبئًا في تابوت أُعد لهذه الغاية، وأدى تعاظم الخطر الروماني إلى تفاهم بين يوحنا بن لاوي وسمعان بن الغيورة، فاقتسما أعمال الدفاع، فتولى يوحنا الدفاع عن القلعة الأنطونية والهيكل، وأشرف سمعان على القتال من أسوار المدينة العليا.

وتمكن الرومان في آيار السنة ٧٠ من فتح ثغرة كبيرة في السور الثالث الخارجي، وبعد أيام خمسة استولوا على السور الثاني، ثم شرعوا في دك أبراج السور الأول، وعبثًا حاول يوسيفوس إقناع الحامية اليهودية بوجوب التسليم والمسالمة، فشدد طيطس الرجال، وبنى الأبراج الخشبية، وأحاط بالمدينة بسور من التراب؛ ليمنع تسرب الطعام إلى داخلها، وفي التاسع من آب — حسابًا يهوديًّا — أحرق الرومان باب الهيكل، وتسربوا إلى الداخل فاستولوا عليه، وذبحوا من في داخله، وفرَّ يوحنا بن لاوي، وانضم إلى سمعان في المدينة العليا، فدافعا حتى أيلول ثم استسلما، فأمر طيطس بسجن يوحنا سجنًا مؤبدًا، واحتفظ بسمعان لقتله عند الكبيتول في رومة، وغنم — فيما غنم — مائدة التقدمة والشمعدان المسبع، واحتفل بنصره مع والده وسباسيانوس وأخيه دوميتيانوس في السنة ٧١ في رومة، وشيد لهذه المناسبة قوس نصر لا يزال نقش من نقوشه محفوظًا حتى يومنا،62 أما القوس الذي يُعزى إليه اليوم، فإنه شُيد بعد وفاته.

(٢٣) النظام الجديد

وسقطت قلعة هيرودية في يد الرومان بسهولة، أما المسدة، فإنها امتنعت وقاومت حتى السنة ٧٣، ولم يدخلها الرومان إلا على جثث رجالها، الذين انتحروا بعد اليأس، وامتنع رجال حصن المكاور مدة، ثم خرجوا بشروط معينة.

وظلت اليهودية ولاية مستقلة، يحكمها محصل روماني كما كانت قبل الثورة، ولكن هذا المحصل أصبح خاضعًا لوال legatus من أعضاء السناتوس، يقود الفرقة العسكرية Eretensis المستقرة في فلسطين، وظلت قيصرية عاصمة فلسطين واليهودية، ولكنها اعتُبرت مستعمرة رومانية باسم Colonia Prima Flavia Augusta Caesarensis، وفرقت رومة بين اليهود الموالين لها وبين العصاة، فظل أولئك مواطنين غير رومانيين كسائر سكان الولايات، أما العصاة الذين لم يُستَرقوا استرقاقًا، فإنهم اعتُبروا مستسلمين بدون حقوق dediticii.63

وأمست أرض اليهودية أرضًا أميرية، تتصرف بها السلطات الرومانية كما تشاء، فتلزمها تلزيمًا، أو تهبها إلى أبطال الجيش، كما فعلت بأراضي عمواص القريبة من أورشليم، أو إلى غيرهم ممن نال عطف الإمبراطور، كما جرى ليوسيفوس المؤرخ الذي استغل هذا العطاء، وهو مقيم في رومة، وأبيحت جميع مدن المقاومة إلى الجند، ودُمرت وبيع أهلها أرقاء في أسواق الرقيق في الشرق والغرب.

وألغت رومة المجمع ورئاسة الكهنوت، وحرمت العبادة في هيكل أورشليم، وفي هيكل يهود مصر في Leontopolis، وحولت مال العنق الذي كان يجبى من اليهود لخزينة الهيكل إلى خزينة يوبيتر في الكابيتول، ومن هنا التعبير «مال اليهود Fiscus Judaicus».
وبإلغاء المجمع ورئاسة الكهنوت دخل اليهود في دور جديد من تاريخهم الطائفي، فانتهى أمر الصدوقيين وانتصر الفريسيون، فأسس أحدهم يوحنا بن زكا مدرسة يمنة القريبة من يافه، واتجهت الأنظار إليها، فكاد بعض اليهود يعتبرها مجمعًا جديدًا، ولم يحل الكنيس محل الهيكل، بل ظل هذا قبلة أنظار اليهود، يبكون لخرابه، ويسعون لإعادة بنائه، ولا يزالون.64

(٢٤) البرت والأرمن

وفي السنة ١٧ بعد الميلاد، حوَّل طيباريوس قبدوقية من مملكة حليفة إلى ولاية؛ ليقوِّي بذلك الدفاع عند الفرات، وكانت قبائل طوروس الغربي لا تزال جامحة، فظهرت في السنة ٤٣ ولاية جديدة مؤلفة من ساحل ليكية وبمفيلية في جنوب آسية الصغرى.

وتبنى الأقربون خطة أوغوسطوس في معاملة البرت والأرمن، فاقتصدوا كل الاقتصاد في المجهود الحربي، وكادوا يهملون في بعض الأحيان الاهتمام بسير الحوادث في برتية وأرمينية، وكان — ومن حسن حظهم — أن ملوك البرت قابلوا هذا الإهمال بشيء كثير من التردد وقلة الحزم والعزم، وعند وفاة أوغوسطوس كانت سلطة أرتبانوس الثالث ملك البرت لا تزال غير موطدة، وكانت أرمينية قد دخلت في دور من الفوضى، ولم يحرك طيباريوس ساكنًا، حتى طلب أشراف أرمينية وزعماؤها إلى أحد ملوك آسية الصغرى أن يتولى أمورهم ويدبر شئونهم، فرضي طيباريوس برضاء هؤلاء، وطلب في السنة ١٨ إلى ابن أخيه جرمانيكوس، الذي كان يتجول في الولايات الشرقية مطلعًا مفتشًا، أن يمنح التاج (الذياذمة) للملك الجديد «أرتكسياس Artaxias»، ففعل، وحكم هذا الملك حتى وفاته في السنة ٣٥ حكمًا هادئًا غير مضطرب، وعند وفاته طمع أرتبانوس ملك البرت في أرمينية، ولا سيما وأن طيباريوس كان قد مسَّه الكبَر، فدفع بأحد أبنائه ليتولى عرش أرمينية، ففاجأه شيخ رومة بانتفاضة لم يحسب لها حسابًا، واضطر أن يصد هجومًا من إيبيرية، شنه متراداتس جديد، ولم يقوَ على الصمود، فخرج من أرمينية، وجلس متراداتس ملكًا عليها، وشجع طيباريوس أميرًا برتيًّا اسمه «تيريداتس Tiridates» على احتلال ما بين النهرين والمطالبة بالعرش، فتقرط لجام أرتبانوس، وانثنى عن عزمه، ومع أنه نجح في كبح جماح تيريداتس، فإنه لم يجرؤ على التحرش بأرمينية.
والتبس على غايوس وجه الصواب، وأحب أن يرضي صديقه ورفيقه «كوتس Cotys» ملك تراقية، الذي نشأ معه في رومة، فراح يفتش عن عروش لأبناء كوتس، فجعل أحدهم ملكًا على ولاية كوموجينة، ورغب في إجلاس الآخر على عرش أرمينية، فاستدعى متراداتس بدون مبرر وأبقاه في رومة، فاحتل أرتبانوس أرمينية قبل وصول مرشح رومة إليها، ومع أن كلوديوس أعاد متراداتس إلى عرشه، ولهَّى «غوتارزس Gotarzes» خلف أرتبانوس بمشاكل داخلية، فإن «روداميستوس Rodamistus» نسيب مثرارداتس شن هجومًا موفقًا في السنة ٥٢ أو ٥٣ على أرمينية، وقتل مثراداتوس وحلَّ محله، فتسنى لملك البرت أن يظهر بمظهر المدافع عن الأرمن، فعاونهم على التخلص من ردميستوس، ولكنه أجلس أخاه تيريداتس على العرش الأرمني (٥٣-٥٤).
ووصل نيرون إلى سدة الحكم، فعزل «يوليوس بايلينوس Paelignus» والي قبدوقية، واعتبره مسئولًا عن إخفاق رومة في أرمينية، وعين محله «كوربولو Cornelius Domitius Corbulo»، القائد الجريء الذي أثبت رجولته في وادي الرين، وأوصاه أن يفاوض على أساس الاعتراف بتيريداتس، شرط أن يقبل التاج من يد ممثل رومة (٥٦-٥٧)، فإذا رفض ذلك هجم كوربولو على أرمينية، ورأى كوربولو أن لا بد من الهجوم، ولمس تقاعسًا وقلة انضباط في الجنود، فراح يدربهم، وقضى سنة كاملة في ذلك، ثم هجم عبر سهل أرضروم المرتفع إلى وادي «الأراكسيس Araxes»، واستولى على «أرتكساتة Artaxata»، ومنها تقدم نحو «دكرانكرتة Tigranocerta»، فدخلها عنوة، وجعلها قاعدة لأعماله الحربية (٥٨-٥٩)، ثم طرأ على ملك البرت ما أشغله عن مساعدة أخيه، ففر تيريداتس من أرمينية، وتُوج «كوربولو دكران Tigranes» أحد أمراء قبدوقية ملكًا عليها (٦٠).65
وفي السنة التالية، تحرش دكران بملك البرت، وغزا ما بين النهرين، وكان «فولوغيسيس Vologeses» ملك البرت قد صفَّى مشاكله الشرقية، فحصر دكران في عاصمته، وكان كوربولو قد أصبح واليًا على سورية، ورأى من المناسب ألا يثيرها حربًا، ففاوض ملك البرت على أساس سحب دكران من أرمينية وإعادة تيريداتس، شرط دخول هذا في طاعة رومة، ومع أن تيريداتس رضي بذلك، فإن نيرون نفسه لم يرضَ، فكان لا بد من اللجوء إلى العنف، وتسرع «كاسينيوس باييتوس Cassenius Paetus» والي قبدوقية الجديد، ورغب في مضارعة كوربولو، فبدأ القتال عبر جنوب أرمينية بقوات غير كافية، فقطع البرت عليه خط الرجوع، فاستسلم ووافق على الانسحاب من أرمينية في صالح تيريداتس (٦٢-٦٣)، فأنكر نيرون على باييتوس فعله، وعين كوربولو قائدًا أعلى لجميع قوات الفرات، وأمره بالهجوم، فسار القائد الأعلى في السنة ٦٤ بخمسين ألف مقاتل إلى أرمينية، ولكنه لم يَجِدَّ في القتال، راجيًا أن يؤدي مظهر الشدة وحده إلى اتفاق ملائم، وتحققت أمانيه، ففاوض البرت بعودة تيريداتس ودخوله في طاعة رومة، وفي السنة ٦٥ أَمَّ تيريداتس رومة، وتسلم تاجه من يد نيرون.66
وفي السنة ٦٤، ضمَّ نيرون مملكة البونط الشرقية إلى ولاية غلاطية، واستولى على الأسطول والملكي، وتولى أمر المحافظة على الأمن في البحر الأسود بكامله، ثم رغب في احتلال البانية لجعل بحر قزوين الحد الشرقي، ولكنه لم ينفذ شيئًا من ذلك.67

(٢٥) البلقان والدانوب

وشملت تراقية في الأصل كل ما وقع بين البحر الأسود وبحر الأدرياتيك، فلما جاءت القبائل الأليرية احتلت غرب البلقان المطل على الأدرياتيك، وقامت مقدونية بدورها دولة قوية في قلب البلقان وجنوبه، وظلت القبائل التراقية متأخرة في سلم الحضارة تُعنى بتربية الماشية، وبالزراعة وقطع الأخشاب وتصديرها، واضطر ولاة مقدونية الرومانيون إلى غزو القبائل التراقية من آن إلى آخر، إما لتأديبهم، وإما لتطويع بعضهم في خدمة الجيش، وكان أوغوسطوس قد اعترف بمملكتين تراقيتين، فلما كانت السنة ١٩، اغتال أحد هذين الملكين الآخر، فتدخلت رومة، وخلعت الجاني، وأجلست «روميتالكيس الثاني Rhoemetalces» ملكًا على تراقية، وعينت مقيمًا رومانيًّا فيها، وظل الضباط الرومانيون يتسربون عبر الحدود لاختطاف الشبان، وإكراههم على الخدمة في الجيش، فكانت ثورة في السنة ٢٥، أخمدها «بابايوس سبينوس Papaeus Sabinus» والي مقدونية، وجاء كلوديوس في السنة ٤٦، فضم شمال تراقية إلى ولاية موسية، وجعل من الجنوب محصلية يحكمها محصل روماني.68
وأدى تحرك القبائل الآلانية الآسيوية واتجاهها شطر روسية الجنوبية إلى حشر عشائر هذه المنطقة وقبائلها، ودفعها شطر الدانوب، فاضطرت رومة أن تنظر في أمر هؤلاء اللاجئين، وأن تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية حوض الدانوب الأسفل، فقبل «سلوانس Silvanus» والي موسية في السنة ٦٢ مائة ألف لاجئ داقي، وأسكنهم ضفة الدانوب الجنوبية، ثم أضاف إلى ولايته قسمًا من سهل ولاخية عبر الدانوب؛ ليجعل منه منطقة عسكرية، وحالف زعماء هذه المنطقة للغاية نفسها، وأنفذ إلى المدن اليونانية في ساحل روسية الجنوبي الغربي حاميات رومانية، وفعل مثل هذا لدى «أسبورغوس Asburgus»، الذي اغتصب عرش بوليمو في مملكة البوسفور.

(٢٦) ألمانية والرين

وحاول طيباريوس في السنوات الثلاث الأولى من حكمه أن يدوخ ألمانية الغربية بكاملها، وأن يثأر ﻟ «فاروس Varus» وجنوده في المنطقة نفسها التي سقطوا فيها، وتولى الأعمال الحربية في ألمانية ابن أخيه جرمانيكوس، ولكن أرمينيوس الزعيم الألماني تمكن من توحيد صفوف العشائر الألمانية الشمالية، فاضطر طيباريوس أن يعدل عما ذهب إليه، واستدعى ابن أخيه في السنة ١٦.
ثم جعل طيباريوس منطقة حدود الرين الشرقية منطقتين: ألمانية العليا، وألمانية السفلى، وجعل «ماينتز Maguntiacum» و«فيتيرية Vetera» عاصمتيهما، وألحق أمورهما المالية بولاية بلجيكة، واكتفى طيباريوس وخلفاؤه بسياسة دفاعية، ولم يحاولوا الدخول إلى قلب ألمانية إلا لأسباب تأديبية، ومن هذه أعمال كوربولو في السنة ٤٧، عندما نهض بقواته ليرد قرصان البحر الشمالي.69

(٢٧) غالية

وأثقل الجباة كاهل الغاليين بالضرائب لتمويل حروب جرمانيكوس في ألمانية، وزاد المرابون الطين بلة، فدبَّر زعيمان من زعماء غالية ثورة، ولكن قوات الرين تمكنت من إخمادها بسهولة.70
وعني كلوديوس بالمواصلات بين إيطالية والحدود الشمالية فشق طريقين عبر الألب، واحدة عبر البرنر إلى وادي «الأين Inn»، والثانية عبر ممر البرنار إلى وادي الرون الأعلى.71

(٢٨) كلوديوس وبريطانية

وخشي كلوديوس ضياع الهيبة في الأوساط العسكرية المرابطة في الشمال، فرغب في حملة على الجزر البريطانية يؤكد بها اهتمامه بالجيش، ويعزز مكانته في قلوب أفراده، ورجا عتيقه ويمينه «نركيسوس Narcissus» فوزًا سريعًا وربحًا كبيرًا، فأصغى إلى تذمر الزعماء البريطانيين من مطامع «كراتاكس Caratacus» الملك، وشجع سيده على العمل السريع.
وكان غايوس قد أعد العدة في السنة ٤٠ لعبور البحر واحتلال بريطانية، ثم عدل فجأة كما فعل نبوليون في السنة ١٨٠٥، وفي السنة ٤٣، عبر القائد الروماني «بلوتيوس Plautius» البحر على رأس خمسين ألف مقاتل، ونزل في «كنت Kent»، ثم اقتحم وادي «التايمس Thames»، وبعد وصول كلوديوس نفسه إلى ميدان القتال تغلب الرومان على كراتاكوس، واحتلوا عاصمته Camulodunum كوشيستر الحديثة،72 وعاد كلوديوس إلى رومة؛ ليسجل انتصاره، ويحتفل به،73 ووصل الرومانيون في السنة ٤٩ نهر «السيفرن Severn» في الغرب، وفي السنة ٥٢ نهر «ترنت Trent» في الشمال الشرقي، ثم حاول «سوتونيوس بولينوس Snetonius Paulinus» في السنة ٥٩ إخضاع «وايلز Wales» الشمالية، ووصل في السنة ٦١ إلى «أنغليسي Anglesey»، ولكن ثورة «بوديكة Boudicca» أرملة ملك الإنكليز الشرقيين أكرهته على التراجع، وتفاقم شر هذه الثورة، فسقطت «ليندينوم Lundinum» لندن الحديثة وغيرها في يد الثوار، فأُحرقت حرقًا، ثم تمكن سوتونيوس من التغلب على الثوار، وماتت بوديكة، فجاء دور الرومان في النهب والسلب والقتل.74

هوامش

(1) CARCOPINO, J., Le Maroc Antique, 190 ff.; HOMO, L., Expériences Africaines.
(2) SENECA, Ad investigandum caput Nili.
(3) PLIN., Nat. Hist., 6:181; LEUZE, Or. Lit. Zeit., 1924, 346.
(4) SCHUR, W., Klio, suppl., XV, 39 ff.
(5) JOSEPHUS, Ant. 18:34 f.
(6) JOSEPH., Ant. 18:35.
(7) SCHURER, E., Gesch. des judischen Volkes, I, 430, n. 10; ABEL, F.M., Hist. Palest., I, 436-437.
(8) BEBBER, VAN, Das Praetorium des Pilatus, Theol. Quartalschrift, 1905, 184 ff.; VINCENT, H., Rev. Bib., 1933, 83 ff.
(9) ABEL, F.M., op. cit., I, 426–428.
(10) JOSEPHUS, Ant. 18:55–59; KRAELING, The Episode of the Roman Standards of Jerusalem, Harvard, Theol. Rev., 1942, 263 ff.
(11) Leg. ad Gaium, 133, 299–305.
(12) JOSEPH., Ant., 18:60.
(13) TACITUS, Ann. 15:43.
(14) JOSEPHUS, Ant., 18:109–112.
(15) ABEL, F.M., Gtog., I, 142.
(16) JOSEPHUS, Ant., 18:116–119; KRAELING, C.H., John the Baptist, (1951).
(17) JOSEPH., Ant., 18:96–105.
(18) JOSEPHUS, Ant., 18:106–115, 119, 120–125.
(19) JOSEPH., Ant., 18:146; ABEL, F.M., Geog., II, 180.
(20) JOSEPHUS, Ant., 18:143–169, 179–237.
(21) PHILON, In Flaccum.
(22) JOSEPH., Ant., 18:240–255.
(23) PHILON, Legat. Ad Gaium.
(24) JOSEPHUS, Ant., 19:237–277.
(25) LOND L., Greek Papyrii in the British Museum, (1912); Rev. Bib., 1925, 621, 1931, 270.
(26) HEAD, B.V., Historia Numorum, 2d Ed., 793, P1. IV; I.G.R.R., I, 132.
(27) DE VOGUE, Inscrip. Palm., 35.
(28) SCHURER, E., op. cit., I, 560 f., n. 40–42; OGIS, I, 418.
(29) JOSEPHUS, Ant., 19:335–338, 342, 353, 357; Bell. Jud., 7:5.
(30) JOSEPH., Ant., 19:292–296.
(31) JOSEPHUS, Ant., 19:300–311.
(32) JOSEPH., Ant., 19:338–341.
(33) LAKE, K., Beginnings of Christionity, V, 450 ff.
(34) CHARESWORTH, M.P., Gaius and Caludius, Cam. Anc. Hist., X, 680-681; ABEL., F.M., Hist. Palest., I, 455.
(35) JOSEPHUS, Ant., 20:1–5.
(36) JOSEPHUS, Ant., 20:6–16.
(37) JOSEPHUS, Bell. Jud., 2:220, Ant., 20:100–103; REINMUTH, O.W., Tiberius Julius Alexander, Trans. Am. Phil. Ass., 1934.
(38) JOSEPHUS, Ant., 20:105–136, Bell. Jud., II, 224–246; TACITUS, Ann. 12:54
(39) SCHURER, E., Gesch. des jud. Volkes, I, 571, 572, n. 19.
(40) SCHURER, E., Gesch. des jud. Volkes, I, 571, 572, n. 19.
(41) JOSEPHUS, Ant., 20:160, 186.
(42) Ibid., 20:141–144.
(43) JOSEPHUS, Bell. Jud., II, 266–270, Ant., 20:173–178.
(44) JOSEPHUS, Ant., 20:131, 206 f.
(45) ACT. 21, 22.
(46) ACT. 24.
(47) Prosopographia Imperii Romani, II, A. 828.
(48) ACT. 25, 26, 27.
(49) EUSEBIUS, Hist. Ecc., 2:23; CHAINE, J., Epétre de St. Jacques, Intred. 30–40.
(50) JOSEPHUS, Bell. Jud., 2:272 f., Ant., 20:204 f.
(51) JOSEPH., Bell. Jud., 2:315–407, 408–448.
(52) JOSEPH., Bell. Jud., 2:499–555.
(53) Ibid., 2:559–561.
(54) BAERWALD, A., Flavius Josephus in Galilaa, (1877); LUTHER, H., Josephus und Justus von Tiberias, (1910).
(55) THACKERAY, H., Josephus the Man and the Historian, (1929).
(56) SUETONIUS, Vespasianus 4.
(57) JOSEPHUS, Bell. Jud., 3:64–69.
(58) Ibid., 3:316–408; SUET., Vesp. 5; DIO CASSIUS, 66:1.
(59) MARK, 13:14–17; EUSEBIUS, Hist. Ecc., 3:11.
(60) JOSEPHUS, Bell. Jud., 4:556–584.
(61) TACITUS, Ann., 4:11; SUET., Vespas., 8; STEVENSON, G.H., The Year of the Four Emperors, Cam. Anc. Hist., X, 828–830.
(62) DESSAU, 264; GRAETZ, H., Gesch der Juden, III; ZEITLIN, S., La Révolution Juive. (1930).
(63) JUSTER, J., Les Juifs dans l’Empire Romain, II; BUCHER, A., The Econ. Condition of Judata after the Destruction of the Second Temple.
(64) MOMMSEN, Th., Der Religionsfrevel nach romischen Recht., Ges. Schriften, III, 416; GINSBERG, M.S., Fiscus Judaicus, Jew. Quart. Rev., 1930, 282; ROSTOVTZEFF, Real–Encyc., Cols. 2403–2405.
(65) TACITUS, Ann., 12-13; ANDERSON, J., The Eastern Frontier, Cam. Anc. Hist., X, 754–765; GUTERBOCK, K., Romisch-Arminien und die Romischen Satrapien, (1900); CHRISTENSEN, A., L’Iran sous les Sassanides, (1936).
(66) TACITUS, Ann. 15:1–17, 24–31; DIO CASS., 62:20–26, 63:1–7, SUET., Nero, 13.
(67) SCHUR, K., Klio, supl. vol. XV, 62 ff.,; ANDERSON, J., op. cot., 765–780.
(68) CASSON, S., Macedonia, Thrace and Illyria, (1926).
(69) DESSAU, H., Gesch. der romischen kaiserzeit, vol. II.
(70) JULLIAN, Hist. de la Gaule, V, 155 ff.
(71) RUSHFORTH, Latin Hist. Inscriptions, 33; STAHELIN, F., Die Schusiz in romischer zeit, 232 ff.
(72) COLLINGWOOD, R.C. and MYRES, J.N.L., Roman Britain and the English settlements.
(73) BURN, A.R., The Romans in Britain, no. 1.
(74) GREEN, C., Journ. Rom. Studies, 1942, 39 ff.; WERSTER, G., ibid. 1949, 52 ff.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤