آداب العرب في الجاهلية

نريد بالآداب الاجتماعية ما يدور بين الناس من المعاملات الأدبية والأمور الاعتبارية في هيئتهم الاجتماعية، وما يتبادلونه من العلائق العائلية على ما تقتضيه عاداتهم وأخلاقهم وطبائع إقليمهم، وأساس تلك الآداب في التمدن الإسلامي ما كان عند العرب قبل الإسلام من المناقب والعادات وحال المرأة عندهم، فنقدم الكلام بتمهيد في هذا الشأن.

(١) مناقب العرب الجاهلية

تختلف مناقب الناس وآدابهم باختلاف ضروب معايشهم وأطوار تمدنهم وطبائع إقليمهم، فللبدو مناقب غير مناقب الحضر، ولأهل القرى آداب تختلف عما لأهل المدن، وأهل الأقاليم الحارة آدابهم تخالف آداب أهل الأقاليم الباردة، جريًا على ما يقتضيه ناموس الارتقاء من التناسب بين طبائع القوم وطبائع إقليمهم، لئلا يتولاهم الضعف ويدركهم الفناء.

فأهل البادية يحتاجون إلى الشجاعة مثلًا أكثر مما يحتاج إليها المتمدنون، لتفرد البدوي عن المجتمع وتوحشه في الخلاء وبعده عن الحامية وانتباذه عن الأسوار، ويقوم بالدفاع عن نفسه بيده فهو دائمًا يحمل السلام وينفرد في القفر واثقًا بنفسه، فصارت الشجاعة سجية له، بخلاف أهل المدن الذين ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة وانغمسوا في الترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أعراضهم وأموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم فهم آمنون قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على سواهم، فأصبح الجبن طبيعة فيهم، اعتبر ذلك بسائر ما يغلب في طباع أهل البدو كالعصبية والكرم والوفاء والأنفة والنجدة وغيرها مما تستلزمه البداوة ولا تستقيم إلا به على ما سنبينه:
  • (١)
    العصبية: هي أظهر طبائع البدو وأعمها، وقد فصلنا أسبابها وشروطها وسائر أطوارها في الجزء الرابع.
  • (٢)
    الشجاعة: البدو يعيشون غالبًا بالغزو، وهم دائمًا في قتال أو يتأهبون لقتال، فالشجاعة شرط من شروط بقائهم، وقد كانت غالبة فيهم، يكرمون الشجاع ويتفاخرون بالشجعان، واشتهر فيهم جماعة كبيرة من أهل البسالة في الجاهلية والإسلام، كعمرو بن معد يكرب، وربيعة بن المكدم، ودريد بن الصمة، وعروة بن الورد، وعنترة العبسي، وملاعب الأسنة، وعامر بن الطفيل، وعلي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، والمقداد بن الأسود، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن الزبير وأخيه مصعب وغيرهم، واشتهرت نساؤهم بالشجاعة أيضًا، كما سيجيء في كلامنا عن المرأة.
  • (٣)
    الكرم: وهو من مناقب أهل البادية، اقتضته طبيعة إقليمهم لما قدمناه من مسير البدوي في أسفاره منفردًا، وقد يبتعد عن مضربه أيامًا في بادية لا طعام فيها ولا ماء، فإذا لم يجد من يقريه ويسقيه مات، فنشأ عن ذلك الضيافة وقرى الضيفان، وأصبح الكرم من أفضل المناقب عندهم، شأن سائر أجيال البدو غير العرب كالجرمان قبل تمدنهم، فكان البدو يتفاخرون بالضيافة ويتسابقون إلى المغالاة فيها، حتى أوقدوا نارًا بجانب مضاربهم يهتدي بها المارة ليلًا يسمونها نار القرى، وبالغوا في احترام الكرماء ترغيبًا للناس في هذه الفضيلة لافتقارهم إليها، فأصبح الأسخياء يبالغون في ذلك ويكثرون من النيران، فإذا اشتد البرد أو هبت الرياح فعجزوا عن إيقادها، فرقوا الكلاب حوالي الحي وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح، فيهتدي الأضياف على نباحها، ولذلك كان من أسماء الكلاب عندهم «داعي الضمير، ومتمم النعم، ومشيد الذكر»، وكانوا يتفاخرون بعظم جفانهم وارتفاعها، ومن أكبر تلك الجفان جفنة عبد الله بن جدعان، كان الرجل يستظل في ظلها.١

    وأشهر الكرماء في الجاهلية حاتم الطائي ويضرب المثل بكرمه، فيقال للمبالغة في مدح كريم: «إنه أكرم من حاتم طي»، ومنهم كعب بن مامة الإيادي، وهرم بن سنان، وخالد بن عبد الله وغيرهم، وكان جودهم قاصرًا على الضروري من حاجات الإنسان، كالطعام والشراب واللباس لبساطة أحوالهم، وربما جادوا بالإبل أو الماشية، فلما ظهر الإسلام وكثرت أموالهم من الغنائم والعطايا صاروا يجودون بالنقود والجواهر والضياع والرقيق وغيرها كما سنرى.

  • (٤)
    الوفاء: لما كان الغدر سهلًا على البدوي، لإمكانه الفرار من القصاص والإيغال في البادية، حيث لا يستطيع خصمه الوصول إليه وليس ثمة وازع يخيفه أو جند يقبضون عليه، ولا هناك دين يزجره مما يفضي إلى ضياع الحقوق وفساد الأحوال، جعلوا يرغبون الناس في الوفاء ويعظمون أمره ويمتدحون أهله، فرغب الناس فيه وأصبح بتوالي الأجيال خلقًا لهم، وصاروا يأنفون من إخلاف الوعد ويشهرون بمرتكبه ويبالغون في الثناء على أهل الوفاء.
  • (٥)
    الاستقلال: لا شيء أحب إلى أهل البادية من الاستقلال، ولا سيما الرُّحَّل فإنهم طُبعوا على الحرية وكرهوا التقيد بشيء، حتى المكان فهم لا يتوطنون صقعًا، بل يجعلون منازلهم على ظهورهم ينتقلون بها إلى حيث يطيب لهم المقام، وهم لا يحملون ضيمًا ولا يصبرون على ظلم، وتمكنت الحرية من طباعهم حتى ظهرت في أقوالهم وأفكارهم، ونشئوا على الأنفة وعزة النفس وإباء الضيم، ألا ترى كيف ظهر ذلك منهم في صدر الإسلام، إذ كانوا يخاطبون الخلفاء كما يخاطبون عامة الناس، والخلفاء لا يرون بأسًا بذلك؛ لأنه كان طبعًا مألوفًا فيهم؟
  • (٦)
    النجدة: هي من طبائع البدو ولازمة لزوم الضيافة، وبينهما تناسب من حيث إغاثة الضعيف، فإذا استنجدت البدوي على أمر أنجدك ولو بذل نفسه في هذا السبيل، وتظهر نجدتهم على الخصوص في الجوار وحمى الذمار، وقد فصلنا ذلك في الجزء الرابع.
  • (٧)
    الأريحية: وقد وصفنا هذه المنقبة وصفًا مختصرًا في الجزء المذكور، وهي من مناقب أهل النجدة والفروسية التي يعبر عنها الإفرنج بقولهم Chevalerie ومرجعها إلى الافتخار بحسن الأحدوثة، ولما كان العرب أهل خيال وذوي نفوس حساسة كان للأريحية عندهم شأن كبير، فالرجل منهم تقيمه كلمة وتقعده، وربما تجردوا للحرب نقمة على عبارة تطعن في شجاعتهم أو كرمهم أو وفائهم، وكانوا يتأثرون على الخصوص من أقوال النساء مدحًا أو طعنًا فيبذلون ما في وسعهم التماسًا لثنائهن، وكثيرًا ما كان ذلك سببًا في ابتعادهم عن الرذائل، وربما تعرض بعضهم للقتل خوفًا من استخفافهن، وفي أخبار الجاهلية شواهد كثيرة على ذلك.
  • (٨)
    الثأر: وكما ينجدك البدوي إذا استنجدته فهو لا يصبر عن الأخذ بثأره إذا أسأت إليه، وإذا قتل رجل من قبيلة رجلًا من قبيلة أخرى نشأت العداوة بين القبيلتين، فتقوم الموتورة منهما للأخذ بثأرها ولا تنفك حتى تقتل من الأخرى من هو كفء لقتيلها أو يتصالحوا على الدية، ومن أشهر حوادث الثأر في الجاهلية الحرب التي أثارها المهلهل بن ربيعة للأخذ بثأر أخيه كليب، فأصبح المهلهل مثلًا في ذلك فيقولون: «فلان آخذ للثأر من المهلهل» لأنه حلف منذ طلب الثأر أنه لا ينزع درعه ولا يشرب الخمر ولا يدهن رأسه بالطيب ولا يقرب النساء إلا بعد نيل مرامه.
  • (٩)
    الشيخوخة: كان للشيخوخة عند العرب مقام رفيع، ولفظ الشيخ يدل عندهم على الشيخوخة والرئاسة معًا، وكانوا إذا تساوت المناقب فيمن يرشحونه للإمارة فضلوا أكبرهم سنًّا، كما فعلت قريش في حرب الفجار الثانية.٢ ولما جاء الإسلام وأحدث ما أحدثه من المناقب الدينية، كانت هذه المناقب في جملة ما فضلوه على السن، فإذا تساوت كلها في المترشح للإمارة فضلوا أكبرهم سنًّا، عملًا بالحديث النبوي بشأن الإمامة: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا».٣

(٢) المرأة في الجاهلية

اختلفت الآراء في حال المرأة العربية في العصر الجاهلي، ولا مشاحة أنها كانت على الإجمال عظيمة الشأن عفيفة النفس، وعفتها من ثمار حب الاستقلال والأنفة؛ لأن المرأة التي تشب على استقلال الفكر وإباء الضيم تترفع عن ارتكاب ما يهون على المرأة الناشئة في مهاد الذل المغلولة بأغلال الحجاب، ويقال نحو ذلك في غيرة رجالهم على العرض، فإنه من مستلزمات العفة والأنفة والاستقلال؛ لأن الرجل الأنوف إذا تعود العفة من امرأته يعظم على طباعه احتمال ما يمس عرضها من قول أو فعل، وتزداد غيرته عليها إذا كانت وحيدة لم يحب سواها، كما كان حال العرب في الجاهلية لقلة الجواري يومئذ ومشقة الحصول على النساء، مع حاجة البدوي إلى امرأته في تدبير شئونه وإعانته في أسفاره وأعماله.

(٢-١) الوأد

وبلغ من غيرة بعضهم في الجاهلية أن يقتلوا بناتهم أو يئدوهن، لئلا يرتكبن ما يجر عليهم العار، ولم يكن الوأد عامًّا في قبائل العرب، ولا كان قديمًا عندهم، وإنما حدث قبيل الإسلام، وكان منحصرًا في بعض بني تميم بن مر، ظهر فيهم لسبب طرأ عليهم؛ ذكروا أنهم كانوا يؤدون الإتاوة (الجزية) إلى النعمان ملك الحيرة، فمنعوها سنة من السنين فجرد عليهم النعمان كتائبه وساق أنعامهم وسبى ذراريهم، فعظم ذلك على التميميين فوفدوا عليه يطلبون أهلهم وأموالهم فأبى، فقالوا: «أعطنا النساء.» فقال: «إننا نخيرهن في الذهاب أو البقاء.» وأعلن «أن كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه» فكلهن اختارت أباها إلا ابنة قيس بن عاصم كانت قد أحبت عمرو بن المشمرج فاختارت البقاء عنده، فغضب قيس ونذر لا تُولد له ابنة إلا قتلها،٤ وربما اقتدى به بعض أهله أو أهل قبيلته، وكان بعض الغيورين من العرب لا يزوج بناته غيرة عليهن، وأشهرهم ذو الإصبع العدواني فكانت له أربع بنات منعهن الزواج وهن يردنه في حديث طويل ذكره المبرد،٥ ولم يطل زمن الوأد عند العرب؛ لأنه مخالف لأحكام العقل ومباين لعواطف الوالدين، فما لبث أن ظهر صعصعة بن ناجية وأخذ على نفسه فداء البنات الموءودات٦ حتى بطل الوأد.

(٢-٢) شهيرات الجاهلية

وكان للمرأة في الجاهلية شأن وإرادة، وكانت صاحبة أنفة ورأي وحزم، فنبغ غير واحدة منهن في السياسة والحرب والأدب والشعر والتجارة والصناعة ولا سيما في أوائل الإسلام على أثر ما حصل من النهضة في النفوس والعقول، فاشتهرت جماعة منهن بمناقب رفيعة تضرب بها الأمثال، وأكثرهن في المدينة مقر الخلافة الإسلامية في ذلك العهد.

فاللواتي اشتهرن في الجاهلية بالشجاعة وشدة البطش أو كبر النفس، منهن سلمى بنت عمر إحدى نساء بني عدي بن النجار، فإنها كانت امرأة شريفة لا تتزوج الرجال إلا وأمرها بيدها، إذا رأت من الرجل شيئًا تركته، على أن الغالب في نساء الجاهلية أن يُخيرن قبيل الزواج، فلا يزوج الرجل ابنته إلا بعد أن يشاورها،٧ واشتهرت التميميات من نساء قريش بحظوتهن عند رجالهن وكبريائهن وقسوتهن عليهم،٨ ناهيك بمن اشتهرت منهن بالبسالة في أثناء الغزوات، ففي معركة أحد وقع لواء قريش في ساحة القتال، فلم يزل صريعًا حتى أخذته امرأة منهم اسمها عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لهم فلاذوا بها.٩ وفعلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان في تلك المعركة ما لم تفعله الرجال، فجمعت إليها نسوة أخذن في أيديهن الدفوف يضربن خلف الرجال وهي تنشد في تحريضهم على الثبات، ولما انتهت الواقعة خرجت مع النسوة تنظر جثث القتلى حتى وجدت بينها جثة حمزة عم النبي، فبقرت بطنه وأخرجت كبده فلاكتها من غيظها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ثم علت صخرة وأنشدت أشعارًا تفخر بالفوز على المسلمين.١٠
ونساء الجاهلية كن يصحبن الرجال إلى ساحة القتال فيداوين الجرحى ويحملن قرب الماء، وممن اشتهرن بالشجاعة أم عمارة بنت كعب الأنصارية، وأم حكيم بنت الحارث، والخنساء الشاعرة أخت صخر وغيرهن.١١

ونبغ بالرأي والحزم غير واحدة، أشهرهن أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وكانت عاقلة حازمة لبيبة ذات شرف ومال، تنتقي من اشتهر من الرجال بالأمانة والحزم فتستأجرهم بمالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، ولما سمعت بشهرة النبي قبل الدعوة بالأمانة وكرم الأخلاق، بعثت إليه أن يخرج في مالها تاجرًا إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من الرجال، فلما أفلح في تجارته عرضت عليه أن يتزوج بها فأجابها، وهي أول من أسلم، وقد نشطته للقيام بالدعوة، فكان لا يسمع شيئًا مما يكرهه من رد عليه أو تكذيب له فيحزنه ويخبرها به إلا ثبتته وخففت عنه وهونت عليه، وما زالت على ذلك حتى ماتت.

هوامش

(١) ألف باء ٨٣ ج٢.
(٢) الجزء الأول.
(٣) مشكاة المصابيح ١٠٠.
(٤) الكامل للمبرد ٢٧٨.
(٥) الكامل ٣١٦.
(٦) ألف باء ٢٠ ج٢.
(٧) الأغاني ١٤٩ ج٩ و٢٠٨ ج١٨.
(٨) الأغاني ٢٠٣ ج١٨.
(٩) الأغاني ١٧ ج١٤.
(١٠) الأغاني ٢٠ ج١٤.
(١١) ألف باء ٢١٠ ج٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤