الأنواع الأدبية والمواضيع والأساليب

يأتي العمل الأدبي على نوعين أساسيين: الشعر والنثر.

(١) الشعر، الوزن والقافية

أما الشعر فقد حدده القدماء بأنه الكلام الموزون المقفى، وظاهر أن هذا التحديد إنما جاء مقصورًا على النظر في الشعر من حيث الشكل، فلو التفتنا إلى قول أبي تمام:

همم الفتى في الأرض أغصان المنى
غُرست وليست كلَّ حين تُورقُ

ثم إلى قولنا: «يتمنى الإنسان ويسعى، لكنه لا يُوفَّق دائمًا إلى بلوغ الرغائب.» لوجدنا الفرق بين القولين أن كلام أبي تمام يجري على وزن، هو الكامل، ويحط على روي القاف المضمومة في «تورق». غير أننا ندرك لدى التأمل أن هذا الفرق أبسط الفروق؛ ففي كلام أبي تمام رنين موسيقي ليس في كلامنا صدر عن الوزن، وعند أبي تمام تصوير ليس عندنا هو تمثيل همم الفتى في الأرض بأنها أغصان أمانيه، غرسها، فتورق أحيانًا وأحيانًا لا تورق. شاء بذلك أن يمثل ما يصيب الإنسان من الخيبة والنجاح في مساعيه.

فيتبيَّن إذن أن الشعر يخالف النثر في الوزن والقافية من حيث الشكل، ويخالفه في الأداء أيضًا، فشرط الشعر أن يكون أوفر حظًّا من النغم وسحر العبارة، عدا اتقاد العاطفة وشبوب المخيلة.١

والشعر، لا سيما العربي، حريص أعظم الحرص على عنصر الرنين الموسيقي؛ فهو موقوف قبل كل شيء على طرب الأذن، وتلاوته لا تطيب إلا صائتة، ومن هنا قيل إنشاد الشعر.

ولحرص الشعر العربي على الرنين الموسيقي تقيد بالقافية الواحدة في القصيدة كلها، بل عمد إلى التقفية في داخل البيت الواحد كقول مسلم بن الوليد:

تمشي الرياح به حَسْرَى مولهة
حَيْرى تلوذ بأطراف الجلاميد!

ولعل مقصدنا يصبح أجلى إذا كتبنا البيت على الوجه الآتي:

تمشي الرياح به حسرى
مولهة حيرى
تلوذ بأطراف الجلاميد!

وكذلك ارتبط الشعر العربي في القصيدة كلها بالوزن الواحد — تامًّا جاء أو مجزوءًا — وبالعروض الواحدة والضرب الواحد (العروض هي صورة ختام الوزن في صدر البيت، والضرب هو صورة ختام الوزن في عجُزه).

ومعلوم أن في اللغة العربية، أصلًا، ستة عشر بحرًا٢ تتألف من التفاعيل، والتفاعيل عبارة عن متحركات وسواكن تسمى أسبابًا وأوتادًا وفواصل مجموعها ستة: متحرك فساكن، متحركان، متحركان يليهما ساكن، متحركان بينهما ساكن، ثلاثة متحركات يليها ساكن، أربعة متحركات يليها ساكن.

ومن التفاعيل تتألف الأجزاء وتكون صنفين: خماسية (ذات خمسة أحرف) وهي: فعولُن، فاعلُن، وسباعية (ذات سبعة أحرف) وهي: مفاعيلُن، مُستفعلُن، مفاعلتُن، متفاعلُن، فاعلاتُن، مفعولاتُ.

وما لا جدال فيه أن هذه البحور الستة عشر تكفل للشعر العربي رنينًا موسيقيًّا مضبوطًا أحسن ضبط. بل لو تأملنا كل وزن لعرفنا من تفاعيله — وأحيانًا من اسمه — أن له لونًا مقصودًا من النغم ينساق مع مواضيع مخصوصة؛ فبحر «الخبب»٣ مثلًا، كاسمه، شبيه بتوقيع حوافر الخيل على الأرض وهي تخب، ورنينه الموسيقي صالح لتمثيل الحركة المتكررة الرشيقة كانصباب قطرات المطر الشديد، وقد تنبَّه سليمان البستاني إلى هذه الناحية في الأوزان العربية فألمَّ بذكرها في المقدمة الرائعة التي كتبها لتعريبه إلياذة هوميروس.
لكن مع ذلك لا بدَّ من القول إن الأوزان العربية، لفقرها في التفاعيل، تُعرِّض القصيدة رغم ضبط الرنين الموسيقي لعيب الوتيرة الواحدة؛ فالأذن بعد أن تسمع من القصيدة البيتين والثلاثة تصبح على علم بالنغم، وتوقن أنه لن يتنوع ولو طال الإنشاد حتى استغرق مائة بيت، ولعل أقبل الأوزان العربية لتنوع النغم «الرجز»٤ لكثرة ما يسوغ فيه من الجوازات، إلا أن القدماء سموه «حمار الشعر» ونحَّوْه لنظم الخرافات أو لأغراض الشعر التعليمي، ويلي الرجز «المديد»٥ وقد نعته القدماء بالعنيد، وندر استعمالهم له برغم طواعيته لتنوع النغم.
على أن المشكلة تبقى أمامنا، وهي: كيف السبيل إلى جعل الشعر العربي أغنى في تنوع النغم مع حفظ الرنين الموسيقي؟ ويقيننا أن العلة أصلًا ليست في الأوزان العربية بمقدار ما هي في النظرة إلى هذه الأوزان وفي طريقة استخدامها، والمعلوم أن في علم العروض — عدا ذكر المجزوءات٦ من شتى البحور — ذكرًا لطائفة من الأبحر، منها الطويل٧ والبسيط،٨ تسمى الممتزجة، سميت ممتزجة لأنها تتركب من الجمع بين الأجزاء الخماسية والسباعية.
وهكذا يكون باب جزء البحور وباب الامتزاج بين الأجزاء مفتوحًا في أصل علم العروض، فلمَ لا يسوغ للشاعر إذن أن ينتفع بهذا الباب فيقف عند الحد الذي يختاره من أجزاء الوزن، ثم لا يقتصر على وزن واحد في القصيدة؛ فينتقل من بحر إلى بحر مستلهمًا ذوقه حتى تتألف لديه قطعة شعرية منوَّعة الرنين الموسيقي، ولقد صنع الوشَّاحون في الأندلس شيئًا من ذلك،٩ فقال أبو بكر بن زهير:

لازمة

ما للمولَّهْ
من سكره لا يفيق
يا له سكران
من غير خمر
ما للكئيب المشوق
يندب الأوطان

دور

هل تستعاد
أيامنا بالخليج
وليالينا
أو يستفاد
من النسيم الأريج
مسك دارينا
أو هل يكاد
حسن المكان البهيج
أن يحيينا

عود إلى اللازمة

روض أظلَّه
دوح عليه أنيق
مورَّق الأفنان
والماء يجري
وعائمٌ وغريقٌ
من جَنَى الريحان!

فإذا نظرنا إلى ما فعل هذا الوشَّاح رأيناه قد اكتفى في الشطر الأول ﺑ «مستفعلانْ» وفي الثاني ﺑ «مستفعلن فاعلان» وفي الثالث ﺑ «فاعلن مفعول»، وعاد فجرى على هذا النسق في الأشطر الثلاثة الأخرى من اللازمة إلا أنه حرك فيها نون «مستفعلان»، وعلى هذا النسق أيضًا تابع جريه في الدور الأول من اللازمة غير أنه جعل الشطر الثالث منها على «فاعلن فعلن» لا «فاعلن مفعول».

ويكاد لا يحتاج إلى ذكر أن الشاعر في هذا النظم الذي اتبعه قد أجاز لنفسه أن يقف عند الحد الذي اختاره من أجزاء شتى الأبحر، فركَّب منها نمطًا استنبطه ووفق فيه إلى رنين موسيقي مضبوط أغنى تنوعًا من أيٍّ من الأوزان الأصلية. على أن الشاعر بعد أن استنبط هذا النمط تقيد به في الموشح كله، ورأينا أن ذلك قد عاد فعرَّض النظم للانسياق على وتيرة واحدة.

فأي مانع يمنع لو أن الشاعر تحرر حتى من النمط الواحد فأثبت كلامه كما يأتي شرط أن يكون موزونًا على وزن ما، وشرط أن يأتلف له بالنتيجة رنين موسيقي ما، فالقدماء حين قالوا: الشعر هو الكلام الموزون، لم يشترطوا فيه الوزن الواحد، وليأذن لنا القارئ أن نقدم له مثلًا من شعر عرَّبناه:

أمسافرًا
سربله الليل البهيم،
تطفأت فوقك النجوم
بعيد بعيد إياب الصباح،
وشعلة المصباح
مر عليها عاصف مجتاح،
ما أوحش الطريق
ولا رفيق!
وما أقل الزاد
وأكثر الصخر وشوك القتاد!
أمن طعام الناس والشرابِ
حملت في القرية والجراب!
الأرض تحتك ظمأى
فاسكب عليها الماء،
وفتت الخبز لطير السماء،
وروحك ساعَ تعطش أو تجوعُ،
فقل كفاها الحب خبزًا وماء،
وحين تطمس الظلمْ
عنك مواقع القدم،
فقل بنور العين نور الرجاء!

فكل شطرة من هذا الشعر موزونة، إلا أننا وقفنا عند الحد الذي اخترناه من كل بحر شأن الوشَّاحين، وأبحنا لأنفسنا أن نتنقل من وزن إلى وزن، ويقيننا أن النغم جاء منوَّعًا دون تفريط في الرنين الموسيقي.

ولا ريب أن مثل هذا التحرر يسعف الشاعر العربي، لا على تنويع النغم وحسب، بل على ملاحقة سلكِ المعنى وعلى إهمال التحشيات والجوازات التي كثيرًا ما يفرضُها التقيد بالوزنِ الواحد حتى على أسياد النظام ومَن بلغوا الغاية في تطويع البحور الشعرية وترويض اللغة. لكن ضرورية هنا الإشارة إلى أن هذا التحرر، الذي يجعل جل الاعتماد على حس الشاعر الموسيقي، يجب أن تصحبه معرفة بالموسيقى، فالنظم الشعري شقيق الصنع الموسيقي، ووشاحو الأندلس إنما وفقوا توفيقهم في تحرير الشعر العربي بعض التحرير لأنهم كانوا موسيقيين.

وهذا ينتهي بنا إلى القول إن البيت، وهو الوحدة التي منها يتألف الشعر العربي، يحب أن يزول فيحل محله المقطع، والواقع أن البيت، لا سيما ما كان على الأبحر الممتزجة كالطويل والبسيط، ممطوط جدًّا؛ فوزن البسيط وهو:

مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن

يمكن بيسر وسهولة تقسيمه إلى مقطع من أربعة أشطر على الصورة الآتية:

مستفعلن فعلن
مستفعلن فعلن
مستفعلن فعلن
مستفعلن فعلن

فبدل أن نكتب هذا البيت لأبي تمام على هذا الشكل:

تدبير معتصم بالله منتقم
لله مرتقب في الله مرتهب

نكتبه هكذا:

تدبير معتصم
بالله منتقم
لله مرتقب
في الله مرتهب
والغربيون لما قبسوا البيت الشعري عن العرب وسموه «ستانزا» (Stanza ومعناها البيت)، حولوا شكله إلى مقطع.
بقيت القافية، وتكون في اللفظة التي ترد في ختام البيت، وتنتهي بحرف يقال له الروي وبحركة يقال لها المجرى، فإن سبق الروي حرف لين، وكان ذلك الحرف ألفًا وجب التقيد به في كل الأبيات. لكن إذا كان حرف اللين واوًا أو ياءً جاز التنقل بينهما مع ما يسبقهما من كسر أو ضم، فأما الفتح فيجب التزامه، ﻓ «سنون» تأتي قافية مع «بنين»، غير أنها لا تأتي قافية مع «الأدنون» أو «الأدنين»، وأسلفنا أن القدماء فرضوا على الشاعر التقيد بالقافية الواحدة مدى القصيدة، كما فرضوا عليه التقيد بالوزن الواحد، فكان ذلك عبئًا فوق عبء، وأرسل الرواة النوادرَ في سلطة القافية وتحكمها فرووا مثلًا أن قاضي قم، من بلاد فارس، عزلته من منصبه قافية إذ قال له الخليفة: «أيها القاضي بقم.» ثم لم يجد ما يصرِّع١٠ به البيت إلا أن يقول له: «قد عزلناك فقم.»

وبلغ من تشبث الشعراء العرب بالقافية أنْ نظَم المعري ديوانًا ضخمًا حمل فيه نفسه على التزام رويين لا روي واحد، وسماه «لزوم ما لا يلزم» كقوله:

تداولني صبح ومسي وحندس
ومر علي اليوم والغد والأمس
يضيء نهار ثم يخدر مظلم
ويطلع بدر ثم تعقبه شمس
أسير عن الدنيا وما أنا ذاكر
لها بسلامٍ إن أحداثها حمس

وأمر مفروغ منه أن القافية الواحدة على مدى القصيدة قيد يحدُّ من حرية الشاعر، والحق أن التعريف القديم للشعر بأنه الكلام الموزون المقفى لم يشترط فيه أن يستقر على القافية الواحدة. لكن لا شك أن القافية عنصر ضروري في الشعر كالوزن، وقد احتفظ بها وشَّاحو الأندلس، غير أنهم نوَّعوها وأكثروا من إدخال السكون عليها، وكل الظن أن هذه هي الطريقة الفضلى، واللغة العربية غنية بالألفاظ التي تنتهي بالروي الواحد وتصلح قوافي.

(١-١) الأشكال الشعرية القديمة

رأس الأشكال الشعرية عند العرب القصيدة، ظهرت مع الشعر الجاهلي، أقدم الشعر العربي الموروث، وظلت إلى يومنا هذا لم يتغير شكلها، مما يدعو إلى الاعتقاد أن الشعر الجاهلي مرحلة مترقية من الشعر العربي.

تتألف القصيدة من أبيات مشطورة شطرين: صدرًا وعجزًا، وتتتابع الأبيات على وزن واحد وقافية واحدة حتى تتجاوز السبعة، فإذا كانت دون السبعة فهي النتفة أو المقطوعة، وليست بالقصيدة، ويسمى النظم إذا جاء بيتين بيتين: دوبيت، أو رباعية، بناءً على الأشطر الأربعة.١١

ويعنى الشعراء عناية خاص بمطلع القصيدة أو الاستهلال، وفي أغلب الأحيان يصرِّعونه، أي: يجعلون الصدر والعجز على قافية واحدة، وممن اشتهر بروعة المطلع أبو تمام كقوله في حريق الأفشين:

الحق أبلج والسيوف عوار
فحذارِ من أسد العرين حذار

وكان الجاهليون، والأمويون من بعدهم، يؤثرون في المطالع — مهما كان غرض القصيدة الأساسي — أن يقفوا بديار الأحبة الراحلين ويخاطبوها ويصفوا وحشتها وينصرفوا عنها بالبكاء، وسرت هذه العادة إلى الشعراء العباسيين حتى تلاشت — ولم تكد — في عصرنا الحديث.

وفي هذا شاهد على أن القصيدة العربية نُدَر أن عرفت وحدة الغرض؛ فالشاعر ينتقل خلالها من موضوع إلى آخر منقطع عنه كلَّ الانقطاع. بل لقد غلبت — خصوصًا على قصائد المدح — طريقة واضحة هي أن يبدأ الشاعر بالوقوف على ديار الأحبة الراحلين وذكر اجتيازه الصحاري على مطية يصفها ويصف الفلوات (وقد يستعيض عن ذلك بالاقتصار على الغزل وحسب)؛ ومن ثَم يكون الانتقال إلى ذ كر الممدوح، وشدَّ ما اهتم النقاد لحسن الأسلوب في هذا الانتقال وسموه براعة التخلُّص وجعلوه فضيلة فنية، وكان المتنبي يأتي أحيانًا بالعجب العجاب في هذا الباب كقوله:

لو أستطيع ركبت الناسَ كلهم
إلى سعيد بن عبد الله بُعرانا

وسعيد بن عبد الله هو ممدوحه جاء أبو الطيب راكبًا بعيرًا من الحيوان ولو أتيح له لجاءه راكبًا الناس كلهم على اعتبارهم من البعران.

وترى طائفة من النقاد الحديثين أن السبب في تفكك القصيدة العربية وعدم تركزها على موضوع واحد إنما هو البيت الذي تتألف منه القصيدة والذي اشترط فيه القدماء أن يكون تامًّا بذاته مستقلًّا عما قبله وبعده من أبيات، فإذا اتصل، وكان اتصاله لفظيًّا، عُد ذلك عيبًا كبيرًا سموه عيب التضمين.١٢ لكن مع هذا فلا بدَّ من القول إن الشعراء بعد أن أصبحت مادتهم في العصور العباسية أغنى من أسلافهم ظهرت في بعض أشعارهم مظاهر من التسلسل المعنوي حلت محل التقطع الذهني القديم وطبعت القصيدة بطابع من وحدة الموضوع لم يكن لها من قبل، ولابن الرومي، خصوصًا، توفيقات من هذا القبيل كقصيدته في وحيد المغنية:
يا خليلي تيَّمتني وحيد
ففؤادي بها مُعنَّى عميدُ

أو في ثورة الزنج واحتلالهم البصرة:

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام
شغلها عنه بالدموع السجام
فقد جال مدة هاتين القصيدتين، على طولهما، جولانًا محصورًا في نطاق الموضوع الواحد ومتعلقاته.١٣

أما الوحدة الأخرى، وحدة الأجزاء في التركيب، فيمكن القول إن القصيدة العربية لم تعرفها لاعتمادها على البيت.

وهنا تحسُن الإشارة إلى أن البيت الذي منه تتألف القصيدة لم يبقَ دائمًا شطرين من صدر وعجز، بل تحوَّل أحيانًا إلى خمسة أشطر فأصبحت القصيدة مخمسة، وأصل التخميس أن يعمد شاعر إلى قصيدة آخر فيسبق شطري كل بيت منها بثلاثة أشطر من نظمه توافق المقام. قال السموءل مثلًا في لاميَّته:

تعيرنا أنَّا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل

فقال صفي الدين الحلي:

وعصبة غدر أرغمتها جدودنا
وباتت ومنها ضدنا وحسودنا
إذا عجزت عن فعل كيد يكيدنا
تعيرنا أنَّا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل!

لكن الشعراء، لا سيما المحدثين، استعملوا التخميس على غير وجهه الأصلي، خصوصًا في القصائد القصصية، فأصبحوا يأتون بالمخمسات من نظمهم دون أن يبنوها على قصائد شعراء آخرين.

ومن قبيل التخميس التشطير، وهو أن يعمد الشاعر إلى أبيات غيره فيضيف إلى صدورها أعجازًا وإلى أعجازها صدورًا من عنده. على أن شكل القصيدة يبقى بعد التشطير كما كان، وربما أضاف الشاعر صدرًا إلى الصدر وصدرًا إلى العجز كما فعل أحد الظرفاء بمطلع معلقة امرئ القيس:

رأى فرسي إسطبل عيسى فقال لي
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
به لم أذق طعم الشعير كأنني
بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

(١-٢) الموشح

لم يصبح التجديد ملحوظًا في شكل الشعر العربي إلا مع ظهور الموشح الأندلسي، وقد سبق أن أثبتنا قسمًا من موشح أبي بكر بن زهير، فبيَّنا كيف أن كلامه موزون إلا أنه لا يستقر على وزن واحد، ومقفًى إلا أنه لا يستمر على قافية واحدة، وأرجح الرأي أن التوشيح نشأ أصلًا من محاولة الشعراء والموسيقيين والمغنين أن يزاوجوا بين الألفاظ والألحان متقيدين حينًا بالوزن الواحد، كما فعل ابن الخطيب في موشحه «جادك الغيث»،١٤ ومنطلقين أكثر الأحيان مع طوائف من أجزاء الأوزان المختلفة.

ويتَّضح من الصورة التي كتبنا بها موشح أبي بكر بن زهير أن شكل التوشيح كان مطلعًا يسمى «اللازمة» ثم مقطعًا يسمى «الدور»، ينتهي بعودة إلى اللازمة تسمى «القفلة»، وهكذا حتى الختام، وبين أشهر الموشحات موشح ابن الخطيب «جادك الغيث» وموشح ابن سناء المُلك «كلِّلي يا سحب تيجان الرُّبى» لكن لا بأس بأن نثبت هنا موشحًا غير مشهور لعله لابن سناء المُلك:

لازمة

حمَّلت مذ سارت الحمول
وجدًا مضى العمر وهو باقِ

دور

ساروا وسار الفؤاد لكن
جسمي مقيم على المساكن
وعني الحب صار ظاعن

قفلة

ما لي إلى وصله وصول
لو سرت بالبرق والبراق

دور

وغادة كالقضيب قدَّا
والورد والياسمين خدَّا
كأنها البدر إذ تبدَّى

قفلة

وشعرها أسود طويل
كأنه ليلة الفراق

دور

هونًا أتتنا تميل ميلا
سحابة كالسحاب ذيلا
فقلت شمس تزور ليلا!

قفلة

وما درى كاشح عذولْ
فذاك من أعجب اتفاقِ

دور

وسدتها ساعدي لسعدي
وبت أرعى رياض ورد
وخمر ريق كذوب شهد

قفلة

لو ذاقها مدنف عليلْ
لعاش والروح في التراقي!

(١-٣) الزجل

قال ابن خلدون في المقدمة المشهورة:

لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيه إعرابًا، واستحدثوه فنًّا سموه بالزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاءوا فيه بالغرائب واتَّسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة، وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان من قرطبة، وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، لكن لم يظهر حُلاها ولا انسبكت معانيها واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه. كان لعهد الملثمين وهو إمام الزجالين على الإطلاق.

ومن هذا يظهر أن الزجل إن هو إلا ضرب من التوشيح لكن لغته عامية لا تُراعي في صيغ ألفاظها قوانين الصرف، ولا في تراكيبها قواعد النحو، وإنما العبرة فيها بما يتخاطب به الناس في منازلهم وأسواقهم. أما أوزان الزجل فبناؤها على النبر Accent لا التفعيل Syllabe والعمدة فيها على الحس الموسيقي في السمع وعلى موافقة الغناء، ولا شك أن بين التوشيح الفصيح والزجل منزلة بين بين لم يكد فيها الشاعر يخرج على قواعد الصرف والنحو إلا خروجًا قليلًا فيسكِّن مثلًا حيث يجب التحريك، ويتبع مع ذلك وزنًا ما من الأوزان المدوَّنة، لا سيما الرمل تامًّا أو مجزوءًا، وهو أقرب الأوزان إلى الفطرة والطبع، وقد راج في قطر اليمن نحو من هذا الشعر يسمى «الحميني»، ومن أيمته الفاضل البكري، قال:
فرثى من بعد صدِّهْ
وسمحْ بالقبلتينْ
ولصقْ خدي بخده
وقطفت الوردتين!

وهو قريب جدًّا من الفصيح، والزجل أبعد منه، وحسبنا هذا المثل البديع نضربه من قول أحد الزجالين المتقدمين، يصف العنب وتحوله إلى خمر:

أقطع القطفْ أسودْ يحاكي الليلْ
شَفَقْ أحمرْ يصيرْ
يا ترى ذا السر في كَرْمهْ
أو يكونْ في العصيرْ؟

(١-٤) الأرجوزة

هي ما كان شعرًا على وزن الرجز، وشكلها شكل القصيدة، أي: أنها تتألف من بيت بيت، فإذا كانت القافية المتبعة تأتي فقط في آخر كل بيت، كالمقصورة الدريدية، فلا يكون إذن فرق في الشكل بين الأرجوزة والقصيدة. لكن كثيرًا ما يجيء كل بيت من الأرجوزة مصرعًا بنفسه مع اختلاف القافية في البيت الذي يليه، كقول أبي العتاهية:

إن الفراغ والشباب والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
يا للشباب المرح التصابي
روائح الجنة في الشباب!

وكثيرًا ما يحافظ الشعراء على القافية الواحدة في الأرجوزة: صدورها وأعجازها، كالقول المنسوب إلى حاتم الطائي:

أوقد فإن الليل ليل قر
والريح يا واقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر
إن جلبت ضيفًا فأنت حر!
وقد اختُصت طائفة من الشعراء العرب بنظم الأراجيز في شتى الأغراض فسموا الرجاز، كرؤبة بن العجاج عصر بني أمية، ومن ثم وقف الشعراء الأراجيز على الحِكميات كما فعل أبو العتاهية، أو على الطَّرديات — وهي وصف الصيد وآلته — كما فعل أبو نواس، أو على التلخيصات والشروح كما فعل ابن مالك في بسط النحو تسهيلًا لحفظه، وهذا هو الشعر المعروف ﺑ التعليمي Didactique، وليس فيه من الشعر شيء.

وعدا ذلك شاعت مقطعات من الرجز في الجاهلية والإسلام على ألسنة الفرسان قبل خوض مبارزة أو معركة، كما شاعت على ألسنة الأمهات غناءً لأطفالهن فسميت شعر الترقيص، كقول أعرابية:

يا حبذا ريح الولدْ
ريح الخزامى في البلد
أهكذا كل ولد،
أم لم يلد قبلي أحد؟

(١-٥) أنواع الشعر

درج النقاد الغربيون الأصلاء على تصنيف العمل الشعري إلى ثلاثة أنواع كبرى باعتبار موضوع الشعر وصورة بنائه، فإن كان الشعر مستمدًّا مما يجد الشاعر في نفسه من ألوان العواطف، في شتى المواقف، كالحب والكره والأمل واليأس والابتهاج والحزن، فهو النوع الوجداني أو الغنائي. سمي وجدانيًّا لكونه، كما قلنا، مستمدًّا مما يجد — أي يحس — الشاعر في نفسه، وسُمي غنائيًّا لأنه نشأ مع الغناء، ورأس خصائصه الرنين الموسيقي الرقيق فرِحًا كان أو كئيبًا مما يأتلف مع نفس قائله في إحدى الحالات، ومن هنا كان الشعر الغنائي قريب متناول المعاني قصير النفس لا يجري الأشواط الطويلة.

أما النوع الثاني من الشعر فهو الملحمي نسبةً إلى الملحمة،١٥ أي: مشتبك المعركة، يدور على الحروب ويصور مشاهد القتال وأخلاق الأبطال ومغامراتهم ويرسم ألواحًا من المحيط الطبيعي ويعرض حوادث الحب والمؤامرات والمنازعات ويصف تدخل الآلهة في مصائر البشر ويلوِّح تلويحات من قبيل النبوءات بما سوف يكون، كل ذلك مفرغًا في نطاق قصة كبيرة مسلسلة الحلقات أكثر ما يقبسها الشاعر من تاريخ أمته العريق وتجارب قومه ومآسيهم، وهكذا يتضح أن الشعر الملحمي مطالب أولًا بالحديث عن غير نفسه، أو هو مطالب أن تكون نفسه عظيمة الاستيعاب واسعة المطلات على عوالم التاريخ السحيق والطبيعة والغيبيات، كما يتضح أن الشعر الملحمي طويل الشوط وأن الجو الذي يجول فيه جليل قديم، بل أسطوري في الأعم الأغلب، فلا بدَّ للهجته من أن تكون جليلة أكثر منها رقيقة.

فأما النوع الثالث من الشعر فهو المسرحي. يشارك الملحمي في عدد من الصفات؛ فشاعره مطالب بالحديث عن غير نفسه، ومطالب بأن يكون عمله قصة تاريخية أو أسطورية أو مخترعة، تحمل اختبارًا بشريًّا وتقدُّ تمثال بطولة أو نذالة. على أن طريقة الشعر المسرحي هي الحوار والتمثيل بينما تكون طريقة الشعر الملحمي السرد والرواية.

قلنا: درج النقاد الغربيون الأصلاء على تصنيف الشعر إلى هذه الثلاثة الأنواع الكبرى، فأما النقاد العرب فلا نعلم أنهم فطنوا إلى هذا التصنيف، والسبب في ذلك أن الشعر العربي لم يعرف الملحمة، وكثيرًا ما سأل الحديثون من مؤرخي الأدب كيف اهتم العرب القدماء اهتمامهم بالفلسفة الإغريقية ثم لم يعبئوا بإلياذة هوميروس ولا الأوديسة، حتى جاء سليمان البستاني في عصر النهضة الأخيرة فنقل الإلياذة، باذلًا بمفرده هذا الجهد العظيم؟ وقد قدمت في الجواب على هذا السؤال نظريات: منها شدة إعجاب العرب بأدبهم، لا سيما شعرهم، ومنها انصرافهم إلى القرآن، ومنها ذكر الآلهة المتعددة في الشعر الملحمي مما يناقض التوحيد، ومنها أن الملحمة ليست في المزاج السامي، فالآداب السامية كلها لا تنزع إلى الملاحم. غير أن الحق أن هذه النظريات لا تزال تحتاج إلى درس، كما أن السؤال لا يزال يحتاج إلى تصفية.

إن الغالب على الشعر العربي هو الغناء، شاعره أبدًا في قميص نفسه يتحدث عنها، ينقر على عودها وكثيرًا ما يكون ذا وتر واحد نغمةً ومعنًى، وتسري الصفة الغنائية في جميع أبواب الشعر العربي من الغزل إلى الرثاء إلى المدح إلى الهجاء إلى الخمر إلى شتى ضروب الوصف، بل لم يسلك الشعر العربي القديم مسلك القصة أصلًا إلا في شواهد مقطعة كالقصيدة القصيرة المنسوبة إلى الحطيئة:

وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل
بيهماء لم يعرف بها ساكن رسمًا

وكالأبيات التي ذكر فيها الأعشى حادثة وفاء السموءل:

كن كالسموءل إذ طاف الهمام به
في جحفل كهزيع الليل جرَّار
أو كالقصائد التي يصف بها عمر بن أبي ربيعة مغامرات حبه أو يصف بها أبو نواس خروجه إلى الحانات، على أن أكثر هذه النماذج لا تعدو أن تكون شعرًا غنائيًّا جاء في قالب قصصي، وكان من المتوقع جدًّا أن تحوي خزانة الشعر العربي القديمة ذُخرًا وافرًا في باب القصة من الخرافات المحكية على لسان الحيوان.١٦ غير أن هذا الحظ بقي للنثر على الأعم الأغلب، حتى كان عصر النهضة الأخيرة فنظم رزق الله حسون طائفة من الخرافات، ومثله محمد عثمان جلال، ثم أحمد شوقي فخص بتوفيقات جيدة في هذا الفن كخرافة: «الحمار الوزير» و«سليمان والهدهد» و«الحمار الواقع من السفينة» … إلخ.
وقد راجت في العصر الحديث معالجة القصص بالشعر،١٧ فقلَّ شاعر من المعاصرين ليست له قصة أو طائفة من القصص المنظومة تاريخية أو غير تاريخية. إلا أن الطابع الغنائي لا يزال ظاهرًا عليها ولا تنفك بعيدة عن أن تكون قصة إلا من حيث هي سرد حادثة، كما أنها لا تفتأ قصيَّة جدًّا عن الملحمة.

إذن فليس في الشعر العربي قديمه أو حديثه ملحمة، ومع ذلك فالواقع أن الشعر العربي القديم لا يخلو من مقاطع هي من معدن الشعر الملحمي جلال لهجة وروعة صورة واتصالًا بموضوع البطولة والحرب، والمتنبي أغنى الشعراء العرب في هذا المعدن على الإطلاق، ويقيننا أن شاعرًا عصريًّا، يكون ناقدًا خبيرًا بأصول الملاحم، لو أقام هيكل قصة ملحمية من أجزاء القصص العربية الكثيرة التي تصلح لهذا الغرض، كقصة عنترة وغيرها، وحشد لها أبطالًا يمثلون ما شاء من أخلاق وقيم، وافترض لهذه الأخلاق والقيم آلهة ميتولوجية تتقمصها وتتدخل في سير وقائع القصة، لاستطاع أن يجد لدى الشعراء العرب، وفي طليعتهم المتنبي، مقدارًا عظيمًا من القطع الشعرية العالية التي يستعملها مادة يكسو بها هيكل الملحمة إما تصويرًا لحادث أو لوحة طبيعية وإما وضعًا على أفواه الأبطال والآلهة.

ولا بأس بأن نسوق مثلًا مقطعًا للمتنبي في وصف الهجوم والصدام، وهو أمر يكثر وروده في الملاحم. قال يصور الزحف ثم المعركة، بين سيف الدولة والبيزنطيين في «تل بطريق» و«الدرب»:

اندفاع سيف الدولة بجيشه عبر سَروج وحران:

… الشمس يَعنون إلا أنهم جهلوا
والموت يدعون إلا أنهم وهموا
فلم تتم «سروج» فتح ناظرها
إلا وجيشك في جفنيه مزدحمُ
والنقع يأخذ «حرانًا» وبقعتها
والشمس تُسفر أحيانًا وتلتثم
سحب تمر «بحصن الران» ممسكة
وما بها البخل إلا أنهم نقمُ
جيش كأنك في أرض تطاوله
فالأرض لا أمم والجيش لا أمم
إذا مضى علم منها بدا علم
وإن مضى علم منه بدا علمُ

عبور بحيرة سمنين والإيقاع بهنريط:

وشُزَّبٌ أحمت الشعرى شكائمها
ووسمتها على آنافها الحكمُ
حتى وردن «بسمنين» بحيرتها
تنش بالماء في أشداقها اللجم
وأصبحت بقرى «هنريط» جائلة
ترعى الظبى في خصيب نبته اللممُ
فما تركن بها خلدًا له بصر
تحت التراب ولا بازًا له قدم
ولا هزبرًا له من درعه لبد
ولا مهاةً لها من شبهها حشمُ
ترمي على شفرات الباترات بهم
مكامن الأرض والغيطان والأكمُ

العدو يعبر نهر أرسناس موليًا:

وجاوزوا أرسناسًا معصمين به
وكيف يعصمهم ما ليس ينعصمُ
وما يصدك عن بحر لهم سعة
وما يردك عن طود لهم شممُ

سيف الدولة يلاحق العدو ويوقع بتل بطريق:

ضربته بصدور الخيل حاملة
قومًا إذا تلفوا قدمًا فقد سلموا
تجفل الموج عن لبات خيلهم
كما تجفَّلُ تحت الغارة النعمُ
عبرت تقدمهم فيه وفي بلد
سكانها رمم مسكونها حمم
وفي أكفهم النار التي عبدت
قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
هندية إن تصغر معشرًا صغروا
بحدها أو تعظم معشرًا عظموا
قاسمتها تل بطريق فكان لها
أبطالها، ولك الأطفال والحرم

إرسال الأسرى النساء والأطفال بالسفينة إلى المؤخرة:

تلقى بهم زبد التيار مقربة
على جحافلها من نضحه رثم
دهمٌ فوارسها، رُكاب أبطنها
مكدودة وبقوم لا بها الألم
من الجياد التي كدت العدو بها
وما لها خلق منها ولا شيم
نتاج رأيك في وقت على عجلٍ
كلفظ حرف وعاه سامع فهم

المعركة في الدرب:

وقد تمنوا غداة الدرب في لجب
أن يبصروك فلما أبصروك عموا
صدمتهم بخميس أنت غرته
وسمهريته في وجهه غمم
فكان أثبت ما فيهم جسومهم
يسقطن حولك والأرواح تنهزم
والأعوجية ملء الطرق خلفهم
والمشرفية ملء اليوم فوقهم
إذا توافقت الضربات صاعدة
توافقت قلل في الجو تصطدم
وأسلم ابن شمشقيق أليته
ألا انثنى، فهو ينأى وهي تبتسم

وصف قائد الأعداء ووقاية الدرع والشجر له:

لا يأمل النفَس الأقصى لمهجته
فيسرق النفَس الأدنى ويغتنم
ترد عنه قنا الفرسان سابغة
صوب الأسنة في أثنائها ديم
تخط فيها العوالي ليس تنفذها
كأن كل سنان فوقها قلم
فلا سقى الغيث ما واراه من شجر
لو زلَّ عنه لوارت شخصه الرخم!

فهذا قصيد فيه الكثير من مقومات الشعر الملحمي كجلال اللهجة وروعة الصورة والاتصال بموضوع البطولة والحرب. لكن ربما أُخذت عليه سرعة الوصف بحيث أتت بعض المشاهد وقد خُطفت خطفًا، فضلًا عن أن لون البطولة فيه لون شجاعة في الإقدام على القتال والقتل دون إيضاح ما يبرر هذا الإقدام من سبب عاطفي أو عقلي مشتق من قيمة معنوية ممثلة — إذا شئت — في إلهٍ سامٍ يؤيد هذا البطل الفارس.

لكن مع ذلك يبقى هذا الشعر صالحًا للاستعمال في ملحمة إذا أحسن الشاعر، صانع الملحمة، أن يختار له موقعه ويستعين بموهبته الشعرية على تعديله وتوسيعه وفق المقتضى.

ولم يكن الشعر العربي أفقر في الملاحم منه في المسرحيات، بل هو في معدن الشعر الملحمي أغنى منه في معدن الشعر المسرحي بما لا يقاس، ولعل الانتقال من الطبع الغنائي، الذي محوره نفس الشاعر، إلى الطبع الملحمي، الذي محوره الإخبار بنفسه عن نفوس غيره، أسهل من الانتقال إلى الطبع المسرحي، الذي يضطر الشاعر أن ينسى نفسه البتة ويعيش فنيًّا في نفوس أشخاص أُخر يطابقهم جميعًا في وقت واحد كاذبًا مع الكاذب كأنه هو، صادقًا مع الصادق كأنه هو، وهلمَّ.

وقد وردت في الشعر العربي القديم مقاطع فيها شكل الحوار فظن بعضٌ أن ذلك هو الشعر المسرحي. من هذا القبيل ما صنعه أحد الأدباء بالأبيات المنسوبة إلى وضاح اليمن، غيَّر سياقها من «قالت فقلت» إلى حوار مباشر، فأصبحت على الصورة الآتية:

سلمى:١٨
وضاح لا، لا تلجن دارنا
إن أبانا رجل غائر
وضاح :
سلماي إني طالب غرة
منه وسيفي صارم باتر
سلمى :
لكن حولي إخوة سبعة
وضاح :
نسيت أني أسد خادر
سلمى :
والقصر؟ إن القصر عالي الذرى
وضاح :
فليعلُ، إني فوقه طائر!
سلمى :
وغمرات الماء من حوله
وضاح :
فلتطغ، إني سابح ماهر!
سلمى :
ويحك! إن الله من فوقنا
وضاح :
مهلًا، فربِّي راحم غافر!
سلمى :
وضاح قد أعييتنا حجة
فائت إذا ما هجع السامر
واسقط علينا كسقوط الندى
ليلة لا ناهٍ ولا زاجر!

ولا بأس بهذا. إلا أنه لا يعدو أن يكون موقفًا حواريًّا؛ فالحوار شيء في الشعر التمثيلي غير أنه ليس الشعر التمثيلي كله، والمسرحية، شعرية كانت أو نثرية، مخترعة كانت أو مستمدة من التاريخ أو الأسطورة، إنما هي مشاهد وفصول تتتابع متسلسلة في نطاق حادثة محدودة المكان والزمان والعمل. المسرحية قصة تنبني على عقدة وتطرح مشاكل من الحياة توصل إلى أزمة، هي أوُجها، وتنتهي بحلٍّ من الحلول، والتأليف المسرحي، شعرًا كان أو نثرًا، إنما هو صنع من قبيل النحت يقدُّ فيه المؤلف خلال سير المسرحية — عدا الشخصيات الثانوية — تمثالًا لبطل رئيسي يبقى قائمًا قيامًا معنويًّا في الأذهان ورامزًا رمزًا قويًّا إلى فكرة أو نزعة من الفكر والنزعات، كهملت ومكبث عند شكسبير.

ومعلوم أن أحمد شوقي انصرف في آخر عمره إلى إنشاء المسرحيات الشعرية؛ فنظم «مصرع كليوباطرة» و«قمبيز» و«مجنون ليلى» و«عنترة» وغيرها فخطا خطوة إلى أمام بفنٍّ سبقت فيه محاولات حديثة. إلا أن مسرحيات شوقي لا يمكن اعتبارها ولادة تامة للمسرحية العربية الشعرية، فما زالت على الجملة ناقصة من ناحية الحبك القصصي، فيها بعض الفضول والحواشي التي يجب ويمكن اقتطاعها أو اختصارها، وما زالت ناقصة من ناحية إبداع الشخصيات وجودة تصويرها، فبرغم أن شوقي اقترض الأبطال والقصص لمسرحياته من التاريخ فقد عجز عن أن ينحت شخصية واحدة بحيث يظهر عليها طابعه وتعلق بالذهن لقوتها.

(٢) النثر

سلف أن قلنا في مطلع هذا الفصل أن العمل الأدبي يأتي على نوعين أساسيين: الشعر والنثر. لكن هذا لا يعني — كما يخال بعض — أن النثر نقيض الشعر على خط مستقيم، فالنثر في الحقيقة ليس نقيض الشعر، بل ليس نقيض النظم، وللنثر والشعر، باعتبارهما كلامًا، نظام ينظمان عليه وفق أصول مرعية نحوية وبلاغية، فتقديمنا حرف الجر على مجروره ضرورةً في قولنا: «العلم بالتعلم» قاعدة نحوية من أصول ترتيب الكلام، وبالتالي نظمه؛ لأن الترتيب داخل في النظم، وتقديمنا الخبر على المبتدأ النكرة في قولنا: «على الكنز رصد» قاعدة نحوية أخرى من أصول ترتيب الكلام شعرًا ونثرًا. كذلك تقديمنا المسند على المسند إليه قصدَ التفاؤل في قولنا للمريض: «على خير أنت إن شاء الله» قاعدة بلاغية من قواعد نظم الكلام إطلاقًا.

وهكذا لا يكون النثر نقيض النظم بل نقيض الوزن وحسب، والمناقضة بين الشعر والنثر منحصرة شكلًا في الوزن وحده، وعدا هذه المناقضة التي تنحصر في وجود الوزن أو انعدامه، يمكن أن لا يكون حاجز بين الشعر والنثر سواء من حيث الشكل أم من حيث الجوهر؛ فالنثر قد يُقفَّى كالشعر، والنثر قد يتعاطى المعاني والألفاظ الشعرية، ومن هنا — يغلب الظن — نشأت فكرة ما يسمونه الشعر المنثور أو الشعر الطليق، وقد عُني بهذه الفكرة أمين الريحاني وظنها نمطًا يستحدث في الأدب العربي؛ فكتب نثرًا اطَّرح منه الوزن وأكثر التوكؤ على القوافي للاحتفاظ بسيماء الشعر، فلم يزد أن صنع سجعًا كقوله:

صوت صارخ من وراء الغيوم،
صوت ريح سموم
أي شيء يدوم؟

وكان جبران أكثر توفقًا منه حين أعرض عن الشكل الشعري وزنًا وقافيةً، واستبقى لنثره ألفاظ الشعر ومعانيه؛ فصنع نثرًا شعريًّا أفضل من الشعر المنثور.

وما دمنا قد أتينا على ذكر السجع فيحسن بنا أن نقف هنا وقفة عنده:

(٢-١) أنواع النثر

السجع

يجمع مؤرخو الأدب على أن الشعر عمل أدبي سابق للنثر في حياة الشعوب، ومنها العرب، فطبيعي أن ترث اللغة العربية، العدنانية القرشية، من جاهليتها مقدار شعر أكثر كثيرًا من مقدار النثر. على أننا إذا تأملنا هذا النثر الجاهلي الباقي، وضربنا صفحًا عن صحة نصه التاريخي، وجدناه في الأعم الأغلب سجعًا، منه سجع الكهان، ومنه الخطب كخطبة قس بن ساعدة: «أيها الناس اسمعوا واعوا، وإذا سمعتم شيئًا فانتفعوا. إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت!» وهنا نتساءل: كيف نشأ هذا السجع مع تقسيمه إلى فواصل مقفَّاة؟ أليس من المرجَّح أنه الشعر يتدرج نحو النثر، وقد بدأ بالانعتاق من ربقة الوزن؟

وتلك قضية من القضايا التي يبدو أنها شغلت عقل أبي العلاء المعري شغلًا حادًّا. كان أبو العلاء يرى، في طرَف، شكل الشعر العربي بما يخضع له من وزن واحد وقافية واحدة، ويرى، في طرف آخر، شكل النثر المرسل وتحرره التام من كل وزن وقافية، فيحس أن بين الطرفين حلقة ضائعة يجب أن يلتمسها فلعله يجدها أطوع لأغراضه من الشعر المقيد بالوزن الواحد والقافية الواحدة وأوقع في النفس رنينًا موسيقيًّا من هذا النثر المرسل، وأكبر الظن أنا أبا العلاء وقف عند السجع وآنس فيه هذه الحلقة الضائعة؛ لذلك أكثر منه إكثارًا وعليه بنى جميع رسائله بل نظم كتابه «الفصول والغايات».

والأصل في السجع١٩ أن يكون الكلام مُقسَّمًا فواصل فواصل، أو قرائن قرائن، كل فاصلتين أو أكثر تتقارب أو تتباعد طولًا، لكن مردَّها إلى قافية واحدة على نحو ما شهدنا في خطبة قس بن ساعدة، وعلى نحو ما نشهد في «أطواق الذهب» للزمخشري، ومنه: «ما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه. المرء بأكبريه، عمله وإيمانه، وما يغني عنه أصغراه إذا خانه أكبراه؟»

غير أن أبا العلاء نوَّع أنواعًا من السجع، لا سيما في الفصول والغايات، لسنا نستطيع الإحاطة بها، إلا أننا نضرب منها مثلًا. قال: «أجل. غاق غاق، أصبح الغراب، يرتاد أين همت بواكر السحاب. الطيور ناطقات بالسبح، ورجال ما تقر بالبعث. بلى! جلَّ القادر عن ارتياب. أإن جرى ظبي فسنح، وهفا طائر فبرح، كمد آلف لفراق الأحباب؟ سبَّح الله ومجَّده، وعظَّم الخالق وحمده، طائر لا يحفل بفراق زينب والرباب. هذه منازل القطين، وتلك منازل الأنس المقيم، اختلف عليهم الجديدان فأرواحهم عند الله وجسومهم في التراب.»

ولا بأس بأن نكتب هذا السجع على الصورة الآتية:

أجل. غاق غاق، أصبح الغراب
يرتاد أين همت بواكر السحاب.
الطيور ناطقات بالسبح،
ورجال ما تقر بالبعث٢٠
بلى! جلَّ القادر عن ارتياب،
أإن جرى ظبي فسنح
وهفا طائر فبرح
كمد آلف لفراق الأحباب؟
سبَّح الله ومجَّده،
وعظَّم الخالق وحمَّده
طائر لا يحفل بفراق زينب والرباب،
هذه منازل القطين،
وتلك منازل الأنس المقيم
اختلف عليهم الجديدان فأرواحهم عند الله وجسومهم في التراب!

وهكذا يتضح لنا كيف أن المعري أراد بكل طائفة من الفواصل أن تكون مقطعًا شعريًّا، تنتهي فاصلته الأخيرة بقافية يُرجع إليها في «الشعر» كله، مع تعدد القوافي في داخل المقاطع.

وهذا يؤدي بنا إلى القول إن السجع أداة شعر، ولا يجوز استعماله إلا في المعاني التي تليق شعرًا، فإن ابتُذل فيما يمكن أن يؤدى بالنثر المرسل على أحسن وجه، خرج عن مقصد الجد إلى مقصد الهزل، كقول القائل يأمر خادمه بإحضار الغداء: «دع الكلام وجيء بالطعام، عظمت الحاجة إلى فرخ دجاجة، وخُذ الإناء وهات الماء، ولا تنسَ النبيذ فإنه لذيذ.»

كذلك إذا سُخِّر السجع، كما سخَّره بعض السجَّاع، لمجرد التقصير في اللفظ والتجنيس، غلبت عليه الكلفة وثقل عليه الطبع وأصبح مثل صانعه مثل الذي يزخرف القماش الرخيص بالنقوش لإغواء النظَّار.

النثر المتوازن

هو شقيق السجع، ثم هو خطوة بعد السجع في تدرج الشعر نحو النثر المرسل، وقد عرفنا أن السجع، شكلًا، يقوم على تقسيم الكلام فواصل فواصل، كل فاصلتين أو أكثر تتقارب أو تتباعد طولًا، لكن مردَّها إلى قافية واحدة، فالنثر المتوازن يحتفظ بهذا التقسيم للكلام فواصل فواصل، إلا أنه لا يعتمد على التقفية بل ينشئ الفواصل متقاربة في الطول، متشابهة في تفعيلاتها، أي: في الحركة والسكون، وهو ما يسمونه الازدواج، والجاحظ إمام هذه الطريقة، ومن أحسن شواهده عليها قطعته في الكتاب، نجتزئ منها هذا السطر للتمثيل:

الكتاب وعاءٌ مليء علمًا، وظرف حُشي ظُرفًا، وإناء شحن مزاحًا.

فظاهر أن الفواصل ليست مقفاة، لكن بينها ازدواجًا نشأ من تقاربها في الطول وتناسبها في التفعيلات، فقوله: «وعاء مليء علمًا» فيه من التحريك والتسكين عين ما في قوله: «وظرف حشي ظرفًا.»

والنثر المتوازن كثيرًا ما يصادف في الخطب والرسائل والأدعية والتحميدات ومطالع المؤلفات القديمة.

النثر المرسل

وهو النثر بالمعنى التام. لا تضبطه قافية ولا ازدواج. سمي بهذا الاسم لأنه يرسل إرسالًا، دون ما التفات إلى قيد إلا ما استلزمه المعنى أو أوجبه صرف اللغة ونحوها، أو استدعته قوانين الفصاحة والبلاغة، ولسنا نُغالي إذا قلنا إن ابن المقفع هو أول من اشتَّق وسلك سبيل النثر المرسل في الأدب العربي، وقد سمَّى الأدباء إنشاءه: «السهل الممتنع»؛ ذلك أنهم على ما نُرجِّح لم يروا فيه تقسيم فواصل، ولا سجعًا، ولا ازدواجًا، فقالوا هو سهل لا مشقة فيه، غير أنهم مع هذا لم يروا شبيهه منقادًا ممكنًا لكل كاتب، فقالوا هو سهل لكنه ممتنع، وكان ابن المقفع، وفاقًا لمذهبه في الإنشاء، يُعرِّف البلاغة بأنها الكلام الذي يسمعه الجاهل فيظن أنه يحسن مثله حتى إذا عالجه لم يجده ميسورًا له، كضوء الشمس قريب بعيد.

وقد سلف أن عرضنا لقطعة من إنشاء ابن المقفع فدلَّلنا على قلة ما فيها من تنوع قوالب الجمل، ولعل هذا هو أبرز المآخذ التي يمكن أخذها على ابن المقفع، تليه مآخذ أخرى كبعض الإطناب والاضطراب في ترتيب الجملة الواحدة، أو ربط الجمل بعضها ببعض. لكن لا يجوز لنا أن ننسى أن ابن المقفع إنما كان مبتدعًا، وأن الطريقة التي ابتدعها — نعني طريقة النثر المرسل — يسَّرت على الإنشاء العربي أن يتناول بالتأليف والبحث التفصيلي آفاقًا أدبية وفلسفية وعلمية واسعة، ليس من الميسور تناولها مع التزام السجع والازدواج.

وإلى القارئ هذا الشاهد على النثر المرسل استخرجناه من باب «غرض الكتاب»، وهو التقديم الذي به قدَّم ابن المقفع تعريبه لكلية ودمنة:

وكذلك من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه، ولم يعلم غرضه ظاهرًا أو باطنًا، لم ينتفع بما بدا له من خطِّه ونقشه، كما لو أن رجلًا قُدِّم له جَوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره، وكان أيضًا كالرجل الذي طلب علم الفصيح من كلام الناس، فأتى صديقًا له من العلماء له علم بالفصاحة، فأعلمه حاجته إلى علم الفصيح؛ فرسم له صديقه في صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه؛ فانصرف المتعلم إلى منزله، فجعل يُكثر قراءتها ولا يقف على معانيها، ثم إنه جلس ذات يوم في محفل من أهل العلم والأدب، فأخذ في محاورتهم فجَّرَت له كلمة أخطأ فيها، فقال له بعض الجماعة: إنك قد أخطأت والوجه غير ما تكلمت به، فقال: وكيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء وهي في منزلي؟ فكانت مقالته لهم أوجب للحجة عليه، وزاده ذلك قربًا من الجهل وبعدًا من الأدب.

ويكفي أن نتصوَّر الجهد الذي يضيع سدًى لو أن ابن المقفع وطَّن نفسه في هذا النثر على السجع أو الازدواج، ولعل السجع والازدواج ما كانا ليطاوعاه على أداء القصد واستيفائه مطاوعة النثر المرسل. لكن لا بأس بأن نشير إلى الاضطراب والإطناب في القسم الأول من هذه القطعة، وكان الأفضل أن يأتي على هذه الصورة مثلًا:

وكذلك من قرأ هذا الكتاب ولم يفهم ما فيه، ولم يعلم غرضه ظاهرًا أو باطنًا، لم ينتفع بما بدا له من نقشه وخطِّه، كرجل قُدِّم له جَوز صحيح فلما لم يكسره لم ينتفع به، أو كرجل طلب علم الفصيح من كلام الناس، فأتى صديقًا له صاحب علم بالفصاحة، فأطلعه على حاجته؛ فرسم له صديقه في صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه، … إلخ.

وربما خُيِّل إلينا أن النثر المرسل، حين اطَّرح السجع والازدواج، اطرح معهما الموسيقى الصوتية، فالنثر المرسل حقًّا لا يتأتى له بسهولة حظ النثر المسجوع أو المتوازن من إطراب الأذن، لكن الموسيقى ليست كلها صوتية موقوفة على الإطراب من سبيل الأذن، بل منها الموسيقى الصمتية التي تطرب من طريق استغراق الحس والفهم، وهي تنشأ من رشاقة اللفظ وائتلاف الكلام وكرِّه واسترساله كأنه شلال ينسكب وينغم في أغوار النفس. ذلك فضلًا عن أن النثر المرسل لا يعدم كل العدم حظًّا من الموسيقى الصوتية، بينما يكاد يعدم النثر المسجوع أو المتوازن — لا سيما المسجوع — حظًّا من الموسيقى الصمتية، ومن هنا كان النثر المسجوع لا يطيب إلا قراءة صائتة، بينما يطيب النثر المرسل قراءة صامتة وصائتة، وما دمنا في ذكر ابن المقفع، فلنضرب من إنشائه شاهدًا على النثر المرسل الذي يطرب بموسيقاه من طريق الحس والفهم، ولا يعدم إطرابًا من سبيل الأذن:

… ليس شيء من شهوات الدنيا ولذاتها إلا وهو متحول إلى الأذى، ومولد للحزن؛ فالدنيا كالماء الملح الذي لا يزداد شاربه منه شربًا إلا ازداد عطشًا، وهي كالعظم الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم فلا يزال يطلب ذلك اللحم حتى يدمي فاه، وكالحدأة التي تظفر بقطعة من اللحم فيجتمع عليها الطير فلا تزال تدور وتدأب حتى تعيا وتتعب فإذا تعبت ألقت ما معها، وكالكوز من العسل الذي في أسفله السم تذاق منه حلاوة عاجلة وآخره موت زعاف، وكأحلام النائم التي يفرح بها الرائي في نومه فإذا استيقظ ذهب الفرح.

(٢-٢) الأبواب التي طرقها النثر

لما كان النثر أقل قيودًا من الشعر، وأصبر على الشرح والتحليل، وأقدر على الإسهاب والاستيعاب، كانت الأبواب أو المواضيع التي طرقها ويطرقها النثر كثيرة جدًّا، وهي تكثر، ولا تزال تكثر وتتسع عند الأمم، كلما تطورت حياتها من بسيط إلى مُركب، وتنوعت ورحبت أمامها آفاق السعي العقلي، وتقلبت عليها مواقف الحياة التي تشعِّب مجاري العاطفة، وتعدِّد وتلوِّن مسالك الخيال.

وليس في نيتنا هنا أن نُفصِّل جميع الأبواب أو المواضيع التي ألمَّ بها النثر العربي وإن يكن كل هذا النثر أو جله يتمتع بمقدار من جودة العبارة يدخله في حيز الصنع الأدبي، ﻓ «رسائل إخوان الصفاء» مثلًا أدبية النثر وإن كانت مادتها فلسفية، ومثلها مجلدات الطبري ومقدمة ابن خلدون وإن كانت مادتها سردًا تاريخيًّا أو بحثًا في قوانين التاريخ.

وعلى هذا فسنكتفي بعرض موجز (موجز جدًّا) للأبواب التي ولجها النثر العربي وهي تعتبر فنونًا صرف أدبية، ومن ثم ننتقل إلى نظرة مجملة في الأساليب.

يبدو أن النثر الأدبي العربي عرف أول ما عرف الخُطب والأمثال، وأكثر ما نصادف هذه الخُطب في الجاهلية على ألسنة الفرسان والزعماء في مواقف الحرب والسياسة، أو على ألسنة الشيوخ المحنَّكين في موطن يتطلب درايةً وإرشادًا، أو على ألسنة وفد من الوفود، أو على ألسنة الكُهان، ونظل نصادف هذه الخطب خلال عصور الآداب العربية تلازمها ظاهرة هي وفرة السجع والازدواج طلبًا لإطراب السامع وتهييجه وإيقاد شعوره. على أن السجع والازدواج قد اضمحلا، أو كادا، من الخطب في عصرنا الحاضر.

أما الأمثال فأكثر ما كانت حكمًا قصيرة، أو أقوالًا مجتزأة تُشير إلى حادثة تحمل العِبرة المقصودة، كقولهم: «مجير أم عامر.» أرادوا به من يجعل الإحسان في غير موضعه، وأم عامر هي كنية الضبع أجارها أحدهم من الصيادين فلما اطمأن بها المقام آذته بدافع غريزتها الوحشية. لكن الأمثال التي هي حكايات خرافية كاملة على ألسنة الحيوان، كحكايات كليلة ودمنة، لم تكن موفورة.

ثم عرف النثر العربي الرسائل. ظهرت منها نماذج أولًا على لسان النبي ثم الخلفاء الراشدين من بعده، لا سيما الإمام علي بن أبي طالب أعظمهم حظًّا من الأدب، وكان بعد ذلك أن نقل الخليفة عبد الملك بن مروان الدواوين من الرومية والفارسية والقبطية إلى العربية، وجُوِّدت في أيامه القراطيس، فدعا الأمر إلى نشأة كتَّاب ينقطعون إلى صناعة الترسل وتولي الدواوين، واتسع لهم مجال الإسهاب، فطلع عبد الحميد الكاتب الذي قيل إن الكتابة بُدئت وقيل إنه فتق أكمام البلاغة.

ومعنى الرسالة أصلًا: كلام مكتوب يبعث به إنسان إلى آخر في غرض أغلب ما يكون محض شخصي. إلا أن الرسائل الأدبية لم تنحصر يومًا في حيِّز هذا المفهوم الضيق، فآثار عبد الحميد الباقية في هذا الفن، كرسالته إلى الكتَّاب ورسالته إلى ولي العهد، هي في حقيقتها تحليل في شئون عامة وتوجيه في قضايا تهم الدولة كمسلك الكتَّاب الموظفين في الدواوين وأمور تجييش الجيوش وبث الجواسيس وما أشبه، وعلى هذا، فالرسالة قد تكون هي المقالة أو الكتاب الصغير في عُرفنا العصري، ولنُشر إلى أن بواكير الرسائل في الآداب العربية، كما نجدها لدى عبد الحميد وقبله وبعده، في شباب الأعصر العباسية، لم تكن مقيَّدة بخطة سجع أو تجنيس كما أصبحت في الأدوار اللاحقة. كذلك فلنُشر إلى أن الرسائل كانت تنحصر في نطاق موضوعها، تجول فيه ولا تتعداه، ولو أن جميع القدماء، لا سيما الجاحظ، نظروا إلى الرسالة من هذا الوجه فاعتبروها نموذجًا درجوا عليه في تأليف الكتب، لانقطع السبيل على الاستطراد الذي جعل من الكتاب العربي (الأدبي) في القديم «كشكولًا» سرى تقليده إلى عصرنا الحاضر حتى غلبت على كتبنا الأدبية الحديثة صفة «المجموعة» من مقالات أو قصص أو خطب.

ثم عرف النثر العربي الحكاية. عرفها خُرافة منقولة على قلم ابن المقفع معرب كليلة ودمنة، ويمكن القول بلا مغالاة أن النثر المرسل في الآداب العربية وُلد حق الولادة في هذا العهد. بل يمكن القول إن الأدب الذي يمس مشاكل الناس في مجتمعهم، ويثير الفكر لمعالجة السياسة ونقد الحكام، من سبيل الأخلاق، وُلد في هذا العهد أيضًا، وُلد خائفًا متسترًا مقبوسًا عن أمة بعيدة مهموسًا على ألسنة البهائم والطير، وقد اقتفى أثر ابن المقفع كثيرون لا بدَّ لنا أن نخص منهم بالذكر إخوان الصفاء في حكاية اجتماع الحيوان والإنسان في مجلس الملك بيراست الحكيم،٢١ وإنها لحكاية رائعة في تلميحاتها ودلالاتها الفكرية، ولا بدَّ لنا أيضًا أن نخص بالذكر ابن عربشاه في كتابه «فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء» إلا أنه عدل بالخرافة عن طريقة النثر المرسل إلى طريقة السجع فكلَّف نفسه وقارئه عناء يستغنيان عنه كقوله: «ترافق في المسير، عير من بعير، فكان الحمار، كثير العثار، مع أن عينيه، تراقبان مواطئ قدميه، وكان الجمل على عظم هامته، وعلو قامته، وبعد عينيه، عن مواطئ يديه ورجليه، ولا تزلُّ له قدم، ولا يصل إليه ألم …»
وواجب أن نلحظ في الخرافات التي حوتها خزائن الأدب العربي أنها اقتصرت على عالم الحيوان إنسانًا أو طيرًا أو بهيمة، غير أنها لم تتوسَّع في الطبيعة فتُنطِق أو تمنح عقلًا نباتًا أو جمادًا،٢٢ على نحوِ ما جاء في سِفر القضاة من التوراة مثلًا:

ذهبت الشجر ليمسحن عليهن ملكًا، فقلن لشجرة الزيتون: كوني علينا ملكة، فقالت لهن الزيتونة: أأدع زيتي الذي لأجله تُكرمني الآلهة والناس وأذهب لأستعلي على الشجر؟ فقالت الشجر للتينة: تعالي أنت فكوني علينا ملكة، فقالت لهن التينة: أأدع حلاوتي وثمرتي الطيبة وأذهب لأستعلي على الشجر؟ فقالت الشجر للجفنة: تعالي أنت فكوني علينا ملكة، فقالت الجفنة: أأدع مسطاري الذي يسر الله والناس وأذهب لأستعلي على الشجر؟ فقالت الشجر كلها للعوسجة: تعالي أنت فكوني علينا ملكة، فقالت العوسجة للشجر: إن كنتن حقًّا تمسحنني ملكة عليكن فتعالين استظللن بظلي وإلا فلتخرج نار من العوسجة وتحرق أَرز لبنان.

ثم ظهر في النثر العربي النقد الأدبي، والنقد الأدبي أدب أيضًا، وأسبق المحاولات المدونة في هذا الباب ما جاء في كتاب «البيان والتبيين» ألَّفه الجاحظ بأسلوبه الاستطرادي — يفارق سلك الموضوع بغية تنشيط القارئ ثم يعود إليه — وجمع في نهج نثره بين المتوازن والمرسل، وما لبث النقد الأدبي أن أصبح غرضًا متشعبًا، فأنشأ الأدباء التآليف في أصوله النظرية، أي: قواعد البلاغة وقوانين العبارة المنثورة والموزونة. كذلك أنشئوا فيه التآليف التطبيقية كما فعل الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري، ودستور الكتابة في هذا الفن أن تكون نثرًا مرسلًا.

وقد تحدَّر مع النقد الأدبي سيل غزير من أخبار الكتَّاب والشعراء خلال شتى العصور؛ فظهرت الكتب الفنية في موضوع التاريخ الأدبي وأعظمها إطلاقًا كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وقاعدة الكتابة في هذا الفن أيضًا أن تكون من النثر المرسل.

ولم يكن شيء أقرب إلى المعقول في هذه الحال من أن تكثر الرواية كثرة هائلة، والواقع أن الرواية عريقة في تاريخ الأدب العربي، إلا أنها بدأت، كالمنتظر، شفهية تحكى في سوق أو مجلس منادمة، وتتناقلها الذواكر. ثم رأى الأدباء فيها موردًا من موارد التأليف فملئوا بها كتبهم، وكان الجاحظ في طليعة هؤلاء الأدباء، غير أنه لم يكتفِ بإعادة الروايات القديمة بل فطن إلى تدوين الروايات الجديدة مما يسمع أو يشهد في عصره بين شتى طبقات الناس، وقد أتى بالبدائع في هذا الباب، وانتهى إلى اشتقاق أدب جديد هو أدب تصوير المعايش والعادات والطبائع بالروايات، تصويرًا قوامه دقة لحظ، وحرارة نكتة، ونعومة سخر، دون ما مجاهرة بغاية تهذيبية إرشادية، إن كان له مثل هذه الغاية، وأنفس ما بقي من آثار الجاحظ في هذا الباب كتابه «البخلاء» وبعض أشلاء من كتاب «المعلمين»، وإذا رحنا نلتمس النماذج الباكرة للرواية الفنية في الأدب العربي، فمن الحق أن نعترف للجاحظ بأنه مُنشئها الأول. إلا أن الرواية لم تصبح على قلمه رواية طويلة، أو عصرية بالمعنى الذي نفهمه اليوم؛ فقد كان الجاحظ، على رغم ما يظهر من طول نفَسه في بعض مجلداته الضخمة الملأى بالاستطرادات، قليل الثبات على ملاحقة عمل فني واحد؛ لذلك كانت النتيجة أن ترك لنا متحفًا لا حدَّ لما فيه من صور الأشخاص المنوعين وتماثيلهم. على أننا ما نكاد نُلقي نظرة حتى نرى أن هذا المُعلم العظيم قد خطَّ بريشته خطوطًا رائعة على هذه اللوحة، أو ضرب بمنقاشه ضربات بارعة في هذا الحجر، لكنه ما لبث أن غادر الصورة غير كاملة، والتمثال غير تام، إلى صورة وتمثال مختلفين، أو هما من النوع نفسه، وعلى هذا نجد في كتاب البخلاء بخلاء كُثرًا يحملون في الوجوه والأخلاق سمات وومضات دالة، قوية في دلالتها، غير أننا لا نجد بخيلًا واحدًا منتهيَ الصورة أو التمثال، في قصة أو رواية طويلة.

وقلَّ بعد الجاحظ، من الأدباء الأقدمين، من جاءت الرواية على قلمه ولها مثل هذا الحظ من جهد الكاتب في تناولها أو استنباطها من الحياة، فضلًا عن حسن عبارتها، فقد نُقلت «ألف ليلة وليلة» نقلًا في الأصل، ثم ما لبثت أن أصبحت بمثابة نهر كبير في الأدب العربي ترفده شتى الروافد مما يتولَّد من قصص في أوساط الشعب، على مدى العصور، فيستحسن أن يضيفه إليها النساخ أو مؤلفون أشباه النساخ، ولسنا نُغالي إذا قلنا إن الأوساط الشعبية، وسير الأعلام من الناس، هي التي ظلت تُهيئ الروايات للكتَّاب، فينقلونها ويدونونها تارةً بلغة مقبولة، وطورًا بلغة الشعب العامية، كقصة الزير (المهلهل، بطل حرب البسوس)، أو قصة عنتر (عنترة بن شداد العبسي، بطل حرب داحس والغبراء)، ويكاد لا يحتاج إلى ذِكر أن هذه الروايات مبنية بطبيعتها لا على الغوص في قرارات النفس وتشريح الأذهان وتحليل العواطف في بيئة ما، بل على غرابة الحادثة وعنصر المفاجأة والمبالغة، مما يستلذه الذوق الشعبي الفطري، على نحوِ ما نشاهد اليوم في الروايات البوليسية. لكن لا شك أن هذه القصص القديمة ثروة أدبية نفيسة، على أنها تحتاج إلى إنشاء من جديد يحملها فيه الروائي الحديث ما تتحمل من معنويات وينهض بمستوى عبارتها، فلو أننا أخذنا مثلًا قصة عنترة القديمة لوجدناها تقوم على بطل تجابهه عقبة من لونه الأسود في محيط يحتقر هذا اللون، وتجابهه عقبة من أم سوداء سبيَّة ولدته سفاحًا ليكون عبدًا غير معترف به، ثم تجابهه عقبة من حبٍّ مصدوم، فيطلب الغلبة على هذه العقبات. يفرض حريته فرضًا بما أدت شجاعته من خدمة لقومه، ويوجب احترامه إيجابًا بشِعره وكرم خلقه وفروسيته، وإن في ذلك كله لمادة وفسحة لقصة حديثة رائعة، تثير طائفة من مشاكل خطيرة، وتقدُّ شخصية بطولية فذة.

لكن قولنا إن الأدباء القدماء كانوا يتناولون الروايات، وقد هيأتها لهم الأوساط الشعبية أو سِير الأعلام من الناس، لا يصدق في شأن المقامة، والمقامة، لغةً، هي المحلة التي يقام فيها، ثم حُولت إلى معنى الحلقة التي يجتمع فيها الناس لاستماع الحديث، وخصصت بين الأسماء الأدبية بمعنى القصة التي تجري في مجلس من المجالس، والقاعدة في المقامة أن تكون من اختراع كاتبها لا من محفوظه أو منقوله، وبناؤها على راوية واحد وبطل واحد يردد المؤلف اسميهما في مجموع مقاماته كلها، فأما الراوية فهو رجل ترحال وسفر، يقص في كل مقامة قصة من مغامرات البطل، وقد يكون صحبه وشاركه حوادث القصة، أو صادفه في بلد على غير ميعاد ولم يهتدِ إلى معرفته إلا عند خاتمة الحادثة، وأما البطل فشخصية متشردة، تجمع إلى التشرد فصاحة وبلاغة في الخطابة والشعر وعلمًا بالأخبار والفقه، وتتصف بقدرة خارقة على الاحتيال والتمثيل؛ فتتظاهر بالورع وليس لها من الورع كثير أو قليل، وتشكو البؤس والفقر وهي في يسر، تتعامى أو تتعارج، كل ذلك استدرارًا للشفقة والصدقة، وحجتها أن الزمان يقضي بهذا النفاق والتدجيل، وواضح أن شخصية بطل المقامات مصبوبة في قالب شخصية الشحاذ، الذكي الخبيث، الذي يتمسكن ويستغل سذاجة الناس وشعورهم بالعطف على المصابين. لكننا نخطئ إذا وقفنا عند هذا الحد، فلم نعِ أن مؤلف المقامات كان إلى ذلك يريد من وجه غير مباشر أن يكشف عن مفاسد عصره، ويعرِّض بما يجري تحت تأثير النطق المنمق والتظاهرات الكاذبة بالدين من مهازل تجوز على الناس لجهلهم وطيبتهم.

غير أن نقص المقامات، إجمالًا، هو هذا التقيد بشكل واحد للقصة، وهذا التشبث بالسجع والحرص على إعلان المقدرة اللغوية، وقد بدأت الكلفة يسيرة في مقامات الهمذاني، الذي اشتق هذا الفن، ثم ازدادت في مقامات الحريري، واستمرت على ازدياد حتى سخف محتوى المقامة في سبيل زخرفها اللفظي.

وأخيرًا لا بدَّ لنا أن نذكر، ولو ذِكرًا، بابًا له أهميته من الأبواب التي طرقها النثر الأدبي العربي، نقصد الرحلات، وأشهرها رحلة ابن بطوطة، إنشاؤها مرسل إلا أن به انحرافًا نحو الركاكة.

وبهذا نكون قد استوفينا ما أردنا الإلمام به من شتى المواضيع التي عالجها النثر الأدبي العربي القديم، وقد اتَّضح لنا أن القصة والرواية الطويلة لم تكونا فيه موجودتين على نحوِ ما أصبحنا نفهمهما اليوم. أما المسرحية فكانت معدومة تمامًا، ولا ريب أن أدباء العصر الحديث سدُّوا هذه الثلم بما حاولوا من محاولات في سبيل القصص والروايات الطويلة والمسرحيات. غير أن عملهم كان باكورة الموسم، ولم يكن هو الموسم، ولا تزال تعترض دون تجديد هذه الفنون واستكمالها صعوبات، منها أن فصيح اللغة لم يطوَّع بعد حق التطويع للسرد الطبيعي والحوار الطبيعي اللذين هما عمدة القصة والرواية الطويلة والمسرحية، ومنها أيضًا أن الحياة الحديثة، في الأوطان الناطقة بالعربية، لم تبلغ بعد درجة من التطور والتعقد تجعلها قادرة على تزويد هذه الفنون بمادة غنية ملونة.

(٢-٣) الأساليب

خلاصة تعريف الأسلوب أنه السمة التي يتجلَّى طابعها على الأديب في منهاجه التي يسلكها لأداء مقاصده، ولا يصح مبدأ بحث الأسلوب في المطلق؛ أي: لا يصح بحثه غير مقترن بشخص كاتب أو شاعر معين؛ فإن الأسلوب خاصة ذاتية جدًّا في كل أديب، بل في كل إنسان، حتى قيل: الأسلوب هو الرجل.

لكن مع ذلك فقد عرفنا أن النقاد نظروا في الصنع الأدبي فصنفوه أقسامًا وأنواعًا وأبوابًا؛ فقالوا: الشعر والنثر، ثم قالوا: النثر المسجوع والمرسل، وغير ذلك مما سبق لنا الوقوف عليه، ومن ثم نظر النقاد في أقسام العمل الأدبي وأنواعه وأبوابه، فرأوا أن كل قسم ونوع وباب، وإن شارك غيره في صفات وشروط عامة، فله مع ذلك صفات وشروط يستقل بها أو تكون عمدته عليها أكثر من سواها، كالهجاء مثلًا من أبواب الشعر عمدته على إجادة التهكم والتجريح، وهكذا استطاع النقاد أن يستنبطوا تصنيفًا للأساليب يصدق بمقدار ما تصدق التصنيفات؛ فقالوا: الأسلوب الأدبي تمييزًا له من الأسلوب العلمي، ثم قالوا: الأسلوب الشعري والأسلوب النثري، ثم نوَّعوا فقالوا مثلًا: الأسلوب الشعري الملحمي، والأسلوب الشعري الغنائي، والأسلوب النثري الخطابي أو القصصي …، ويمكن القول إن كل ما سبق لنا النظر فيه خلال هذا الكتاب داخل في بحث الأساليب، فطرق انتقاد الألفاظ، وصب الجمل في قوالبها، والأداء بالتشابيه وفنون المجاز، ونظم الكلام على وزن وقافية، أو فقط على قافية، أو تأليفه مرسلًا، وكذلك طُرق إخراج الكلام على شكل قصيدة أو رواية، وتصريفه في وصف الطبيعة أو تحليل النفس أو النقد الاجتماعي على وجه الجد أو السخر، كل ذلك مادة تتعلق بالنظر في الأساليب.

ولسنا نستطيع هنا أن نُفصِّل بحث الأساليب تفصيلًا فننساق إلى تكرير ما قلناه، لكننا نكتفي بلمحة دالة في الأسلوبين الأساسيين: الأدبي والعلمي، وهو مما لم نتعرض له حتى الآن.

(٢-٤) بين الأسلوبين الأدبي والعلمي

لما كان غرض الأسلوب العلمي أن يؤدي الوقائع العلمية، كان أول طابع يجب أن يتحلَّى به طابع المباشرة، والمقصود بالمباشرة هنا الانطلاق رأسًا إلى الغرض على أقوم طريق توصل إليه، دون ما عناية فنية بالطريق للتأثير في نفس القارئ، ولما كان سالك الأسلوب العلمي (أي العالم) إنما يتوخَّى كشف الوقائع لذاتها، كانت حالته النفسية أفضل ما تكون حالة اطلاع وحياد.

فأما الأسلوب الأدبي فليست غايته مجرد إيصال الحقائق العلمية، بل يرمي إلى إثارة حب أو كره أو أمل أو يأس، ويسعى إلى إقرار موقف ذهني موافق أو منافر أو حائر إزاء موضوع من المواضيع؛ لذلك كان الأسلوب الأدبي من شرطه أن يعنى بالطريق التي توصل إلى الغاية عناية فنية، فيجعلها مباشرة أو ملتفة ويجوِّدها لتكون أفعل في عاطفة القارئ وفكره؛ ولذلك أيضًا كان سالك الأسلوب الأدبي (أي الأديب) لا يستطيع ولا يحسن به أن يصدر عن حالة حيادية تجاه موضوعه.

إذا رأى العالم شقائق النعمان مثلًا قال:
هذه أزهار تُعرف في عالم النبات بشقائق النعمان. معدومة الرائحة في الأنف. الأصل الطبيعي في لونها أن تكون حمراء. تنبت آخر فصل الشتاء سوقًا٢٣ خضراء، وتحمل في الربيع أكمامًا تتفتح أوراقًا رقيقة منظمة على استدارة في شكل كشكل الكأس الصغيرة، وتكون في وسطها بذورها التي إذا جفت الزهرة تساقطت واندفنت في الأرض حتى آخر فصل الشتاء القادم.
أما الأديب فيقول مثلًا:

أقبل الربيع حبيب الأرض؛ فانشرح له صدرها وساقت في ركابه موكب الزهر، تذهب معه العين حتى منقطع النظر، وكأن راية الموكب عقدت لشقائق النعمان؛ فتوقدت حماسةً وحبورًا. نهضت على سوقها جمرًا يتوهج فوق خضرة تبهج.

لكن مهلًا، مهلًا! ما بال الشقائق؟ إني ألمح في كئوسها القانية قطرات لؤلؤية صافية، أخشى أنها الدموع. أتبكين يا شقائق النعمان؟ كل صباح تُقبِّلك الشمس وترشف دموعك، ثم يعود الليل فتعودين إلى البكاء، وإذا بالشمس تجد في كئوسك وعلى حفافيها الدموع الأولى!

أهو شبح الموت يتراءى لكِ؟ أجل، ستذبلين. ستنتثر أوراقكِ الأرجوانية وتندثر في التراب.

غير أني أقول لكِ: رويدك في البكاء والجزع! تلك بذورك ستنتثر مع أوراقك على الأرض، في الهنيهة التي تموتين فيها ستستعدين لحياة جديدة. يأكل التراب أوراقك وتبقى بذورك حية في قلب التراب، وتدوي الرعود وتهطل الأمطار، وبذورك راقدة حالمة، يأتيها صدى الرعد، ووقْع المطر، من بعيد بعيد، خلال حجب السبات العميق، فترى الرؤيا المبشرة. تعي في مدفنها غناء البلابل وترنُّم الجداول وهينمة النسيم، وتعلم أن الربيع سيعود، فتعود هي وتسيِّرها الأرض في ركابه.

لا تبكي يا شقائق النعمان. الفَناء لن يقوى على الحياة ما دام ربيع، وما دامت بذور لا تموت إلا لتحيا.

ولا نخال الفرق بين الأسلوبين في هاتين القطعتين يحتاج إلى إغراق في الشرح، فالعلم إنما قرر وقائع أو معلومات عن شقائق النعمان، واكتفى من الكلام بما يبلِّغ هذه الوقائع والمعلومات على وجه بسيط لا حظَّ فيه لتنميق العبارة أو العاطفة أو الخيال أو الانتقال الفكري. لكن الأديب، لما عرض له مرأى الشقائق، أحس بالبهجة، فاجتهد أن يعطي منها صورة في لوحة فنية، ولم يلبث أن نقله منظر الندى على أوراقها إلى ذكر الدمع فزعمها تبكي لما سيصيبها من ذبول، ثم أحضر منها شخصًا عاقلًا ذا إحساس راح يناجيه ويؤاسيه بذكر البذور التي ستعيد سيرة الشقائق في ربيع العام القادم، وخلص أخيرًا إلى ذكر الحياة التي تقهر الموت ما دامت تتجدد، أي: أنه خلص إلى ذِكر العِبرة.

وهذا يفرغ بنا إلى طرح مشكلة في الأدب اشتد عليها الجدال، فهل للأدب عِبر أخلاقية وفطرية يؤديها، هل للأدب — بكلمة أخرى — رسالة، أم هو وفاقًا لنظرية الفن للفن يكفيه الجمال في ذاته؟ ولنسرع إلى القول إن لفظة أدب في اللغة العربية لها في أساس مدلولها صلة بالتثقيف والتهذيب، وقد سمَّى العرب الأدب أدبًا لأنهم فهموه وأرادوه مقترنًا بغاية تثقيفية تهذيبية، تُضاف إلى عنصر الفن فيه أو الصنعة، كما كانوا يسمونها، أو البيان وبراعة الأسلوب، والواقع أن الأدب لما كان عبارة وجب أن يكون جميلًا صقيلًا، لكن وجب كذلك أن يكون عبارة عن غاية ما تلامس أفكار الناس وتلابس عواطفهم، وكلما كانت هذه الملامسة والملابسة معناها إنارة الأفكار وإذكاء العواطف وتشريفها، كانت الرسالة أسمى، ونظرية الأدب، لما في ذات عبارته من جمال ولذة، كنظرية الفن للفن، تشيع أكثر ما تشيع في عهود تفسُّخ الأوضاع وانحلالها حين يلتبس المخرج على الأديب، أو حين يرى أن كل تعرض بأدبه لما له تعلق بقضايا الحياة المباشرة خليق أن يوقعه في الاضطهاد، فيجعل الأديب عندئذٍ من فنه صومعة يعتزل فيها الدنيا ومشاكلها، أو يظن أنه اعتزل فيها الدنيا ومشاكلها، وإن كان في الواقع لا يصنع أكثر من أن يُعزِّي نفسه بإيهامها أو يعزي من يكتب لهم ويضللهم.

وبالطبع هذا لا يعني البتة أن الأدب إذا كان لا بدَّ له من رسالة تثقيفية تهذيبية، فهو يجب أن ينقلب في سبيلها وعظًا، فخير أسلوب ينهجه الأدب لأداء رسالته إنما هو الأسلوب الإيحائي أو الإيمائي الذي لا يُصرِّح بل يلمِّح، ولا يُعلن بل يُلهم.

كان أبو العلاء المعري ينزع إلى السِّلم ويشمئز من الحرب، وكان تحبيب الناس بالسلم وتكريههم بالحرب جزءًا من رسالته، فلنقرأ نبذة من نبذه في الموضوع، قال في «الفصول والغايات»:

ويقول فرخ النسر لأبيه: رأيت فيما يرى النائم سنانًا يركب على قناة فحدثتني الكذوب (يعني النفس) بالشبع، فهل لك بهذه الرؤيا عِلم؟ فيقول: قرَّت عينك، يقع كيد بين القوم فآتيك باللحم غريضًا يقطر منه عبيط الدم.

ولننظر كيف سلك المعرِّي هذا الأسلوب الإيمائي في تأدية ما شاء أن يؤديه من رسالته ضد الحرب؛ فجعل فرخ النسر يرى في نومه الرماح، ويرى أنه شبع، فيسأل أباه عن هذه الرؤيا فيجيبه: ستقع الفتنة والمعركة بين القوم فآتيك باللحم طريئًا لم ينشف دمه. أراد المعري أن يقول إن البشر حمقى حين يتذابحون في الحروب، فهم لا يفعلون أكثر من أن يطعموا لحومهم النسور وفراخها.

وهذا الأسلوب الإيمائي، في تبليغ الأدب رسالته التي يختارها، ليس سوى مشتق من مشتقات القاعدة الأدبية العامة التي تؤثر سلوك الطريق غير المباشر في أداء المعنى، والواقع أن كثيرًا من وجود الأدب مدين لهذا الطريق غير المباشر. قال المعرِّي:

تشتاق أيار نفوس الورى
وإنما الشوق إلى ورده!

قصد أن يبيِّن أن الناس في حبهم لشيء يصدرون في الحقيقة عن حبٍّ لذاتهم، ولو أنه أدى هذا المعنى مباشرة لما كان له إلا أن يقول: الناس أنانيون، إن رغبوا في شيء فإنما يرغبون فيما اشتمل عليه من منفعة أو لذة لأنفسهم. ثم لو رامَ غيره أن يؤدي هذا المعنى مباشرة لما وجد أمامه إلا أن يقول القول نفسه.

وأخيرًا لا بدَّ من كلمة في الصفة العليا التي هي جماع الصفات الحميدة في الأساليب، فقد ينعت الأسلوب بأنه سهل واضح رائع أخَّاذ مطبوع، إلى آخر النعوت، لكن هذه الصفات الحميدة كلها مردَّها إلى أمر واحد هو قدرة الأديب، كاتبًا أو شاعرًا، على تذليل التناقض القائم في صميم العمل الأدبي: التناقض بين شكل الأدب وجوهره، أو روحه وجسمه، فهل استطاع الأديب في أدبه أن يطوِّع الشكل للجوهر أو الجسم للروح، تطويعًا ظهرت عليه المؤالفة والمزاوجة التامة، من كل الوجوه، بين المبنى والمعنى والقصد ومقتضى الحال، واختفت منه علامات الجهد والتكلف؟ وطبعًا ليس المراد باختفاء علامات الجهد والتكلف ألا يكابد الأديب مشقة في إبان عمله الأدبي، فهذه خرافة عظيمة الضرر؛ لأن كل أديب مهما بلغت ملَكته لا بد له من الحشد لعمله، غير أنه مطالَب ألا يعفي قريحته من العمل إلا بعد أن يكون محا آثار المشقة، وطوى عن قارئه قصة طويلة مضنية من الحذف والتبديل والهدم وإعادة البناء، بحيث يتصور قارئه أنه إنما تناوله عفو الخاطر وفيض الطبع.

وما أكثر ما يُزعم أن الجاهليين كانوا في شعرهم رضاعيين لا صناعيين، فهذه — كما أسلفنا — خرافة من الخرافات، ولسنا نستند في تفنيدها إلى ما رواه الرواة عن زهير وحولياته، بل إلى الشعر الجاهلي نفسه. قال امرؤ القيس مثلًا يصف جواده:

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا
كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علِ

فمن زعم أن الصورة في هذه اللوحة لم تتطلب يقظة ذهن للجمع بين انطلاق الجواد وتدحرج الصخر عن القمة، ثم لم تستغرق جهدًا لانتقاء الألفاظ وتنسيق الطباق بين مكرٍّ ومفر ومقبل ومدبر، مع ضبط الكلام على عيار الوزن، فقد وهِمَ.

١  يقول ابن رشيق في «العمدة»: «سُمِّي الشاعر شاعرًا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره.» والشعور هنا الانفعال العاطفي والإدراك العقلي معًا.
٢  ينبغي للطالب أن يكون على معرفة بها من كتب العروض.
٣  ويقال له «المتدارك» أيضًا؛ لأن الأخفش تداركه بعد أن لم يفطن له الخليل وهو واضع علم العروض. ووزن الخبب: «فعلن» مكررة أربعًا في الصدر وأربعًا في العجز. وعليه نظم شوقي نشيده في النيل:
النيل العذب هو الكوثر
والجنة شاطئه الأخضر
٤  وزنه التام: «مستفعلن» مكررة ثلاثًا في الصدر وثلاثًا في العجز.
٥  وزنه التام: «فاعلاتن فاعلن فاعلاتن» في الصدر ومثلها في العجز. وعليه نظم تأبط شرًّا قصيدته المشهورة في الأخذ بالثأر:
إن بالشعب الذي دون سلع
لقتيلًا دمه ما يطل
٦  لأغلب البحور مجزوءات هي اختصار لها، ووزن الكامل أكثر البحور مجزوءات. أصل وزنه: «متفاعلن» مكررة ثلاثًا في الصدر وثلاثًا في العجز، وقد يصير عند الجزء: «متفاعلن متفاعلن فعلن» (للصدر والعجز)، أو «متفاعلن متفاعلن» (للصدر والعجز).
٧  وزنه التام: «فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن» في الصدر ومثلها في العجز.
٨  سيأتي ذكر وزنه.
٩  وللشعراء من الجيل اللبناني الطالع اشتقاقات واختراعات في هذا السبيل لها نفاستها وأهميتها.
١٠  التصريع هو تقفية صدر البيت وعجزه بقافية واحدة. وأكثر ما يكون في المطالع.
١١  «الدوبيت» كما يدل لفظه، أثر فارسي في الأدب العربي، ولم يظهر إلا في وقت لاحق على ألسنة الشعراء المتأخرين كالحِلي والفارض. ووزنه: «فعلن متفاعلن فعولن فعلن» في الصدر ومثلها في العجز، كقول القائل يصف وردًا منقطًّا بالندى:
فتحت على تبسمات الفجر
أجفانك يا مملكا في الزهر
عيناك لمحت فيهما رقرقة
هل كنت حلمت في الكرى بالهجر؟
١٢  كقول النابغة:
وهم وردوا الجفار على تميم
وهم أصحاب يوم عكاظ إني
شهدت لهم مواطن صادقات
شهدن لهم بصدق الود مني
١٣  لخليل مطران في العصر الحديث جهود مثمرة من أجل وحدة الموضوع في القصيدة العربية.
١٤  على وزن الرمل.
١٥  المَلحمة (بفتح الميم الأولى)، لا المُلحمة (بضم الميم الأولى)، وهي صفة عُرفت بها طائفة من القصائد العربية القديمة للدلالة على لحمة نسجها. وقد شاع في كتاباتنا المحدثة استعمال لفظة الملحمة (بفتح الميم) للدلالة على كل قصيدة طويلة، وليس هذا صحيحًا.
١٦  يذكر أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي، في أواخر القرن الثاني للهجرة، نظم أمثال «كليلة ودمنة» رجزًا، إلا أن هذا الأثر ضائع.
١٧  «الجنين الشهيد» و«فتاة الجبل الأسود» لخليل مطران، «عروة وعفراء» لبشارة الخوري، «أم البنين» لشبلي ملاط، «أم اليتيم» للرصافي.
١٨  افترض هذا الاسم افتراضًا.
١٩  السجع، لغة، مصدر سجع ويستعمل لأصوات الحمام.
٢٠  بين «السبح» و«البعث» نوع من السجع يقال له المتوازن؛ لأن اللفظتين على وزن واحد هو «فعل».
٢١  رسائل إخوان الصفاء، الرسالة الثامنة من الجسمانيات والطبيعيات.
٢٢  بلى، في الأدب العربي فنٌّ جرى فيه الكتاب على إنطاق النبات والجماد، سموه فن المناظرة، وهو مجادلة ومفاخرة تقع مثلًا بين الورد والنرجس، أو الزيت والسمن، أو الخل والخمر، وليس فيه كبير طائل.
٢٣  جمع ساق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤