الثروة والرخاء ونتائجهما

واشتغال الخلفاء والأمراء بإنشاء المدن وبناء القصور والمتنزهات إنما هو من ثمار الثروة وتكاثر النقود في بيوت الأموال، فتنتقل إلى رجال الدولة وغيرهم على ما بيناه في نظام الاجتماع، ولذلك كان الخليفة أكثر الناس مالًا؛ لأنه قابض على بيت المال، يليه الوزراء والكتاب والعمال فبنو هاشم فالأتباع والتجار وغيرهم، وإليك أمثلة من ذلك.

(١) ثروة الخلفاء وأهليهم

لما كان الخلفاء يتولون شئون الدولة بأيديهم كانوا أكثر الناس ثروة، فلما عهدوا بها إلى الوزراء تحولت الثروة إليهم، وأصبح الخلفاء أحيانًا مثل سائر الفقراء،١ والأصل في ثروة بيت المال أن تكون للدولة تُنفق في مصالحها، وللخليفة بيت مال خاص به، ولكن الخلفاء تصرفوا في أموال الدولة أولًا لاعتبارهم إنفاقها مساعدًا على تأييدها، ثم أنفقوها في الجوائز والهدايا لمثل هذه الغاية، وتدرجوا إلى بذلها في ملذاتهم وسائر أسباب تنعمهم، وكان يبقى مع ذلك في بيوت الأموال شيء كثير، وقد بينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب مقدار ما بقي منها في خزائن الخلفاء الأولين من بني العباس: المنصور والمهدي والمعتصم والمستعين والمكتفي وغيرهم، وما صار إليهم من الضياع الكثيرة، وذكرنا ما بلغت إليه ثروة أمهات الخلفاء ولا سيما الخيزران أم الرشيد وقبيحة أم المعتز وغيرهما، فلا حاجة إلى التكرار، وإنما نأتي ببعض التفاصيل على سبيل المثال، ذكروا أن المكتفي خلف ١٠٠٠٠٠٠٠٠ دينار هذا تفصيلها:٢
دينار
٢٠٠٠٠٠٠٠ من العين والورق (أي: الفضة) والأواني المعمولة.
٢٠٠٠٠٠٠٠ من الفرش.
٢٠٠٠٠٠٠٠ من الكراع والسلاح والغلمان.
٢٠٠٠٠٠٠٠ من الضياع والعقار والأملاك.
٢٠٠٠٠٠٠٠ من الجوهر والطيب وما يجري مجراهما.

(٢) ثروة رجال الدولة وغيرهم

وذكرنا في الجزء الثاني أيضًا سبب ثروة الوزراء ومقادير الأموال التي حصلها الحسن بن الفرات والمادرائي وابن كلس والأفضل وابن شهيد الأندلسي وإليك أمثلة أخرى:

أول من أثرى من الوزراء البرامكة في عهد الرشيد، فكثرت ضياعهم (الأبعديات والجفالك)، حتى بلغت غلة يحيى وابنه جعفر فقط ٢٠٠٠٠٠٠٠ دينار في السنة، ولما نكبوا وقبضت أموالهم بلغ مقدار ما قبض منها ٣٠٦٧٦٠٠٠ دينار غير الضياع والدور والرياش،٣ ويشبه الوزراء ببغداد الكتاب بمصر، وقد أثرى منهم جماعة كبيرة كآل المادرائي، في أواسط القرن الثالث للهجرة، فملك أحدهم محمد بن علي المادرائي ما قيمته ٣٠٠٠٠٠٠ دينار من الضياع بالشام ومصر والأمتعة مع كثرة ما كانوا ينفقونه على الناس من الرواتب، وكانت غلته ٤٠٠٠٠٠ دينار في السنة،٤ وهو مع ذلك لا يعد شيئًا بالنظر إلى البرامكة، ومثلهم آل المغربي وآل الكتامي بمصر أيضًا.
أما العمال والأمراء فقد كانوا يحشدون الأموال الكثيرة، ولا سيما المفوضين منهم، ويسهل ذلك عليهم لإطلاق أيديهم في مصادر الجباية فيجمعون ما شاءوا وكيف شاءوا، وقد أثروا وكثرت أموالهم من أيام بني أمية قبل زمن الوزراء، فخلف عمرو بن العاص سبعين بهارًا من الدنانير — والبهار أردبان بالمصري — ذهبًا،٥ وبلغت غلة خالد القسري ١٣٠٠٠٠٠٠ درهم،٦ وصاروا في عهد بني العباس أوفر ثروة، ولا سيما بعد أن طمعوا في الاستقلال، فخلف يعقوب بن الليث الصفار في بيت ماله ٥٠٠٠٠٠٠٠ درهم و٤٠٠٠٠٠ دينار،٧ وقس على ذلك أموال السلاطين المماليك بمصر ورجالهم، وكانت مخلفاتهم من الجواهر والحلي تقدر بالأرطال والقناطير والصناديق، مثال ذلك ما خلفه الأمير سيف الدين تنكز التستري منها ١٩ رطلًا من الزمرد والياقوت، وستة صناديق جواهر، وفصوص الماس، و١٢٥٠ حبة لؤلؤ كبار مدورة مما زنته درهم إلى مثقال، و٢٤٠٠٠٠ مثقال ذهب، و١٠٠٠٠٠٠٠ درهم فضة، وأربعة قناطير مصرية من المصاغ والعقود ونحوها كالحلق والأساور، وستة قناطير فضيات، و١٢٠٠٠٠٠ دينار، فقس عليه ثروة الخلفاء الفاطميين والسلاطين والمماليك وغيرهم من سلاطين المسلمين وملوكهم.
غير ثروة الحواشي والأتباع، ممن أُثري بالصناعة والأدب أو التجارة، فقد ذكرنا ثروة بعض التجار فيما تقدم، فاعتبر ذلك في سواهم من الأطباء والمغنين والشعراء، فإن إبراهيم الموصلي مغني الرشيد توفي عن ٢٤٠٠٠٠٠٠ درهم،٨ وذكرنا في باب الرواتب من الجزء الثاني ما كان يقبضه جبرائيل بن بختيشوع طبيبه.

(٣) نتائج الثروة

من قواعد العمران إذا تكاثرت الأموال في أيدي الناس أن يتوسعوا في الإنفاق ويتنعموا بمعيشتهم، فيتأنقوا في الطعام والشراب والسماع وغيرها من الملذات الجسدية، ويتنعموا بالألبسة الثمينة والرياش الفاخر، ثم يطلبوا الملذات المعنوية من التفاخر باقتناء المجوهرات والعقارات، ويلتمسوا سعة الشهرة فيقربوا من يضمن لهم ذلك كالشعراء ورواة الأخبار في ذلك العهد، كما يفعل بعض أغنياء زماننا بالتقرب من أرباب الصحافة، ونقسم الكلام في هذا الباب إلى فصول:

(٣-١) التأنق في الطعام

قد رأيت في كلامنا عن أطعمة العرب أنها كانت ساذجة قليلة، ثم تعددت بعد الاختلاط بالأعاجم ولا سيما الفرس، والعرب قلدوا الفرس في أكثر أسباب الحضارة، فضلًا عن نظام الحكومة، فكانوا إذا أحوجهم الاحتفال بعيد أو عرس أو ختان سألوا عما يفعله الفرس في مثله وقلدوهم فيه، هموا بذلك من عهد الأمويين، وكان الصحابة قبلهم يتحاشون التنعم اقتداء بخلفائهم الراشدين مع غلبة البداوة على طباعهم، فأبو موسى الأشعري كان يتجافى عن آكل الدجاج؛ لأن العرب لم يعهدوا ذلك، وكانوا يتجنبون الإكثار من أكل اللحوم ويعتقدون أضرارها، نحو ما يعتقده النباتيون اليوم تمثلًا بما قاله عمر بن الخطاب: «مدمن اللحم كمدمن الخمر.» فلما حكم الأمويون ومالوا إلى التنعم كان الفرس أحسن مثال لهم، وأراد غير واحد من أمراء العراق تقليدهم في ذلك، ولكن البداوة كانت تتغلب عليهم فيرجعون، ذكروا أن الحجاج بن يوسف أولم لختان أحد أولاده، فاستحضر بعض الدهاقين ليسأله عن ولائم الفرس وقال: «أخبرني بأعظم صنيع شهدته.» فقال: «شهدت أيها الأمير بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعًا أحضر فيه صحائف الذهب على أخونة الفضة أربعًا على كل واحد، وتحمله أربع وصائف ويجلس عليه أربعة من الناس، فإذا أطعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصائفها.» فلما سمع الحجاج ذلك أكبره وغلبت عليه البداوة فقال: «يا غلام انحر الجزر وأطعم الناس٩ …»
على أنهم ما لبثوا أن رضخوا لتيار الترف وتكيفوا لموافقة البيئة التي تحف بهم، فبعد أن كانوا يحسبون الكافور ملحًا والأرز طعامًا مسمومًا والخبز المرقق كاغدًا، وبعد أن أكلوا العلهز والخنافس والعقارب وعجنوا الحنطة بنخالتها،١٠ فاقوا الفرس والروم في التأنق والتنعم، فتفننوا في معالجة اللحوم واصطناع التوابل المنبهة لشهوة الطعام التماسًا للمزيد من اللذة، فكان الخلفاء والملوك من بني هاشم إذا جلسوا إلى الطعام يقف الأطباء بين أيديهم ومعهم البراني بالجوارشنات الهاضمة المسخنة الطابخة المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء على اصطلاحهم في ذلك العصر، ويقفون في الصيف ومعهم الأشربة الباردة والجوارشنات الموافقة لذلك الفصل،١١ واقتدى بهم سائر الأمراء وأهل الدولة فكانوا يستشيرون الأطباء ويستعينون بهم في حفظ صحتهم، حتى في أثناء الطعام وهم على المائدة، وكان سيف الدولة إذا حضر الطعام جلس معه على المائدة ٢٤ طبيبًا أرزاقهم جارية.
وغالى الخلفاء في استحضار ما اشتهر بطيبه من ألوان اللحوم والطيور والفاكهة ولو بعد مكانه، فيحملونه على البريد ينفقون في ذلك الأموال الكثيرة،١٢ وكانوا يربون الطيور الداجنة على أطعمة مغذية يتوهمون أنها تزيد في لذة طعمها أو نفعها أو تسهل هضمها، فكانوا يعلفون الفراريج الجوز المقشر ويسقونها اللبن الحليب،١٣ وتفنن الطهاة في اصطناع الأطعمة التي يظنون فيها الغذاء الكثير أو النفع الصحي، وربما فعل بعضهم ذلك مغالاة في الاحتفاء، كما فعل إبراهيم بن المهدي في زيارة زاره فيها الرشيد فاصطنع له أطعمة بينها جام سمك مقطع فاستصغر قطعه، فسأله الرشيد عن ذلك فقال: «يا أمير المؤمنين هذه ألسنة السمك.» وقدرت نفقة ما في ذلك الجام بألف درهم،١٤ وقس عليه تفننهم في اصطناع الفالوذج بدهن الفستق والمخ المعقود بالسكر والطبرز والعسل.
فاتسعت مطابخ الخلفاء والأمراء لتعدد ألوان الأطعمة والتوسع في النفقة عليها، حتى صار لكل صنف منها خدم عليهم رئيس، فكان عندهم لتربية الطيور إدارة قائمة بذاتها عليها رئيس، وبلغت علوفة البط وحدها على أيام المقتدر العباسي ٣٠ قفيزًا من الشعير كل شهر١٥ فاعتبر كم يحتاج إليه أحدهم إذا أراد نقل مطبخه من الدواب لحمله، ذكروا أن عمرو بن الليث الصفار كان مطبخه يحمل على ٦٠٠ جمل،١٦ وكان للخليفة المقتفي العباسي ثمانون جملًا تحمل الماء من دجلة لشرب عياله،١٧ وأما مقدار المطبوخ من كل طعام فلا قياس له، على أنهم كانوا يجعلونه أضعاف ما يحتاجون إليه مخافة أن يطرقهم أضياف، فكانت الأطعمة تفيض بمقادير كبيرة يحملها الخدم ويبيعونها ويرتفقون بأثمانها.١٨
فنتج من الانغماس في الأكل والتفنن في التشويق إليه كثير من علل القناة الهضمية، توالت على أهل الترف في ذلك العهد كالقولنج وتلبك المعدة والدوزنطاريا، وغيرها من عواقب النهم في اللحوم كالنقرس والروماتزم ونحوهما، وتسلطت السويداء على أمزجتهم، وتولتهم حدة المزاج فجرهم الغضب إلى سرعة الفتك والقتل من تغلب السويداء، كما يتضح من مراجعة أخبارهم، وعلة ذلك في الغالب فساد الهضم، واشتهر من الخلفاء والأمراء غير واحد من الأكلة، منهم في أيام بني أمية معاوية بن أبي سفيان وعبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وسليمان بن عبد الملك، واشتهر من بني العباس محمد الأمين.١٩

(٣-٢) البذخ في الألبسة

كان المسلمون في صدر الإسلام يتوخون الخشونة في العيش والتعفف في المطعم والملبس، فكان الخليفة من الراشدين يمشي في الأسواق وعليه القميص الخلق المرقوع إلى نصف ساقه، أو ثوب من كرباس غليظ وفي رجله نعلان من ليف وحمائل سيفه من ليف وفي يده درة يستوفي الحد بها،٢٠ وكان عمالهم في مثل حالهم، إذا وفد أحدهم على الخليفة لبس جبة صوف وتعمم بعمامة دكناء واحتذى خفين ودخل عليه،٢١ وأول من اتخذ زي الملوك من أمراء المسلمين معاوية منذ كان أميرًا في الشام، وقدم عليه عمر بن الخطاب في أثناء ذلك، فلما رآه في أبهة الملك أنكرها عليه، وقال له: «أكسروية يا معاوية؟»٢٢
ثم تحضروا وكثرت الأموال بين أيديهم وخالطوا أهل الترف من الأعاجم، فاضطروا بطبيعة المدنية إلى التبسط في العيش والتنعم باللباس، وأحب الأمويون الوشي كما تقدم، وأكثرهم رغبة في لبسه هشام بن عبد الملك، فاجتمع عنده ١٢٠٠٠ قميص وشي، و١٠٠٠٠ تكة حرير، وكانت كسوته إذا حج تُحمل على ٧٠٠ جمل،٢٣ وفي أيامهم تسابق الصناع إلى إجادة الوشي، وزاد المسلمون بذخًا في أيام بني العباس، ورغب أهل التجارة في حمل أصناف المنسوجات الحريرية والصوفية بين موشى ومطرز ومحوك بالذهب أو الفضة ومرصع بالحجارة الكريمة على اختلاف البلاد التي يصنع فيها، على نحو ما بيناه في كلامنا عما يحمل من أصناف التجارة إلى بغداد.
ومن أهم المنسوجات الثمينة الخز، وهو نسيج ناعم يصنع من الحرير ومن وبر الخرز وهو ذكر الأرانب،٢٤ والأبريسم حرير خالص، والديباج نسيج حرير موشى بالقصب بأشكال الحيوانات ونحوها، والبز نسيج قطني ثمين وغير ذلك من أصناف الحرير والكتان والأوداري، والملحم والمعلم والمنير ومنسوجات الشعر أو الوبر أو الصوف، وما يلحق ذلك من أنواع السمور والقاقم وغيره؛ يصنعون منها الأقبية والدراريع والطيالسة والجبب والعمائم والأبراد والغلائل والملاحف والمآزر والسراويلات والشاشيات والتكك وغيرها.
وكان الصناع يتبارون في إتقان هذه الصناعات ويغالون في ترفيعها، لما يلاقونه من البذل في ابتياعها لتوفر الثروة بين أيدي الناس ولا سيما الخليفة وأهل دولته، فكان هؤلاء يتهافتون على اقتناء الألبسة، لا يبالون كم يكون ثمنها حتى بلغت قيمة العمامة من الديبقي خمسمائة دينار، وهم مع ذلك يكثرون من اقتنائها، وربما لبس الواحد ٩ أقبية كل قباء بلون خاص للمفاخرة في البذخ، وقد تزيد على أضعاف حاجتهم إليها فيجتمع عند أحدهم عشرات أو مئات أو ألوف من القطعة الواحدة ولا سيما الخلفاء، مثاله ما خلفه المكتفي بالله من الألبسة وهو:
عدد
٤٠٠٠٠٠٠ من الثياب المقصورة سوى الخامات.
٦٣٠٠٠ من الأثواب الخراسانية المروية.
٨٠٠٠ من الملاءات.
١٣٠٠٠ من العمائم المروية.
١٨٠٠ من الحلل الموشاة اليمانية وغيرها منسوجة بالذهب.
١٨٠٠٠ من البطائن التي تحمل من كرمان في أنابيب القصب.
١٨٠٠٠ من الأبسطة الأرمنية.

وتوفى ذو اليمينين وفي خزانته ١٣٠٠ سروال لم يستعملها، ووجدوا في كسوة بختيشوع الطبيب ٤٠٠ سروال ديبقي، ولما قتل برجوان خادم الوزير بمصر وجدوا في تركته ألف سروال ديبقي بألف تكة حرير.

وغالوا في البذخ حتى كسوا دوابهم المنسوجات الحريرية الموشاة، وكان الفاطميون يلبسون الفيلة أجلة في الخسرواني الأحمر المذهب، وكان في القاهرة دار يصنع فيها الديباج ونحوه، وكان عند الفاطميين خزانة للثياب يسمونها دار الكسوة يصطنعون فيها جميع أنواع الثياب والبز، ويكسون بها الناس على اختلاف أصنافهم كسوة الشتاء وكسوة الصيف، وقد فصل المقريزي ما تحويه تلك الدار من الألوان والأشكال،٢٥ ولما جهز خمارويه ابنته قطر الندى إلى الخليفة المعتضد العباسي كان من جملة الجهاز ألف تكة ثمن الواحدة عشرة دنانير،٢٦ وقس عليه سائر الملابس.

(٣-٣) الأثاث والرياش والمجوهرات

كان الخلفاء الراشدون يجلسون على الأرض مثل سائر الناس وكذلك عمالهم، فكان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب، ويأتيه المقوقس ومعه سرير الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك يومئذ، فيجلس عليه وهو على ما تقدم، وفاء له بما اعتقد معهم من الذمة واطراحًا لأبهة الملك، فما لبث المسلمون أن تحضروا وأثروا حتى اتخذوا الأسرة من الذهب والعاج وفاقوا الأكاسرة والقياصرة قبلهم، وأول من اتخذ السرير في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، ويريدون بالسرير المقعد أو الكرسي الكبير، ولم يقعد معاوية على ذلك إلا بعد استئذان المسلمين، واعتذر بثقل جسمه فزعم أنه بدين، فأذنوا له فاتخذه واقتدى به من جاء بعده من الخلفاء.٢٧

الأثاث والرياش عند الفرس

لما خرج المسلمون للفتح في زمن الراشدين كان أكثر ما لقوه من الفرش الفاخر والمجوهرات الثمينة في فارس وعند فتح المدائن، فدهشوا منه ولم يعرفوا قيمته، ذكروا بدويًّا ظفر يوم المدائن بحجر من الياقوت كبير يساوي مبلغًا عظيمًا فلم يدر قيمته، فاشتراه منه بعضهم بألف درهم، ثم علم أنه كان يساوي أضعاف ذلك المبلغ فلامه أصحابه على تفريطه به فقال: «لو عرفت عددًا أكثر من الألف لطلبته.»٢٨
وكان في جملة ما عثروا عليه في المدائن كثير من الآنية والحلية الذهب المرصعة بالجوهر، وفيها تاج كسرى نفسه وألبسة من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر، وظفر آخرون بسفطين في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثغره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة وفارس من فضة مكلل بالجوهر، وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب مكلل بالجوهر، ووقع لهم بساط يسمونه القطيف طوله ٦٠ ذراعًا في ٦٠ مطرز بالصور وعليه فصوص كالأنهار أرضها مذهبة، وخلال ذلك فصوص كالدر، وفي حافته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع، والورق من الحرير على قضبان الذهب والفضة وثمره الجوهر، وحمل هذا البساط إلى عمر في المدينة فقطعه وفرقه في أصحابه مثل سائر الغنائم.٢٩
وكان عمر إذا جاءته الغنائم من العراق وفيها الجوهر بكى لما كان يخافه من مصير المسلمين إلى الترف المؤذن بالانحدار، وكذلك أبو بكر الصديق، وله السبق في نصرة الإسلام والفضل في تأييده، فلما حضرته الوفاة وبخ المهاجرين وخوفهم وقال: «والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير.» والنبي قبلهما نهى عن لبس الحرير واتخاذ آنية الذهب،٣٠ فلم ينفعهم ذلك كله، فما كادوا يأخذون بأطراف الحضارة حتى انغمسوا في أسباب التنعم بالفرش الوثير والرياش الفاخر.
بدأ بذلك الأمويون لما تقدم من رغبتهم في الدنيا وتحويلهم الخلافة إلى الملك، فأكثر خلفاؤهم المسرفون ولا سيما الوليد بن يزيد من عقود الجوهر يغيرها في كل يوم كما تغير الثياب، وكان يجمعه من كل وجه ويغالي فيه حتى أغلاه،٣١ على أنهم اقتصروا من أسباب الحضارة على مثل ذلك لرغبتهم في البقاء على البداوة، إلا ما اتخذوه من الستائر المطرزة التي كانت تُصنع لهم في مصر كما تُصنع للروم من قبل، عليها طراز باليونانية مفاده البسملة عند النصارى،٣٢ فأبدلها عبد الملك بالطراز العربي بسورة التوحيد، غير ما استعملوه من الوسائد المزركشة.

الأثاث والرياش عند العباسيين

لما انتقلت الخلافة إلى العباسيين اشتغل السفاح والمنصور بتأسيس الدولة وتأييدها، فلما تأيد سلطانهم مالوا إلى الترف فأخذوا بتقليد الدول السابقة لهم عملًا بناموس العمران، فاقتنوا الأسرة الذهب المرصعة بالجوهر أو الأبنوس المطعم بالعاج، واتخذوا المقاعد والنمارق والكراسي، ونصبوا منائر الذهب أوقدوا فيها الشموع من العنبر، وعلقوا الستور المطرزة والموشاة، وافترشوا البسط والطنافس المزركشة والحصر المنسوجة بالذهب المكللة بالدر والياقوت،٣٣ وغالوا في اقتناء آنية الذهب والفضة يأتون من كل بلد بأحسن مصنوعاته وأثمنها فحملوا الستور المعلمة من فسا، والبسط والمصليات من تستر وبخارا، والحصر من عبادان، والمقاعد من دشت، على أن أحسن أصناف الفرش المذهبة بطراز الذهب كانت تأتيهم من أرمينية، والطاقم الأرمني — وهو عشر مصليات بمخادها ومساندها ومطارحها وبساطها — يساوي خمسة آلاف دينار،٣٤ وكانت أطباق الخشب لآنية الطعام تأتيهم من طبرستان، والزجاج والخزف من البصرة وأكثره وارد في الأصل من بلاد الصين على ما فصلناه في كلامنا عن التجارة من هذا الجزء، ولكن الزجاج الرقيق كان يُحمل إليهم من الشام وكان يضرب به المثل بالرقة والصفاء فيقال: أرق من زجاج الشام، وأصفى من زجاج الشام٣٥ اتخذوا ما تقدم من الآنية والمفروشات تقليدًا للفرس والروم على ما كانت عليه عندهم، ثم عربوها فجعلوا ما ينقش عليها من الكتابة باللغة العربية بين أمثال وأشعار وحكم ينقشونها على الستور ويعلقونها بمسامير الذهب والفضة،٣٦ ويزركشون البسط والطنافس فيرسمون في أواسطها أشكالًا وصورًا مما في البر والبحر ويطرزون حواشيها بالذهب أو القصب أبياتًا من الشعر، وربما طرزوا دور البساط (أي: حافته) بقصيدة،٣٧ وغالوا في الزخرفة حتى نقشوا الأشعار على آنية البلور وأطباق الطعام وعلى جدران القاعات وفوق أبوابها — يتفاوت ذلك شكلًا ومقدارًا بتفاوت طبقات الناس من المطرز بالحرير إلى المزركش بالقصب فالمحلى بالذهب فالمرصع بالجوهر — كالبساط الذي كان لأم المستعين، وعليه صورة كل حيوان من جميع الأجناس وصورة كل طائر من ذهب وأعينها يواقيت وجواهر أنفقت في صنعه ١٣٠٠٠٠٠٠٠ درهم.٣٨
وأحدث العباسيون في عهد الرشيد أشكالًا من الفرش وفنونه لم يسبقهم إليها أحد، منها ما ينسبون اختراعه إلى زوجته زبيدة، فقد ذكروا أنها أول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق.٣٩
واخترع العباسيون المذاب وهي نوع من المراوح لم تكن معروفة قبلهم،٤٠ وتفننوا في تزيينها وكتابة الأشعار عليها مما يناسب المراد بها أو يشار به إلى غرض، كما فعل أبو العتاهية في طلب الجارية عتبة من الرشيد، وكان يخاف أن يرده، فأهدى إليه ثلاث مراوح كتب على كل منها بيتًا هذا مجموعها:
ولقد تنسمت الرياح لحاجتي
فإذا لها من راحتيه شميم
أعلقت نفسي من رجائك ما له
عنق يحث إليك بي ورسيم
ولربما استأسيت ثم أقول لا
إن الذي ضمن النجاح كريم٤١
على أن كتابة الأشعار على المراوح كانت معروفة في أيام بني أمية.٤٢

المجوهرات عند العباسيين

غالى الخلفاء العباسيون في اقتناء المجوهرات، ولا سيما الدر، وهو اللؤلؤ الكبير والياقوت الأحمر القاني ويسمى البهرماني، ويتلوه الأحمر المشرقي الرماني ثم الأزرق الغميق وتشوبه زرقته حمرة ويسمى الاسمانجوني، وبعده الأصفر وهو الفاقع اللون وبعده الذهبي، ولكل من هذه الأشكال قيمة تختلف باختلاف الصفاء والحجم، ومنها الزمرد وأحسنه يعرف بالذبابي لقرب لونه من لون الذباب الكبير المائل إلى الخضرة، والماس كانوا يفضلون منه ما يشوب لونه حمرة يسيرة؛ هذا أهم ما كانوا يتفاخرون باقتنائه من الحجارة الكريمة، وأما الفيروز والمرجان والعقيق والجزع فقلما كان الملوك يقتنونه لكثرته.

وأكثر ما تناقله المسلمون من الحجارة الكريمة في أوائل دولتهم مأخوذ من غنائم الفرس؛ لأنهم غنموا ما يفوق الحصر من الجواهر التي قضى الفرس الأجيال وهم يجمعونها ويتوارثونها، فقبضها العرب صفقة واحدة ولم يعرفوا قيمتها كما بيناه آنفًا، وأصابوا نحو ذلك لما حاربوا الأكراد فإنهم غنموا سفطًا فيه جوهر حملوه إلى عمر في جملة الغنائم، فأمر ببيعه وقسمة ثمنه في المسلمين، فباعه وقسمه وكان الفص يُباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفًا.٤٣
ولما تحضروا صاروا يشترون الجواهر بالأثمان الغالية، فاشترى الرشيد فص ياقوت أحمر بأربعين ألف دينار، وكان قديمًا ويعرف بالجبل والملوك تصونه، فنقش عليه الرشيد اسمه،٤٤ واشترى فصًّا آخر بمائة وعشرين ألف درهم،٤٥ وعرض أحد تجار المصوغات ببغداد على يحيى بن خالد سفط جوهر فساومه على ثمنه بسبعة ملايين درهم.٤٦

وكثيرًا ما كانوا يستخدمون الجواهر بدلًا من المبالغ الكبيرة، فإذا عزم أحدهم على سفر طويل يستغرق نفقة عشرة آلاف دينار مثلًا، فبدلًا من أن يحمل ذلك المال ذهبًا أو فضة استبدله بجوهرة أو عدة جواهر يسهل حملها في الجيب، فإذا وصل إلى البلد المقصود باع الجواهر وأنفق من ثمنها كما يفعل الناس اليوم بتحاويل المصارف المالية أو البنكنوت (العملة الورقية).

وكان الأمويون يرغبون في المجوهرات أيضًا، وقد رصعوا بها الحلي وبعض الآنية واصطنعوا منها العقود للبسهم ولبس نسائهم وجواريهم، أما العباسيون، فبالغوا في ذلك حتى نظموها في عصائب نسائهم كما فعلت أخت الرشيد،٤٧ ورصعوا بها خفافهن كما فعلت أم جعفر زوجته.٤٨

فكان الخلفاء العباسيون يقتنون من الآنية والفرش والمجوهرات والثياب ما لا يعلم مقداره إلا الله، يدلك على ذلك ما قدمناه مما خلفه المكتفي وغيره وما أخرجوه من خزائنهم في فتنة البساسيري في أواسط القرن الخامس من جملته ٧٥٠٠٠ قطعة ديباج و١١٠٠٠ كزاغند و٣٠٠٠٠ سيف، وهو بعض ما كان في دار الخليفة، ومع ذلك فهو لا يقاس بما كان عند الفاطميين كما سترى.

وقد أنكر ابن خلدون ما ذكره المؤرخون عن ترف بني العباس في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم، لما كانوا عليه من خشونة البداوة،٤٩ واستشهد بالمسعودي والطبري، ولا ينطبق رأيه في ذلك على ما ذكره هذان ولا على ما قاله هو نفسه؛ لأن المسعودي هو الذي أخبرنا بنظم الجوهر في خفاف أم جعفر وهي من أقرب الناس للتقوى، والطبري أورد أخبارًا كثيرة، تدل على ترف العباسيين في عصر الرشيد، غير ما ذكره غيرهما من ثقات التاريخ والأدب المتقدمين كأصحاب الأغاني والعقد الفريد والكامل والمعارف وغيرهم، ونقل المؤرخون عنهم ذلك ولم يكبروه ولا اعترضوا عليه، حتى ابن خلدون نفسه فقد ذكر في مقدمة تاريخه «أن المأمون أعطى بوران في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت، وقد أوقد شموع العنبر في كل واحدة مائة مَنّ وهو رطل وثلثان، وبسط لها فرشًا كان الحصير منها منسوجًا بالذهب مكللًا بالدر والياقوت.»٥٠ ويلوح لنا أن ما كانوا يتجافون عنه في صدر الدولة العباسية إنما هو الركوب بحلية الذهب، وأول من ركب فيها منهم المعتز بالله،٥١ فمؤرخنا الفيلسوف شديد الرغبة في تنزيه العباسيين عن الترف وهم من أعرق الخلفاء فيه.

بذخ الفاطميين

كان العباسيون قدوة لمن قام بعدهم من الدول الإسلامية في مصر والشام والمغرب والأندلس، فالفاطميون بمصر كانوا يناظرون العباسيين في كل شيء حتى في أسباب الحضارة، وكان التمدن الإسلامي قد نضج والدولة العباسية أخذت في التقهقر، ففاقوهم في كثير من أسباب البذخ والترف، ولا سيما من حيث الأثاث والرياش والثياب، فقد رأيت أن العباسيين رصعوا عصائب نسائهم وخفافهن بالجواهر، ولكن الفاطميين رصعوا بها آنية المطبخ واتخذوا كوز الزير من البلور مرصعًا بالجوهر، وكللوا المزيرة بحب اللؤلؤ النفيس، وتأنقوا في المصوغات حتى اتخذوا منها التماثيل المرصعة للزينة في مجالسهم، فإذا جلس الخليفة في إحدى المناظر للراحة أو تبديل الثياب وضعوا بين يديه الصواني الذهب، عليها أشكال الصور الآدمية والوحشية من الفيلة والزرافات ونحوها، معمولة من الذهب والفضة والعنبر والمرسين المشدود والمظفور عليها، المكلل باللؤلؤ والياقوت والزبرجد، ومن الصور الوحشية ما يشبه الفيلة بينها عنبر معجمون كخلقة الفيل وناباه فضة وعيناه جوهرتان كبيرتان، في كل منهما مسمار ذهب مجري سواده، وعلى الفيل سرير منجور من عود بمتكات فضة وذهب، وعليه عدة من الرجال ركبان عليهم اللبوس تشبه الزرديات، وعلى رءوسهم الخوذ وبأيديهم السيوف المجردة والدرق وجميع ذلك فضة، ثم صور السباع منحورة من عود وعينا السبع ياقوتتان حمراوان وهو على فريسته وأشكال من سائر الوحوش، وأصناف تشد من المرسين المكلل باللؤلؤ شبه الفاكهة.٥٢
وكان للفاطميين في القاهرة دور يختزنون بها أدوات الترف والبذخ يسمونها خزائن، بعضها للفرش والبعض الآخر للجوهر وآخر للطيب وآخر للبنود وآخر للسلاح وآخر للسرج أو الدرق أو الكسوات أو الأدم أو الشراب أو التوابل أو الخيم، وكان الخليفة يذهب إلى مجالس خاصة له في تلك الخزائن، والمجلس عبارة عن دكة عليها طراحة ولها فراش يخدمها وينظفها ليجلس الخليفة عليها إذا زار تلك الخزانة، وقد توسع المقريزي في وصف هذه الدور وما حوته من الآلة والرياش والثياب والجواهر والأطياب مما يضيق عنه هذا المقام فليراجع في مكانه،٥٣ ونأتي بشيء من ذلك على سبيل المثال:

الحلي والجواهر عند الفاطميين

فمما أخرجوه من خزانة الجوهر في أيام الشدة على عهد المستنصر بالله (توفي سنة ٤٨٧ﻫ) صندوق فيه سبعة أمداد زمرد سألوا الصياغ عن قيمتها فقالوا: إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجودًا، واستخرجوا خريطة فيها ويبة جوهر قال الصياغ: إن قيمته لا تقدر وأصل ثمنه ٧٠٠٠٠٠ دينار بيع يومئذ بعشرين ألف دينار، ووجدوا ما لا يُحصى من أقداح البلور المنقوش والمجرود وصحونًا من الميناء منها ما يساوي مئات من الدنانير، وفي مكان آخر ١٨٠٠٠ قطعة من بلور تتراوح أثمانها بين عشرة دنانير وألف دينار كل قطعة، وصوان من الذهب المجراة بالميناء وغير المجراة المنقوشة بأنواع النقوش، و١٧٠٠٠ غلاف خيار مبطن بالحرير محلاة بالذهب، ونحو مائة كأس بادزهر وأشباهها على أكثر اسم هارون الرشيد.

غير ما وجدوه هناك من الصناديق المملوءة بالسكاكين المذهبة والمفضضة وأنصابها من الجواهر المختلفة، وصناديق مملوءة دوي (جمع دواة) على اختلاف الأشكال من الذهب والفضة والصندل والعود والأبنوس والعاج، محلاة بالجواهر مما يساوي ألف دينار إلى بضعة آلاف كل دواة، وعدة أزيار مملوءة كافورًا وعدة جماجم عنبر ونوافج المسك التيبتي وشجرة العود وغيره.

ومما خلفته رشيدة بنت المعز وحفظ هناك ما قيمته ١٧٠٠٠٠٠ دينار من جملتها ١٢٠٠٠ من الثياب المصمت ألوانًا و١٠٠ قاطرميز مملوءة كافورًا قيصوريًا ومعممات بجواهر من أيام المعز، وبيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، ومثل ذلك مما تركته عبدة بنت المعز أيضًا ويطول شرحه، وخزائن مملوءة بأنواع الصيني تساوي القطعة منها ألف دينار، وحصير من الذهب وزنه عشرة أرطال يظن أنه الحصير الذي حملت عليه بوران بنت الحسن بن سهل لما زُفت إلى المأمون كما تقدم، وصوان من الذهب كان ملك الروم أهداها إلى العزيز بالله.

ووجدوا أنواعًا من الشطرنج والنرد مصنوعة من الجوهر والذهب والفضة أو العاج أو الأبنوس، وعددًا كبيرًا من الزهريات ونحوها، ومن تماثيل العنبر ٢٢٠٠٠ قطعة أقل تمثال منها وزنه ١٢ مَنًّا، ومن تماثيل الخليفة ما لا يحد، والكلوتة (أي: الطاقية للرأس) المرصعة بالجوهر قيمتها ١٣٠٠٠٠ دينار فيها من الجوهر ١٧ رطلًا، وطاووس من ذهب مرصع بنفيس الجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من الزجاج المينا المجرى بالذهب على ألوان ريش الطاووس، وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر بطنه أبيض قد نظم من در رائق، ومائدة من الجزع يقعد عليها جماعة قوائمها مخروطة، ونخلة ذهب مكللة بالجوهر وبديع الدر في أجانة من ذهب تجمع الطلع والبلح والرطب بشكله ولونه وعلى صفته وهيئته من الجواهر قيمتها لا تقدر، وكوز زير بلور مرصع يحمل عشرة أرطال ومزيرة مكللة بحب لؤلؤ نفيس وقس على ذلك عشرات من أمثاله.

الفرش والأثاث عند الفاطميين

ووجدوا في خزائن الفرش من أصناف الأثاث والرياش ما يعد بالألوف، من ذلك ١٠٠٠٠٠ قطعة خسرواني أكثرها مذهب، ومراتب خسرواني وقلموني ثمن الواحدة ٣٥٠٠ دينار، وأجلة معمولة للفيلة من الخسرواني الأحمر المذهب، و٣٠٠٠ قطعة خسرواني أحمر مطرز بأبيض من هدبها لم يفصل من كساء البيوت كاملة بجميع آلاتها ومقاطعها، وكل بيت يشتمل على مسانده ومخاده ومساوره ومراتبه وبسطه ومقاطعه وستوره وكل ما يحتاج إليه، ومثل ذلك من المخمل والديباج وسائر أنواع الحرير وعليها أشكال الصور من كل شيء، ونحو ألف من الستور الحرير المنسوجة بالذهب على اختلاف ألوانها وأطوالها، فيها صور الدول وملوكها ومشاهيرها وعلى صورة كل واحد اسمه ومدة أيامه وشرح حاله، و٤٠٠٠ رزمة خسرواني مذهب في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه وسائر آلاته منسوجة في خيط واحد، ومن جملتها مقطع من الحرير الأزرق التستري غريب الصنعة منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير كان المعز لدين الله أمر بعمله، وفيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها شبه الخارطة الجغرافية، وفيه صورة مكة والمدينة ومكتوب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب والفضة أو الحرير، وقد كتب في آخره «مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقًا إلى حرم الله وإشهارًا لمعالم رسول الله في سنة ٣٥٣ﻫ.»

فاعتبر ما تدل عليه هذه الآثار من رقي المدنية والحضارة، وكم تكون قيمتها لو وجدت الآن وكم يدفع المتمولون من المبالغ في الحصول عليها.

وقس عليه ما كان في سائر الخزائن من التحف، ففي خزانة السلاح سيف الحسين بن علي، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق، ومئات الألوف من الدروع والسيوف والقسي والرماح وغيرها، وفي خزانة السروج ألوف من السروج الثمينة ومنها ما يساوي ألف دينار، وفي خزانة الخيم أنواع الفساطيط والمضارب والمسطحات والحصون والقصور، والشراعات والمشارع العمومية من الديبقي والمخمل والخسرواني والديباج المكي والأرمني والبهنساوي والكردواني، وغير ذلك على اختلاف الألوان والنقوش من المفيل والمسبع والمخيل والمطوس والمطير غيرها من أشكال السباع والطيور والآدميين مما ينصب على أعمدة ملبسة بالفضة، ومن هذه الفساطيط ما يبلغ طوله ٦٥ ذراعًا كبيرًا يحمله مع ملحقاته مائة جمل، وفي خزانة البنود كثير من الرايات والأعلام الساذجة والمطرزة وغيرها.

ومن أدلة الترف والإسراف في هذه الدولة أن السيدة الشريفة ست الملك أخت الحاكم بأمر الله أهدت أخاها هذا هدايا من جملتها ثلاثون فرسًا بمراكبها ذهبًا، منها مركب واحد مرصع ومركب من حجر البلور وتاج مرصع بنفيس الجوهر وبستان من الفضة مزروع من أنواع الشجر.

وقد يتبادر إلى الذهن أن ما تقدم ذكره لا يخلو من مبالغة أو هو من قبيل الأحاديث الخرافية، ولكن مصر اشتهرت في العصور الإسلامية الوسطى بالثروة مثل شهرة بغداد في إبان حضارتها، واشتهر المصريون بالترف والغنى حين كان الناس يشكون الضيق،٥٤ ولذلك قالوا: «من دخل مصر ولم يستغن فلا أغناه الله.» وقد تواتر ذكر هذه التحف وأمثالها في كتب الثقات وبعضهم شهد الأمر بنفسه، ورأى هذه التحف رأي العين ومنهم ابن الأثير المؤرخ الشهير، فقد ذكر في حوادث سنة ٥٦٧ﻫ التي أقام فيها السلطان صلاح الدين الخطبة بمصر للدولة العباسية واستولى على ما كان باقيًا في قصور الخلافة من التحف والجواهر بعد ما أصابها من النهب في فتنة المستنصر وغيره؛ قال: «وحمل الجميع إلى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا من مثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند غيرهم، فمنه الحبل الياقوت وزنه سبعة عشر درهمًا أو ١٧ مثقالًا أنا لا أشك؛ لأني رأيته ووزنته، واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير.»٥٥

بذخ الأندلسيين

واقتدى بالعباسيين في الترف والبذخ الأندلسيون، ولكنهم لم يبلغوا مبلغ المصريين فيهما، على أن بعضهم تفنن بذلك على شكل لم يسبقه أحد إلى مثله، فالمنصور بن أبي عامر في أواخر القرن الرابع قدم عليه رسول ملك الروم، وهو أعظم ملوك النصارى في ذلك الزمان، ليطلع على أحوال المسلمين وقوتهم، فأراد المنصور أن يبغته بما يطلعه عليه من عز الدولة وثروة المملكة، فأمر أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر، ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضة فسبكت قطعًا صغارًا قدر ما تسع النيلوفرة، وملأ بها جميع النيلوفر وبعث إلى الرسول فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه بالزاهرة فأجلسه بحيث يشرف على موضع البركة، فلما قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم الأقبية والمناطق من الذهب والفضة، وبيد ٥٠٠ منهم أطباق من ذهب وبيد ٥٠٠ أطباق من فضة، فتعجب الرسول من جمالهم ولم يدر الغرض من مجيئهم، فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر في البركة وبادروا لأخذ الذهب والفضة منه، وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضة والفضة في أطباق الذهب، حتى التقطوا جميع ما فيها وجاءوا به فعرضوه بين يدي المنصور حتى صار كومًا، فتعجب الرسول من ذلك وطلب المهادنة. واصطنع المنصور هذا نموذج قصر من فضة لصبح أم هشام، وحمله إليها على رءوس الرجال استجلابًا لحبها.٥٦
وأغرب منه ما فعله المعتمد الأندلسي لأم أولاده الرميكية الملقبة اعتماد، وقد رأت ذات يوم نساء البادية بإشبيلية يبعن اللبن في القرب وهن رافعات عن سوقهن في الطين فقالت: «يا سيدي أشتهي أن أفعل أنا وجواري مثل هؤلاء النساء.» فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصير الجميع طينًا في القصر، وجعل لها قربًا وحبالًا من الأبريسم وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين.٥٧
وقس على ذلك سائر ملوك الإسلام في عصر الترف، فقد كان عند سنجر بن ملكشاه ١٠٣٠ رطلًا من الجوهر ولم يسمع بمثله عند الملوك، وكانوا يقيسون الإسراف أحيانًا بما ينفقونه من الشمع في الأضواء، فذكروا أن وظيفة كل من ابن بقية وعز الدولة ألف رطل من شمع في الشهر،٥٨ واشتهر محمد الأمين بكبر شمعه، ولم يكن ذلك الترف قاصرًا على الخلفاء والملوك والأمراء، ولكنه كان يتناول سائر رجال الدولة، ومن يرتزق منهم، وأما العامة فربما كانوا في أشد الضيق، راجع الجزء الثاني من هذا الكتاب.

(٣-٤) التسري

هو اقتناء الجواري للتمتع بهن أو استيلادهن، وقد علمت ما كان من تكاثرهن والاتجار بهن وتربيتهن وتهاديهن في ذلك العصر، ونتكلم هنا عما بعث عليه الترف من تسريهن، وكثيرًا ما يعقب التسري التزوج، فإذا ولدت الجارية لأحدهم تزوجها، وكان العرب يكرهون التزوج بالجواري، فمع كثرتهن في صدر الإسلام لم يتزوج الراشدون جارية،٥٩ ولكن المسلمين كانوا يتسرونهن للفراش، فتوفي الإمام علي عن ٤ نسوة و١٧ سرية،٦٠ وكانت تلد الجارية لأحدهم فيبيعها كما يبيع سائر الجواري، فنهى عمر عن بيع أمهات الأولاد،٦١ وكانت العرب على كل حال تحتقر أبناء الجواري، حتى نبغ منهم ثلاثة من كرام الرجال أمهاتهم من بنات يزدجرد،٦٢ فرغب الناس في التسري.
وليس المسلمون أول من اقتنى السراري، فالتسري كان شائعًا عند الرومانيين، والسرية عندهم أحط منزلة من الزوجة، ولكن علاقتها مع الرجل كانت شرعية، وكانوا في أول أمرهم كالعرب يكرهون التسري، حتى تقدمهم فيه اثنان من كبار أمرائهم فعكفوا عليه.٦٣
وزادت رغبة المسلمين في التسري في إبان الحضارة، حتى أصبح أكثر أبناء الخلفاء من أولاد الجواري،٦٤ وأكثر نساء أهل الدولة منهن، واقتدى بهم سائر الوجهاء والأغنياء، فعمدوا إلى اقتناء السراري، ومن ولدت له تزوجها أو أعتقها، فبلغ عددهن عند بعض الخلفاء عدة آلاف، ذكروا أنه كان للمتوكل العباسي ٤٠٠٠ جارية وطئهن جميعًا،٦٥ وعلم الأمراء برغبته فيهن فتقربوا إليه بالهدايا منهن، فأهداه عبد الله بن طاهر ٤٠٠ وصيفة،٦٦ وكان لنصر الدولة صاحب ميافارقين ٣٦٠ سرية على عداد أيام السنة،٦٧ غير ما كانوا يقتنونه من الجواري للغناء، فقد كان عند الرشيد ٢٠٠٠ جارية،٦٨ منهن ٣٠٠ قينة للغناء والضرب على آلات الطرب.٦٩
وأصبح الاستكثار من الجواري عادة مألوفة، حتى صار النساء يقتنينهن للزينة، فكان عند أم جعفر البرمكي ٤٠٠ وصيفة يخدمنها،٧٠ وقد رأيت ما اتخذته زبيدة من الجواري المقدودات وكيف ألبستهن ملابس الغلمان فقلدتها الوجيهات من أهل اليسار، فاتخذت الجواري المطمومات أو الغلاميات، ثم تبارى الخلفاء وسائر الكبراء في ذلك، حتى ألف القاهر بالله العباسي جوقًا من الجواري بقد واحد ألبسهن القراطق والأقبية والطرر والأقفية والمناطق من الذهب أو الفضة كأنهن الغلمان.٧١
وقس على ذلك سائر دول المسلمين في المشرق والمغرب، وقد فاق الفاطميون سواهم في الإكثار من الجواري أيضًا، فكان في قصر الحاكم بأمر الله ١٠٠٠٠ جارية وخادم،٧٢ وكان عند أخته السيدة الشريفة ست الملك ٨٠٠٠ جارية منها ١٥٠٠ من البنات الأبكار،٧٣ ولما قبض صلاح الدين على قصورهم وجد في القصر الكبير ١٢٠٠٠ نسمة ليس فيها فحل إلا الخليفة وأهله وأولاده، غير الخدم والغلمان والأمتعة والتحف، وأطلق صلاح الدين البيع فيهم فاستمروا يبيعون عشر سنين،٧٤ ويقال نحو ذلك في السلاطين المماليك بمصر وبني أمية في الأندلس مما يطول شرحه، ولا يزال مثاله عند بعض أمراء الشرق وملوكه إلى اليوم (قبل الحرب العالمية الأولى).

أثمان الجواري

والاستكثار من الجواري في أوائل الإسلام لم يكن يحتاج إلى نفقة كبيرة لكثرة السبايا، فلما نضج التمدن صاروا يبتاعونهن ويغالون في رفع أثمانهن، وكانت أسعارهن تتضاعف إذا جمعن بين الجمال ورخامة الصوت وصناعة الغناء، ويختلف ثمن الجارية من بضع مئات إلى بضعة آلاف أو مائة ألف دينار، وأول من بذل في هذا السبيل إلى هذا المقدار سعيد أخو سليمان بن عبد الملك، فابتاع «الذلفاء» الجارية الشهيرة بمليون درهم،٧٥ (نحو ٧٠٠٠٠ دينار).
وابتاع الرشيد جارية بمائة ألف دينار،٧٦ وجارية أخرى اشتراها من إبراهيم الموصلي بمبلغ ٣٦٠٠٠ دينار فباتت عنده ليلة ثم أرسلها إلى الفضل وطلب محمد الأمين إلى جعفر بن الهادي أن يبيعه جارية له اسمها «بذل» فأبى، فأمر فأوقروا قاربه ذهبًا فبلغت قيمة ذلك ٢٠٠٠٠٠٠٠ درهم،٧٧ أي أكثر من مليون دينار، وهذا إذا صح كان أعظم ما بلغ إليه بذلهم في أثمان الجواري.

وأما ما خلا ذلك فقد اشترى يزيد بن عبد الملك الأموي «سلامة» المغنية بعشرين ألف دينار، وبيعت الجارية «ضياء» بخمسين ألف دينار، واشترى جعفر البرمكي جارية بأربعين ألف دينار، وابتاع الواثق بالله جارية مولدة للغناء اسمها «الصالحية» بعشرة آلاف دينار، وقس عليه ما دون ذلك وما فوقه، واعتبر مقدار ما كانوا ينفقونه من الأموال في اقتنائهن.

(٣-٥) السخاء

علمت مما تقدم انطباع العرب على السخاء من أيام جاهليتهم، وأنهم اضطروا للمحافظة عليه بعد الإسلام حتى أصبح من قواعد الارتزاق فيمن يحومون حول الخليفة وأهل الدولة، فلما توفرت الأموال في أيدي هؤلاء وتمتعوا بالحاجات والكماليات من الملاذِّ الجسدية تطلبوا الملاذَّ المعنوية بحسن الأحدوثة، وهم أهل أريحية يستفزهم الإطراء والاستنجاد، فوجدوا في السخاء بابًا واسعًا لتلك الملاذِّ، فبذلوا الأموال على الشعراء والندماء والمغنين والمستجدين من سائر الطبقات، لما في ذلك من لذة الفخر أو توقع الأجر.

مبلغ السخاء على العموم

وقد ذكرنا في كلامنا عن الارتزاق بالسخاء ما الذي بعث على بقاء هذه المنقبة الجاهلية حتى صارت سنة مرعية، وتدرج المسلمون فيها بتدرجهم في الحضارة والمدنية، وزادت جوائزهم بزيادة الثروة واتساع الأرزاق، فكان الأمويون يعطون بالألف درهم أو بضعة آلاف يلحقونها ببعض الماشية أو الكسوة أو الخيل، وإذا توسموا في العطاء مصلحة جعلوا الصلة عشرة آلاف أو عشرات الألوف أو مائة ألف أو مئات الألوف، كما فعل معاوية في استرضاء الناس واكتساب بني هاشم إلى حزبه، فإنه جعل صلات أبناء الصحابة ملايين يبذلها رواتب كل عام، وهو أول من فعل ذلك من المسلمين، غير ما كان يصلهم به من الهدايا لسبب أو لغير سبب، كما فعل لما وُلد لعبد الله بن جعفر غلام فبذل له ١٠٠٠٠٠ درهم على أن يسميه معاوية فرضي، ولكنه أعطى تلك الصلة للذي بشره بالغلام.٧٨
واقتدى بمعاوية من خلفه من الأمويين وأمرائهم، واشتهر من هؤلاء آل المهلب بالسخاء في الدولة الأموية، كما اشتهر البرامكة في الدولة العباسية،٧٩ ومن أسخياء عمالهم خالد القسري والحجاج بن يوسف إذا مست الحاجة إلى السخاء، فالحجاج أعطى للذي توسط في زواجه بهند بنت أسماء ثلاثين غلامًا مع كل غلام عشرة آلاف درهم، وثلاثين جارية مع كل جارية تخت من ثياب وغير ذلك،٨٠ وكان سعيد بن العاص لا يرسل إلى أحد هدية مع عبد إلا كان العبد في جملتها.٨١
أما العباسيون فكانت الثروة في أيامهم أوفر، فبلغت عطياتهم عشرات الملايين من الدراهم، وأول من أعطى هذا القدر منهم المنصور،٨٢ ثم صاروا يهبون الضياع وخراج البلاد، أو يوقرون الزوارق ذهبًا أو فضة، أو يهدون الغلمان يحملون بدر المال، أو يرسلون الجائزة على مئات من الدواب، أو يولون الولايات والأعمال، وتزداد جوائزهم إذا استخفهم الطرب أو استفزهم الإطراء، فقد ولى السفاح رجلًا الأهواز بقصيدة،٨٣ والغالب أن يكون سخاؤهم لغرض سياسي يعود نفعه على الدولة، كما فعل المنصور إذ أعطى في يوم واحد عشرة ملايين درهم فرقها في أعمامه ووجوه قواده ليقطع ألسنتهم عن مقاومته، ولما تولى ابنه المهدي استكتب أسماء أولاد المهاجرين والأنصار وجلس مجلسًا عامًّا فرق فيه ٣٠٠٠٠٠٠ درهم، وقرر لكل واحد من أهل بيته ٦٠٠٠ درهم كل سنة،٨٤ وأعطى المغيرة بن حبيب ألف فريضة يضعها حيث شاء،٨٥ وفرق الرشيد في يوم واحد ١٣٥٠٠٠٠ دينار،٨٦ وطرب يومًا فنثر على الناس ٦٠٠٠٠٠٠ درهم،٨٧ وأعطى الهادي لعبد الملك بن مالك صاحب شرطة أبيه مالًا أرسله إليه على ٤٠٠ بغل موقرة دراهم،٨٨ وأعطى الأمين إلى سليمان بن أبي جعفر مليون درهم،٨٩ واختص الأمين من أساليب السخاء بأنه كان يأمر بإيقار زورق الطالب ذهبًا أو فضة، وكان قصره على شاطئ دجلة، فإذا جاءه شاعر أو طالب في زورق وأخذته الأريحية واستخفه الطرب قال: «أوقروا زورق هذا ذهبًا أو فضة.» وقلما كانوا يفعلون ذلك، والغالب أن يعوضوا عنه بمبلغ من المال كما فعلوا بأبي محمد التيمي، فإنه مدح الأمين بقصيدة أطربته فأمر الفضل بن الربيع، أن يوقر زورقه مالًا فقال: «نعم يا سيدي.» فلما طالبه التيمي بذلك قال له الفضل «أنت مجنون! من أين لنا ما يملأ زورقك؟» ثم صالحه على ١٠٠٠٠٠ درهم،٩٠ وأجاز المأمون طبيبه بمليون درهم وألف كر حنطة،٩١ وفرق المأمون في ساعة ٢٦٠٠٠٠٠٠ درهم، ومدحه أعرابي فأجازه بثلاثين ألف دينار،٩٢ وكان المتوكل يهب القطائع جوائز على المدح،٩٣ وقس على ذلك هدايا سائر الخلفاء، وإنما ذكرنا أعظمها لبيان مبلغ ذلك في إبان التمدن.

فلما افتقر الخلفاء العباسيون في أواسط الدولة صاروا يهبون الرتب الاسمية وألقاب الشرف يسترضون الناس بها، وهذه أبيات يقولون: إن أبا بكر الخوارزمي نظمها بهذا المعنى:

ما لي رأيت بني العباس قد فتحوا
من الكنى ومن الألقاب أبوابا
ولقبوا رجلًا لو عاش أولهم
ما كان يرضى به للحبس بوابا
قل الدراهم في كفي خليفتنا
هذا فأنفق في الأقوام ألقابا

سخاء البرامكة

على أن العصر العباسي الأول إنما زها بالبرامكة، وهم الذين رغبوا الخلفاء في السخاء، وأولهم خالد بن برمك وزير المنصور، والثروة لم تنضج في أيامه، ومع ذلك فالوافدون على الخلفاء للاستجداء كانوا يسمونهم السؤال، فقال خالد: «هذا والله اسم أستقله لطلاب الخير، وأرفع قدر الكريم عن أن يُسمي به أمثال هؤلاء المؤملين؛ لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم، ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبًا، ولكننا نسميهم الزوار.» وكان ممن شهد مجلسه وسمع قوله بشار بن برد فقال:

حذا خالد في فعله حذو برمك
فمجد له مستطرف وأصيل
وكان ذوو الآمال يدعون قبله
بلفظ على الإعدام فيه دليل
يسمون ﺑ «السؤال» في كل موطن
وإن كان فيهم نابه وجليل
فسماهم «الزوار» سترًا عليهم
فأستاره في المهتدين سدول
فأعطاه خالد عن كل بيت ألف درهم.٩٤
وكان ابنه يحيى بن خالد إذا ركب أعطى كل من تعرض له ٢٠٠ درهم،٩٥ ويروون من أخبار سخائه ما هو أشبه بالخرافات منه بالحقائق، نذكر حادثة تواتر ذكرها في كتب التاريخ والأدب، وهي تمثل سخاء يحيى أحسن تمثيل، وذلك أن البرامكة لما نكبوا منع الرشيد الناس من ذكرهم أو رثائهم، فمن ذكرهم إنما يذكرهم سرًّا، وظلوا على ذلك في أيام الأمين والمأمون، فسمع المأمون بشيخ يأتي خرابات البرامكة ويبكي وينتحب طويلًا ثم ينشد شعرًا يرثهم به وينصرف، فبعث في طلبه، فلما حضر انتهره الخليفة وسأله: من هو؟ وبم استحق البرامكة منه ما يصنع؟ فقال الرجل وهو غير هائب: «للبرامكة عندي أياد خضر، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته ببعضها.» فقال: «هات.» فقال: «أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي، نشأت في نعمة فزالت حتى وصلت إلى بيع داري وأملقت إلى غاية، فأشير عليَّ بقصد البرامكة فخرجت إلى بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة وصبيًّا، فدخلت بهم إلى مسجد ببغداد ثم خرجت، وتركتهم جياعًا لا نفقة لهم، فمررت بمسجد فيه جماعة عليهم أحسن زي، فجلست معهم أردد في صدري ما أخاطبهم به فتحيد نفسي عن ذل المسألة، وإذا خادم قد أزعج القوم فقاموا فقمت معهم، ودخلوا دارًا كبيرة فدخلت، فإذا يحيى بن خالد على دكة وسط بستان فجلسوا وجلست، وكنا مائة رجل ورجل فخرج مائة خادم في يد كل خادم منهم مجمرة ذهب فيها قطعة عنبر، فتبخروا وأقبل يحيى على القاضي وقال: زوج ابن عمي هذا بابنتي عائشة، فخطب وعقد النكاح وأخذنا النثار من فتات المسك وبنادق العنبر وتماثيل الند، فالتقط الناس والتقطت، ثم جاءنا الخدم في يد كل واحد منهم صينية فضة فيها ألف دينار مخلوطة بالمسك، فوضع بين يدي كل واحد واحدة، فأقبل كل واحد يأخذ الدنانير في كمه والصينية تحت إبطه ويخرج، فبقيت وحدي لا أجسر أفعل ذلك، فغمزني بعض الخدم وقال: خذها وقم، فأخذتها وقمت وجعلت أمشي والتفت خوفًا من أن تُؤخذ مني، ويحيى يلاحظني من حيث لا أفطن، فلما قاربت الستر رددت، فيئست من الصينية، فجئته فأمرني بالجلوس فجلست، فسألني عن حالي فحدثته عن قصتي فبكى ثم قال: عليَّ بموسى، فجاءه، فقال: يا بني، هذا رجل من أولاد النعم قد رمته الأيام بصرفها، فخذه إليك فاخلطه بنفسك، فأخذني وخلع عليَّ وأمرني بحفظ الصينية لي، فكنت في ألذ عيش يومي وليلتي، ثم استدعى أخاه العباس وقال: إن الوزير قد سلم إليَّ هذا وأريد الركوب إلى دار أمير المؤمنين فليكن عندك اليوم، فكان يومي مثل أمس، فأقبلوا يتداولونني وأنا قلق بأمر عيالي ولا أتجاسر أن أذكرهم، فلما كان في اليوم العاشر أدخلت على الفضل بن يحيى فأقمت عنده يومي وليلتي، فلما أصبحت جاءني خادم فقال: قم إلى عيالك وصبيانك، فقلت: إنا لله، ذهبت الصينية وما فيها، فليت هذا كان من أول يوم! وقمت والخادم يمشي بين يدي، فأخرجني من الدار فازداد ما بي، ثم أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع في جوانبها، وفيها من صنوف الآلات والفرش، فلما توسطتها رأيت عيالي يرتعون في الديباج والستور، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، وسلم إليَّ الخادم صكًّا باسم ضيعتين جليلتين، وقال: هذه الدار وما فيها والضياع لك، فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش إلى الآن، ثم قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين وألزمني من خراجهما ما لا يفي به دخلهما، فكلما لحقتني نائبة قصدت دورهم فبكيت.»
فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة وأمره أن يرد على الرجل ما استخرج منه، ويقرر خراجه على ما كان في أيام البرامكة، فبكى الشيخ بكاء شديدًا، فقال له المأمون: «ألم أستأنف بك جميلًا؟» فقال: «بلى، ولكن هذا من بركة البرامكة!» فقال: «امض مصاحبًا، فإن الوفاء مبارك وحسن العهد من الإيمان.»٩٦
وعلى ذلك شب جعفر والفضل ابنا يحيى وسائر البرامكة، وتوسعوا في السخاء حتى عينوا الرواتب لأهل الحاجات، فقد ذكرنا فيما تقدم أن غلتهم بلغت ٢٠٠٠٠٠٠٠ دينار في السنة، فلما قتل جعفر وقبضت أموالهم وجدوا ١٢٠٠٠٠٠٠ دينار في بدر مختومة وعليها صكوك لأناس على سبيل الرواتب أو الصلات أو نحو ذلك،٩٧ ومن فنون سخائهم أن الفضل بن يحيى كان يكتب رقاعًا بخطه فحواها «امض إلى فلان الصيرفي وخذ منه كذا وكذا دينارًا.» حسبما يجريه الله على يده، ويركب في الليل أو في القائلة ويخترق شوارع البلد وينثرها فيها، وسئل عن ذلك فقال: «أردت أن يصل بري إلى من لا يصل إليَّ ولا أعرفه ولا يعرفني.» فإذا وجد أحد رقعة من هذه الرقاع مضى بها إلى الصيرفي فيأخذها منه ويعطيه ما فيها، وعند الصيرفي أمين جالس لئلا يصالحه على بعضها، ولا يعطي لأحد غير رقعة واحدة ولا يسأل عنه ولا يثبت اسمه، وربما جاءت بيد الصبي والمرأة والذمي فيأخذ ما فيها.٩٨

واشتهر من وزراء الدولة العباسية بالسخاء بعد البرامكة آل الفرات في أيام المقتدر، فكانوا يفرضون الرواتب للعلماء والأدباء والفقهاء وأهل الفاقة، وقد نكبوا كما نكب البرامكة، ولكن شهرة البرامكة غلبت على سواهم، فأصبحوا مضرب الأمثال في الكرم، ولا يزال الناس يتداولون أخبارهم ويتمثلون بسخائهم ويستحثون أريحية العظماء على السخاء بما يروون من أحاديثهم، حتى ظنها بعضهم موضوعة لهذه الغاية، ولا يبعد أن تكون رغبة الناس في الاستحثاث بعثت على المبالغة في بعضها، ولكنها صحيحة على إجمالها؛ قال السلطان العادل الأيوبي مرة وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم من الكرماء: «هذا كذب مختلق من الوراقين ومن المؤرخين، يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال.»

فقال بعض الحضور: «يا خوند، ولأي شيء يكذبون عليك؟»٩٩

السخاء على الشعراء والمغنين

واعتبر ذلك في سخائهم على الشعراء، فقد كانت إجازة الشعراء قاعدة عامة من أوائل الإسلام لأسباب تقدم ذكرها، ويشبه ذلك ما تنفقه بعض الدول اليوم على الصحافة لتنصرها أو تأخذ بيدها في نشر مبدأ أو رأي.

وتعودوا أن يسموا ما يُعطى للشاعر جائزة أو صلة، كما يسمون ما يُعطى للصحف إعانة أو راتبًا، على أن بعض الخلفاء كانوا يفرضون للشعراء رواتب يتناولونها مشاهرة أو مسانهة، وربما عدوا الجائزة راتبًا يناله الشاعر إذا وفد على الخليفة أو الأمير في يوم معين من السنة، وقد تكلمنا عن الشعر وسائر أحواله فيما تقدم، ونحن ذاكرون سخاء الخلفاء على الشعراء في إبان الحضارة.

أول من جاد على الشعراء في الإسلام بنو أمية، وأسخاهم الوليد بن يزيد، وهو أول من عد أبيات الشعر وأعطى على كل بيت ألف درهم،١٠٠ واقتدى به من جاء بعده منهم، أما العباسيون فزادوا القيمة وأعطوا على القصيدة في مدحهم ١٠٠٠٠٠ درهم، وأول من نال هذه الصلة منهم مروان بن أبي حفصة وصله بها المهدي على قصيدة مدحه بها مطلعها:
«طرقتك زائرة فحي خيالها»١٠١

ومدحه سلم الخاسر بقصيدة مطلعها:

«حضر الرحيل وشدت الأحداج»
فأراد أن ينقص له من جائزة مروان فحلف أنه لا يأخذ إلا مائة ألف ألف درهم، ويقال: إنه أعطاه إياها١٠٢ والغالب أنه أعطاه مائة ألف فقط، وإنما أضيفت الألف الأخرى خطأ من النساخ.
وكان المنصور قبله بخيلًا على الشعراء، إذا أحب أن يعطي شاعره أبا دلامة فرض على الهاشميين دينارين ليعطيها له.١٠٣
أما الرشيد فأعطى مروان كما كان يعطيه المهدي، أي مائة ألف درهم١٠٤ وأعطاه مرة ٥٠٠٠ درهم وعشرة من الرقيق، وكان يعطي أبا العتاهية راتبًا سنويًّا مقداره ٥٠٠٠٠ درهم غير الجوائز والمعاون،١٠٥ وفاقهم المتوكل في ذلك؛ لأنه أعطى حسين بن الضحاك ألف دينار عن كل بيت من قصيدة قالها، وهو أول من أعطى ذلك،١٠٦ وكان المعتصم إذا أعجبه قول الشاعر ملأ فمه جوهرًا، وقد سبقه إلى ذلك يزيد بن عبد الملك.١٠٧
وتشبه الوزراء والأمراء بالخلفاء، فكان خالد القسري يجلس للشعراء في مقام معين ويجيزهم، وكذلك آل المهلب فإنهم فرضوا لهم الأعطية والجوائز.١٠٨

أما في الدولة العباسية فالبرامكة لم يدخروا وسعًا في إجازة الشعراء، خصوصًا الفضل بن يحيى، وقد قال فيه بعضهم:

ما لقينا من جود فضل بن يحيى
ترك الناس كلهم شعراء١٠٩
وكان أبوه يحيى إذا لقيه شاعر ولم يكن معه مال أعطاه دابته،١١٠ وقد فاق البرامكة الخلفاء في إجازة الشعراء، فنال شاعرهم أبان اللاحقي على قصيدة واحدة ما ناله مروان بن أبي حفصة من الرشيد كل عمره،١١١ وقس على ذلك سخاء سائر الوزراء والأمراء، فإن يزيد بن مزيد أعطى نصف ماله لشاعر.١١٢
ويقال نحو ذلك في سخائهم على المغنين، فقد أعطى المهدي دحمان المغني في ليلة واحدة ٥٠٠٠٠ دينار؛ لأنه أطربه، وأعطى الأمين إسحاق الموصلي ١٠٠٠٠٠٠ درهم؛ لأنه غناه شعرًا في مدحه، فحملها إلى داره مائة فراش،١١٣ وكان الهادي يجري على إبراهيم الموصلي عشرة آلاف درهم في الشهر سوى صلاته، أما الرشيد فكان إذا طرب وهب وجاد حتى ولى إسماعيل بن صالح مصر؛ لأنه أطربه بغنائه،١١٤ وأخبار الشعراء والمغنين كثيرة لا محل لها.

واقتدى بسخاء العباسيين ورجال دولتهم سائر رجال الدولة الإسلامية، وإن لم يبلغوا شأوهم.

(٣-٦) المسكر

كان المسكر شائعًا قبل الإسلام في الشام والعراق وفارس ومصر وجزيرة العرب وغيرها، وكان ملوك الفرس يقبلون على اللذات والمسكرات، ويقال: إن الرومانيين لم يتعودوا المسكر إلا بعد فتحهم آسيا، على أن عقلاء الناس كانوا يحرمون شربه حتى في جاهلية العرب، فإن جماعة منهم حرموه على أنفسهم وأهلهم، وإذا عربد أحدهم بالسكر وتكرر ذلك منه خلعه قومه ونفوه، فلما جاء الإسلام ورد النص بتحريمه، وأقيمت الحدود في منعه؛ الجلد والحبس وحلق الرأس أو اللحية والشوارب أو قطع العطاء، وعاقبوا بائعيه وكسروا أوانيه ولا سيما في عصر الراشدين وأوائل أيام بني أمية، حتى عنف عمر بن الخطاب خالد بن الوليد على تدلكه في الحمام بغسل فيه خمر، وقال له: «إن الله حرم ظاهر الخمر وباطنها ومسها فلا تمسوها بأجسادكم.» ومع ذلك فاختلاط المسلمين بأهل البلاد المفتوحة عودهم إياها، حتى شرب جماعة من الصحابة وأبنائهم فوقعوا تحت طائلة العقاب، وأول من عوقب على شربها وحشي بن حرب قاتل حمزة،١١٥ ثم عوقب غير واحد منهم ومن أبنائهم، وفيهم جماعة من الكبراء كالوليد بن عقبة، ويزيد بن معاوية، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب وأخويه عبد الرحمن وعاصم، والعباس بن عبد الله بن عباس، وقدامة بن مظعون، وعبد العزيز بن مروان، وعبد الرحمن بن عبد الله الثقفي القاضي، وأبي محجن الثقفي وغيرهم.١١٦
ومما ساعد على إقبال نفر من المسلمين على الخمر أن بعض الخلفاء الأمويين كانوا يشربونها، كيزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد،١١٧ والوليد هذا أول من وصف الخمر وتغزل بها فسرق الشعراء معانيه وأدخلوها في أشعارهم، وتهتك الوليد في المسكر حتى حدثته نفسه أن يسكر فوق الكعبة، فخوفه أصحابه من الناس فأمسك، وقد أفسده وعلمه الخلاعة مؤدبه عبد الصمد بن عبد الأعلى،١١٨ على أن رجال الحكومة كانوا يشددون في منع الخمر والحد عليها، حتى كثيرًا ما كانوا يمنعون بيع العسل لئلا يصنعوها منه،١١٩ وأشهر من شدد في منعها من الخلفاء عمر بن عبد العزيز الأموي والمهتدي العباسي، ومع ذلك فقد كانت تزداد انتشارًا، باتساع أسباب الحضارة وذهاب دهشة الدين واشتغال الناس بالغناء والجواري، حتى صاروا يشربونها جهارًا، واشتهر بشربها غير واحد من الخلفاء وأهلهم ورجال الدولة مع التهتك في مجالس الشرب، فعمد بعض المتملقين من الفقهاء ورجال الدين إلى انتحال المسوغات لشربها، فأخذوا يبحثون في الفرق بين أنواعها وميزوا بين المحلل والمحرم منها، فأجمعوا على تحريم الخمر واختلفوا في تحريم النبيذ، وفي أي أنواعه حلال وأيها حرام، ويقال بالإجمال: إن أهل العراق كانوا يستحلون النبيذ وأهل الحجاز يحرمونه.١٢٠

والنبيذ يصنع من أكثر أنواع الفاكهة ولا سيما العنب والتمر والتفاح والمشمش ومن الذرة، ويختلف باختلاف البلاد وباختلاف طرق عمله وهو عصير بعض هذه الأثمار أو منقوعها كما يُنقع الزبيب اليوم (الخشاف).

وقد يضيفون إليه العسل أو الدبس أو يصنعونه من أحدهما مع الحب على النار،١٢١ وكانوا إذا أقبلوا على شربه صفوه وتناولوه بالأقداح الكبيرة، وربما صنعوا الخمر منه، وإذا صُفي في القناني صعب تمييزه من الخمر أو منقوع الزبيب أو مذاب العسل،١٢٢ فمن أحب الشرب استحل تناوله على أنه نبيذ، فإذا أكثر من شربه فعل فعل الخمر، وبعضهم كان يحلل قليل الخمر ويحرم كثيرها، وآخرون يحللون شرب الخمر إلا إذا أدت إلى السكر،١٢٣ ولكن الأكثرين حكموا بتحريمها، ولهم في ذلك أقوال يطول شرحها تراها مبسوطة في كتب الشرع.
فالخلفاء العقلاء الذين بلغنا أنهم سكروا في بعض مجالسهم كانوا يستحلون شرب النبيذ، وهو حلو منعش فيكثرون منه حتى يسكروا، ويؤيد ذلك أنهم كانوا يشربونه بالأرطال، وإذا طال مكث النبيذ قبل شربه دب فيه الاختمار وتولد الكحول ولو قليلًا، وقد يطول مجلس الشراب فيسكر الشاربون ويعربدون، وربما أتوا في سكرهم بما لا يأتيه غير المجانين، وأفظع ما يُروى من هذا القبيل أن الملك الناصر ابن الملك المعظم الأيوبي كان إذا سكر يقول: «أشتهي أن أرى غلامي فلانًا طائرًا في الهواء!» فيُرمى ذلك المسكين بالمنجنيق، ويراه في الهواء فيضحك ويشرب ويقول: «أشتهي أن أشم رائحة فلان وهو يُشوى!» فيُحضر ذلك الرجل ويُقطع لحمه ويُشوى،١٢٤ وكتب التاريخ والأدب مشحونة بأخبار مجالس الشراب، وهي في الغالب مجالس الغناء، ويندر أن يترفع خليفة أو وزير عنها، ومن أكثر العباسيين رغبة فيها الهادي والرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، وأكثرهم نفورًا منها المنصور والمهتدي. واشتهر من الفاطميين بالتهتك بها المستنصر١٢٥ واشتهر بمقاومتها الحاكم بأمر الله، وكثيرًا ما أمر بإراقة الخمور وإراقة العسل حتى لا تُصنع منه.

أما العامة فانغمس الكثيرون منهم في المسكر وشربوه على أنواعه، شأنهم في كل زمان وإن لم يشربه حكامهم، فكيف إذا كانوا يشربون؟ والغالب في شاربي النبيذ أن ينبذوه في بيوتهم، وبعضهم يشربه عند إخوانه، وآخرون يتناولونه في الحانات وكانت كثيرة، وأكثر أصحابها من اليهود، وقد يشربون الخمر في الأديار وخمرها مشهورة بجودتها.

(٣-٧) التهتك

وطبيعي فيما قدمناه من الحضارة والترف أن يعتورها شيء من التهتك والفحشاء، وإن كان ذلك لا يخلو منه قوم مهما بلغ من بعدهم عن الحضارة، ولكنه يكثر غالبًا في المتحضرين، لسكون خواطرهم وتوفر أسباب الرغد والتنعم عندهم، كان في جاهلية العرب جماعة من البغايا لهن رايات ينتحيها الفتيان، وكان بعض الناس يكرهون إماءهم على البغاء يبتغون عرض الدنيا،١٢٦ ولكن ذلك شأن الحضر منهم؛ لأن البدو أقرب إلى صحة الآداب، فاعتبر كم تكون أسباب التهتك أوفر في المدن الكبرى، حيث تتزاحم الأقدام وتتوفر الثروة وتكثر الجواري ويتفشى الغناء والمسكر، كما كان شأن بغداد وقرطبة والقاهرة والفسطاط في إبان ذلك التمدن، فلا غرو إذا تفشت الفحشاء فيها ولا سيما في العصور الوسطى، حتى صار البغاء في بعض الأحيان صناعة عليها رئيس يحتكم إليه البغاءون عند الحاجة،١٢٧ وتفننوا في ترويج تلك البضاعة بتصوير النساء على جدران الحمامات،١٢٨ وأصبح أهل القصف من الأغنياء يصورون حظاياهم على جدران منازلهم كما فعل ابن طولون، وكان الحكام العقلاء يبذلون جهدهم في منع الفحشاء ويقاومون تيارها بما في إمكانهم،١٢٩ ولما عجزوا عن كف أذاها بالقوة ضرب بعضهم عليها ضرائب يدفعها أصحابها مثل سائر التجارات.١٣٠
وأقبح ما ظهر من التهتك في أثناء هذا التمدن مغازلة الغلمان وتسريهم، وظهر ذلك على الخصوص في أيام الأمين، وتكاثر بتكاثر غلمان الترك والروم من أيام المعتصم وفيهم الأرقاء بالأسر أو بالشراء، وتسابق الناس إلى اقتنائهم كما تسابقوا إلى اقتناء الجواري وغالوا في تزيينهم وتطييبهم، وكانوا يخصونهم ليأمنوا تعديهم على نسائهم وجواريهم، وفشا حب الغلمان في أهل الدولة بمصر وتغزل بهم الشعراء،١٣١ حتى غارت النساء من ذلك فعمدن إلى التشبه بالغلمان في اللباس والقيافة ليستملن قلوب الرجال.١٣٢
وكثرة الجواري في بعض القصور جرتهن إلى التفنن في أساليب الفحشاء، وربما اتخذت كل جارية خصيًّا لنفسها كالزوج، كما فعلت جواري خمارويه صاحب مصر،١٣٣ حتى النساء الشريفات فإن قعودهن عن الزواج لعدم وجود الأكفاء أو لأسباب أخرى كان يجرهن إلى مثل ذلك فتكاثر الفساد فيهن لقلة التزويج،١٣٤ ذكروا أن ابنة الإخشيد صاحب مصر اشترت جارية لتتمتع بها، وبلغ المعز لدين الله الفاطمي ذلك — وكان لا يزال في الغرب يتحفز للوثوب على مصر ويخاف الفشل — فلما بلغه ما فعلته ابنة الإخشيد استبشر وقال: «هذا دليل السقوط.» وجند على مصر وفتحها، والعفاف سياج العمران.

هوامش

(١) الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(٢) لطائف المعارف ٧٢.
(٣) العقد الفريد ٢٢ ج٢.
(٤) المقريزي ١٥٥ ج٢.
(٥) المقريزي ٣٠١ ج١.
(٦) ابن الأثير ١٠٣ ج٥.
(٧) المسعودي ٣١٤ ج٢، وابن خلكان ٣١٩ ج٢.
(٨) سير الملوك ١١٣.
(٩) ابن خلدون ١٤٥ ج١.
(١٠) ابن خلدون ١٧٠ ج١.
(١١) طبقات الأطباء ١٧٥ ج١.
(١٢) لطائف المعارف ٩٥، وابن بطوطة ٣ ج٢.
(١٣) طبقات الأطباء ١٤٠ ج١.
(١٤) المسعودي ١٩٩ ج٢.
(١٥) تاريخ الوزراء ٣٥١.
(١٦) الفخري ٢٣٢.
(١٧) الفخري ٢٧٦.
(١٨) المقريزي ٣١٨ ج١.
(١٩) المسعودي ٢٦٧ ج٢، والفرج بعد الشدة ١٠٢ ج٢.
(٢٠) الفخري ٢٥، و٦٦.
(٢١) العقد الفريد ٦ ج١.
(٢٢) ابن خلدون ١٦٩ ج١.
(٢٣) المستطرف ٤٠ ج٢، والعقد الفريد ٢٦٦ ج٢.
(٢٤) ألف باء ١٨٧ ج٢.
(٢٥) المقريزي ٤٠٩ ج١.
(٢٦) المقريزي ٣١٩ ج١.
(٢٧) ابن خلدون ٢١٧ ج١.
(٢٨) الفخري ٧٤.
(٢٩) ابن الأثير ٢٥٥ ج٢.
(٣٠) ألف باء ١٨٧ ج٢.
(٣١) الأغاني ١٢٩ ج٦.
(٣٢) الدميري ٥٨ ج١.
(٣٣) ابن خلدون ١٤٥ ج١.
(٣٤) الفرج بعد الشدة ١٠٣ ج١.
(٣٥) لطائف المعارف ٩٥.
(٣٦) الأتليدي ٩٨.
(٣٧) الأغاني ٤١ ج١٥.
(٣٨) المستطرف ١٣٤ ج١.
(٣٩) المسعودي ٣٦٦ ج١.
(٤٠) الأغاني ٨١ ج١٢.
(٤١) المسعودي ١٩٦ ج٢.
(٤٢) العقد الفريد ١٨٤ ج٣.
(٤٣) ابن الأثير ٢٤ ج٣.
(٤٤) المسعودي ٣٠٠ ج٢.
(٤٥) الأتليدي ١٤١.
(٤٦) الطبري ١٨٩ ج٢.
(٤٧) الأغاني ٨٣ ج٩.
(٤٨) المسعودي ٣٦٦ ج٢.
(٤٩) ابن خلدون ١٥ ج١.
(٥٠) ابن خلدون ١٤٥ ج١.
(٥١) المسعودي ٢٠٥ ج٢.
(٥٢) المقريزي ٤٧٢ ج١.
(٥٣) المقريزي ٤٠٩–٤٢٥ ج١.
(٥٤) ابن خلدون ٣٠٢ ج١.
(٥٥) ابن الأثير ١٦٥ ج١١.
(٥٦) نفح الطيب ٧٣١ و٧٣٢ ج٢.
(٥٧) نفح الطيب ٢٠٨ ج١.
(٥٨) ابن خلكان ٨٧ ج١، و٦٣ ج٢.
(٥٩) ابن الأثير ٢٦ و٩٢ ج٣.
(٦٠) ألف باء ٣٤٧ ج٢.
(٦١) ابن الأثير ٢٩ ج٣.
(٦٢) ابن خلكان ٣٢٠ ج١.
(٦٣) Gibbon, 11. 205.
(٦٤) الجزء الرابع من هذا الكتاب.
(٦٥) المسعودي ٢٧٩ ج٢.
(٦٦) الأغاني ١٣٣ ج١٩.
(٦٧) ابن خلكان ٥٧ ج١.
(٦٨) الأغاني ٨٨ ج٩.
(٦٩) الأتليدي ٦٧.
(٧٠) المسعود ٢٠٨ ج٢.
(٧١) المسعودي ٣٦٦ ج٢.
(٧٢) المقريزي ٣٦ ج١.
(٧٣) المقريزي ٤٨٥ ج٢.
(٧٤) المقريزي ٤٩٧ ج١.
(٧٥) العقد الفريد ٢٠٣ ج٣، والمستطرف ١٣٢ ج٢.
(٧٦) الطبري ١٣٣٢ ج٢.
(٧٧) العقد الفريد ٤٣ ج٣، والأغاني ١٤٥ ج١٥.
(٧٨) الأغاني ٧١ ج١١.
(٧٩) ابن خلكان ٢٦٦ ج٢.
(٨٠) الأغاني ١٣٠ ج١.
(٨١) الفرج بعد الشدة ٣٣ ج٢.
(٨٢) لطائف المعارف ١٦.
(٨٣) فوات الوفيات ٢٠ ج١.
(٨٤) سير الملوك ٦٥ و٦٦.
(٨٥) الأغاني ٩٨ ج١٨.
(٨٦) المستطرف ١٣٥ ج١.
(٨٧) الأغاني ٨٨ ج، و١٢٤ و١٧.
(٨٨) ابن الأثير ٤٢ ج٦.
(٨٩) المستطرف ١٣٣ ج١.
(٩٠) الأغاني ١١٨ ج١٨.
(٩١) طبقات الأطباء ١٢٨ ج١.
(٩٢) فوات الوفيات ٢٤٠ ج١.
(٩٣) الأغاني ٣ ج١١.
(٩٤) الأغاني ٣٦ ج٣.
(٩٥) ابن خلكان ٢٤٤ ج٢.
(٩٦) الفرج بعد الشدة ٢٢ ج٢، وسير الملوك ١١١ والأتليدي ١٣٢.
(٩٧) العقد الفريد ٢٢ ج٣.
(٩٨) ترتيب الدول ٢٢.
(٩٩) نفح الطيب ٤٧٢ ج١.
(١٠٠) ابن الأثير ١٣٧ ج٥، والأغاني ١٤٨ ج١٧، و٣٩ ج٩.
(١٠١) ابن خلكان ١١٢ ج٢.
(١٠٢) ابن خلكان ١٩٨ ج١.
(١٠٣) الأغاني ١٢٨ و١٣١ ج٩.
(١٠٤) الأغاني ١٩ ج١٢.
(١٠٥) الأغاني ١٥٧ ج٣.
(١٠٦) الأغاني ١٨٤ ج٦.
(١٠٧) الأغاني ١٧٤ ج٦، و١٤٧ وج١.
(١٠٨) الأغاني ١٦٤ ج١١.
(١٠٩) ابن خلكان ٤١١ ج١.
(١١٠) الأغاني ٨ ج٥.
(١١١) الأغاني ٧٣ ج٥.
(١١٢) ابن خلكان ٢٨٥ ج٢.
(١١٣) الأغاني ٩٩، و١٤٢ ج٥.
(١١٤) حلبة الكميت ٦٣ و٦٤.
(١١٥) المعارف لابن قتيبة ١١٢.
(١١٦) العقد الفريد ٣١٤ ج٣.
(١١٧) الأغاني ١٥٤ ج١٩، و١٥٧ ج١٣، والعقد الفريد ٣١٤ ج٣.
(١١٨) ابن الأثير ١٢٤ و١٣٦ ج٥.
(١١٩) المقريزي ٢٩٧ ج٢.
(١٢٠) ابن الأثير ٣٦ ج٦، وابن خلدون ١٥ ج١.
(١٢١) كتاب البخلاء ٥١.
(١٢٢) الأغاني ٤ ج٥، و١١٢ ج٤، و٣٥ ج٢.
(١٢٣) العقد الفريد ٣٠٩، و٣١٨ وج٣، و٢٧٠ ج٢، وألف باء ٨١ ج١.
(١٢٤) فوات الوفيات ١٥٧ ج١.
(١٢٥) المقريزي ١٥٤ ج٢.
(١٢٦) العقد الفريد ٢ ج٣.
(١٢٧) الفرج بعد الشدة ١٤٣ ج٢.
(١٢٨) ابن خلكان ١٢٧ ج٢، ونفح الطيب ٨٦٠ ج٢.
(١٢٩) ابن الأثير ٩٥ ج١٠، و٢١٥ ج١١، والمقريزي ٣١٦ ج١.
(١٣٠) المقريزي ٨٩ ج١.
(١٣١) تزيين الأسواق ١٦٣.
(١٣٢) المقريزي ١٠٤ ج٢.
(١٣٣) ابن الأثير ١٨٨ ج٧.
(١٣٤) الفرج بعد الشدة ٦١ ج٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤