الفصل الخامس

عاصمة كليوباترا وبلاطها

(١) الإسكندرية عاصمة البطالمة

وفقًا لما كتبه ديودور عام ٥٩ قبل الميلاد تقريبًا كان يوجد بالإسكندرية ٣٠٠ ألف مواطن حر من بين إجمالي عدد السكان الذي قُدِّر بنحو ٥٠٠ ألف (رولاندسون ٢٠٠٣: ٢٥٣). كان أهالي الإسكندرية، الذين مثَّلوا قوة هائلة طوال حكم البطالمة، يتدخلون دومًا إذا شعروا أن حاكمهم الشرعي في خطر. في عام ١٣١ قبل الميلاد اختاروا كليوباترا الثانية لتحكم بدلًا من زوجها وأخيها بطليموس الثامن وزوجته الثانية الجديدة، التي كانت ابنتها كليوباترا الثالثة. وعندما أرادت كليوباترا الثالثة فيما بعد استبدال ابنها بطليموس التاسع كحاكم مشارك لها استخدمت أهالي الإسكندرية في تنفيذ وصيتها. اختلقت هذه الملكة بذكاء قصة مفادها أن ابنها هدد حياتها، وعرَّضت بعضًا من حراسها للضرب من أجل تدعيم القصة. مارست حشود الشعب ضغطها ونُفي الملك (أشتون ٢٠٠٣أ: ٦٥-٦٦). وعندما قُتلت كليوباترا برنيكي على يد بطليموس الحادي عشر عقب مرور أقل من ثلاثة أسابيع على زواجهما، أُعدم المعتدي في المدرج الإغريقي على يد أهالي الإسكندرية (أشتون ٢٠٠٣أ: ٦٦-٦٧). حتى في أثناء حكم كليوباترا السابعة لعب سكان هذه العاصمة دورًا مهمًّا في الصراع على الحكم بين الإخوة الحاكمين. وهذه مجرد أمثلة قليلة توضح سلطة أهالي الإسكندرية.

كانت الإسكندرية العاصمة الإدارية كما كانت مقر الإقامة الملكي في أغلب فترة حكم البطالمة. تُعتبر هذه المدينة عادةً العاصمة الثقافية لمصر، لكن هذا ينطبق فقط على الثقافة الإغريقية. موَّلت الأسرة الحاكمة مؤسسة أُطلق عليها اسم الموسيون، أو ضريح الربات، ومنه اشتُقت كلمة متحف بالإنجليزية museum. كان الموسيون الإغريقي أقرب شبهًا بمركز بحثي خاص يهدف إلى تمجيد رعاته. كان مانتيون أحد المصريين القلائل الذين حصلوا على رعاية من البيت الملكي، ويُستشهد به عادةً كمثال على رغبة الحكام الأوائل في تدعيم الثقافة الوطنية (فريزر ١٩٧٢: ٥٠٥–٥١١). يبدو أن الباحثين المتخصصين في الدراسات الكلاسيكية في عصرنا الحالي يغفلون أنه أمام هذا المركز الواحد للثقافة الإغريقية كانت تُقام مئات المعابد المصرية التي تروج للثقافة واللغة والمعرفة العلمية المصرية. تمثَّل العصر الذهبي للموسيون في القرن الثالث قبل الميلاد. يذكر الباحثون عادةً المشكلات السياسية، الداخلية والخارجية، على أنها السبب في انهيار هذه المؤسسة العلمية.

رغم ذلك أظهرت دراسة للبقايا الأثرية والأدلة المادية على رعاية البطالمة لهذه المؤسسة على مدار حكمهم، أن اهتمامات الحُكام في مصر تحولت إلى الظهور بمظهر الفراعنة المصريين بدلًا من الملوك الهلنستيين (أشتون ٢٠٠٣ب: ٢١٣–٢٢٤). هذا ويصعب تحديد إذا كان الحُكام يفضلون فعليَّا هويتهم المصرية أم كانت هذه الخطوة تهدف في الأساس إلى كسب دعم الكهنوت المصري لهم. ونظرًا لاتسام كثير من حكام القرن الثاني قبل الميلاد بحب المظاهر، يمكننا أن نرى بسهولة السبب في اختيارهم إظهار أنفسهم على أنهم ملوك مصريون بدلًا من اعتبارهم ملوكًا هلنستيين. على الرغم من ذلك، فإن موقفهم تجاه فرض الضرائب كان مختلفًا إلى حد بعيد؛ إذ طبق البطالمة نظامًا اقتصاديًّا يقوم على استخدام العملات النقدية. كما اتبع الحُكام سياسة التخلص التدريجي من الاستقلال الاقتصادي للمعابد. كانت المخصصات تُصرف لكن المعابد كانت تعتمد على كرم الشخصيات الحاكمة.

كان الكهنة المصريون يمثِّلون النظير المحلي للإغريق الإسكندريين. وفي سياق الديانة المصرية أقر الكهنة بشرعية حكم البطالمة وقدموا سبلًا يمكن من خلالها الترويج للحكام. يقول هولبل (٢٠٠١: ٢٨٠–٢٨٩) إن درجة حسن العلاقة بين الحاكم والكهنة كانت تعتمد على استعداد كلٍّ منهما لأداء دوره المطلوب. ومع ذلك كان الكهنة في حاجة إلى ملك (ليس بالضرورة من البطالمة)؛ فبدون حاكم لا يمكن للنظام الديني المصري أن يؤدي وظيفته. كانت المعابد تعتمد أيضًا على البيت الملكي في جزء كبير من عائدها، إما عن طريق الإعفاءات الضريبية أو من خلال تمويل أعمال البناء والعبادات، التي كانت تتيح عددًا من الوظائف. ومثلما كانت الإدارة الإغريقية تحصل على امتيازات من الملك (صامويل ١٩٩٣: ١٧٩)، كان الكهنة المصريون يحصلون على امتيازات أيضًا. كان الحُكام يزورون المعابد باستمرار؛ فوفقًا لنص الإهداء الموجود في معبد حورس في إدفو، زار بطليموس الثامن وكليوباترا الثانية الموقع فعليًّا (هولبل ٢٠٠١: ٢٨٠).

تُظهر المعابد التي أهداها الحكام الأربعة الأوائل في الإسكندرية وممفيس استعدادًا من الحكام ووعيًا لتدعيم التبادل الثقافي المشترك بين الثقافتين الإغريقية والمصرية. في الإسكندرية أنشأ الحُكام معبدًا إغريقيًّا للإلهَيْن المصريَّيْن أوزوريس وأبيس وجمعا الاثنين في اسم أوزارأبيس، الذي تَمَثَّلَ رمزُ عبادته في ثور أبيس المتوفى في ممفيس. أما النسخة الإغريقية من هذا الإله فقد حصلت على تمثال للعبادة على الطراز الإغريقي وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالبيت الملكي (أشتون ٢٠٠٤أ: ٢١–٢٥). أما في ممفيس، التي كانت مقر إقامة العائلة الملكية في الجزء الأول من حكم بطليموس الأول؛ فقد حافظ الحُكام على علاقة وطيدة بالكهنة وتُوج كثير منهم هناك. في أوائل العصر البطلمي أهدى الحُكام نُصبًا تذكاريًّا منحوتًا على طراز نصب النصر التذكارية الهلنستية في ذلك الموقع (أشتون ٢٠٠٣د: ١٠–١٤). للوهلة الأولى تبدو التماثيل على الطراز الإغريقي للفلاسفة وكُتاب المسرحيات والشعراء إضافة لا تليق بمعبد مصري تقليدي وتعبِّر عن عدم احترام. ومع ذلك، قيل إن هذه التماثيل تجسد العلماء الإغريق الذين قضوا وقتًا في مصر؛ ومن ثم تضفي صبغة شرعية على وضع الحكام الإغريق الجدد في التاريخ المصري.

(٢) الإسكندرية عاصمة لحكم كليوباترا: البقايا الأثرية

اختلفت الإسكندرية في أثناء حكم كليوباترا السابعة تمامًا عما كانت عليه في عهد حكام البطالمة الأوائل. يقول الجغرافي سترابو، الذي زار المدينة بعد وفاة كليوباترا مباشرةً، إن حدودها توسعت نحو الشرق. يعجز الباحثون في العصر الحالي عن أن يفهموا بالكامل مدى هذا التوسع؛ فلا بد أن معبد إيزيس، الذي يرجع تاريخه إلى عهد كليوباترا، كان موجودًا في موقع رئيسي. ولا بد أن بناءه كان يمثِّل أكبر مشروع بناء على الإطلاق في فترة حكم الملكة، وعلى عكس كثير من المعابد الأخرى الأبعد جهة الجنوب، يبدو أن معبد إيزيس في الإسكندرية بدأ يُستخدم في أثناء حكمها واستمر استخدامه طوال فترة حكم الرومان. يُعتبر الجزآن العُلْويان المتبقيان من التمثال المزدوج الضخم لكليوباترا وابنها، الذي أُهدي في الموقع، دليلًا على مدى ضخامة للبناء. إن تمثال كليوباترا في صورة إيزيس هو أحد التماثيل المميزة الباقية من فترة حكمها (شكل ٤-١٩). كان هذا المعبد مختلفًا تمامًا عن المعبد المخصص ليوليوس قيصر، القيصروم، الذي يقع بالقرب من وسط العاصمة البطلمية القديمة.
fig37
شكل ٥-١: تمثال من الرخام لكليوباترا السابعة في صورة إيزيس، عُثر عليه في معبد إيزيس في روما. أرشيف صور متاحف كابيتوليني.

بدأ العمل في معبد يوليوس قيصر في عهد كليوباترا السابعة لكنها تركته غير مكتمل وقت وفاتها. اهتم أغسطس، الذي اختاره القيصر ليكون خليفة له، تلقائيًّا باستكمال المشروع. وبفضل الوصف المفصَّل للمعبد في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، وأعمال التنقيب في الموقع في عامي ١٩٩٢و١٩٩٣، أصبحنا نعرف قدرًا كبيرًا من المعلومات حول الشكل النهائي لهذا المعبد (أمبرور ٢٠٠٢: ١١٢–١٢٣). وقبل أعمال أغسطس البنائية، كان المعبد المُهدى إلى يوليوس قيصر المؤلَّه يضم مقامًا أو مذبحًا مخصصًا لمارك أنطونيو (أمبرور ٢٠٠٢: ١١٢). وصف فيلون السكندري هذا المعبد الروماني كالتالي: «لا توجد في أي مكان آخر ساحة مثل التي يُطلق عليها السباستيوم، وهو عبارة عن معبد للقيصر (أغسطس)، راعي البحارة، يوجد على مكان مرتفع من الأرض في مواجهة المرافئ … يتكون من فناء ضخم مزين بأروقة معمدة ومكتبات وقاعات لإقامة الولائم وبساتين وبوابات على الطراز الإغريقي ومحاكم واسعة وغرف مفتوحة.» جلب أغسطس أيضًا مسلَّتين من هليوبوليس، من معبد مهجور يقع بالقرب من مطار القاهرة الحديث (هاباتشي ١٩٨٧: ١٥٢–١٨٢)، تُعرف حاليًّا باسم مسلات كليوباترا. توجد حاليًّا المسلات التي تعود إلى عهد تحتمس الثالث على ضفاف نهر التيمز في لندن وفي حديقة سنترال بارك في نيويورك.

تشير أعمال التنقيب (أمبرور ٢٠٠٢: ١١٥–١١٧) إلى أن المعبد ظل يُستخدم كدار للعبادة مخصصة للديانة الملكية في أواخر القرن الثاني الميلادي. وفي القرن الرابع الميلادي أصبح موقعًا لكاتدرائية مسيحية (أمبرور ٢٠٠٢: ١١٦-١١٧). ربما ما زال في وسع هذا الموقع الضخم منحنا المزيد من المعلومات حول وقت تطوير وهدم المباني الموجودة في هذه المنطقة من المدينة وكيفية حدوث ذلك.

ذكر سترابو أن القصور الملكية كانت توجد على طول شاطئ البحر، على الأرجح لأن هذا كان الموقع الأفضل في المدينة، لا سيما في ظل الرطوبة التي يتسم بها فصل الصيف في الإسكندرية. إن موقع الكورنيش الحديث حاليًّا على الواجهة البحرية لا يمت بصلة لموقع الشاطئ أثناء حكم البطالمة، فحاليًّا توجد قصور البطالمة تحت سطح البحر وتحت الكتل الإسمنتية الضخمة التي وُضعت لتعمل كحواجز للأمواج. في عام ١٩٩٥ أُعلن عن اكتشاف فريق من علماء الآثار الغارقة لقصور كليوباترا. وقد استنتجوا هذا عقب التعرف على تمثالين لأبي الهول من الجرانيت، يُقال إنهما كانا يحملان ملامح وجه والد كليوباترا (تحرير جوديو وكلاوس ٢٠٠٦: ٥٦؛ كيس ١٩٩٨: ١٦٩–١٨٨). عُثر على تمثالَيْ أبي الهول هذين مع تمثال لكاهن روماني يحمل تمثالًا للإله أوزوريس-كانوبوس. وكما أشار الإعلان الأول عن هذه القطعة بالذات، فإن هذا النوع من التماثيل لم يُصنع إلا في العصر الروماني (دونو ١٩٩٨: ١٨٩–١٩٤). كذلك أرى أن الأدلة على هوية تمثالي أبي الهول هذين ضعيفة للغاية؛ فإن ملامح وجههما أقرب للشبه بالشكل العام لأبي الهول الذي ظهر في أوائل عصر الرومان (أشتون ٢٠٠٢ب)، ولا يشبه ملامح الوجه المميزة لوالد كليوباترا. كما أن تحديد تاريخ مجمع المباني هذا لا بد أن يتسم بمزيد من الحرص؛ فإن الأدلة تشير إلى أن هذه البقايا المادية يرجع تاريخها إلى أوائل عهد الرومان أكثر من انتمائها إلى عصر كليوباترا السابعة بالذات كما أُشير.

لقد خصص قيصر نفسه قبرًا لبومباي، القائد الروماني الذي قُتل على يد بطليموس الثالث عشر والذي قُدم رأسه إلى قيصر، عقب نزوله إلى الإسكندرية مباشرةً عام ٤٨ قبل الميلاد. لكن بحلول زيارة الإمبراطور هادريان إلى العاصمة المصرية عام ١٣٠ قبل الميلاد كان هذا القبر قد تهدَّم. وقد أمر هادريان بترميمه وأعاد افتتاحه.

(٣) القصص والتصورات

رأى الكتاب الرومان أن الانحلال الأخلاقي في البلاط الملكي البطلمي وإغراقه في الرفاهية كان أمرًا شائنًا. اعتبرت السلالات الهلنستية الترف إحدى السمات الإيجابية (سميث ١٩٨٨: ٥٢)، لكن كثيرًا من المحللين الرومان أظهره على أنه أحد أسباب سقوط أنطونيو (بلوتارخ «حياة أنطونيو» ٢٨). كان البلاط البطلمي وكل ما يرمز إليه يتناقض بشدة مع نمط الحياة المتواضع نسبيًّا الذي اتبعه أوكتافيان. ويبدو أن الكُتاب الذين جاءوا فيما بعد لم يهتموا بحقيقة أن البيت الإمبراطوري الروماني قد تطور ليصبح نموذجًا يتفوق بالفعل في بذخه على البلاط البطلمي.

حتى قيصر انبهر بثراء كليوباترا، وهو ما قد يفسِّر إلى حد ما كيف أسَرت الملكة هذا القائد الروماني (لوكان، «فرساليا» ١٢٣–٢٠٠). يتناول جزء كبير من قصيدة لوكان الانحلال الناتج عن الإغراق في الترف في مصر: «كانت العوارض مكسوَّة بطبقات من الذهب؛ ولم توجد أية ألواح خشبية رقيقة على الجدران، إنما بُنيت من كتل صلبة من الرخام تضيء القصر» (ترجمة جويس ١٩٩٣: ١٣٥–١٣٨). أكملت عوامل مثل: وجود عبيد من عدة بلدان واستخدام خمر ولحم حيوانات مقدسة في مصر، عملية الانهيار (١٥٠–٢٠٠).

يشير بليني الأكبر إلى الترف الموجود في البلاط البطلمي عبر ذكر امتلاك كليوباترا أكبر لآلئ في التاريخ بالإضافة إلى الوليمة التي أقامتها مع مارك أنطونيو. يُقال إن كليوباترا زعمت أنها كانت تنفق ١٠ مليون سستركة (عملة رومانية قديمة) في الوليمة الواحدة. يصف بليني هذا فيقول:

بناءً على تعليمات سابقة وضع الخدم أمامها وعاءً واحدًا يحتوي على الخل، من أقوى الأنواع الذي بإمكانه إذابة اللآلئ. وكانت في ذلك الوقت ترتدي في أذنيها تلك اللآلئ الرائعة والفريدة التي ابدعتها الطبيعة. كان الفضول يسيطر على أنطونيو ليرى ماذا ستفعل. خلعت أحد قرطيها وأسقطت اللؤلؤة في الخل وعندما ذابت شربته.

تبدو هذه القصة خيالية بوضوح ويُقال إن الخل قد استُخدم حتى تسهل استعادة اللؤلؤة (التاريخ الطبيعي ١١، طبعة لوب: ٢٢٤ قسم ١٢١). ومع ذلك تظل هذه القصة موجودة كمثال على فساد البلاط البطلمي. يستخدم بليني هذه الفرصة ليعلق قائلًا: إن هذا الرهان لم يكن المعركة الوحيدة التي خسرها أنطونيو.

في المجلد الرابع، الفصل ٢٩ يذكر أثينوس أن مصدره في رواية هذه القصة كان سقراط الرودسي الذي سرد في مجلده الثالث من كتاب «الحروب الأهلية» صور الضيافة التي قدمتها آخر ملكة لمصر. كان من بين الهدايا التي قدمتها إلى ضيوفها تماثيل إثيوبية تحمل المصابيح وأثاثًا من الوليمة وأطباقًا من التي تناولوا طعامهم فيها (٦. ٢٩٩ج). وعندما أدركت كليوباترا أن الرومان كانوا يراقبون نمط حياتها الباذخ، تحولت من استخدام أدوات المائدة المصنوعة من الذهب والفضة إلى استخدام «أدوات المائدة العادية»؛ مما يوحي بأن استخدام أدوات المائدة الذهبية والفضية كان القاعدة (طومسون ٢٠٠٣: ٨٣-٨٤).

أعاد بلوتارخ («حياة أنطونيو» ٢٨) سرد ذهول الطبيب فيلوتاس من أمفيسا عند رؤيته لكمِّ الطعام الذي يُعد من أجل وليمة ملكية صغيرة في المدينة. تحتوي هذه الفقرة أيضًا على إشارة إلى رابطة محبي الحياة المتفرِّدين، التي ترأستها كليوباترا ومارك أنطونيو. ومن المثير للدهشة بقاء قاعدة تمثال حتى الآن تسجل وجود هذه الرابطة (انظر فيما يلي).

بالنسبة للكُتاب والمؤرخين الرومان كان مفهوم الترف مرادفًا لأسلوب كليوباترا الأناني في التعامل مع مَن حولها. كتب يوسيفوس في كتابه «آثار اليهود القديمة» ١٤-١٥: «لم تكن تلك المرأة المسرفة تكتفي بشيء؛ فقد كانت شهيتها تتحكم فيها حتى إن العالم بأكمله لم يستطع إرضاء رغبات خيالها.» وبعد وصفه كيف قتلت كليوباترا معظم أفراد أسرتها، قال يوسيفوس أيضًا (٤. ١. ٨٨):

من أجل أي قدر من المال يوجد أمل ضئيل في حيازته، كانت تُنتهك المعابد والقبور على حدٍّ سواء، فلم يكن يُحترم أي مكان مقدس بحيث تحذر إزالة أثاثه، ولم يسلم أي مكان غير ديني من المعاناة بشتى الطرق المحظورة ما دام يوجد احتمال أن يرضي جشع تلك المرأة الشريرة. إجمالًا، لم تكن تلك المرأة المسرفة تكتفي بشيء، فقد كانت شهيتها تتحكم فيها حتى إن العالم بأكمله لم يستطع إرضاء رغبات خيالها.

(٤) العلم في عصر كليوباترا

من المهم أن نتذكر أن الإسكندرية في عهد كليوباترا كانت مدينة يسودها السخط وتعج بالمشكلات وتعاني من الاحتلال. تُظهر الإشارات إلى السنوات الأولى في حكمها المشترك مع بطليموس الثالث عشر أن الحرائق التي كان الرومان يشعلونها من أجل إعادة السيطرة على المدينة دمرت جزءًا كبيرًا من المنطقة التي كانت تشكِّل وسط المدينة. دمرت هذه الحرائق كذلك مكتبة الإسكندرية الشهيرة. كانت المدينة في وقت من الأوقات موقع جذب للعلماء من كافة أنحاء العالم الإغريقي، وفي أوائل فترة حكم البطالمة حظي كثير من الشعراء وكتاب المسرحيات والعلماء والفلاسفة وعلماء الرياضيات المشاهير برعاية الأسرة الحاكمة البطلمية كجزء من الموسيون. ولَّت هذه الأيام قبل سنوات طويلة من حكم بطليموس الثاني عشر وكليوباترا السابعة. ومع ذلك، يوجد بعض الأدلة على حدوث نهضة في أثناء السنوات الأخيرة من عهد البطالمة، ربما حثت أنطونيو على تعويض محتويات المكتبة المدمرة من خلال إهداء كليوباترا مخطوطات مكتبة مدينة بيرجامون، التي توجد حاليًّا في تركيا الحديثة، والتي كانت إحدى المكتبات المنافسة لمكتبة الإسكندرية في وقت ما (بلوتارخ «حياة أنطونيو» ٥٨؛ فريزر ١٩٧٢: المجلد الأول، ٣٣٥ والمجلد الثاني، ٤٩٤ رقم ٢٩٩). كان الموسيون لا يزال مركزًا للفلاسفة في أثناء السنوات الأخيرة من حكم البطالمة، وللباحثين أمثال يودوروس الذي كتب تعليقات على أعمال الفلاسفة الأوائل (فريزر ١٩٧٢: المجلد الأول، ٣٣٤-٣٣٥). وكتب آخرون مثل بوتامون السكندري وأنيسيديموس من كنوسوس عن مفاهيم فلسفية جديدة وطرحوا بعضًا منها (شوفو ٢٠٠٠: ١٧٤). وعلى عكس الفترات المبكرة التي كان فيها العلماء تحت سيطرة البيت الملكي، بدا أن الأكاديميين في الإسكندرية في عهد كليوباترا لم يكن لديهم أي التزام تجاه حكامهم (شوفو ٢٠٠٠: ١٧٥).

رافق أيضًا الفيلسوف السكندري ديون، الذي لعب دورًا مهمًّا في نفي بطليموس الثاني عشر، كليوباترا إلى روما وأصبح معلم أوكتافيان. لم يعد ديون إلى مصر إلا عقب هزيمة كليوباترا ويُقال إنه حث تلميذه السابق على إعدام بطليموس قيصر. كذلك غيَّر آخرون مثل فيلوستراتوس، الذي كان أحد مستشاري كليوباترا، ولاءهم عقب وفاتها (شوفو ٢٠٠٠: ١٧٥).

(٥) خارج العاصمة

تحدثنا بالتفصيل في مواضع أخرى في هذا الكتاب عن معابد وصور كليوباترا في سياق الحديث عن دورها كحاكمة ووصية على العرش وإلهة. وربما تجدر بنا الإشارة إلى تطور إهداءات كليوباترا عبر أدوارها المختلفة وتلخيص ما نُسب إليها من حيث سياساتها الدينية وتوجهاتها السياسية. وعلى الرغم من عدم وجود آثار مادية لكليوباترا في مدينة ممفيس، يبدو على الأرجح أنها استمرت في السعي للحصول على النصح والدعم من الكهنة هناك بالطريقة نفسها التي كوَّن والدها بها علاقة وطيدة مع ذلك الكيان على وجه الخصوص. خارج الإسكندرية، كانت إهداءات كليوباترا الأساسية تتمركز جميعها في صعيد مصر. وكما أشرنا، كان كثير من هذه الإهداءات في مواقع بدأ بطليموس الثاني عشر بناءها، لكن الملكة أظهرت ولاءها الشديد إلى ابنها ومستقبل سلالتها؛ فبدلًا من ربط نفسها بوالدها، أظهرت زخارف المعابد في دندرة وأرمنت رسومًا زخرفية تروِّج لابن كليوباترا. وكانت عقيدتها بالطبع يُحتفى بها في جميع المعابد المصرية، كما تشير الكتابات على جدران معبد إيزيس في جزيرة فيلة، التي تشير إلى أن تمثال كليوباترا الموجود هناك أُعيد طلاؤه بالذهب (كواجبر ١٩٨٨: ٤١).

بالطبع لم تقصر كليوباترا رعايتها على المشروعات الجديدة في الإسكندرية فحسب، فيشير لوح مُهدى إلى ثور بوخيس أن الملكة كانت تهتم شخصيًّا بالشعائر المصرية. وكما أشرنا من قبل، يُقال إن الملكة أوصلت ثور بوخيس الجديد بالقارب إلى موطنه؛ مما يشير إلى أنها كانت موجودة ربما حتى على القارب الذي نقل هذا الإله الجديد. ومع ذلك، من غير المعروف إلى أي مدى كانت لغة التعامل هذه مجرد لغة نمطية. تحدثنا بالفعل عن الزخارف الموجودة على معبد حتحور في دندرة ببعض التفاصيل، وكذلك المشروعات الأصغر حجمًا في أرمنت وقفط التي تحمل قيمة كبيرة أيضًا نظرًا لأهميتها الدينية. ومن الجدير بالذكر أن كليوباترا، على عكس والدها وأسلافها، لا توجد آثار لها في الكرنك، الذي يمثِّل أكبر تجمُّع للمعابد في مصر وأكثرها تأثيرًا.

كما أشرنا من قبلُ، يُقال إن كليوباترا اصطحبت قيصر إلى أعالي النيل لرؤية مصر العليا ومعابدها. ويمكن تفسير هذه الرحلة بطريقتين؛ أولًا: أن كليوباترا أرادت أن تُظهر للقائد الروماني ثراء دولتها وتراثها هي أيضًا. أو ثانيًا: أن الرومان أرادوا تأكيد سلطتهم وسيطرتهم على مصر. وربما تكون الحقيقة مزيجًا من التفسيرين معًا. قال سويتونيوس («يوليوس قيصر المؤلَّه» ٥٢. ١): إن القيصر لم يسمح لجيشه بالذهاب معه وإنه أبحر مع كليوباترا حتى وصلا تقريبًا إلى إثيوبيا (التي تعني على الأرجح السودان/النوبة).

ظلت مدينة بطلمية أو «بسوي» المصرية تحتفظ بمكانة مهمة حتى نهاية عصر البطالمة. قال سترابو إنها كانت أكبر قرية في طيبة وفي نفس حجم ممفيس (١٧. ١. ٤٢. ٤٦)، ويُقدَّر أنه كان يعيش فيها نحو ٥٠ ألف شخص (طومسون ١٩٨٨: ٥٠). وحاليًّا، لا يوجد إلا عدد قليل من الآثار الباقية الظاهرة في الموقع، الموجودة بالقرب من مدينة سوهاج الحديثة. كانت هذه المدينة مركزًا إداريًّا في جنوب مصر، وتُصدِّق على ذلك بالفعل الوثائق التي تعود إلى العصر البطلمي. فقد الموقع أهميته في أثناء الاحتلال الروماني، لكنه ظل مأهولًا. ومن المثير للاهتمام أن نعرف هل هذه المدينة إغريقية الشكل أم مصرية الشكل، خاصةً عقب الاكتشافات الأخيرة لمنحوتات وأشكال معمارية على الطراز المصري في الإسكندرية نظيرتها الشمالية. تعبِّر هاتان المدينتان الإغريقيتان معًا عن دور كليوباترا بوصفها سيدة الدولتين. ما زلنا لا نعرف هل كانت المدينة الجنوبية، بالإضافة إلى المعابد المصرية التقليدية، تحظى برعاية الملكة، ولا يمكن تحديد ذلك بدقة إلا من خلال المزيد من البحث في الموقع والبقايا الموجودة فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤