طُرق الأداء

دار بنا الكلام في الفصل السابق على المبنى الأدبي من جهة مادته العبارية وما تتصور فيه هذه المادة من قوالب، فبحثنا اللفظ مفردًا ومسبوكًا في جمل، وبحثنا أصناف الجمل مفردة ومنتظمة في كلام مترابط متسلسل، ولا شك أن القارئ أحس أننا كنا نحاول النظر في مادة المبنى وقوالبها بالاستقلال عن المعنى، لكننا لم نستطع إلا أن نظل ملتفتين في حديثنا ولو التفاتًا ضمنيًّا إلى الاعتبارات المعنوية التي هي غاية للمباني لا تنفك عنها؛ فمستحيل أن يتكون مبنًى لا تتكون معه في الأصل نواته من المعنى الذي قُصد له، وفي هذا الفصل، الذي هو وسط بين بحث مادة المبنى وقوالبها وبحث المعاني، سيكون همُّنا أن ننظر في طرق الأداء، أي: أن نعالج المباني من حيث هي رأسًا بيان عن المعاني فنلم بما يجب الإلمام به من الوسائل البيانية التي يكتسب بها المبنى وضوحًا وقوةً في أداء المعنى.

(١) التشبيه

فمن هذه الوسائل البيانية التشبيه، ومرد الأمر فيه إلى أن الناثر أو الشاعر قد يعرض له الخوض في أشياء لا يستطيع تقريب حقيقتها من الإدراك، أو إبراز زينتها، ما لم يمثلها بأشياء أخرى تشاركها في الصفة وتكون أعظم شهرةً لدى القارئ.

وعلى ذلك كان لا بد للشبيه في أصل قالبه من ذكر أربعة أركان: ركن أول هو المشبه، وثانٍ هو المشبه به، وثالث هو أداة التشبيه، ورابع هو وجه الشبه. إلا أن هذا أبسط قوالب التشبيه وأدناها رتبة، وليس يرتفع التشبيه حتى يبلغ قمته، إلا إذا عمل فيه الحذف عمله فأمحت صورته التقليدية من الكلام وأصبح ضمنيًّا لا يُحصَّل إلا بالنظر العقلي، فإذا قلنا مع الشاعر: «وخدٍّ كوجه الرياض احمرارًا» كان التشبيه في أدنى رتبه لأن قالبه محصَّل فورًا بمجرد الالتفات إلى شكل الجملة. لكن إذا قلنا مع الطغرائي:

فإن علاني من دوني فلا عجب
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زُحل

احتجنا إلى التأمل العقلي حتى نستخرج التشبيه المضمَّن في هذا البيت، فعلمنا أن الشاعر قد شبه نفسه بالشمس ثم شبه من دونه بالكوكب زحل، وجعل لنفسه في انحطاطها عمَّن دونها أسوةً بانحطاط الشمس عن زحل.

ومن ضروب التشبيه العالية عند العرب ما سمُّوه القصصي، وهو أن يشبه الشاعر أو الناثر حالة شيء بحالة شيء آخر يقص عنه قصة كاملة، وإذا رجع القارئ إلى معلقة لبيد مثلًا وجده في موضع منها يمثل ناقته المنطلقة ببقرة فقدت صغيرها، فحكى حكايتها وهي شاردة في ليلة ماطرة مبرقة تلتمس ابنها في القفار، وكان النابغة ينزع إلى هذا القالب من التشبيه، القالب القصصي، وفي داليته: «يا دار ميَّة بالعلياء فالسند» تشبيهان من هذا النوع: أولًا حيث يشبه ناقته المسرعة بالثور الوحشي الذي عرض له الصيادون والكلاب، وثانيًا حيث يشبه النعمان بنهر الفرات وقت زخره وجيشانه.

غير أن للتشبيه ناحية أخرى غير ناحية القالب يجب الالتفات إليها، وهنا لا مندوحة لنا أن نفصِّل أن الألفاظ من حيث مدلولاتها تقع على صنفين: فألفاظ تدل على اسم يعين جسمًا ظاهرًا، ويسمى اسم ذات، أو فعل يسجل حركة منظورة ويسمى فعلًا حسيًّا، كقولنا: طاولة، حجر، أكَل، لبِس، وألفاظ تدل على اسم أو فعل يقيِّد معقولًا من المعقولات، وكلاهما يسمى معنويًّا، كقولنا: رحمة، بغض، يئِس، أَحب. وقد كان ضروريًّا تفصيل هذين الصنفين من الألفاظ لأن التشبيه تختلف قيمته من حيث هو تشبيه اسم ذات أو فعل حسي، باسم ذات أو فعل حسي، ومن حيث هو تشبيه اسم معنى وفعل معنوي، باسم أو فعل معنوي، أو من حيث هو تنقُّل بين هذين الصنفين، فإذا قلنا: «قامة كغصن البان»، «نفرت هند كما ينفر الغزال» كنا نشبه اسم ذات باسم ذات وفعلًا حسيًّا بفعل حسي، وكنا من هذه الجهة في أشد درجات التشبيه سطحيةً وأبعدها عن عمق الغوص، وإنما يقع سموُّ التشبيه في التنقل بين الذاتي والحسي والمعنوي. قال الشاعر:

المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار

ففي هذا البيت عبور من المعنوي إلى الذاتي الحسي: فالاستجارة عند الكربة بعمرو معنوية، أما حمل هذه الاستجارة محمل الهرب من الرمضاء إلى النار فتمثيل حسي، ولا شك أن عمل القوة المخيلة في هذا التشبيه أعظم من عمل القوة المخيلة في قولنا: قامة كغصن البان؛ لذلك كان التشبيه في بيت الشاعر أنفس وأعلى قدرًا.

وقال الناثر: «كلامك من الحقيقة كلمع الحباحب من النار.» ففي هذا التشبيه توفيق بديع عبَّر فيه الكاتب من المعنوي إلى الحسي فاستطاع أن يمثل تمثيلًا جميلًا شيئًا معنويًّا صعب التمثيل، وهو كون الكلام له مظهر الحقيقة وليس فيه حقيقة، كالحباحب له لمع النار وليس فيه نار.

وبعد، فالتشبيه سواء أكان من المرتبة الذاتية الحسية أو ارتفع إلى المرتبة المعنوية، فحاجته عظيمة إلى تحاشي الابتذال وتطلُّب ما لا يخطر بالبال. قال الشاعر:

ليل وبدر وغصن
شعر ووجه وقد
خمر ودر وورد
ريق وثغر وخد

فالتشابيه كلها في هذين البيتين مبتذلة مدروسة، وقد حاول الشاعر تقويتها بتقديم المشبه به على المشبه، لكنه لم يصنع شيئًا، وقال أبو النجم العجلي:

والشمس كالمرآة في كف الأشل

فشبه الشمس بالمرآة، وهو عادي جدًّا، لكنه حسنه باختراع عجيب إذ جعل المرآة في كف الأشل، ومفهوم أن كف الأشل ترعش رعشًا دائمًا فيخف فيها بريق المرآة أو يشتد، وبهذا استطاع الراجز أن يمثل لمعان الشمس قوةً وضعفًا تمثيلًا دقيقًا غريبًا.

(٢) الكناية

ومن الوسائل التي يستعان بها على براعة الأداء الكناية، ومعنى الكناية في أصل اللغة التستير، وقد لجأ الأدباء إلى استخدامها عدولًا عن التصريح بما لا يريدون التصريح به لياقةً أو لغرض آخر؛ فقالوا: «المكوكب» فيمن غشيت مقلته غشاوة من بياض. ثم أصبحت الكناية فنًّا بيانيًّا مطلوبًا؛ لأن إيصال المعنى دون التصريح به أدخلُ في باب البلاغة وأوسع على الأديب في مجال الاختراع، كما أنه أوسع على عقل القارئ في لذة الفهم، وتعريف الكناية باختصار: أنها لفظ قد يُستفاد منه مدلوله الأصلي فلا تكون ثمة كناية، وقد يُستفاد منه مدلول آخر استوجبه المدلول الأصلي وهنا الكناية. قال الشاعر:

بيض المطابخ لا تشكو إماؤهم
طبخ القدور ولا غسل المناديل

فإذا حملنا هذا البيت على أصل مدلوله اللفظي تحصَّل لدينا أن الشاعر إنما أراد أن يقرر — لا أكثر ولا أقل — أن مطابخ القوم بيضاء وأن إماءَهم لا تشكو طبخ القدور ولا تغسل المناديل. غير أننا إذا حملنا البيت محمل الكناية علمنا أن بياض المطابخ وأن راحة الإماء من عناء طبخ القدور وغسل المناديل أمور تستلزم بالنتيجة أن يكون القوم بخلاء لا يُهيئون طعامًا لأنفسهم ولا لضيوفهم.

وقال المتنبي:

الضاربين بكل أبيض مخذم
والطاعنين مجامع الأضغان

ففي تعبيره: «مجامع الأضغان» كناية رائعة عن الصدور أو القلوب، وعليها ارتكاز البيت كله، فلو أن المتنبي قال: «والطاعنين الصدور أو القلوب» لفرغ بيته وسخف.

(٣) الاستعارة

ذكرنا عند الكلام على التشبيه أنه لا بدَّ له من أربعة أركان: مشبه ومشبه به وأداة ووجه شبه. ثم ذكرنا أن التشبيه لا يأخذ في السمو إلا إذا عمل الحذف عمله في أركانه، وهنا يحين لنا أن نذكر أن التشبيه قد تحذف أداته ووجه شبهه فيبقى تشبيهًا. لكن متى حُذف منه المشبه أيضًا أو المشبه به تحول إلى ما نسمِّيه استعارة. نقول مثلًا: «شاهدت فتيات كالبدور حُسنًا.» فالتشبيه في هذا الكلام صريح ومعروف، فإذا حذفنا «الكاف» و«حسنًا» و«فتيات» بقي لدنيا من العبارة: «شاهدت بدورًا.» لكن سرعان ما نتعرض للالتباس، فكيف يؤخذ من قولنا: «شاهدت بدورًا» أننا نقصد الفتيات الحسان لا الأجرام المشهودة في السماء ليلًا؟ وعلى ذلك كان لا بد لنا أن نُلحق بكلامنا ما يوجب فهمه على وجه الاستعارة ويمنع من فهمه على وجه الحقيقة، فنقول مثلًا: «شاهدت بدورًا ترقص في مرقص»، فلا يصح عقلًا عندئذٍ أن يحمل كلامنا غير محمل الاستعارة.

وإذن، فالاستعارة أصلًا تشبيه حُذفت جميع أركانه إلا المشبه أو المشبه به، وألحقت به قرينة تدل على أن المقصود هو المعنى المستعار لا الحقيقي.

قال الحجاج من خطبته الأولى في أهل العراق: «إني أرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها.» فقوله: «أينعت» استعارة، والمانع من فهم اللفظ على الوجه الحقيقي قوله: «رءوسًا»، فالرءوس البشرية لا يُطلق عليها الإيناع لولا أن الخطيب شبهها تشبيهًا مقدرًا بالثمار، فهذه استعارة حذف منها المشبه به.

ولنسرع إلى القول إن الاستعارة وإن كانت في الأصل تشبيهًا فهي على العموم أنفس من التشبيه؛ لأنها تقوم مقامه مع استغنائها في تركيبها عما لا يستغني عنه التشبيه.

والاستعارة كالتشبيه تزداد جودةً وروعةً كلما تنقلت بين الحِسيات والمعنويات فلم تقتصر على عالم الحس، وكان مسلم بن الوليد الشاعر العباسي في طليعة مَن أبدع في هذا الباب، ومن توفيقاته فيه قوله من «داليته» يمثِّل صليل السيوف في المعركة:

غنَّى الحديد غناءً غير تغريد

والاستعارة في «غنَّى» دلنا عليها الحديد الذي لا يغنِّي أصلًا لولا أن الشاعر شبه هذا الجماد بشيء حي، فاستطاع أن يسند إليه الغناء، ثم زاد بأن استدرك استدراكًا رائعًا في هذا المقام إذ جعل الغناء غير تغريد.

وتلا مسلم بن الوليد أبو تمام ففاقه في هذا الفن، والحق أننا إذا تركنا لأبي تمام ما أصابه فيه التكلف وانصرفنا إلى تأمل محاسنه — ومحاسنه لا تنقاد إلا مع التأمل — وجدنا العجائب، وقد كانت الاستعارة عنده طريقًا من أنفذ الطرق التي استطاع بها أن يتنقل في الوجود بين الحسيات والمعنويات تنقلًا وصل فيه عالم الجماد بالحياة الإنسانية، فدلَّ على استيعاب عقلٍ وحِدَّة إحساس وبُعد خيال، كما طوَّر الشعر العربي فجعل له نصيبًا أوفى من العمل العقلي، فلننظر مثلًا في قوله يصف قلعة عمورية:

من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد
شابت نواصي الليالي وهي لم تشب

أنزل الليالي منزلة البشر، ومن ثم صح أن يستعير لها النواصي، وجعلها تشيب وتهرم على طول القدم بينما ظلت القلعة بمأمن من الشيب، وفي ذلك تفنُّن شعري رائع في تمثيل طول الأجل والبقاء على كرور الدهر.

ولنلتفت إلى قوله يرثي صديقه الشاعر علي بن الجهم:

لا تهلكنْ أبدًا ولا تبعد فما
أخلاقك الخضر الربى بأباعد

فهل أجمل من الاستعارة في هذه «الخضر الربى» التي استوحاها الشاعر من الطبيعة وأضافها إلى أخلاق صديقه المرثي فمثل بها العلو الذي يكون في الربى، وصفة الطيب والأنس والبهجة التي تكون في الخضرة؟

(٤) المجاز

والحديث عن الاستعارة يسوق حتمًا إلى الحديث عن المجاز، بل الاستعارة نوع من أنواعه، والمجاز مشتق من جاز، أي: عبر وانتقل؛ فهو إذن العبور أو الانتقال في اللغة من المعنى الحقيقي إلى معنى آخر، فإذا كان هذا العبور أو الانتقال مبنيًّا على علاقة المشابهة كان المجاز استعارة، كقولنا: «بدور» في الفتيات الحسان، عبرنا أو انتقلنا من معنى البدور الحقيقي أي الأجرام المعروفة في السماء، إلى معنى الفتيات الحسان لعلاقة مشابهة هي الاستدارة والوضاءة.

لكن إذا كان العبور أو الانتقال في اللغة مبنيًّا على غير علاقة المشابهة لم يكن المجاز استعارة، ونحن نعلم أن العبور أو الانتقال في اللغة من المعنى الحقيقي إلى معنًى آخر قد يكون لوجوه وتخريجات كثيرة تختلف عن المشابهة: قد يكون عن طريق الرمز إلى الشيء كله بذكر جزئه، أو إلى جزء الشيء بذكر كله، كقول القرآن: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ (قصد عبدًا مؤمنًا ورمز إليه بالرقبة التي هي جزء منه يمثل إمساكها العبودية)، وكقولنا: «شربت ماء لبنان» (نقصد طبعًا جزءًا من ماء لبنان لا كله)، وقد يكون العبور أو الانتقال المجازي رمزًا إلى الشيء بذكر فاعله أو مفعوله، كقولنا: «تبعنا نفوسنا» (أي شهواتنا، والنفوس فاعلة لها). وكقول الشاعر: «شربت كأسًا من الحميَّا» (أي الخمر، والحميا فعل الخمر). وربما كان العبور أو الانتقال المجازي رمزًا إلى الشيء بذكر علته أو نتيجته كقول الشاعر: «اخضرت الأرض بالسحاب» (نعني بالمطر، والسحاب علته). وكقولنا: «أنبتت الأرض ثمرًا» (نعني شجرًا، والثمر نتيجة للشجر). وربما كان العبور أو الانتقال المجازي رمزًا إلى الحالِّ بذكر محله أو إلى المحلِّ بذكر الحال فيه، كقولنا: «هجمت اليابان على الصين» (نريد اليابانيين)، وكقولنا: «افتتح العرب الإسبان» (نريد إسبانيا). وقد يكون هذا العبور أو الانتقال المجازي رمزًا إلى الشيء بذكر آلته أو بذكر أصله أو مصيره، كقولنا: «قتله بين أعين الناس وآذانهم» (نقصد بين بصر الناس وسمعهم). وكقول إيليا أبي ماضي:

نسي الطين ساعة أنه طيـ
ـنٌ حقير فصال تيهًا وعربدْ

(قصد بالطين الإنسان، وأصله حسب الاعتقاد طين)، وكقولنا: «أم الإسكندر ولدت فاتحًا عظيمًا» (نقصد أنه صار فاتحًا فيما بعد، أما يوم ولدته أمه فكان طفلًا من الأطفال).

وأكبر الظن أن القارئ لحظ أننا اقتصرنا حتى هذا الحد على المجاز في المفرد. لكن لعل هذا النوع من المجاز أقل قيمة بالقياس إلى النوع الآخر، أي: المجاز في المركَّب، ويسمى التمثيل، وهو فن بياني رحب الساحة، قد يكون بناء الأمر على تصوير هيئة خارجية تحمل معها قصدًا معنويًّا آخر كقولنا: «فلان يقدم رجلًا ويؤخر أخرى» (أردنا بهذا التصوير أن نظهر تردده وحيرته). لكن بناء الأمر في مجاز التمثيل أكثر ما يكون استنتاجًا من ناموس طبيعي، أو إشارة إلى حادثة تاريخية أو حكاية من عالم الحيوان أو أسطورة، كقولنا: «ما خلا الورد من الشوك» (نخاطب به من يطلب الخير محضًا)، وكقولنا: «لا تلوِّح بقميص عثمان» (نخاطب به من يستغل أمرًا في سبيل مأرب آخر، كما استغل معاوية للوصول إلى الخلافة مقتلَ عثمان بن عفان إذ راح يظهر الجزع عليه وينشر قميصه الملطخ بالدم ويخطب على المنابر مهيِّجًا الناس إلى نصرته)، وكقولنا: «عدل كعدل القرد في قسمة الجبن» (نمثل به حال من يتظاهر بالغيرة على العدل في قضية وغايته كسب القضية لنفسه، كالقرد الذي حكمته القطتان إذ اختلفتا على قالب من جبن، فنصب الميزان وقسم القالب نصفين غير متساويين، فقضم قضمة من الحصة الكبرى ليساوي بينها وبين الصغرى، فوجدها قد نقصت عنها؛ فقضم من الحصة الصغرى، وهكذا دواليك حتى كاد يأتي على قالب الجبن كله، وكلما قالت له القطتان: رضينا بالقسمة على عِلاتها، قال: لكن العدل لا يرضى).

وللدلالة على ما في مجاز التمثيل من اتساع للاختراعات البيانية نورد الشاهد الآتي: ما أكثر ما يخطر للشاعر أو الناثر أن يعبِّر عمن يسعى إلى بلوغ الشيء من غير طريقه، ولولا مجاز التمثيل لما كان للأديب في بيان هذا المعنى إلا قوله: إنك تطلب هذا الشيء، الذي تطلبه، من غير أوجهه ولن تصل إليه. لكن مجاز التمثيل أتاح للأديب أن يقول: «لا تضرب في حديد بارد»، وأتاح لثانٍ أن يقول: «إنك تنفخ في رماد»، وأتاح لثالث أن يقول: «إنك لا تجني من الشوك العنب»، وأتاح لرابع أن يقول: «طال ظمأك يا وارد السراب»، وكلها تحويم ووقوع على معنًى واحد.

ولا ينبغي للقارئ أن يفوته أن مجاز التمثيل المبني على الحكاية من عالم الحيوان قد أعطى ثمارًا قيمة، فولَّد في الأدب العربي وآداب الأمم مقادير من الخرافات الحكمية الجميلة؛ ففي الأدب العربي — عدا كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله ابن المقفع إلى العربية منقولًا عن «السنسكريتية» — كثير من الخرافات الجاهلية وغيرها مما يندرج تحت هذا اللون، وفي أدب الإغريق الخرافات المنسوبة إلى إيزوب، ويظهر أن الأدب الخرافي المشتق من مجاز التمثيل يروج عند الأمم، إما في أطوار السذاجة، وإما في عهود الجور حين لا يمكن التصريح بالشكوى والانتقاد خوف عقاب السلطة.

(٥) الترديد وغيره من طرق التأكيد

ومن الطرق المتبعة في تقوية الأداء الترديد، ترديد اللفظ بنصه أو ترديد المعنى الواحد بلفظ مختلف، وهدفه الأساسي التأكيد وزيادة التقرير في الذهن، وأغلب ما يقع الترديد للأديب — لا سيما الخطيب والشاعر — في حال الهياج، كقول المهلهل يخاطب بني بكر: «ذهب الصلح أو تردوا كليبًا.» رددها في عدد كبير من الأبيات المتعاقبة، وكقول الحارث بن عباد لما همَّ بدخول حرب البسوس: «قرِّبا مربط النعامة مني.» والنعامة فرسه، ويحتاج الترديد بوجه مخصوص إلى حذق في اختيار مواقعه لأنه معرَّض للفساد وسرعان ما يتحول من محسِّن إلى ضده، وكان ابن الرومي في العصر العباسي يعمد إلى الترديد اللفظي موفقًا أحسن التوفيق، كقوله:

ضلةً ضلة لمن وعظته
غيرُ الشيب وهو غير منيب

أو كقوله:

أبرموا أمرهم وأنتم نيام
سوءةً سوءةً لنوم النيام

وفي النثر كثير من الشواهد الطيبة على براعة الترديد المعنوي كقول كتاب «كليلة ودمنة» يصف دبشليم الملك: «طغى وبغى وتجبر وتكبر.» ترسيخًا في الذهن لشدة عتوه وظلمه. لكن الترديد يعدم وجهًا يبرره إن لم يزد في المعنى كقول عنترة:

حييت من طللٍ تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

ﻓ «أقوى وأقفر» بمعنًى واحد، وقد عُدَّ هذا الترديد لغوًا فعيب على عنترة، وربما سخف الترديد حتى أصبح تفاهة ممجوجة كقول القائل:

سادتي رفقًا فقلبي موجع
موجع قلبي فرفقًا سادتي
دمعتي تجري عليكم دائمًا
دائمًا تجري عليكم دمعتي
مهجتي ذابت غرامًا فيكم
فيكمُ ذابت غرامًا مهجتي

على أن الترديد ليس إلا طريقة واحدة من الطرق التي يتبعها البلغاء في تقوية الأداء، ويروى عن الفيلسوف الكندي أنه قال مرة: «إني لأجد في كلام العرب حشوًا. يقولون: عبد الله قائم، وإن عبد الله قائم، وإن عبد الله لقائم، والمعنى واحد.» فتصدى له عالم من علماء اللغة مجيبًا: «عبد الله قائم تخبر بها من هو خالي الذهن من قيام زيد، وإن عبد الله قائم تخبر بها من هو متردد في تصديق قيام زيد، وإن عبد الله لقائم تخبر بها من هو منكر قيام زيد.» وهذه هي الأضرُب المعروفة في علم المعاني بأضرُب الخبر الثلاثة، تختلف عليها صورة الأداء باختلاف درجة التأكيد المطلوبة نسبةً إلى حالة المخاطب الذهنية: هل هي حالة خلوٍّ تامٍّ من الخبر، أم حالة تردد، أم حالة إنكار، وقد سميت «اللام» التي تدخل على خبر إنَّ لام الجحود؛ لأنها تأتي في توجيه الخطاب إلى منكر الخبر أو جاحده.

ومن طرق التأكيد: تقديم ما حكمه التأخير في الأصل، واستعمال المفعول المطلق، والقصْر، كقول الراجز:

برجًا بنى كسرى فهل أغناه
وصدَّ طيف الموت عن مغناه

(قدم المفعول به على الفعل)، وكقول زهير:

بكرن بكورًا واستحرن بسحرة
فهن ووادي الرس كاليد للفم

(استعمل المفعول المطلق «بكورًا» لتأكيد «بكرن»)، وكقول الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميتٍ
إنما المَيْت مَيِّت الأحياء

(قصر الموت على الذين يُحسبون في الأموات وهم أحياء).

(٦) المبالغة

وهي فنٌّ آخرٌ من فنون تقوية الأداء، ومدارها على تضخيم المعنى طلبًا لبعد التأثير وعمقه، كقول المتنبي يصف حيش الروم الزاحف لملاقاة سيف الدولة في معركة الحدث الحمراء:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمازم

والمبالغة مستحبة بمقدار، ولكنها ربما تجاوزت المدى فأصبحت إغراقًا وغلوًّا وانقلبت من غرض الجد إلى الإضحاك كقول المتنبي:

فخذا ماءَ رجله وانضحا في
المدن تأمنُ بوائقَ الزلزال

وقول شوقي:

ومذ شام هذا البدرُ فيك رجاحة
عليه بميزان البها إذ تأملك
هوت كفةُ الميزان فيك إلى الثرى
وخفت به الأخرى فعُلق بالفلك

وتبدو على الشعراء في أدوارهم الباكرة نزعة إلى مثل هذا الإغراق والغلو، يحاولون بها قبل نضجهم تستير فقرهم المعنوي.

(٧) الطباق

باب أدرجه العلماء فيما سموه البديع المعنوي، وفحوى الطباق أنه بيان بمقابلة الأضداد بعضها ببعض، وسر جماله أنه يعبر عبارة قوية عن الفاجع والمضحك وعن الروابط المكنونة والتحولات العجيبة بين النقائض، سواء أكان ذلك في جماد الطبيعة أو حيِّها أو المعقولات والأخلاق من رذائل وفضائل، وكان أبو تمام من أسياد هذا الفن وله فيه التوفيقات البديعة، قال في بائيَّته في فتح عمورية:

بصرتَ بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب

الطباق بين الراحة والتعب، وجماله في هذا الجسر الذي مثل به الشاعر طريق الوصول من الضد إلى ضده، وقال الشاعر:

على رأسِ عبدٍ تاج عز يزينه
وفي رجل حر قيد ذل يشينه

استطاع بهذه الطباقات أن يصور الواقع الفاجع الذي يتوج العبد ويقيد الحر.

ولجبران خليل جبران في خطاب الأرض قطعة رائعة يتجلَّى فيها ما للطباق من أثر في تجويد البيان، فتأملها. قال:

نحن نكلم صدركِ بالسيوف والرماح، وأنتِ تغمرين كلومنا بالزيت والبلسم. نحن نزرع واحاتك بالعظام والجماجم، وأنتِ تستنبتينها حورًا وصفصافًا. نحن نستودعكِ الجيف، وأنت تَملئين بيادرنا بالأغمار ومعاصرنا بالعناقيد. نحن نصبغ وجهك بالدم، وأنت تغسلين وجوهنا بالكوثر. نحن نتناول عناصرك لنصنع منها المدافع والقذائف، وأنت تتناولين عناصرنا وتكوِّنين منها الورود والزنابق.

(٨) البيان بتحميل الكلام غير ظاهره

ونحسب القارئ أصبح مما سبق على شيء من العلم بهذا الباب البياني الذي يشتمل على أبواب، وهل الكناية والاستعارة والمجاز سوى ضروب من تحميل الكلام غير ظاهره؟ لكن الذي نقصده هنا يختلف عما أثبتناه هناك، فقد نحمِّل الكلام غير ظاهره مع خلوه خلوًّا مطلقًا من دالٍّ سوى التحصيل العقلي يدل على أننا أردنا به غير ظاهره، فإذا قلنا مثلًا: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فلا شيء سوى العقل يدل على أننا أردنا عيشة مرضية؛ لأن العيشة لا تَرضى بل يُرضى عنها؛ ولذلك سُمي هذا المجاز عقليًّا.

وإذا قال ابن أبي ربيعة في مطلع رائيته:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجِّر

فلا شيء سوى العقل يدلنا أن الشاعر لم يقصد بقوله: «أنت» شخصًا ماثلًا أمامه يخاطبه، بل جرَّد من ذات نفسه شخصًا وجَّه إليه الاستهلال والتفت من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب.

على أن البيان بتحميل الكلام غير ظاهره لا ينحصر في اللفظ المفرد، بل يقع أيضًا في المركَّب سواء أكان خبرًا أم إنشاءً، فإذا قلنا: شُلت يد الظالم، فنحن لا نخبر أن يد الظالم شلت بل ندعو عليها بالشلل، وإذا قال بشار:

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟

فهو لم يرد بالسؤال: «أي الناس تصفو مشاربه؟» أن يستفهم في سبيل جواب يتلقاه، بل أراد أن ينكر بهذا الاستفهام وجود إنسان تصفو مشاربه، وإذا قال المتنبي:

ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
مني بعلمي الذي أعطت وتجريبي

فهو لم يقصد أن يتمنَّى على الحوادث تمنيًّا جديًّا يعيد إليه شبابه، بل قصد إظهار الحسرة.

وللجاحظ رسالة بليغة اشتملت على استفهامات كثيرة هي رسالة «التربيع والتدوير» وجَّه بها إلى رجل اسمه أحمد بن عبد الوهاب، ومؤكد أن الجاحظ لم يوجه بها إلى هذا الرجل على سبيل طلب الجواب، بل على وجه التهكم والاستخفاف بقلة علمه وكثرة ادعائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤