آداب العرب في صدر الإسلام

الآداب الاجتماعية في العصر الإسلامي العربي

ينقضي هذا العصر بانقضاء دولة الأمويين في الشام سنة ١٣٢ﻫ، وقد علمت مما ذكرناه عن سياسة هذا العصر في الجزء الرابع أنها كانت عربية النزعة وقوادها عرب وعمالها عرب والسيادة فيها للعنصر العربي، وكذلك الآداب الاجتماعية، فقد كانت لا تزال عربية بدوية، أو هو دور الانتقال من البداوة إلى الحضارة، حاول العرب فيه البقاء على ما ألفوه في جاهليتهم من المناقب التي تقدم ذكرها، كالوفاء والجوار والكرم والنجدة والشجاعة والعفة، وكانت الحضارة وما تقتضيه من الترف والرخاء تغالب تلك المناقب، حتى غلبت على معظمها في أواسط العصر العباسي.

ويقسم العصر الإسلامي العربي إلى: أيام الراشدين، وأيام الأمويين، فنذكر الآداب الاجتماعية في كل منهما على حدة.

(١) الآداب الاجتماعية في عصر الراشدين

قلما أصاب المناقب البدوية تغيير في عصر الراشدين، إلا ما اقتضاه الدين من جمع كلمة العرب تحت لوائه، فضعفت بذلك العصبية بين القبائل والبطون، واجتمع العرب من قحطان وعدنان في ظل الإسلام، وأصاب الكرم في ذلك العصر تغيير اقتضاه عدل الراشدين ولا سيما عمر بن الخطاب، فإنه كان من الصرامة وحب العدل حتى يطالب العامل بالدرهم والدانق، وإذا علم أنه كسب مالًا من غير راتبه شاطره إياه، وكذلك كان علي بتدقيقه في محاسبة عماله وسائر رجاله، فكانوا لا يبذلون المال إلا لمن استحقه من أهل العطاء، فلم يكن لأصحاب الاستجداء عيش في أيامهم، وكان الصحابة يومئذ يقلدون الخلفاء في هذا التدقيق، وهو مخالف للسخاء والبذل، حتى اتهموهم بالبخل وما هو بخل، ولكنهم كانوا يرون إعطاء كل ذي حق حقه.

أما ما بقي من مناقب العرب فظلت على نحو ما كانت عليه، وبعضها زاد تمكنًا في نفوسهم، كالوفاء والنجدة والعفة والأنفة؛ لأن الإسلام زادها رونقًا وقوة بالعدل والتقوى، فكان الخليفة أو أميرُه إذا وعد وفى، وإذا عاهد أنجز، لا يثنيه عن ذلك طمع أو خوف؛ اعتبر ما كان من وفائهم لأهل الذمة، إذ عاهدوهم على أن يحموهم ما أدوا الجزية، فكانوا إذا شغلهم عن حمايتهم شاغل ردوا الجزية إلى أصحابها واعتذروا١ ولو لم يردوها ما طالبهم بها أحد، وإنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، والشجاعة كانت سائدة في ذلك العصر، لما كانوا فيه من الحاجة إليها في الفتح والجهاد، وقس على ذلك سائر المناقب، ولا سيما الاستقلال والحرية فإنهما زادا قوة في صدر الإسلام، لما توخاه الراشدون من التسوية بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم، حتى أصبحوا يخاطبون الخليفة أو الأمير بجسارة وأنفة كما يخاطبون بعض أقرانهم، وإذا رأوا فيه اعوجاجًا هددوه أو عنفوه وأصلحوه، فإذا لم يطعهم قتلوه كما فعلوا بالخليفة عثمان، وكثيرًا ما كان المسلمون يحصبون أميرهم وهو يخطب فيهم، إذا أنكروا شيئًا من أقواله أو أعماله.

(١-١) المرأة في عصر الراشدين

أما المرأة فاتجهت قواها في صدر الإسلام إلى سداد الرأي ومزاولة الأدب والشعر مع بقاء العفة والأنفة، فاشتهر منهن غير واحدة جرت بذكرهن الأمثال منهن عائشة أم المؤمنين، فقد كان لها عقل راجح وفيها دهاء وقوة، حتى رأست حزبًا كبيرًا من الصحابة وروت أحاديث كثيرة هامة.

وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله الصحابي الشهير، كانت مفرطة الجمال تقيم في المدينة ولها عقل ورأي وعلم واسع بأخبار العرب وأيامها وفي مطالع الكواكب وأحوالها، وكانت مع جمالها لا تستر وجهها عن الرجال لعظم قدرها وكبر نفسها، وكثيرًا ما كانت تجلس في قصرها فيتناضل بين يديها الرماة ويتفاخرون بما ينالون من إعجابها، وكانت إذا حجت يجيئها النساء الشواعر وغيرهن ويدخل الشعراء فتجيزهم الجوائز الكبيرة، وكان لها موكب لم يسمع بمثله في عصرها مؤلف من عدة مواكب، واحد لماشطتها وآخر لخازنتها وآخر لكل من كبار أتباعها، أما موكبها الخاص فهو كوكبة فيها ٣٠٠ راحلة عليها القباب والهوادج.٢
وسكينة بنت الحسين بن علي، وكانت معاصرة لعائشة بنت طلحة في المدينة وتسميان عقيلتي قريش،٣ وكانت عفيفة برزة تجالس الأجلة من قريش ويجتمع إليها الشعراء، وتأذن للناس إذنًا عامًّا حتى تغص الدار بهم فتأمر لهم بالأطعمة، ثم تطرح على الشعراء الأسئلة في الشعر والأدب وتنتقد أقوالهم وتجيزهم، وخبرها في ذلك مشهور.٤
وأسماء بنت أبي بكر، المعروفة بذات النطاقين وهي أم عبد الله بن الزبير، وفي مراجعة قولها لابنها هذا لما يئس من الفوز وهو محصور بمكة وجاء يستفتيها وتحريضها إياه على استقبال الموت بشرف دليل كاف على كبر نفسها وحزمها.٥
ونبغ بالشعر في ذلك العصر عدة نساء، كليلى الأخيلية والخنساء المتقدم ذكرها والفارعة المرية، واشتهر في البادية غير واحدة ممن كان يجتمع الرجال عندها للمناشدة أو المذاكرة على غير ريبة، فإذا توسمت في أحدهم انحرافًا منعته واحتجبت عنه، كما اتفق لأبي دهبل الجمحي مع عمرة الجمحية، وكانت امرأة جزلة يجتمع إليها الرجال لإنشاد الشعر، وكان أبو دهبل من أشراف بني جمح وكان لا يفارق مجلسها، وكانت تحبه وتتقدم إليه في كتمان حبها، فجاء نسوة كن يتحدثن إليها فذكرن لها شيئًا عن أبي دهبل وأنه يقول: إنها عاشقة له، فرفعت مجلسها وتركت مجالسة الرجال ظاهرة وضربت حجابًا بينها وبينهم.٦

ولما نضج التمدن الإسلامي اشتهر عدة نساء بالسياسة والصلاح والدهاء وغير ذلك مما ذكرناه في الأجزاء الماضية.

(٢) الآداب الاجتماعية في عصر الأمويين

أصاب المناقب العربية في الدولة الأموية تغيير يختلف عما أصابها في عصر الراشدين باختلاف أحوال الدولتين، فالأمويون لما جعلوا همهم الرجوع إلى ما كان لهم من السيادة في الجاهلية أغفلوا كل ما يخافون حيلولته بينهم وبين ذلك المرمى، واستبقوا ما يتوسمون منه نفعًا لغرضهم؛ فالكرم رأوا فيه وسيلة لجمع الأحزاب فنشطوه وتسابقوا إليه، فزادوا الأعطية وفرضوا الجوائز وأقاموا بيوت الضيافة، وأكثروا من السخاء على رؤساء الأحزاب والشعراء ومن يخافون سطوتهم ولا يقوون على قتلهم على ما بيناه في باب السخاء.

والشجاعة لم يكن لهم بد منها فقربوا أصحابها، والعصبية كانت ملجأهم الأكبر في مناوأة أعدائهم من شيعة علي وغيرهم، فبعد أن ضعفت في عصر الراشدين وقامت جامعة الدين مكانها أعادها الأمويون إلى نحو ما كانت عليه قبل الإسلام.

أما الوفاء فكان عثرة في طريق أغراضهم، لما كانوا يعلمونه من حق مناظريهم في الخلافة وقوتهم فلجأوا إلى الغدر والفتك، وكان معاوية زعيمهم ومؤسس دولتهم يفعل ذلك سرًّا ويموه غدره بالحِلم والكرم والدهاء وحسن الأسلوب، فتدرج الخلفاء بعده من بني مروان إلى الغدر جهارًا، وأول من فعل ذلك عبد الملك بن مروان،٧ وجرى عمالهم على هذه الخطة وأفرطوا فيها، فاشتهر بها منهم زياد بن أبيه وابنه عبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وغيرهم.

(٢-١) تقييد الأفكار في أيام بني أمية

أما الاستقلال وحرية القول فجاهد الأمويون في مقاومتهما وقيدوا الألسنة بإرادتهم تقييدًا شديدًا، فكان ذلك عظيمًا على الذين عاصروا الراشدين وتعودوا الحق والحرية، فعاقبهم الأمويون جزاء حريتهم واستقلال أفكارهم بالعذاب الشديد، ومن لم يستطيعوا مقاومته جهارًا قتلوه سرًّا؛ بدأوا بذلك من أيام عثمان قبل قبضهم على مقاليد الدولة في الشام، وقد جرأهم عليه ضعف هذا الخليفة ورغبته في إرضاء أهله ونصرتهم، ولولا ذلك ما استطاع معاوية اضطهاد أبي ذر الغفاري ونفيه؛ لأنه جاهر باستبداد أهل الدولة بأموال المسلمين.٨
فلما أفضت الخلافة إلى معاوية لم ير بدًّا من الضغط على أفكار أهل الاستقلال والحرية، واستعمل الشدة في ذلك فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما؛ لأنهم قالوا بحرية ضمير أن عليًّا لا يجوز لعنه على المنابر،٩ فأصبح الناس يخافون على أرواحهم وأخذوا يتعودون السكوت عن الحق، ثم لجأوا إلى التمويه والرياء حتى في المشهور الثابت، كما فعل ذلك الرجل لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد فأطرى عمل معاوية حتى قال: «إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها.» ولكن الحرية كانت لا تزال حية في نفوس أهل الرئاسة ممن لم يكن يهمهم التزلف إلى أهل الدولة، وربما كانت الدولة أحوج إلى نصرتهم، كالأحنف بن قيس التميمي فإنه كان يقول الحق ولا يبالي، وكان ممن شهد الاحتفال بتولية يزيد وسمع ما قاله ذلك المنافق فاكتفى بالسكوت عن المدح، وأدرك معاوية فكره فاستفهمه عن سبب سكوته فلم يبال أن قال: «أخاف الله إذا كذبت وأخافكم إذا صدقت …»١٠

واقتدى بمعاوية من عاصره من الأمراء أو جاء بعده من الخلفاء، فنشأ جيل من العرب يهون عليهم السكوت عن الحق، وكثر أهل الزلفى والرياء وذهبت حرية القول بتوالي الأعوام.

(٢-٢) النجدة والأريحية في أيام بني أمية

أما النجدة والأريحية فظلتا في العصر الإسلامي العربي متأصلتين في العرب، وإن اضطر الأمويون إلى الإغضاء عنهما في بعض الأحيان، أما على العموم فقد كانتا مرعيتين حتى عند أشد بني أمية استبدادًا وظلمًا، وفي أخبارهم كثير من أمثلة ذلك، منها أنه جيء إلى معاوية في يوم صفين بأسير من أهل العراق فقال معاوية: «الحمد لله الذي أمكنني منك.»

فقال الرجل: «لا تقل ذلك يا معاوية.»

قال: «وأي نعمة أعظم من أن يمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام.»

فقال الأسير: «اللهم اشهد أن معاوية لم يقتلني فيك وأنك لا ترضى بقتلي، وإنما يقتلني في الغلبة على حطام الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله.»

فقال له: «ويحك! لقد سببت فأبلغت ودعوت فأحسنت … خليا عنه.»

وكان معن بن زائدة قد أمر بقتل جماعة من الأسرى، فقام أصغر القوم فقال له: «يا معن، أتقتل الأسرى عطاشًا؟» فأمر لهم بالماء، فلما سقوا قال: «يا معن، أتقتل ضيفانك؟» فأمر معن بإطلاقهم.

وأتى الحجاج بأسرى من الخوارج فأمر بضرب أعناقهم، فقام فيهم شاب فقال: «والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في الذنب فما أحسنت بالعفو.» فقال الحجاج: «أف لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا؟» وأمسك عن القتل، وقس على ذلك.١١
وكثيرًا ما كانوا يعرضون أنفسهم للقتل رغبة في حسن الأحدوثة، ولا سيما عند النساء كما فعل عيسي بن مصعب بن الزبير وهو مع أبيه في مقاتلة محمد بن مروان بالعراق سنة ٧١ﻫ، إذ تحقق مصعب أنه مقتول فأوعز إلى ابنه عيسى أن يطلب النجاة فقال: «والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت في نفسي عنك.» فقال: «فاذهب أنت ومن معك إلى عمك في مكة فأخبره بما صنع أهل العراق ودعني فإني مقتول.» قال: «لا أخبر عنك قريشًا أبدًا، ولكن يا أبتي، الحق بالبصرة فإنهم على الطاعة أو الحق بأمير المؤمنين.» فقال مصعب: «لا تتحدث قريش أني فررت.» وحاربوا حتى قتلوا.١٢
وظلت الأريحية مرعية في أوائل الدولة العباسية، فإن الرشيد رفع القتل عن ربيعة بقصيدة رفعها إليه أحدهم استنهض بها أريحيته في العفو عنهم.١٣ ولما عزم المأمون على قتل إبراهيم بن المهدي — وكان مصممًا على قتله — شاور فيه أحمد بن أبي خالد الوزير فقال: «يا أمير المؤمنين، إن قتلته فلك نظراء وإن عفوت عنه فما لك نظير.»١٤ فعفا عنه.

فلما ضعف العنصر العربي في الدولة العباسية بعد تسلط الأجناد الأتراك، وتحولت الأغراض في أهل الدولة إلى كسب الأموال بأية وسيلة كانت، ذهبت الأريحية والنجدة، على أن ذهابهما بدأ من أيام أبي مسلم الخراساني … فكم استنجدوه واستحثوه ولم يفعل إلا ما يوصله إلى غرضه.

والشيخوخة ظلت مرعية ومحترمة إلى عصر العباسيين وما بعده، ولا تزال حتى الآن.

(٢-٣) المرأة في عصر الأمويين

بدأت المرأة بتبديل طباعها من أيام الأمويين؛ لأن العفة والغيرة أصابهما في ذلك العصر صدمة قوية بتكاثر الجواري والغلمان، وانغماس بعض الخلفاء في الترف والقصف وانتشار الغناء والمسكر، فتجرأ الشعراء على التشبيب والتغزل وتكاثر المخنثون في المدن، وتوسطوا بين الرجال والنساء بالباطل، فأخذ الفساد يفشو بين الناس وضعفت غيرة الرجال وقلت عفة الناس.

فقد رأيت أن المرأة كانت في الجاهلية وأوائل الإسلام تجالس الرجال وتخاطبهم وتذاكرهم والعرب لا يرون ذلك منكرًا،١٥ ولا تخامرهم فيه ريبة، وإذا توسم رجل من رجل نظرة إلى امرأته أو أخته بريبة طلبه للمبارزة أو المجالدة أو المصارعة١٦ (الدويلو Duello) فيتصارعان حتى يصرع أحدهما صاحبه وربما انتشب القتال بين القبائل غيرةً على نظرة كما حدث يوم الفجار الثاني،١٧ حتى الشعراء، فقد كانوا لا ينظمون النسيب أو الغزل إلا قليلًا، ويقال: إن امرأ القيس أول من شبب بالنساء١٨ ومهما يكن من ضعف هذا القول فهو يدل على بعد العرب الجاهلية عن الغزل لفرط غيرتهم، على أنهم قلما شببوا بعد ذلك إلا بحبيب أو خطيبة، وكانت مغازلة النساء نادرة فيهم، فإذا اتفق لأحدهم شيء من ذلك اشتهر أمره وذاع خبره، كما اشتهر العشاق والمجانين في صدر الإسلام، وربما تعشق بعضهم رغبة في شحذ قرائحهم الشعرية، على أن تشبيبهم في كل حال لم يكن عن ريبة أو فاحشة.١٩

وكانوا يتفاخرون بالعفة وإمساك هوى النفس، وقد يجتمع الحبيبان بعد طول البعد واحتدام الشوق فيجلسان ويتعاتبان ويتحادثان ثم ينصرفان، وأشهر الناس في ذلك بنو عذرة، وأكثر عشاق العرب منهم.

(٢-٤) التشبيب

فكان العرب الجاهلية قلما يشببون بغير خطيباتهم، فإذا شبب أحدهم بفتاة قبل أن يخطبها منعوه منها،٢٠ وكان الخلفاء الراشدون حريصين على آداب القوم، فجعلوا التشبيب ذنبًا يستوجب القصاص، وكان عمر بن الخطاب لا يسمع بشاعر شبب بامرأة إلا جلده،٢١ ونظرًا لقلة من يجسر على وصف النساء في شعره كان الشاعر إذا شبب بامرأة اشتهرت فتتزوج، ولذلك كان بعض الآباء يطلب من الشاعر أن يشبب ببناته ليتزوجن.

فالعرب على فطرتهم وطبيعة إقليمهم وطرق معايشهم أهل عفة، والنساء يجتمعن بالرجال في المجالس والأندية على غير ريبة، حتى في الكعبة، فكانوا يطوفون معًا لا يرون بذلك بأسًا؛ لأن العفة كانت غالبة على طباعهم، فلما جاءهم الترف وأخذوا بأطراف الحضارة وعمدوا إلى التسري والاستكثار من الجواري تغيرت تلك الطباع، فلما كانت إمارة خالد القسري على مكة في خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي بلغه قول بعض الشعراء:

يا حبذا الموسم من موقف
وحبذا الكعبة من مسجد
وحبذا اللاتي يزاحمننا
عند استلام الحجر الأسود
فأمر بالتفريق بين الرجال والنساء في الطواف.٢٢
وفي أيام بني أمية تجرأ الشعراء على التشبيب بالنساء، لا سيما في المدينة بعد انتشار الغناء فيها وإقبال أهلها على القصف واللهو، ومما زاد إنكارهم للتشبيب أن الشاعر إذا نظم أبياتًا تغنى بها المغنون في مجالس الشراب، وأول من تجرأ على التشبيب من الشعراء القرشيون، وأسبقهم إلى ذلك ابن أبي عتيق حفيد أبي بكر الصديق، وكان من أهل الطهارة والعفاف وإنما كان يتشبب عن غير ريبة، واقتدى به عمر بن أبي ربيعة وهو قرشي أيضًا، وكان كثير النسيب والغزل ومن سمع كلامه ظنه من أجرأ الناس على فاحشة، وهو لم يحل إزاره على حرام،٢٣ واقتدى به العرجي وهو من قريش أيضًا،٢٤ ونبغ شعراء آخرون من غير قريش وأخذوا يشببون بالنساء رويدًا رويدًا.

ولم يكن الخلفاء في أول الأمر راضين عن ذلك لتغلب البداوة على أخلاقهم، فأخذوا يقاومون تيار الترف بكل قواهم، ولكنهم كانوا يدارون الشعراء رغبة في اكتساب الأحزاب على أيديهم، فلا يمنعونهم من التشبيب إلا إذا مس عرضهم، ومع ذلك فالدهاة منهم كانوا يتلطفون في دفعهم، ومن لطيف ما يُحكى من هذا القبيل أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت شبب بابنة معاوية وهو خليفة في إبان مجده، وبلغ ذلك ابنه يزيد فغضب ودخل على أبيه وقال: «يا أمير المؤمنين اقتل عبد الرحمن بن حسان.»

قال: «ولم؟»

قال: «شبب بأختي.»

قال: «وما قال؟»

قال: «قال:

طال ليلي وبت كالمحزون
ومللت الثواء في جيرون»٢٥

قال معاوية: «يا بني، وما علينا من طول ليله وحزنه؟ أبعده الله!»

قال: «صدق يا أبي.»

فلذلك اغتربت بالشام حتى
ظن أهلي مرجمات الظنون

قال: «يا بني، وما علينا من أهله؟»

قال: «إنه يقول:

هي زهراء مثل لؤلؤة الغوا
ص ميزت من جوهر مكنون»

قال: «صدق يا بني.»

قال: «إنه يقول:

وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون»

قال: «صدق يا بني، هي هكذا!»

قال: «إنه يقول:

ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ
ـراء تمشي في مرمر مسنون»

قال: «ولا كل هذا يا بني!»

وما زال يزيد يذكر له ما قاله فيها من التشبيب وهو يدافعه ويظهر أنه لا يرى فيه ما يستحق العقاب عليه، ثم كلمه بعض خاصته بشأنه وأكبروا جسارته وقالوا: «لو جعلته نكالًا.» فقال: «لا، ولكن أداويه بغير ذلك.» واتفق أن عبد الرحمن المذكور وفد على معاوية، وكان يدخل في أخريات الناس، فاستقبله أحسن استقبال وأجلسه على سريره معه وأقبل عليه بوجهه وحديثه ثم قال: «إن ابنتي الأخرى عاتبة عليك.» قال: «في أي شيء؟» قال: «في مدحك أختها وتركك إياها.» قال: «فلها العتبى وكرامة، أنا ذاكرها وممدها.» فلما فعل وبلغ ذلك الناس قالوا: «قد كنا نرى أن تشبيب ابن حسان بابنة معاوية لشيء، فإذا هو على رأي معاوية وأمره.» وعلم من كان يعرف أنه ليس له بنت أخرى، وأنه إنما خدعه ليشبب بها ولا أصل لها، فعلم الناس أنه كذب على الأولى لما ذكر الثانية. وشبب أبو دهبل الجمحي أيضًا بابنة معاوية فعامله باللين وقطع لسانه بالعطاء.٢٦

فقس على ذلك سائر خلفاء بني أمية وأمرائهم، مما يدل على غلبة طبائع البدو في الأمويين، مع أخذهم بأطراف المدنية واختلاطهم بالأمم الأخرى وقربهم من أسباب القصف، وكأن تلك الأسباب أخذت بعقول الشعراء فلم يكونوا يقعدون عن التشبيب مع تعرضهم للخطر، وقلما كان يجسر على ذلك غير القرشيين، وأكثرهم جسارة عمر بن أبي ربيعة المتقدم ذكره، فإنه كان يصطحب ابن سريج المغني فيركبان على نجيبين ويلقيان الحاج فيعرضان للنساء وينشدان الأشعار لا يبالون أن تكون فيهن بنت الخليفة أو امرأته.

والظاهر أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لما يرون من ارتياح النساء إليه؛ لأن المرأة تفتخر بأن يثني الشعراء على جمالها وإن لم يرض أهلها، فقد كان لعبد الملك بن مروان بنت أرادت الحج فخاف أن يشبب بها ابن أبي ربيعة، فاستكتب الحجاج إليه إن هو فعل ذلك أصابه بكل مكروه، فلما قضت حجها خرجت فمر بها رجل فقالت له: «من أنت؟» فقال: «من أهل مكة.» قالت: «عليك وعلى أهل بلدك لعنة الله!» قال: «ولِمَ ذاك؟» قالت: «حججت فدخلت مكة ومعي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهن فلم يستطع الفاسق ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتًا نلهو بها في الطريق من سفرنا.» قال: «إني لا أراه إلا قد فعل.» قالت: «فأتنا بشيء إن كان قاله، ولك بكل بيت عشرة دنانير.» فمضى إليه فأخبره فقال: «لقد فعلت ولكن أحب أن تكتم عليَّ.» وأنشده قصيدة قالها فيها.٢٧
وممن اشتهر بتعرضه للنساء والتشبيب بهن في ذلك العصر الأحوص، كان يشبب بنساء ذوات أخطار من أهل المدينة فشكوه إلى سليمان بن عبد الملك فأمر بالقبض عليه وجلده ثم نفاه.٢٨ ووضاح اليمن، كان يشبب بأم البنين امرأة الوليد بن عبد الملك، وهم الوليد بقتله فمنعه ابنه عبد العزيز وقال: «إن قتلته فضحتني وحققت قوله وتوهم الناس أن بينه وبين أمي ريبة.» فأمسك عنه على غيظ وحنق، حتى بلغه أنه تعدى أم البنين إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك، وكانت زوجة عمر بن عبد العزيز وقال فيها:
بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخليفة والخليفة بعلها
فرحت قوابلها بها وتباشرت
وكذاك كانوا في المسرة أهلها
فاحتنق واشتد غيظه وقال: «أما لهذا الكلب مزدجر عن ذكر نسائنا وأخواتنا ولا له عنا مذهب؟» ثم دعا به فأحضر وأمر ببئر فحفرت ودفنه فيها حيًّا.٢٩
فكانت أيام بني أمية من حيث العفة والغيرة عصر انتقال من البداوة إلى الحضارة، فلما انقضى عصر الأمويين ذهب ما بقي من سذاجة البداوة في طبائع العرب، واستسلم الناس للترف والرخاء وضعفت الغيرة وأبيح التشبيب وشاع على ألسنة الشعراء، حتى صاروا يصدرون به قصائد المدح والفخر، وكان الخلفاء الأولون من بني العباس لا يزالون على مقربة من البداوة فأنكروا ذلك ونهوا عنه، ومن أشدهم غيرة المهدي بن المنصور فإن بشارًا أنشده مديحًا فيه تشبيب فنهاه عن التشبيب البتة،٣٠ فظل التشبيب مستقبحًا حتى أباحه الرشيد وألح في نظمه،٣١ فآل ذلك طبعًا إلى ضعف الغيرة.

(٣) الآداب الاجتماعية في العصر العباسي

قد رأيت ما أصاب المناقب العربية الفطرية من التغير بعد الإسلام، بما طرأ عليها من عوامل الحضارة والانغماس في الرخاء والقصف والاختلاط بأهل المدن، فغلبت عليهم الضعة وركنوا إلى بسطة العيش والتنعم بمطالب الحياة المادية، وزادهم العلم والفلسفة والطب تباعدًا عن البداوة وخشونتها وسذاجتها، وقضت سياسة العباسيين بمراعاة الفرس وغيرهم ممن نصروهم في قيام دولتهم وتشتيت شمل العرب، فذهبت العصبية العربية، واستلزمت رغبتهم في بقاء دولتهم العدول إلى الفتك والغدر على ما فصلناه في الجزء الرابع، فذهبت مناقب العرب ولم يبق من الوفاء والشجاعة والاستقلال والأنفة والعصبية والنجدة إلا آثار ضعيفة.

(٣-١) المرأة في العصر العباسي

وآل تكاثر الجواري وشيوع التسري إلى ذهاب الغيرة من قلوب الرجال، حتى صاروا يتهادون الجواري الروميات والتركيات والفارسيات وهن أجمل صورة وأشرق وجهًا من نساء العرب، فبعد أن كان الرجل لا يعرف غير امرأته والمرأة لا تفكر في غير زوجها وهي واثقة بأمانته، إذا هو قد تشتتت عواطفه بين عدة نساء فقلت غيرته عليها، ولما رأته مشغولًا عنها قلت ثقتها به إلا من عصمها عقلها وشرفها، فلم ينضج التمدن في العصر العباسي حتى تنوسيت المرأة العربية في المدن، وذهبت حريتها وغيرتها وصارت هي نفسها تهدي زوجها الجارية وتحبب إليه القرب منها، لا يهمها ذلك ولا تغار منه،٣٢ وبعد أن كان العرب في الجاهلية وصدر الإسلام إذا علموا بحب رجل فتاة منعوه من زواجها صاروا يساعدونه في الحصول عليها.٣٣

فأفضى ذلك إلى انحطاط المرأة وذهاب عزة نفسها واستقلال فكرها، فاحتقرها الرجل وأساء الظن بها وصار يعدها عدوة له، ويوصي بعدم الإركان إليها، فيعاشرها على غل وسوء رأي، يقفل عليها الأبواب والنوافذ، ويسد في وجهها الطرق والمسالك، ويمنعها من الخروج أو الكلام، وهو صاحب الذنب في انحطاطها، فأصبح الطعن في طباع المرأة وسوء سريرتها شائعًا على ألسنة الناس، حتى ألفوا فيه الروايات والأقاصيص ونظموا الشعر، وتفننوا في وضع الجمل الحكمية والعبارات البليغة في تحذير الناس من المرأة وعدم الوثوق بها، وهذه هي قصة ألف ليلة وليلة تمثل حال المرأة في الأعصر الإسلامية الوسطى، بعد شيوع التسري وانغماس المسلمين في الترف، وأما الأشعار فإليك ما قاله أبو العلاء المعري:

إذا بلغ الوليد لديك عشرًا
فلا يدخل على الحرم الوليد
وإن خالفتني وأضعت نصحي
فأنت، وإن رزقت حجي، بليد
ألا إن النساء حبال غي
بهن يضيع الشرف التليد٣٤
وأصبح الكاتب إذا أراد تعزية صديق على فقد بنت له قال ما قاله أبو بكر الخوارزمي، إذ كتب إلى رئيس بهراه يعزيه في بنته وهو قوله:

ولولا ما ذكرته من سترها ووقفت عليه من غرائب أمرها، لكنت إلى التهنئة أقرب من التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، ونحن في زمان إذا قدم أحدنا فيه الحرمة فقد استكمل النعمة، وإذا زف كريمة إلى القبر، فقد بلغ أمنيته من الصهر، قال الشاعر:

ولم أر نعمة شملت كريمًا
كنعمة عورة سترت بقبر

وقال آخر:

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقًا
والموت أكرم نزال على الحرم

وقال آخر:

وددت بنيتي وودت أني
وضعت بنيتي في لحد قبر

وقال آخر:

ومن غاية المجد والمكرمات
بقاء البنين وموت البنات

وقال آخر:

سميتها إذ ولدت تموت
والقبر صهر ضامن وبيت٣٥

هذا مثال من آراء أدباء المسلمين وشعرائهم في المرأة بين القرنين الرابع والخامس للهجرة.

فلم يبق من المناقب العربية في العصر العباسي إلا السخاء؛ لأنه كان لازمًا لقوام الدولة وسلامتها وتأييدها، بل هو كان من أهم قواعد الارتزاق في ذلك العصر.

(٣-٢) الارتزاق بالسخاء

إن الارتزاق في التمدن الحديث مبني على قواعد اقتصادية عمرانية تحفظ توازن القوى ونتائجها، فينال الإنسان من رزقه على مقدار كده وجده مع اعتبار درجة عقله وذكائه، سواء كان ذلك بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها، وقد وضعوا لكل من أبواب الرزق قواعد في تقدير الأرباح لا تتعداها إلا في أحوال خاصة ترتفع فيها الأسعار فجأة كما حدث بمصر لهذا العهد (حوالي ١٩١٠)، وعلى أي حال فالصانع تقدر أجرته بمقدار عمله، والتاجر يقدر ربحه بنسبة رأس ماله.

أما في التمدن الإسلامي فقد كان الارتزاق يقرب من ذلك في طبقة العامة من المزارعين والباعة وأهل الصناعات، وأما في الخاصة وأتباعهم فكان على أسلوب آخر لا مثيل له بين المتمدنين في هذا العصر، ومداره «السخاء» المتسلسل من الخلفاء فالوزراء فمن بعدهم ممن يعيشون حول البلاط ويرتزقون من رجال الدولة، ومصدر هذه الأرزاق بيت المال، وهو في قبضة الخليفة أو من يقوم مقامه من الوزراء أو القواد أو الأمراء على حسب أطوار النفوذ، والأموال تأتي بيت المال من جباية الخراج والجزية، وقد رأيت في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن متوسط جباية الدولة في العصر العباسي الأول بلغ نحو ٣٦٠ مليون درهم في العام، لا ينفق منها على مصالح الدولة أكثر من ٥٠ مليونًا، فالباقي ٣٠٠٠٠٠٠٠٠ درهم تبقى في بيت المال تحت تصرف الخليفة، وأكثرها من جباية الخراج، وكان الخراج في العصر المذكور ثقيلًا؛ لأنهم كانوا يقاسمون الناس غلاتهم بالنصف أو الثلث، وذلك في نظر أهل هذا الزمان ظلم، ولكن أهل ذلك العصر لم يشعروا بثقله بل كانوا يعدونه رفقًا؛ لأن العباسيين نقلوا الخراج من المساحة إلى المقاسمة، فبعد أن كان الحكام قبلهم يقتضون خراج الأرض زرعت أم لم تزرع، حصروا الخارج في الأرض المزروعة وجعلوه شطرًا من غلتها.٣٦

سنة العرب في الارتزاق

والأموال التي تبقى في خزانة الدولة يُعطى بعضها رواتب لموظفيها، ويفرق سائرها فيمن بقي من الخاصة بين جوائز ورواتب، فتتسع أحوالهم بالجاه أكثر منها بالمال، فيضطرون إلى الإنفاق لحفظ مقامهم، فينفقون على من يتعلق بهم، فينتقل المال على هذه الصورة من الخليفة ووزرائه وعماله إلى حواشيهم وأتباعهم، ومن هؤلاء إلى الباعة وأهل الأسواق فيعود إلى العامة كأنه لم يُؤخذ منهم، وهي سنة في الارتزاق تظهر لأول وهلة أنها من خصائص التمدن الإسلامي، ولكنها كانت على نحو ذلك في التمدن القديم، فأهل أثينا وهم خاصة اليونانيين كانوا لا يعملون عملًا ولا يحترفون حرفة في سبيل الرزق، وإنما كانت أرزاقهم من خزانة الدولة يتناولونها رواتب في أوقات معينة، أو هبات في أوقات غير معينة، على مقتضيات الأحوال أو على ما يلحقهم من الغنائم ونحوها، ولم يكن لهم شغل غير سماع الخطب السياسية أو العلمية والتمشي في حدائق المدينة وحضور الاحتفالات الرسمية ونحوها،٣٧ ولكن ذلك كان محصورًا في أثينا أو غيرها من العواصم الكبرى، أما المسلمون فتوسعوا فيه حتى شمل كل مدينة وكل طبقة، لتمكن السخاء في نفس العربي، ولأن هذه السنة كانت شائعة عند العرب من أيام الجاهلية، فأمير القبيلة كان يغزو بقبيلته، فما وقع له من مال وماشية فرقه في كبار رجاله، وهؤلاء يفرقونه في أهلهم وأتباعهم، ولذلك ذكروا من سنن العرب في الارتزاق أنهم «نهابون وهابون» وكان العرب يكرهون اختزان الأموال ويعدونه قبيحًا.٣٨

والسبب في بقاء هذه السنة مع ذهاب غيرها من المناقب، أنها لازمة لبقاء الدول في تلك العصور، وخصوصًا في الإسلام منذ طمع بنو أمية في الخلافة واستخدموا الأموال في ابتياع الأحزاب واسترضاء كبار الرجال، فعودوا الناس العطاء، فلما قام العباسيون لم يستطيعوا الرجوع عنه، بل تجاوزوه من بعض الوجوه، فصار السخاء ضروريًّا لقيام الدولة وإلا فسد عليها حماتها وتمرد أهلها.

وكان الصحابة في عصر الراشدين لا يرون اختزان المال، جريًا على سنة العرب أو عملًا بحديث رواه قيس بن عاصم بهذا المعنى وهو قول النبي : «نعم المال الأربعون، والأكثر الستون، وويل لأصحاب المئين.»٣٩ ولذلك كان الخلفاء الراشدون لا يبقون في بيت المال شيئًا، على أن المسلمين في أيامهم كانوا مشتغلين بما بين أيديهم من الغنائم، وكانوا لا يزالون في دهشة النبوة والإخلاص في الجهاد والخراج في أيامهم معتدل، فلم يكن يفيض منه شيء كثير، فلما طمع الأمويون في الملك اتخذوا كل وسيلة لجمع المال والاستكثار منه، وزادوا أعطيات الجند ووهبوا وأجازوا، وضاعفوا رواتب أبناء الصحابة وغيرهم من القرشيين أصحاب النفوذ، فكان هؤلاء يتوسعون في الإنفاق ببناء القصور واقتناء الخدم والجواري، ويهبون الشعراء والندماء والحاشية والأتباع فيذهب ذلك المال كما أتى.
كذلك كان يفعل عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص٤٠ فيفد أحدهم على معاوية أو يزيد فيؤدي له عطاءه، وربما أهداه هدية سنية، فيعود إلى بلده ويفرق المال جميعه في أهله وأعوانه،٤١ وكان الخلفاء يعرفون ذلك، ويعدون عطاءهم لهؤلاء عطاء لأهل المدينة،٤٢ وليس ذلك خاصًّا بفئة منهم، بل كان شاملًا الأكثرين، حتى النساء من بنات الصحابة كسكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وغيرهما، فكانت عائشة هذه تفد على الخليفة وربما كانت في ضيق، فتشكوا إليه فراغ يدها فيأمر لها بمائة ألف درهم مثلًا، فلما تعود إلى الحجاز يأتيها الشاعر أو الفارس فتعطيه الألف بعد الألف حتى تستنفد ما جاءت به،٤٣ حتى الشعراء كانوا يبذلون بعض جوائزهم فيمن حولهم، ولذلك كانوا مع كثرة ما يصل إلى أيديهم من المال لا يزالون مدينين ويموت أكثرهم فقراء.٤٤
ولما أفضى الأمر إلى العباسيين ساروا على هذه السنة في الأعطيات والجوائز، وزادوا مقاديرها لتوفر الثروة في أيامهم، وكان أصحابهم يفرقونها في الناس، فموسى الكاظم كان يقيم في المدينة ويفد على بغداد فيرده المهدي مثقلًا بالأموال، فلما يصل إلى المدينة يجعلها صررًا يفرقها في أهلها،٤٥ وكانوا يفعلون ذلك مع العمال والكتاب والشعراء والمغنين، وهؤلاء ينفقون المال بالسخاء على تفاوت في درجاته وسائر أحواله، وربما أنفقوا بعضه في حاشية الخليفة أو غلمانه،٤٦ ليسهلوا لهم الدخول عليه.

استرضاء العامة بالطعام

فكان الخلفاء أو الأمراء يعدون السخاء على العامة والخاصة فرضًا يؤيدون به سلطتهم، أما العامة فكانوا يسترضونهم بأبسط أساليب السخاء وهو الضيافة، فكانوا ينصبون لهم الموائد يدعونهم إلى الطعام، فيجتمع على مائدة الأمير ألوف من العامة يأكلون معًا صباحًا ومساء، ذلك كان دأبهم من عصر الراشدين، جروا به على سنة العرب ثم احتاجوا إليه بعد الإسلام في استرضاء القبائل المختلفة، فبالغوا فيه حتى نصبوا الموائد على الطرق، وأول من فعل ذلك عبيد الله بن عباس،٤٧ واشتهر في صدر الإسلام غير واحد من الأجواد ممن كانوا يقبضون الأعطية الكبيرة من خلفاء بني أمية فينفقونها في البذل والسخاء، وقد تقدم ذكر بعضهم.
وجرى الدهاة من عمال الأمويين على هذه السنة، فنصبوا الموائد على الطرق، فكان الحجاج يضع في كل يوم من أيام رمضان ألف خوان، وفي سائر الأيام خمسمائة خوان، على خوان عشرة أنفس وعشرة ألوان وسمكة مشوية طرية وأرزة بسكر، وكان يدور هو بنفسه على الموائد يتفقدها، يحملونه إليها في محفة وينتقلون به من خوان إلى خوان، فإذا رأى أرزة ليس عليها سكر أمر الخباز أن يجيء بسكرها، فإذا أبطأ حتى أُكلت الأرزة بلا سكر أمر به فضُرب ٢٠٠ سوط، وكذلك كان يفعل عمال الحجاج في سائر المدن، فكان بعضهم ينصب الموائد مرتين في اليوم للغداء والعشاء.٤٨ وكان يوسف بن عمر عامل هشام بن عبد الملك ينصب خمسمائة خوان،٤٩ وكان يزيد بن هبيرة يضع ألف خوان يطعم الناس٥٠ وقس على ذلك سائر العمال وغيرهم، كابن طولون بمصر، فقد كانت له موائد يحضرها الخاص والعام،٥١ وربما فرقوا الطعام بلا موائد كما كان يفعل لؤلؤ الحاجب في أيام الفاطميين بمصر، فإنه كان يفرق ١٢٠٠ رغيف مع قدر الطعام كل يوم، وإذا دخل رمضان أضعف ذلك ويقف هو بنفسه ليفرقه،٥٢ هذا غير ما كانوا يبذلونه في استرضاء العامة من الأموال على سبيل الصدقة، فكان لكل من الخلفاء والأمراء والوزراء مال ينفقه صدقة كل يوم، على ما قدمناه في الجزء الثاني من الكتاب، وربما فعل بعضهم ذلك لمجرد الرغبة في الأجر أو عملًا بمقتضى الأريحية.
وإطعام العامة على هذه الصورة لم يكن خاصًّا بالمسلمين، وإنما هو أيضًا من سنن الأعصر الغابرة، فقد كان العامة في رومية يعيشون من أطعمة يفرقها فيهم أهل الدولة من الدقيق واللحم، وكان بعض ملوك الفرس ينصب ٥٠٠ مائدة يجعل على كل واحدة نصف شاة وجام حلوى أو عسل وعشرة أرغفة وآنية شراب أو لبن وسمكة مصنوعة،٥٣ والمسلمون جروا على هذا الترتيب اقتداء بالفرس، مثل اقتدائهم بهم في كثير من آدابهم الاجتماعية.
وأما الخاصة أو من جرى مجراهم من المقربين غير الموظفين، فكان الخلفاء يهبونهم الهبات أو يعينون لهم الرواتب لتقييد إرادتهم٥٤ كما تقدم، ولذلك كان أهل الأنفة يكرهون صلات الخلفاء ويبعدون عن جوائزهم رغبة في الاستقلال، وأكثر ما يقع ذلك لأهل البادية الذين لم تذلهم الحضارة، ولا سيما بعد نكبة البرامكة، فقد طال حديث الناس يومئذ بأمرهم وغلب على اعتقادهم أن من يثري من هبات الخلفاء تكون حياته في خطر؛ ذكروا بدويًّا عيرته امرأته بفقره لبعده عن جوائز الخلفاء إلى أن قالت: «هذا فلان قد أخذ الأموال فحلى نساءه وبنى داره واشترى ضياعًا، وأنت ههنا كما ترى …» وكانت امرأته باهلية فأنشأ يقول:
تلوم على ترك الغنى باهلية
ذوى الفقر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الثرا
مقلدة أعناقها بالقلائد
أسرك أني نلت ما نال جعفر
من العيش أو ما نال يحيى بن خالد؟
وأن أمير المؤمنين أغصني
بغصهما بالمشرفات النوارد؟
رأيت رفيعات الأمور مشوبة
بمستودعات في بطون الأساود
دعيني تجيء منيتي مطمئنة
ولم أتجشم هول تلك الموارد٥٥

الهبات والدين

على أن الفقهاء وأهل التقوى كانوا في صدر الإسلام وأوائل دولة بني أمية يعدون صلات الخلفاء رشوة ويترددون في قبولها، فما لبثوا أن ذاقوا حلاوتها حتى صاروا يتفاخرون بنيلها، قال ذو الرمة:

وما كان مالي من تراث ورثته
ولا دية كانت ولا كسب مأتم
ولكن عطاء الله من كل رحلة
إلى كل محجوب السرادق خضرم٥٦
ثم صاروا يتزلفون إلى أصحاب الأموال ويستنجدونهم رغبة في الارتزاق، فبعضهم ينال رزقه صلة أو جائزة، وآخرون يقبضونه راتبًا معينًا، وهؤلاء على الغالب من أهل البأساء وأيتامهم وأراملهم،٥٧ أو زعماء القبائل ورؤساء الأحزاب على ما يوافق مصلحة الخليفة والأمير أو يتوسم فيه الأجر والثواب، فكان بعضهم يفرض الفروض لأولاد الأنصار والمهاجرين، وغيره يعطي العلويين أو الطالبيين، وغيره يعطي قريشًا أو اليمن، وقس عليه، فكان ابن عيسى وزير المقتدر يعطي الطالبيين والعباسيين وأبناء الأنصار،٥٨ وكان ابن الفرات يعطي الفقهاء والعلماء والفقراء وأهل البيوتات، أكثرهم مائة دينار في الشهر وأقلهم خمسة دراهم وما بين ذلك،٥٩ وكان لكافور الإخشيدي بمصر مال خاص يجري منه الأرزاق على من يأتيه ناقمًا على الخليفة ببغداد أو غيره.٦٠
ولهذه الأسباب كان الخلفاء يستحلون إجازة الشعراء وغيرهم من بيت المال؛ لأنهم يعدون ذلك في سبيل مصلحة الدولة وإن لم يصرحوا به دفاعًا عن أنفسهم، بل كانوا إذا سمعوا الانتقاد عليهم من أهل النفوذ الديني سكتوا واسترضوهم ودافعوا عن أنفسهم، كما فعل الرشيد والمهدي بسفيان الثوري.٦١

ارتزاق الكبير من الصغير

ذلك ما يقال في ارتزاق الصغير من الكبير في التمدن الإسلامي، أما ارتزاق الكبير من الصغير فقد كان بعضه بالسخاء أيضًا، ولكن على سبيل الهدية، فيعدون عطية الأمير إلى الصغير جائزة أو صلة، ويسمونه ما يقدمه الأصاغر إلى الأمير والوزير هدية، وكانت الهدايا شائعة على الخصوص في العصر العباسي، فإذا تولى الأمير على بلد فأول ما يدخلها يبعث أهلها إليه بالهدايا من الأموال والجواري والدواب والثياب،٦٢ وهو يبعث إلى الوزير الذي ولاه أو الخليفة بالأموال بسبيل الهدية أيضًا، وإذا طال مقامه أصبحت تلك الهدايا فرضًا واجبًا يبعث بها كل سنة، فإذا أمسكها سنة عدوا إمساكه تمردًا.٦٣

فالسخاء كان سنة عامة في عهد ذلك التمدن، لا يستثنى عنه عصر أو طائفة، وإن تفاوتت مقاديره واختلفت صوره وأشكاله باختلاف العصور، فكانت العطايا في أول عهد الأمويين الإبل والخيل والماشية، فيأمر الخليفة أو الأمير لمن يستجديه بلقحة وفحلها وراعيها، أو جارية وفرس، غير ما فرضوه من الأعطيات فإنها كانت تعطى عينًا أو ورقًا، ثم صارت في أواسط الدولة تخوت الثياب من الوشي ونحوه والوصائف فضلًا عن النقود، وصارت في بني العباس البدر من الدنانير وعقود الجوهر وتخوت الديبقي والقصور والضياع وغيرها.

(٣-٣) المجاملة في المعاملة

المجاملة من الطباع الراسخة في نفوس العرب، وذهب بعض الباحثين إلى أنها فطرية في أصل أرومتهم، وما هي كذلك وإنما تولدت فيهم بتوالي الأجيال وتقلب الأحوال؛ لأن العرب كانوا مفطورين على استقلال الفكر وحرية الرأي كما رأيت، وظلوا على ذلك إلى انقضاء عصر الراشدين، ثم أخذت أفكارهم في الانحباس وعقولهم في التقيد من عصر الأمويين، لما اقتضاه طمع بني أمية في الملك من الشدة والحيلة، فاضطر الناس للمداجاة والتمويه، وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يداجون الناس ويجاملونهم، رغبة في نصرتهم أو قطع ألسنتهم ويعدون ذلك «حلمًا».

وأشهر الحلماء وأقدمهم معاوية بن أبي سفيان، فقد ذكرنا في الجزء الرابع أنه كان يسمع طعن أهل البيت وغيرهم من رؤساء الأحزاب فيه وفي دولته ويغضي، وربما أحسن إلى الطاعنين أو تظاهر بالاستخفاف، كما فعل بشعبة بن غريض، وكان في الكعبة ومعاوية هناك، فبعث يدعوه فأتاه رسوله فقال: «أجب أمير المؤمنين.»

قال: «أوليس قد مات أمير المؤمنين؟» (يعني عليًّا) فقال له: «أجب معاوية.» فأتاه ولم يسلم عليه بالخلافة، فقال له معاوية: «ما فعلت أرضك التي بتيماء؟» قال: «يكسى منها العاري ويرد فضلها على الجار.» قال: «أتبيعها؟» قال: «نعم.» قال: «بكم؟» قال: «بستين ألف دينار، ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها.» قال: «لقد أغليت.» قال: «أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تبال.» قال: «أجل وإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه.»

فأنشده تلك الأبيات فأعجب بها معاوية وقال: «أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك.» قال: «كذبت ولؤمت!» قال: «أما كذبت فنعم، وأما لؤمت فلِمَ؟» قال: «لأنك كنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الإسلام، أما في الجاهلية فقاتلت النبي والوحي حتى جعل الله كيدك المردود، وأما في الإسلام فمنعت ولد رسول الله الخلافة، وما أنت وهي أنت طليق ابن طليق؟» فقال معاوية: «قد خرف الشيخ فأقيموه.» فأُخذ بيده فأقيم.

وكان معاوية إذا أعجزه اصطناع الأحزاب بالعطاء أو بالحلم أو بالسيف جهارًا عمد إلى قتلهم غيلة، وكان أنصاره يعرفون ذلك فيه وأنه يصانعهم ليغلب بهم، فكانوا يصانعونه طمعًا في مال أو منصب، فكانت المصانعة والمداجاة أساس سياسة معاوية، وقد قواهما واستثمرهما بدهائه وحزمه ففاز، وتحدث المسلمون بحلمه وسعة صدره وجعلوه قدوتهم، والناس على دين ملوكهم، فكثر الميل إلى المصانعة في ذلك العصر، وهي على الغالب بين الدولة ورجالها، على أن الأريحية كانت تحول دون تمكنها.

فلما قام الفرس لمناهضة الأمويين ونصرة العباسيين أغضى أبو مسلم عن الوفاء والأريحية وقتل على التهمة، فأصبح الناس يخافون على حياتهم وإن لم يقترفوا ذنبًا، فزادت حاجتهم إلى المصانعة، ولما فاز أبو مسلم بحزبه وسلم مقاليد الدولة إلى العباسيين، كانت فوضى بينهم وبين العلويين، فلما تقلدها المنصور وطمع في استخلاصها للعباسيين فتك بأبي مسلم ثم قتل من قتله من العلويين، وهم لا يستغنون عن الفرس لنظام حكومتهم وحماية دولتهم، فاستخدموهم على غل ولجئوا في الاحتراس منهم واتقاء أذاهم إلى الجاسوسية، فبثوا الأرصاد على وزرائهم وعمالهم، يستطلعون أخبارهم ويبعثون بها إليهم سرًّا، والأرصاد نوعان؛ الأول: أصحاب البريد في الأطراف والعمال يعلمون أنهم رقباء على أعمالهم، والثاني: العيون الخفية يتخذونهم من الجواري والغلمان مما يقدمه الخليفة هدية إلى وزيره أو عامله، فيوليهم الوزير بعض شئون منزله فيدخلون في جملة الندماء أو المغنين أو القيان أو أصحاب الشراب، ويكونون رقباء عليه ينقلون أخباره سرًّا إلى الخليفة، وكان الوزراء يفعلون نحو ذلك بالخلفاء.

فشيوع الجاسوسية على هذه الصورة مع المضاغنة والتحاسد بعث على المصانعة والمجاملة، وازداد ذلك على الخصوص بعد ذهاب الأريحية وزوال الأنفة وعزة النفس من العرب، على أثر تضعضع العنصر العربي وتغلب العناصر الأعجمية مع تنافس أصحاب المطامع من هؤلاء في أواسط الدولة العباسية بابتزاز الأموال، واعتبر ما عقب ذلك من الاستبداد والظلم بعد أن فسدت الأحكام في الدولة الإسلامية واستبد السلاطين والأمراء غير العرب بمن أقام في ممالكهم من أهل اللسان العربي، ويسمونهم عربًا وهم أخلاط من مولدي الأمم الأخرى، فلجأ هؤلاء بطبيعة العمران إلى المجاملة والمصانعة على نحو ما هو حالهم اليوم، إلا الذين أوتوا السيادة وتوفرت لهم السطوة ونفوذ الكلمة أجيالًا متوالية.

(٣-٤) العائلة في التمدن الإسلامي

كانت العائلة في أواسط التمدن الإسلامي نحو ما هي عليه اليوم، وقوامها المرأة وقد تقدم الكلام عليها، فلا نطيل القول في ذلك الآن، وإنما نقول كلمة في بعض خصائص العائلة الإسلامية، كالحجاب وتعدد الزوجات والطلاق.

الحجاب

إذا كان المراد بالحجاب ستر العورة كالخمار ونحوه، فهو ليس من محدثات الإسلام، بل هو قديم كان شائعًا قبل النصرانية، ولم تغير النصرانية شيئًا منه، وظل معروفًا في أوربا إلى العصور الوسطى وما بعدها، ولا تزال آثاره باقية في أوربا إلى الآن.

وإذا أريد به حبس المرأة في بيتها ومنعها من مخالطة الناس، فهو من ثمار التمدن الإسلامي؛ لأنه لم يكن شائعًا قبله، على أنه لم يبلغ الحد الذي بلغ إليه من الشدة والدقة، إلا بعد نضج المدنية وتمكن الحضارة من نفوس المسلمين وإركانهم إلى الترف والرخاء، وقد رأيت في كلامنا عن المرأة البدوية أنها كانت مساوية للرجل حتى نبغ من مضارب البادية نساء اشتهرن بالشجاعة والإقدام والحزم والرأي والتجارة والأدب والشعر وغيرها، فلما انتشر الإسلام وكثرت الجواري وشاع التسري في المسلمين اختلفت الظنون بين الرجل والمرأة، فقلت غيرته عليها وأساء كل منهما الظن في صاحبه، والرجل صاحب العصمة ورب العائلة، فضيق على المرأة الدروب وأقام عليها الأرصاد والعيون من أوائل الدولة الأموية، إذ اتخذوا الخصيان من العبيد ثم استقدموا الصقالبة البيض.

فالحجاب الضيق على نحو ما شاع بين العائلات الإسلامية في الشرق سببه سوء ظن الرجل واستبداده بأهل بيته واستئثاره بالملذات لنفسه، وليس هو من مقتضيات الإسلام كما يتبادر إلى الأذهان، ولو راجعت ما جاء في القرآن الكريم من هذا القبيل لرأيت تفسير أقرب إلى ما يراد من رفع الحجاب، ولكن الناس تعودوا أن يفسروا الآيات القرآنية بما يوافق عاداتهم أو أغراضهم أو أميالهم، اعتبر ذلك في كل دين تمدن أهله وعمدوا إلى تفسير كتبه، فكتب النصارى مثلًا ليس فيها نص صريح يمنع عامتهم من التزوج بامرأتين فأكثر، ولكن الكنيسة رأت أن الاقتصار على امرأة أقرب إلى سعادة العائلة ونظام الاجتماع، فاستخرج رؤساء الدين ذلك من بعض القرائن بالتفسير والتأويل، والمسلمون لما استكثروا من الجواري وساءت الظنون بينهم وبين نسائهم أرادوا الحجر عليهن، ولم يعدموا تفسيرًا يساعدهم على ما أرادوا فحبسوهن وضيقوا عليهن، واعتقدت المرأة بتوالي الأجيال أنه يحل للرجل ما لا يحل لها، فصبرت عليه وخافته ولكنها لم تحبه، فخافها وحبسها وجعل بينه وبينها حاجزًا، وغادرها تجالس الخدم والعبيد، وأصبح لا يؤاكلها ولا يجالسها ولا يحادثها إلا نادرًا، وأعلن ارتيابه في أمانتها وأصبح يفتخر بأنها لا تخرج من منزلها إلا إلى القبر.

على أن ظلم المرأة على هذه الصورة واحتقارها مخالف لتعاليم القرآن؛ لأنه يأمر بالمودة والرحمة بين الزوجين، وهذا نص الآية وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، وقوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وقوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ولكن الرجل أبى إلا الاستبداد والاستئثار ولا سيما بعد انقضاء عصر العلم، إذ اقتصر الفقهاء على النظر في الأبحاث الدينية الجديدة، وخيم الجهل على العقول كما أصاب النصرانية في الأجيال المظلمة، فأخذوا يفسرون الآيات والأحاديث على ما يوافق ميولهم وأهواءهم، وكانت الأحكام قد فسدت واستبد الحكام في الناس فعادت عاقبة ذلك على المرأة المسكينة.

لأن الرجل في طور الظلم يتحمل بطش الحاكم وعسفه ويكظم ما في نفسه، حتى إذا جاء منزله عامل أهله مثل معاملة الحاكم له انتقامًا لنفسه … تلك سنة من سنن العمران على اختلاف أطوار التمدن، فالبلاد التي يتولاها حاكم ظالم يقتدي به أرباب العائلات بظلم نسائهم وأولادهم، وأما في الحكم العادل فالمرأة تنال حقوقها والرجل يعدل في حكومته، فالبيت دولة صغيرة تمثل دولة الأمة.

وما زالت المرأة المسلمة في نحو ما تقدم إلى أوائل هذه النهضة والمسلمون سكوت، حتى تصدى بعض أرباب الأقلام من المسلمين في أواسط القرن الماضي ونددوا بالحجاب وعواقبه وحرضوا إخوانهم على تركه، وأقدم من فعل ذلك على ما نعلم المرحوم الشيخ أحمد فارس الشدياق فكتب الفصول الضافية في «الجوائب» بالأستانة، ثم كتب غيره فصولًا لا تشفي غليلًا، حتى ظهر كتاب تحرير المرأة في آخر القرن المذكور لصاحبه قاسم بك أمين فوفى الموضوع حقه، ولم يترك مجالًا لسائل.

تعدد الزوجات

ومن آفات العائلة الإسلامية تعدد الزوجات، وهي أن يتخذ الرجل زوجتين إلى أربع، والشرع الإسلامي يجيز له ذلك بشرط إذا روعي حق مراعاته لم يتخذ الرجل إلا زوجة واحدة؛ لأن الآية التي تجيز تعدد الزوجات تشترط أن يعدل الرجل بينهن، فإذا خاف ألا يعدل فيقتصر على واحدة، وهذا نص الآية: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، وفي محل آخر: وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، فإذا جمعت بين الآيتين رأيت فحواهما أقرب إلى النهي عن تعدد الزوجات منه إلى الأمر به، ولذلك رأيت الغالب في العقلاء وأهل المروءة أن يكتفوا بزوجة واحدة، وكان ذلك سهلًا في عصر التسري، إذ قد يأتي النسل من بعض الجواري فلا يجد الرجل ضرورة إلى الزواج ثانية أو ثالثة اكتفاء بجواريه، ومن يأتينه بما يشتهيه من النسل، على أن تعدد الزوجات ظل متبعًا حتى في أهل الفضيلة والعقل إلى اليوم، ولكن على قلة، وإذا أُحصي المتزوجون بأكثر من امرأة لا نظنهم يزيدون على خمسة في المائة أو عشرة من مجموع المتزوجين، وهم في الغالب من العامة، وإذا كانوا من الخاصة فإنما فعلوا ذلك لأسباب قهرية.

ومن أجاز تعدد الزوجات ذهب إلى تفسير «العدل» بالعدل في النفقة لا في المحبة، على أن كثيرين من أهل الوجاهة والشرف في العصور الإسلامية الوسطى كانوا يجمعون بين التسري وتعدد الأزواج، والغالب أن تكون السيادة للمرأة الأولى وإن اختلف ذلك باختلاف الأحوال، ولكن المرأة العاقلة التقية كانت تعد إهداء زوجها ما يرضاه من الجواري الحسان فضيلة، كما فعلت أم جعفر بالرشيد لتشغله عن الجارية دنانير.

وقد تساعد المرأة التقية زوجها على الزواج بامرأة أخرى تتوقع من مسعاها في ذلك ثوابًا؛ روى الشيخ الجبرتي المؤرخ المصري عن إحدى أزواج أبيه قال: إنها كانت من الصالحات المصونات وكانت بارة بزوجها ومطيعة له، ومن جملة برها له أنها كانت تشتري له من السراري الحسان من مالها وتنظمهن بالحلي والملابس وتقدمهن إليه، وتعتقد حصول الأجر والثواب لها بذلك، وكان يتزوج عليها كثيرًا من الحرائر فلا يسوءها فعله، ولا يحصل عندها ما يحصل عند النساء من الغيرة.٦٤

الطلاق

ويقال عن الطلاق ما يقال عن تعدد الزوجات، فالعقلاء يذهبون إلى كره الطلاق بناء على بعض الآيات الواردة في هذا الشأن كقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، وقوله: فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وفي الحديث «أبغض الحلال عند الله الطلاق»، ومع ذلك كان بعض كبار الصحابة يكثرون منه إكثارًا مدهشًا، كما فعل الحسن بن علي بن أبي طالب فإنه تزوج ٢٥٠ امرأة وقيل: ٣٠٠، وكان أبوه يضجر من ذلك ويكرهه حياء من أهليهن، وكان يقول في خطبه: «إن حسنًا مطلاق فلا تزوجوه.» ويليه المغيرة بن شعبة فقد تزوج نحو هذا العدد.٦٥ على أن الطلاق ما زال مكروهًا كما رأيت من كلام الإمام علي، وأهل الأنفة والفضل لا يطلقون إلا لعلة كبيرة أو عذر شرعي، ولو أحصيت حوادث الطلاق لرأيت أكثرها في طبقات العامة.
ومما ساعد على تكاثر حوادث الطلاق المبالغة في الحجاب، فيتزوج الشاب الفتاة وهو لم ير وجهها، فإذا لم توافقه هان عليه طلاقها؛ لأنه لم يرض الزواج على هذا الشرط إلا لعلمه بسهولة التخلص من زوجته إذا لم تعجبه، وهذا التضييق ليس من الدين في شيء، لورود عدة أحاديث تجيز للرجل أن يرى خطيبته قبل الزواج، وأحاديث تأمر برؤيتها صريحًا،٦٦ فلو عملوا بذلك لقلت البواعث على الطلاق، على أن للطلاق في بعض الأحوال فوائد اجتماعية حرمت منها الطوائف التي لا طلاق عندها.

(٣-٥) المعيشة العائلية

الطعام:

كان طعام العرب قبل الإسلام قاصرًا على الألبان، وما يستخرج منها كالسمن والزبد والجبن، ومن التمر والحبوب واللحوم يأكلونها على أبسط ما يكون من أحوالها، كما يفعل أهل البادية اليوم، وأكثر ألبانهم ولحومهم من الإبل، وقد يصنعون منها أطعمة تتركب على نسب معينة، كالثريد فإنه يصنع من اللحم واللبن والخبز، ومنها ما يصنع من اللبن والدقيق فقط، كالرغيدة والرهيدة والعصيدة، أو يصنع من السمن والدقيق كالبكالة أو من الدقيق والعسل والسمن كالوضيعة، ولهم من أمثال هذه الأطعمة نحو أربعين لونًا.

ذلك هو طعام أهل اليسار منهم وأصحاب الضيافة، وأما الفقراء فقلما يأكلون لحم الإبل أو الضأن، وإنما كانوا يقتاتون بلحم الضب أو بالجراد، وإذا جاعوا أكلوا العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم فيطحنونه، وكان حال القرشيين قريبًا من ذلك،٦٧ وربما أكلوا القرامة ونحاتة القرون والأظلاف والمناسب من برادتها، أو القرة وهي الدقيق المختلط بالشعر، وكانوا إذا عطشوا ولم يجدوا ماء، شربوا الفظ وهو عصارة الفرث أو المجدوح وهو مصل دم الإبل.٦٨
فلما جاء الإسلام وافتتحوا العراق وفارس ومصر دهشوا لما شاهدوه من حضارة الروم والفرس، ووقعوا على ألوان من الأطعمة لم يعرفوها، فأشكل عليهم أمرها وظفر بعضهم بجراب فيه كافور فأحضره إلى أصحابه فظنوه ملحًا، فطبخوا طعامًا ووضعوه فيه فلم يجدوا له طعمًا ولم يعلموا ما هو، فرآه رجل عرف ما فيه فاشتراه منهم بقميص خلق يساوي درهمين،٦٩ ورأى بعضهم الخبز الرقاق فظنه رقاعًا يكتب عليها،٧٠ وشاهدوا الأرز فظنوه طعامًا مسمومًا،٧١ ثم ما لبثوا أن أقاموا بين أولئك الأقوام حتى عرفوا مآكلهم ولا سيما الفرس، فأخذوها عنهم كما أخذوا أكثر مبادئ الحضارة وكثيرًا من العادات والآداب، وليس في الشرع الإسلامي ما يمنع تمتعهم بالطيبات من الأطعمة إلا ما جاء النص بتحريمه.
فأخذوا بأطراف الحضارة من أيام بني أمية، وأول من قلد الأعاجم بأسباب الترف معاوية، فتنعم بمأكله ومشربه،٧٢ واقتدى به خلفاؤه وسائر الناس، ولا سيما بعد أن كثرت الأموال بين أيديهم فأكلوا السكباج، وهو نوع من المرق كانوا يصنعونه من مرق اللحم والخل، ويضعون فيه اللحوم المطبوخة كالدراج ونحوه، وكانوا يسمونه سيد المرق، والفالوذج وهو نوع من الحلوى، وكذلك اللوزينج يحشى باللوز والسكر، والجوزاب والخشاف والجلاب وغيرها، وتفننوا في معالجة اللحوم بالألبان والخضار والتوابل على أساليب شتى.

اللباس:

لباس العرب الجاهلية

ولباس العرب كان بسيطًا مثل طعامهم وسائر طرق معايشهم، ولا يزال حتى الآن في عرب البادية نحو ما كان عليه قبل الإسلام، وهو عبارة عن القميص والحلة والإزار والشملة والعباءة والعمامة، ولم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون السراويل ولا الأقبية،٧٣ وإنما هي فارسية، وكذلك النعال والخفاف، ولكن بعض الخاصة كان يلبسها، وكانوا يعلقون سيوفهم على عواتقهم، وثيابهم على الإجمال قصيرة إلى أسفل الركب.٧٤
وأفضل مثال للباس العرب لباس النبي فقد ذكروا أن أحب اللباس إليه البرود والبياض والحبرة، وهي ضرب من البرود فيه حمرة، وكان كمه قصيرًا إلى الرسغ، يلبس أحيانًا حلة حمراء وإزارًا ورداء، والإزار قصير إلى أسفل الركبة، ولبس الخف والنعل،٧٥ وقد نهى عن الثوب الطويل الذي يجر على الأرض من الخيلاء، ومن أقواله: «فضل الإزار في النار.»٧٦ ولم يكن العرب يعرفون من الأنسجة غير القطن والصوف.
على أن الذين كانوا يفدون على الشام والعراق من أغنيائهم لتجارة أو زيارة كانوا يقلدون أهلها بملابسهم الفاخرة، فمن فعل ذلك اشتهر ذكره بين القبائل ولا سيما في أوائل الإسلام، ومن المأثور عندهم أن أول من لبس الخز الأدكن من العرب عبد الله بن عامر، وأول من لبس الدراريع السود المختار بن أبي عبيد، وأول من لبس الطيلسان في المدينة جبير بن مطعم،٧٧ وقس عليه سائر ما اتخذوه من لباس الأعاجم بعد الإسلام، والعادة أن يبدأ الأمراء بذلك ثم يقلدهم سائر الناس، وأول من أقدم على تقليد الأعاجم بأسباب البذخ معاوية وعماله، فزياد بن أبيه أمير العراق أول من قلد الفرس بلبس القباء الديباج،٧٨ وهو أول من لبس الخفاف الساذجة بالبصرة.
ولما أترف بنو أمية لبسوا الحرير على أنواعه، وتفننوا بأنواع الأنسجة، وأحبوا الوشي وأكثروا من لبسه، فقلدهم الناس في ذلك فراجت المنسوجات الموشاة في أيامهم، واتخذوا كثيرًا من ألبسة الروم، ولكنهم لرغبتهم في المحافظة على البداوة ظلوا يلبسون العمائم ويعلقون السيوف على العواتق، وكان الأحنف يقول: «لا تزال العرب عربًا ما لبست العمائم وتقلدت السيوف.»٧٩

اللباس في عصر الحضارة

فلما أفضت الخلافة إلى العباسيين، واستسلموا للفرس وأخذوا نظامهم وآدابهم، قلدوهم بالألبسة وجعلوا ذلك بأمر رسمي من أوائل دولتهم، فأمر المنصور رجاله سنة ١٥٣ﻫ أن يلبسوا القلانس الفارسية الطويلة تدعم بعيدان من داخلها، بدل العمائم، أو يعتموا فوقها بعمامة صغيرة، وأن يعلقوا السيوف في أوساطهم، وأن يكون اللباس الأسود عامًّا فيهم، وهو شعار العباسيين كما كان البياض شعار الأمويين، فلا بد للداخل على الخليفة العباسي من لباس جبة سوداء يسمونها «السواد» تغطي سائر الثياب، وألبسهم المنصور دراريع كتب على ظهورها فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ،٨٠ وبعث إلى عماله في سائر الأقطار أن يأمروا رجالهم بمثل ذلك.٨١
فأقبل العرب من ذلك الحين على تقليد الفرس في الملابس، ولا سيما أهل الدولة ورجال الحكومة، فلبسوا الأقبية والسراويلات والطيالسة والخفاف والجوارب وغيرها، مع بقاء ألبسة العرب عند عامتهم، ثم اختصت كل طائفة أو طبقة بلبس خاص يميزها عن سواها، فالفقهاء والعلماء كانوا يلبسون عمامة سوداء بشكل خاص ومبطنة وطيلسان أسود،٨٢ وأول من غير لباس العلماء على هذه الصورة أبو يوسف قاضي الرشيد،٨٣ وأما لبس القضاة فهو القلانس الطوال والطيالسة الرقاق، ويختلف ذلك باختلاف الدول والأعصر مما لا محل لاستيفائه.

أما عامة الناس فتختلف أشكال ألبستهم باختلاف صناعاتهم وأحوالهم وطبقاتهم، وباختلاف الأصقاع والأطوار مما لا يمكن حصره، وإنما يقال بالإجمال أن لباس الرجال العمامة والدراعة والسراويل والقميص والقباء والجبة والجوارب والنعال، على نحو لباس المصريين والسوريين في أوائل القرن الماضي وهو ما يلبسه جماعة المشايخ الآن.

ثياب المنادمة والتطيب والخضاب

على أن رجال الدولة ومن جرى مجراهم من الخاصة كانت لهم ألبسة لمجالس الأنس والشراب يسمونها «ثياب المنادمة»، وهي أثواب مصبغة بالألوان الزاهية: الأحمر أو الأصفر أو الأخضر، يصقلونها حتى تلمع وتشرق، ويتضمخون بالخلوق ويتطيبون، ولهم ألبسة يتخففون بها في منازلهم وأخرى يلبسونها في الأسفار وغير ذلك.

أما التطيب فقد كان من دلائل الغنى والنبل عندهم، ومن أمثالهم: «ثلاثة يحكم لهم بالنبل حتى يُدرى من هم: رجل رأيته راكبًا، أو سمعته يعرب كلامه، أو شممت منه طيبًا.»

والخضاب كان مستحسنًا عندهم، وأصله هندي أخذه الفرس عن الهنود،٨٤ ومنه انتقل إلى بلاد العرب قبل الإسلام، ويقال: إن أول من خضب بالسواد من أهل مكة عبد المطلب،٨٥ وقالوا: بل المغيرة بن شعبة، ولما ظهر الإسلام وانتشر العرب في الأرض تعلموا فنون الخضاب، فصاروا يخضبون بالحناء للحمرة وبالزعفران للصفرة فضلًا عن الخضاب الأسود، وكانوا يبيضون شعورهم بالكبريت،٨٦ وأول من خضب لحيته بالزعفران جرير الشاعر،٨٧ وكان حسان بن ثابت يخضب لحيته على أسلوب خاص، فيلون شاربيه وعنفقته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في الدم،٨٨ وقس على ذلك تفننهم في الخضاب للرجال والنساء، ولا يزال ذلك شائعًا في الشرق إلى الآن، والأكثرون يخضبون بالسواد وبعضهم بالحناء، ويندر الخضاب بالزعفران، ولا نعرف أحدًا يبيض شعره بالكبريت.

المأوى:

مساكن العرب

كان العرب قبل الإسلام أهل خيام وأنعام، يحملون منازلهم على ظهورهم، إلا من أقام منهم في مكة أو المدينة أو الطائف أو غيرها من مدن الجاهلية، ولما نهضوا للفتح كانت البداوة من جملة أسباب تغلبهم، فلما فتحوا الأمصار تحاشوا سكنى المدن، ونصبوا مضاربهم في ضواحيها أو بنوا بيوتًا من القصب معسكرًا لهم، لا يفصل بينها وبين مقر الخلافة (المدينة) ماء، كأنهم محتلون إلى أجل، وكانوا إذا فسد ما بنوه من القصب أو احترق، استأذنوا الخليفة عمر في بنائها بالحجارة، مثل المدن التي فتحوها بمصر والشام والعراق، ولكنه لم يكن يرى تحضرهم خوفًا عليهم من الترف والرخاء، ولهذا السبب أيضًا منعهم من الزرع، ثم أذن لهم بالبناء، ولكنه اشترط الاقتصاد فيه، فلما استشاروه في بناء الكوفة بالحجارة قال لهم: «افعلوا، ولا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة.»٨٩

على أن ناموس العمران غلب على ما أراده عمر من بقاء المسلمين يقيمون في المعسكرات، فما لبثوا أن تحضروا وتحولت تلك المعسكرات إلى مدن عامرة، ونزلوا المدن القديمة التي فتحوها، وبنوا المنازل والقصور يقلدون بها أبنية الدول السالفة.

أساليب البناء في الإسلام

وكانت أساليب البناء يومئذ تختلف باختلاف الأمم، ولكل منها نمط تولد عندها بتوالي الأجيال، إما رأسًا أو اقتباسًا، وأهمها النمط البيزنطي في الشام ومصر، والفارسي في فارس وخراسان، والقوطي في الأندلس وما يليها، فلما تحضر العرب وعمدوا إلى تشييد المباني؛ استخدموا في بنائها مهندسين من الروم والفرس، فكانوا يخططونها على ما عرفوه من الأساليب التي ذكرناها، ثم أخذ العرب تلك الصناعة وأدخلوا فيها تغييرًا يوافق الذوق الشرقي ويلائم الإسلام، فتولد نمط إسلامي خاص يعرف بالنمط العربي أو الشرقي يختلف باختلاف الأصقاع واختلاف العصور والدول، وترجع تنوعاته إلى ثلاثة أعصر كبرى:
  • أولًا: العصر العربي الرومي: هو أقدم أعصر البناء في الإسلام، وأساسه النمط البيزنطي، وتنوع في أثناء التمدن الإسلامي وتفرع إلى خمسة أشكال:
    • (١) النمط السوري ومثاله الجامع الأقصى في القدس، والجامع الأموي في الشام.
    • (٢) النمط المصري ومثاله جامع عمرو بالفسطاط.
    • (٣) النمط الإفريقي ومنه جامع القيروان.
    • (٤) النمط الصقلي في صقلية بإيطاليا ومن أمثلته قلاع سرقوسة وغيرها.
    • (٥) النمط الأندلسي ومنه جامع قرطبة وبعض الآثار العربية في طليطلة مما بني قبل انقضاء القرن العاشر للميلاد.
  • ثانيًا: العصر العربي البحت: وهو يشمل الأشكال التي تكيفت بين يدي العرب حتى بعدت عن الأصول التي نقلت عنها وهي قسمان:
    • (١) النمط المصري ومنه الأبنية التي أقيمت في مصر بين القرن العاشر والخامس عشر وفي جملتها الجوامع التي بناها السلاطين المماليك، كجامع الظاهر وجامع السلطان حسن.
    • (٢) النمط الأندلسي وهو ما بني في الأندلس بعد القرن العاشر ومن أمثلته أبنية إشبيلية وغرناطة ولا تزال آثارها باقية إلى الآن.
  • ثالثًا: العصر المختلط: ويدخل فيها:
    • (١) النمط الإسباني العربي ويراد به ما بناه المسيحيون بعد استيلائهم على الأندلس وخروج المسلمين منها.
    • (٢) النمط الإسرائيلي العربي ومن أمثلته الآثار الباقية لليهود في طليطلة من أنقاض الكنائس.
    • (٣) النمط الفارسي العربي كالجوامع التي بناها الفرس بعد الإسلام ولا سيما في أصبهان.
    • (٤) النمط الهندي العربي وهو خليط من النمطين الهندي والعربي كبرج كتاب وهيكل بندرابند وباب علاء الدين.
    • (٥) النمط المغولي العربي كالأبنية التي أقيمت في الهند أثناء سلطة المغول وأشهرها تاج محل وقصر الشاه وكثير من المساجد ونحوها.٩٠

فمساكن الناس في عهد التمدن الإسلامي كانت تختلف شكلًا باختلاف البلاد والعصور، وتتفاوت سعة وقدرًا بتفاوت طبقات الناس: من الأكواخ الحقيرة إلى القصور الفخيمة، وسنأتي بأمثلة من القصور وسائر الأبنية الإسلامية عند الكلام على الحضارة.

هوامش

(١) الجزء الأول.
(٢) الأغاني ٦٠ ج١٠.
(٣) العقد الفريد ٢٥٤ ج٢.
(٤) الأغاني ١٧٣ ج١٤.
(٥) ابن الأثير ١٩١ ج٤.
(٦) الأغاني ١٦٥ ج٦.
(٧) الجزء الرابع.
(٨) الجزء الثاني.
(٩) ابن الأثير ٢٣٧ ج٣.
(١٠) ابن خلكان ٢٣٠ ج١.
(١١) العقد الفريد ١٤٠ ج١، وابن خلكان ١١٠ ج٢.
(١٢) الأغاني ١٦٣ ج١٧، وابن الأثير ١٥٩ ج٤.
(١٣) الأغاني ٢٣ ج١٢.
(١٤) ابن خلكان ٩ ج١.
(١٥) الأغاني ١٨٣ ج١، و١٨٤ ج٧.
(١٦) الأغاني ٢٦ ج١٩، و٥٤ ج٦.
(١٧) الأغاني ٧٤ ج١٩.
(١٨) الأغاني ٦٧ ج٢.
(١٩) المسعودي ١٢٢ ج٢.
(٢٠) الأغاني ١٨١ ج٢٠.
(٢١) الأغاني ٩٨ ج٤.
(٢٢) المسعودي ١١٦ ج٢.
(٢٣) كتاب الحيوان للجاحظ ٢٨ ج١.
(٢٤) الأغاني ١٥٤ ج١.
(٢٥) الأغاني ١٤٩ ج١٣.
(٢٦) الأغاني ٣٩، و١٥٩ ج٦.
(٢٧) الأغاني ١٢٨ ج٢.
(٢٨) الأغاني ٤٨ ج٤.
(٢٩) الأغاني ٤٠ ج٦.
(٣٠) الأغاني ٤١، و٥٨ ج٢.
(٣١) الأغاني١٦٠ ج٣.
(٣٢) الفرج بعد الشدة ١٨٣ ج٢.
(٣٣) تزيين الأسواق ١٢٢.
(٣٤) ألف باء ٧٧ ج٢.
(٣٥) رسائل الخوارزمي ٢٠.
(٣٦) الجزء الثاني.
(٣٧) Library of Univ. Fist, 11, 750.
(٣٨) ابن خلكان ١١٧ ج٢.
(٣٩) الأغاني ١٥٦ ج١٢.
(٤٠) العقد الفريد ٨٥ ج١.
(٤١) المسعودي ١١١ ج٢.
(٤٢) العقد الفريد ١١٠ ج١.
(٤٣) الأغاني ٦١ ج١٠.
(٤٤) الأغاني ١٧٠ ج٥، و١٥٦ ج١٧.
(٤٥) ابن خلكان ١٣١ ج٢.
(٤٦) الأغاني ٨٤ ج٥، و٤٦ ج٣، و١١ ج١٢.
(٤٧) العقد الفريد ٨٣ ج١.
(٤٨) العقد الفريد ٦ ج٣، وابن خلكان ٨٢ ج١.
(٤٩) العقد الفريد ٦ ج٣.
(٥٠) ابن خلكان ٢٧١ ج٢.
(٥١) ابن خلكان ٥٥ ج١.
(٥٢) المقريزي ٨٥ ج١.
(٥٣) ترتيب الدول ١٢٠.
(٥٤) الأغاني ١٥٤ ج١٧.
(٥٥) الأغاني ٩ ج١٢.
(٥٦) العقد الفريد ٨٧ ج١.
(٥٧) ابن الأثير ١٥٤ ج٦.
(٥٨) تاريخ الوزراء ٣٢٣.
(٥٩) ابن خلكان ٣٧٢ ج١.
(٦٠) الفرج بعد الشدة ١٤٢ ج٢.
(٦١) سراج الملوك ٥٦ وراجع الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(٦٢) ابن الأثير ٥١ ج٦.
(٦٣) ابن الأثير ١٢١ ج٧.
(٦٤) الجبرتي ١٨٢ ج٣.
(٦٥) ألف باء ٣٤٨، ٣٤٩ ج٢.
(٦٦) مشكاة المصابيح ٢٦٩.
(٦٧) ابن خلدون ١٧٠ ج١.
(٦٨) كتاب البخلاء ١٨٣.
(٦٩) الفخري ٧٤.
(٧٠) ابن خلدون ١٤٤ ج١.
(٧١) الهمداني ١٨٨.
(٧٢) الدميري ٥٥ ج١.
(٧٣) البيان والتبيين ٥٣ ج٢.
(٧٤) سراج الملوك.
(٧٥) تهذيب الأسماء ٦٠.
(٧٦) الكامل للمبرد ٢٦.
(٧٧) المعارف لابن قتيبة ١٨٧.
(٧٨) الأغاني ١٠٤ ج١٤.
(٧٩) الكامل للمبرد ١٠٠.
(٨٠) الأغاني ١٢١ ج٩، وابن الأثير ٢٨٩ ج٥، والعقد الفريد ٧٤ ج١.
(٨١) ابن تغري بردي ٤٣٧، والمقريزي ٣٠٧ ج١.
(٨٢) الأغاني ١٠٩ ج٥، و٦٩ ج٦، وطبقات الأطباء ٤ ج٢.
(٨٣) ابن خلكان ٣٠٣ ج٢.
(٨٤) المسعودي ١١٥ ج١.
(٨٥) لطائف المعارف ٨.
(٨٦) ألف باء ٢٤٤ ج٢.
(٨٧) المعارف لابن قتيبة ٩٩.
(٨٨) الأغاني ٣ ج٤.
(٨٩) ابن خلدون ٢٩٩ ج١.
(٩٠) La Civilisation des Arabes, 597.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤