الفصل الخامس

العشق

العشق ضرورة تدخل على النفس، والإنسان جاهل بتلك الضرورة.

العشق متعة الشباب، ومثلبة الشيخ.

إنه رسالة القلب في الحياة.

إنه إكسير حياة المرأة ومن ألزم ضرورات روحها، فلا سبيل إلى منعها من طاعته.

إنه لا يُباع ولا يُشترى، وإنما هو نتيجة الاجتماع والتعارف.

وإذا كان العشق من أجلِّ قُوى النفس، ثَبَتَ ولم يتغيَّر، وإذا كان من أجل الجسد تغيَّر بتغيُّر الصورة والمِزاج.

وهو — تبعًا لقول جبران خليل جبران — «حاجة غير منقضية» وفي نظر نابليون «سَفَه وحماقة وبَلَه وجنون.»

ويعرِّف الجاحظ العشق فيقول: «العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السرف اسم لما جاوز الجود.»

أمَّا يحيى بن أكثم فيقول: «العشق سوانح تسنَح للمرء فيهتمُّ بها قلبه وتؤثرها نفسه.»

سئل أعرابي من بني عذرة عن ماهية العشق فأجاب: «أعين تتلاحظ، وألسن تتلافظ، وعدة تُقضى، وإشارات تدلُّ على السخط والرضا.»

وسئل آخر فقال: «العشق هو الميل الدائم بالقلب الهائم.»

وسئل حكيم فأجاب: «العشق طائر لا يلتقط إلا حبة القلب.»

ولا جدال في أن العشق أحد فروع الهوى، وهو «شوق إلى المستقبل، وحنين إلى الماضي.» أو كما يقول الشاعر:

أنا مُبْتلًى ببليَّتين من الهوى
شوق إلى الثاني وذكر الأوَّلِ

ويخطئ من يعتقد أن العشق هو الحب، فالفرق بينها شاسع والبَوْن عظيم.

فالحب أول الهوى، بينما الحب هو العشق إذا نما واشتد، وتغلغل واستبد. ومرتبة العشق من الحب كمرتبة السخاء من الجود.

والحب يحل في القلب، في حين أن العشق يحل فيه القلب.

على أن هناك فرقًا آخر، فالمحب لا يزداد شغفه بمحبوبه إلا كلما غاب عنه، مع أن العاشق يزداد تعلُّقه بمعشوقه كلما رآه.

ذلك لأن المحب يحب أن يرى سخطًا وتبرُّمًا في حبه، أمَّا العاشق فيميل إلى دوام الوصل والراحة في عشقه.

فلسان حال الأول يقول:

إذا لم يكن في الحب سُخْطٌ ولا رضًا
فأين حلاواتُ الرسائل والكُتْبِ

أما لسان حال الثاني فيقول:

إذا لم يكن في الوصل رَوح وراحة
هجرت وكان الهجر أشفى وأسلما

وعَلاقة العشق بالنظر مسألة مفروغ منها، فقد قال بعض العرب: «أول العشق النظر، وأول الحريق الشرر.» هذا وإن كان بشار بن برد يرى أن القلب يعشق قبل العين أحيانًا.

قال أحد العشاق: «إن قلبي الذي رأى المئات من الفتيات، فما أحبَّ واحدةً منهن، ما إن رآك حتى آمن بالعشق من أول نظرة.»

على أنه لا يمكن إخفاء العشق مهما تستَّر المرءُ ومهما حاول التكتُّم. وفي ذلك يقول أنتيفان: «شيئان لا يمكن أن يخفيَهما أي إنسان، كائنًا من كان، مهما بلغت قدرته على الكتمان: كونه مخمورًا، وكونه عاشقًا.»

وفي نفس هذا المعنى يقول أعرابي: «العشق خفيٌّ أن يُرى، وجليٌّ أن يخفى؛ فهو كامن ككُمون النار في الحَجَر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.»

ولا ريب في أن عدد من يموتون بسبب العشق كلَّ يوم أضعافُ من يموتون بحوادث الطريق المحزنة.

وقد يكون العشق في نظرك تمثالًا بديعًا تفتنك دقة صنعه، ولكنك سرعان ما تهشِّمه وقد تشبَّعتْ روحك وعقلك بجماله.

وما من شكٍّ في أن العشق قوي، فلا يمكن فَصْلُه عن الإنسان، ولكنه قد يتسلل إلى مدًى بعيد. فيوم يبدأ لا يزول أبدًا.

والعشق الحقيقي القوي يعيش في الذاكرة، والمرأة التي لا تنطبع روحها بالعشق لا تستطيع أن تقول إنها تعشق أو إنها تعرف ماهية العشق.

فللعشق حمَّى تبعث في المرء دفئًا وحرارة دونهما كل دفء وحرارة، وتثير فيه ذكريات وآمالًا لا يُدانيها أي ذكرى ولا أي أمل.

يقول سقراط: «إن العشق قوة هيَّأها الله سبحانه وتعالى لبقاء الحيوان؛ وذلك لأنه يحرِّض الحيوان على النكاح الذي تكون منه الأولاد، فتبقى صورة الحيوان، إذا لم يكن في بقاء الأفراد حيلة.» وهذا ما نسمِّيه بالمحافظة على الجنس.

ولا أدلَّ على قوة العشق من هذه الفِقرة التي كتبتها الشاعرة الإغريقية «سافو» على لسان عذراء أحسَّت بالعشق يدبُّ في أوصالها فقالت: «أمَّاه الحلوة! لم تَعُدْ لي طاقة للعمل على النول، فقد آن لي أن أتطلَّع بولع إلى عشق فتًى بمعونة «فينوس» الحنونة.»

والعاشق — من فرط قوة العشق — قد يجول في العالم كمَن يمشي في نومه بأعين تظهر مفتوحةً لمن يلاحظه، بينما الحقيقة أنه لا ينظر غير أوهامه الداخلية.

فالعاشق عبد رِق، يعزُّ عليه أن يعتق نفسه، أو يتحرر من مظالم مستعبده.

ويحدثنا قاسم أمين عن قوة العشق واستبداده فيقول: «لا شيء يشبه العشق في عنفوان نشأته؛ إذا هجم هذا المستبد القاهر، ارتعدت له الفرائص، وحَصِرَ اللسان واختبل العقل، وخلا الطريق أمامه، فوصل إلى القلب بوثبة واحدة أو بوثبات متعددة. ومتى احتلَّه تمدَّد فيه وانتشر وملأه برمَّته، فلا يقبل منافسًا أو منازعًا أو شريكًا أو ضيفًا بجانبه. بل يستأثر وحده بالنفس فيُلهيها عن شواغلها، ويُنسيها حاجاتها، ويفرق بينها وبين أميالها، ويُذهب همومها وأحزانها، ولا يطمئن إلا إذا قطعت العَلاقات مع غيره، وأصبحت كلها له كأنها وُلدت معه في يوم واحد وتَفْنَى معه في ساعة واحدة، لا تعرف ماضيَها ولا تبالي بمستقبلها. فإذا تمكَّن منها على هذه الحال، وقبض على زمامها رضيت بعجزها، وشكرته على أَسْرِها، واغتبطت برقيِّها، ووجدت باتصالها بنفس أخرى قوةً وفرحًا وسعادةً لم ترَ مثلها.»

ولا يدلُّ قول أفلاطون «كل إنسان يصبح شاعرًا عندما يعشق» إلا على قوة العشق. وكذلك قول إقراطيس: «الجوع كافٍ لإذهاب العشق، فإن لم يُذهبه في أول أمره، قطع عرفه في العاقبة. فإن لم يُذهبه الجوع، فلا حيلة في إذهابه إلا قتل الإنسان نفسه.»

وهناك من ينصح العشَّاق قائلًا: «لا تعشق المجنون على جنونه، لئلا تكون مجنونًا مثله.» وفي هذا إشارة إلى قوة العشق وجبروته.

ويذهب البعض إلى وصف العشق بأنه داء؛ فهو كالسوس الذي يفتك فلا يُبقي في المرء أوَدًا.

يحدثنا «جوسن بلنجر» فيقول: «العشق كالحصبة لا يصيب الإنسان إلا مرة واحدة. والويل له إذا أصابه في الكِبَر؛ فإنه لا محالة سيودي به.»

وقال رسول الله : «العشق داء عارض يصطاد قلبًا خاليًا ويورثه ألمًا جليًّا يحرك منه الساكن ويسكن فيه الداء المائن.»

في العشق حلاوة ومرارة، كما فيه لذة وعذاب.

قيل لرجل إن ابنه قد عشِق، فأجاب: «عذَّب قلبه وأبكى عينه وأطال سقمه.»

والعشق عند الفيلسوف الروماني بوبليلوس سيروس «قلق في وقت الراحة.» وهو عند غيره من الفلاسفة: «حركة النفس الفارغة.»

أما شكسبير فيقول: «لا يتأوَّه العاشق من لا شيء.»

ويقول الشاعر العربي:

خليليَّ ما للعاشقين قلوبُ
ولا للعيون الناظراتِ ذُنوبُ
فيا معشرَ العشَّاقِ ما أوجعَ الهوى
إذا كان لا يلقى الحبيبَ حبيبُ

ولله دَرُّ من قال:

حَكَمَ الزمان بأنني لك عاشقٌ
يا من محاسنه كبدر يشرقُ
حزت الفصاحة والملاحة كلَّها
وعليك من رب البرية رونقُ
ولقد رضيتَ بأن تكون معذِّبي
فعسى عليَّ بنظرة تتصدَّقُ
من مات فيك صبابةً فله الهنا
لا خير فيمن لا يحب ويعشق

ولا أدلَّ على ما في العشق من عذاب من قول يحيى بن معاذ: «لو أمرني الله أن أقسم العذاب بين الخلق ما قسمت للعاشقين عذابًا.»

كتب عاشق إلى معشوقته يقول: «أحبك حب أمي التي ولدتني، وأقدسك كما أقدس الأنبياء، وأُنزلك من قلبي منزلةَ العذراء .. أعشقك. قتلني العشق من أجلك، وربي شهيد على آلامي التي احتملتُها في سبيلك، وليس على قلبي ألذَّ منها ولا أشهى.»

وكما للعشق ألمه وعذابه، فإن له أيضًا لذَّته. فما ألذَّ العشق الذي يخلق من المرء شخصًا آخر! وما ألذَّ العشق الذي يبدأ بالاتفاق وينتهي بالاقتران!

كتب بعض العشاق يقول: «لا تسأليني كم أعشقك، أو ماذا يعتريني ساعةَ أن أراك؛ فهذه إحساسات لم أشعر بها من قبل، وما كنت أحسب أنني سوف أحسُّ بها أبدًا، ولكن لا ريب في أنك تُدخلين إلى نفسي سرورًا لا عهدَ لي به، وغبطةً قد تحسدينني عليها، وانشراحًا لا أعرف كيف أجازيك عليه.»

ويرى ريفارول أن ألذَّ ما في الحب جنونه. ويقول توماس مور: فلتبتسم لي الحياة ما دمت أعشقه وما دام يعشقني، أمَّا إذا غاضَ عشقُه، فلتبك الدنيا، فليس من شيء يهمُّني بعد عشقي.»

ويقول الشاعر:

كيف تبقى للعاشقين قلوبُ
وهي من جمرة الغرامِ تذوبُ
كيف ينسى المحبُّ ذِكْرَ حبيبٍ
واسمه في فؤاده مكتوبُ

وقال آخر:

وغزالة وعدت تزور محبَّها
في النوم كي تُشفى بها الأسقام
فأجبتها مستبشرًا بوصالها
يا حبذا إن صحَّت الأحلام

ويذهب بعض الفلاسفة والحكماء إلى تعديد ما في العشق من فضائل مختلفة.

يقول ديكتر: «قلب العاشق مصدر الحكمة.» ويقول لونجفلو: «من أجمل صفات العاشق أنه لا يظن السوء في معشوقته.»

ويرى أونيل «أن الشباب يعيش ساعة، والجمال يعيش كما تعيش الزهرة، ولكن العشق هو الجوهرة الباقية التي يتلألأ بها العالم.»

ولا يخلو العشق — عند بعض الحكماء — من الشرف والتقوى والإيمان. يقول قاسم أمين: «كل عشق شريف، فإن كان بين شريفين زاد في قيمتهما ورفع من قدرهما. وإن كان بين وضيعين أكسبهما شرفًا وقتيًّا، حتى إذا زال العشق، سقطت قيمتهما وانحطَّت مرتبتهما، ورجعا إلى أصلهما.»

ومن فضائل العشق، في نظر الخراساني، أنه يُطلق اللسان، ويفتح حيلة البليد والبخيل، ويبعث على التلطُّف وتحسين اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشريف الهمة.

وللعشق في رأي بعض العلماء فضيلة تنتج الحيلة، وتشجِّع الجبان وتقوِّي الجَنان، وتسخي كفَّ البخيل وتشفي السقيم العليل، وتصفِّي ذهن الغبي وينطق له اللسان بالشعر، وهو أساس داعية الأدب، وأول باب تتَّفق به الأذهان والفطن وتستخرج به دقائق المكائد والحيل، وإليه تستريح الهمم وتسكن نوافذ الأخلاق والشيم، ويتمتع به الجليس، ويؤانس الأليف، وله سرور يجول في النفوس، وفرح يسكن في القلوب. وكلام العشَّاق مع منادميهم يزيد في ذكاء العقول وتحريك النفوس وطرب الأرواح وجَلْب الأفراح.

كان ذو الرياستين يبعث صبيان أهله إلى شيخ يعلِّمهم الحكمة، فسألهم يومًا: «هل فيكم عاشق؟» فأجابوا بالنفي فقال لهم: «اعشقوا وإياكم والحرام؛ فالعشق يفصح الفتى، ويذكي البليد، ويسخي البخيل، ويبعث على النظافة وتحسين الهندام.»

قال أعرابي: «لو لم يكن في العشق إلا أنه يُشجع الجبان ويصفي الأذهان ويبعث حزم العاجز، لكفاه شرفًا.»

قيل لبعض العلماء إن ابنه قد عشِقَ فأجاب: «الحمد لله، الآن رقَّت حواشيه ولطُفت معانيه وملُحت إشارته وظرُفت حركاته وحسُنت عباراته وجادت رسائله.»

شكا معلم سعيد بن مسلمة ولده إليه فقال: إنه مشتغل بالعشق، فردَّ عليه قائلًا: «دعه فإنه يلطف وينظف ويظرف.»

والقصة التالية توضح أثر العشق الطيب في مسلك الإنسان وأخلاقه:

دخل كُثيِّر عَزَّة يومًا على عبد الملك بن مروان فقال له: «ناشدتك يا كُثيِّر بحق علي بن أبي طالب، هل قابلتَ من هو أعشق منك؟» فأجاب كُثيِّر: «والله يا أمير المؤمنين لو سألتني بحقك لأخبرتك، نعم، بينما أنا أسير ذات يوم في بعض الفلوات، وقد برَّح بي الشوق إلى عَزَّة، إذ أنا برجل قد نصب حباله، فقلت له: «ما أجلسك ها هنا؟» قال: «قد أهلكني وأهلي الجوع، فنصبت حبائلي، لعلِّي أصيب لهم ولنفسي ما يكفينا سَحابةَ يومنا، فقلت: أرأيت لو أقمت معك فأصبنا صيدًا، أتجعل لي منه جزءًا؟ قال: «نعم». وبقينا نحن كذلك حتى وقعت ظبية، فخرجنا مبتدرَين، وأسرع هو إليها فحلَّها وأطلقها، فقلت له، ما حَمَلَك على هذا؟ قال: دخلني لها رقة لشبهها بليلى وأنشأ يقول وهو يبكي:

راحوا يصيدون الظباء وإنني
لَأرى تصيُّدَها عليَّ حراما
أشبهن منكِ محاجرًا وسوالفًا
فأرى عليَّ لها بذاك ذِماما
أعزِزْ عليَّ بأن أروِّع شِبهها
أو أن يذقن على يديَّ حِماما

عندئذٍ عرَفتُ يا أمير المؤمنين أن صاحبي لم يكن غير «مجنون ليلى».

وكما تناول بعض الأدباء والحكماء العشق مقرونًا بالفضائل والمحامد، كذلك لم يُغفل بعضُهم ذكره مشفوعًا بالرذائل والنقائص.

فالعاشق عند بعضهم لا يصلُح لأن يُتَّخذ أمينًا على الأسرار؛ لأنه لا يثق بكلامك كما أنك لا تثق بكلامه.

قال الحسين بن علي: «ثلاثة تذهب ضياعًا: دين بلا عقل، ومال بلا بذل، وعشق بلا وصل.»

والعشق عند شكسبير أعمى، والعشَّاق لا يرون ما يرتكبونه من حماقات.

ومن مساوئ العشق أنه قد ينقلب إلى مقت وكراهية. يقول روسفوكولد: «من يتسرع في حب معشوقته لا يلبث طويلًا حتى ينبذها ويتحوَّل حبُّه لها إلى كراهية.»

ويحدِّثنا «بولو رليتون» عن إحدى قبائح العشق فيقول: «العشق مشغلة الكسول، وراحة العامل.» ويؤيده في ذلك ديو جينيس بقوله: «العشق شغل أهل البطالة.»

وقد سئل أفلاطون عن العشق فقال: «هو ما لا يعرض إلا لأهل الفراغ.»

والعاشق — وإن كان يعرف رغبته — لا يرى ما تقول به الحكمة، فيحلم وهو يقظان بما يساوره من شكٍّ. ويقول لنفسه أكاذيبَ كثيرة.

قال رجل لامرأة: «قد أخذتِ بمجامع قلبي، واستوليتِ على مُهْجتي وفؤادي، فلست أعشق سواكِ.» فأجابته قائلة: «إن لي أختًا أبهى مني جمالًا وأرقُّ حديثًا وأكثر جاذبية، وها هي ذي خلفي.» فالتفت الرجل وراءها، فقالت له: «يا كذاب! تدَّعي هوانا، وفيك فَضْلٌ لسوانا!»

ولقد سأل الرشيد عن حقيقة العشق فقيل له: «أن يكون البصل منها، أطيب من المسك من غيرها.»

ومن رذائل العشق عند هوميروس أن العاشق يقضي شبابه ولا يدري، ثم يمضي طور الرجولة في الندم على ضياع الشباب، وفي الكبر يفنى في العزلة والاحتقار.

وقد قال الشاعر:

مما أضرَّ بأهل العشق أنهمُ
هَوَوْا وما عرَفوا الدنيا وما فطِنوا
تفنى عيونُهمُ دمعًا وأنفُسُهم
في إثر كلِّ قبيحٍ وجهه حَسَنُ

وإن كان البعض قد وصفَ العشق بأنه سريع العَطَب، فإن بعض الفلاسفة قد نَعَتَه بأنه باطل: «لم أرَ حقًّا أشبهَ بباطل من العشق، ولا باطلًا أشبهَ بحقٍّ منه. هَزْله جِدٌّ، وجِدُّه هَزْل. وأوله لعب وآخره عَطَب».

•••

وقد يصل حدُّ العشق بالمعشوق أنه لا يخشى الموت مثل خوفه من فراق معشوقته له. وفي ذلك قال أمير المؤمنين ابن المعتز:

وأفجع الناس من سارت حبائبه
ولا عناق ولا ضم ولا قُبَل!

ولعلَّ شهداء العشق هم أول من في قائمة الشهداء؛ لأنهم يسعون إلى حتفهم بأنفسهم كقول الشاعر:

إلى حتفي سعى قدمي
أرى قدمي أراق دمي

ولأنهم يطلبون كذلك الموت طواعية في سبيل إرضاء محبوبهم زهدًا في الحياة.

حدَّث الأصمعي فقال: «بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه:

أيا معشر العشَّاق بالله خبِّروا
إذا حلَّ عشقٌ بالفتى كيف يصنع؟

فكتبتُ تحته:

يداري هواه ثم يكتم سرَّه
ويخشع في كل الأمور ويخضع

ثم عُدتُ في اليوم التالي، فوجدت مكتوبًا هذا البيت:

وكيف يداري والهوى قاتلُ الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطَّعُ

فزدت عليه:

إذا لم يجد صبرًا لكتمان سرِّه
فليس له شيء سوى الموت ينفعُ

ثم وصف الأصمعي ما رآه بعد ذلك، وكيف يكون تأثير العشق في العشاق إذ يقول: «فمضيت ووجدت شابًّا مُلقًى تحت ذلك الحجر قتيلًا … وهو يشير إلى بيتين كتبهما بدم قلبه:

سمِعنا أطَعنا ثم متنا فبلِّغوا
سلامي إلى مَن كان للوصلِ يمنعُ
هنيئًا لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرَّعُ

ولعل أمتع قصص العشق وأصدقها على إخلاص العاشق لمعشوقته، وعدم إحجامه في بذل الروح في سبيلها، قصة هذا العاشق التي جاء ذكرها على لسان العرب:

حُكي عن الأصمعي أنه قال:

«دخلتُ البصرة أريد بادية بني سعد، وكان على البصرة يومئذٍ واليًا خالد بن عبد الله القسري، فدخلت عليه يومًا، فوجدت قومًا متعلِّقين بشابٍّ ذي جمال وكمال وأدب ظاهر بوجه زاهر حَسَن الصورة طيِّب الرائحة جميل البِزَّة عليه سكينة ووقار فقدَّموه إلى خالد، فسألهم عن قصته فقالوا هذا لص أصبناه البارحة في منازلنا، فنظر إليه خالد فأعجبه حُسْن هيئته ونظافته. فقال خلُّوا عنه، ثم أدناه منه وسأله عن قصته فقال: إن القول ما قالوه، والأمر على ما ذكروه. فقال له خالد: ما حَمَلَك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة؟ فقال حَمَلَني الشَّرَه في الدنيا، وبذا قضى الله سبحانه وتعالى. فقال خالد: ثكِلتك أمك، أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر عن السرقة؟ قال: دع عنك هذا أيها الأمير، وأنفِذْ فيَّ ما أمرك الله تعالى به، فذلك بما كسبت يداي، وما الله بظلَّام للعبيد. فسكت خالد ساعةً يفكِّر في أمر الفتى، ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رءوس الأشهاد قد رابني، وأنا ما أظنُّك سارقًا، وإنَّ لك قصةً غير السرقة، فأخبرني بها. فقال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك شيء سوى ما اعترفت به عندك، وليس لي قصة أشرحها لك إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت منها مالًا فأدركوني وأخذوه مني وحملوني إليك. فأمر خالد بحبسه، وأمر مناديًا ينادي في البصرة: ألا من أحبَّ أن ينظر إلى عقوبة فلان اللص وقَطْع يده، فليحضر من الغد. فلما استقرَّ الفتى في الحبس ووضع في رجليه الحديد، تنفَّس الصُّعَداء وأنشد قائلًا:

هدَّدني خالدٌ بقَطْعِ يدي
إذْ لم أَبُحْ عنده بقِصَّتِها
فقلتُ هيهاتَ أن أبوحَ بما
تضمَّن القلب من محبَّتها
قَطْعُ يدي بالذي اعترفتُ به
أهونُ للقلب من فضيحتها

فعند ذلك سمعه الموكَّلون بالسجن فأتَوْا خالدًا وأخبروه بذلك. فلما جَنَّ الليل، أمر خالد بإحضاره عنده. فلما حضر استنطقه، فرآه أديبًا عاقلًا لبيبًا ظريفًا، فأُعجب به فأمر له بطعام، فأكلا وتحادثا ساعة، ثم قال له خالد: قد علِمْتُ أن لك قصة غير السرقة، فإذا كان الغد وحضر الناس والقضاة وسألتُك عن السرقة فأنكِرها واذكر فيها شُبَهًا تدرأ عنك القطع، فقد قال رسول الله : ادرءوا الحدود بالشبهات، ثم أمَرَ به إلى السجن. فلما أصبح الصباح، لم يبقَ أحد من أهل البصرة لا ذكر ولا أنثى إلا حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى. وركب خالد ومعه وجوه وأعيان أهل البصرة وغيرهم، ثم دعا بالقضاة وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجِل في قيوده ولم يبقَ أحدٌ من الناس من رجال ونساء إلا بكى عليه، وارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب. فأمر خالد بتسكين الناس، فإنها كادت أن تكون فتنة. ثم قال له خالد: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالَهم، فما تقول؟ قال: صَدَقوا أيها الأمير، دخلتُ دارهم وسرقتُ مالهم. قال خالد: لعلَّك سرقتَ دون النصاب، فقال: بل سرقت نصابًا كاملًا. قال فلعلك سرقتَه من غير حِرْز مثله. قال: بل من حِرْز مثله. قال: فلعلك شريك القوم في شيء منه. قال: بل هو جميعه لهم لا حقَّ لي فيه. فغضب خالد وقام إليه بنفسه، وضَرَبه على وجهه بالسوط وقال مُتمثِّلًا بهذا البيت:

يريد المرء أن يُعطى مُناه
ويأبى الله إلا ما أرادا

ثم دعا بالجلَّاد ليقطع يده، فحضر وأخرج السكين، ومدَّ يده ووضع عليها السكين، فبادرت جارية من صفِّ النساء عليها آثار وسخ، فصرخت ورمَتْ بنفسها على الغلام، ثم أسفرت عن وجه كأنه البدر، وارتفع للناس ضجَّة عظيمة كاد أن تقع منها فتنة، ثم نادت بأعلى صوتها: ناشدتك الله أيها الأمير لا تعجِّل بالقطع حتى تقرأ هذه الرقعة. ثم دفعت إليه رقعة ففضَّها خالد، فإذا هي مكتوب فيها هذه الأبيات:

أخالدُ هذا مستهامٌ متيَّمُ
رمته لِحاظي من قسيِّ الحمالقِ
فأصماه سهم اللحظ منِّي فقلبُه
حليفُ الجوى من دائه غيرُ فائقِ
أقرَّ بما لم يقترفْهُ لأنه
رأى ذاك خيرًا من هتيكةِ عاشقِ
فمهلًا على الصبِّ الكئيب لأنه
كريمُ السجايا في الهوى غيرُ سارقِ

فلمَّا قرأ خالد الأبيات، تنحَّى وانعزلَ عن الناس، وأحضر المرأة ثم سألها عن القصة، فأخبرته أن هذا الفتى عاشق لها، وهي له كذلك، وأنه أراد زيارتها وأن يُعلمها بمكانه، فرمى بحجر إلى الدار فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر عند الرَّمْي، فصعِدوا إليه. فلمَّا أحسَّ بهم جمَعَ قماشَ البيت كله وجعله صرَّة فأخذوه وقالوا إن هذا سارق، وأتَوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصرَّ على ذلك حتى لا يفضحني بين إخوتي، وهان عليه قَطْعُ يده لكي يستر عليَّ، ولا تُهتك السُّتُر. كل ذلك لغزارة مروءته وكرم نفسه. فقال خالد: إنه خليقٌ بذلك، حقيقٌ بما تقولين مما هنالك، ثم استدعى الفتى إليه، وقبَّل ما بين عينيه، وأمَرَ بإحضار أبي الجارية وقال له: يا شيخ، إنا كنا عَزَمْنا على إنفاذ الحُكْم في هذا الفتى بالقطع، وإن الله عز وجل قد عَصَمَنا من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يدَه وحفظِه لعرضك وعرض ابنتك وصيانته لكما من العار، وقد أمرتُ لابنتك بعشرة آلاف درهم أيضًا. وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه. فقال الشيخ: قد أذِنت أيها الأمير بذلك. فحمِدَ الله خالد وأثنى عليه بما هو أهله وخطب خطبة حسنة وزوَّجها منه بقوله للفتى: قد زوَّجتُك هذه الجارية فلانة الحاضرة بإذنها ورضاها وإذن أبيها على هذا المال، وقَدْره عشرة آلاف درهم، فقال الفتى: قبلت منك هذا التزويج.

وأمر بحَمْل المال إلى دار الفتى مزفوفًا في الصواني، وانصرف الناس مسرورين ولم يبقَ أحد في سوق البصرة إلا نَثَرَ عليهما اللوز والسكر والدراهم حتى دخلا منزلها مسرورَين مزفوفين.»

قال الأصمعي: فما رأيت يومًا أعجبَ من ذلك اليوم، أوله بكاء وتَرَح وآخره سرور وفَرَح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤