الخاتمة
حاولتُ، في هذا الكتاب، تسليط الضوء على مشروع الحداثة الاستعمارية
عند جُرْجي زيدان، عبر نموذجَين أدبيين، هما روايتا الانقلاب العثماني (١٩١١م) وأسير المُتمهْدي (١٨٩٢م)، وذلك من أجل
إيضاح عدم انفصال أعمال زيدان الأدبية عن تصوره لمشروع النهضة
والحداثة، بوصفه أحد المنتمين إلى جماعة المهاجرين الشوام المسيحيين
إلى مصر. إذ تمثَّلت فرضية كتابي هذا، في أن تصور جُرْجي زيدان النظري
لأسباب النهضة والحداثة يجد تحقُّقه الأدبي في سرده الروائي التاريخي،
ولا سيما أن إحدى روايتَيه — سالفتَي الذكر — صدرت أواخر القرن التاسع
عشر والثانية مطالع القرن العشرين، في سياق خارجي مضطرب.١
ومن أجل إثبات هذه الفرضية، تبنيتُ منظور النقد الثقافي؛ لأن النقد
الثقافي ينظر إلى العمل الأدبي بوصفه سردًا ثقافيًّا، أو رواية ثقافية
تنطوي على مضمون محدَّد يتأثر بالسياق الخارجي العام الذي يظهر في
إطاره العمل الأدبي ويؤثر فيه على نحو تبادلي؛ ومن ثمَّ تكون مهمة
مُمارِس النقد الثقافي إيضاح النسق الثقافي الصريح أو المضمر في العمل
الأدبي، وتسليط الضوء عليه، بوصفه نقطة التلاقي بين السياق الداخلي
للعمل الأدبي وسياقه الخارجي السياسي والاجتماعي، التي تتبلور أدبيًّا
عبر عمليات سردية محدَّدة. فسعيتُ إلى استكشاف العمليات السردية في
روايتيْ الانقلاب العثماني
وأسير المُتمهْدي، واستِكْناه
طبيعة النسق الثقافي الذي يتبناه المؤلف، أو الراوي بوصفه نائبًا عن
المؤلف، في كلا العملَين، مُستعينةً في ذلك بما يسمح به منظور النقد
الثقافي من موالفة بين نظريات النقد الأدبي وأدواته، فلجأتُ إلى نظرية
العلامة والسميولوجيا والتفكيك والنقد النِّسوي والتحليل النفسي عند
جاك لاكان وبعض مفاهيم التاريخية الجديدة، ومفهوم القراءة
بالتوازي.
وقد انقسمت دراستي إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، جاءت على النحو الآتي:
- مقدمة: وفيها أشرتُ إلى ريادة جُرْجي زيدان في كتابة الرواية التاريخية، لدأبه على كتابتِها طيلة عشرين عامًا أو يزيد. وافترضتُ أن أعماله الروائية لم تكن منفصلة عن أسئلة مشروع النهضة والحداثة، الذي كان هما لازمًا — بوجهٍ عام — أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فحددتُ موقعه في ذلك المشروع. وافترضتُ أن روايتَيه الانقلاب العثماني (١٩١١م) وأسير المُتمهْدي (١٨٩٢م) تصوغان أدبيًّا تَصوُّرَه لمشروع النهضة والحداثة. وبينتُ أهمية منظور النقد الثقافي في إثبات هذه الفرضية. وختمتُ المقدمة بإيراد قائمة لروايات جُرْجي زيدان التاريخية مرتبة زمنيًّا وفق صدور أول طبعة من كل رواية.
- (١) جُرْجي زيدان من منظور النقد الثقافي: وفيه حاولتُ، أولًا، استكشاف موقع مشروع جُرْجي زيدان النهْضوي الحداثي داخل مسارات مشروع النهضة المصرية منذ فترة حكم محمد علي باشا لمصر حتى فترة حكم حفيده الخديوي إسماعيل، وهي المسارات التي تبلورَت طيلة الربع الأخير من القرن التاسع عشر وفجر القرن العشرين في مسارَين مُتناقضَين؛ هما: مسار المثقفين المصلحين المسلمين الذي تبلور على يد محمد عبده، ومسار المثقفين المسيحيين من المهاجرين الشوام إلى مصر الذي تبلور على يد جُرْجي زيدان. ثم حددتُ تصور زيدان للرواية التاريخية ووظيفتها في إطار تصوره لأسباب النهضة والحداثة. وانتهيتُ إلى استعراض السمات الفنية العامة للرواية التاريخية عند جُرْجي زيدان. ثم حاولتُ، ثانيًا، استجلاء منظور النقد الثقافي بوصفه مظلة تندرج تحتها العديد من النظريات والأدوات والإجراءات الخاصة بالنقد الأدبي، مع إيضاح ما رأيته ركيزتين أساسيتين في النقد الثقافي؛ ألا وهما: (١) تأكيد دنيوية النصوص وتلبسها بسياقات تاريخية واجتماعية وثقافية وسياسية. (٢) الكشف عن دلالة نسقية في الخطاب الأدبي، أو أي خطاب آخر، تضطلع عملياته السردية بتمريرها على نحو جمالي. ونظرًا إلى ما لاحظتُه من تشابهات عديدة بين منظور النقد الثقافي ومنظور التاريخية الجديدة، فكان من الضروري محاولة استكشاف طبيعة العلاقة بينهما والإفادة منها.
- (٢) تمثيلات الواقع في رواية «الانقلاب العثماني»: وفيه سعيتُ إلى تحديد علاقات التناقُض الحادة التي تنطوي عليها عتبات النص والفصل الأول الاستهلالي، وهي العلاقات نفسها التي تطوَّرت بتطوُّر العمليات السردية على امتداد رواية الانقلاب العثماني. كما بينتُ طبيعةَ الأساس الاجتماعي والأساس الأيديولوجي اللذَين فجَّرا علاقات التناقُض الحادة بين السلطان عبد الحميد الثاني وشخصيات الرواية من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي. وانتهيتُ من ذلك إلى الوقوف على آليات التمثيل الروائي لطرفَيْ التناقُض، وتحديد الدور الكبير الذي قام به الراوي المتحكِّم تحكمًا كاملًا في العمليات السردية بوصفِه نائبًا عن المؤلف فيها. وعبر تفعيل مفهوم القراءة بالتوازي، قارنتُ بين تمثيلات عبد الحميد الثاني وجمعية الاتحاد والترقِّي في السرد الأدبي والسرد التاريخي.
- (٣) التمثيلات الثقافية الاستعمارية في رواية «أسير المتمهدي»: وفيه سعيتُ إلى تحديد طبيعة المنظور الثقافي الاستعماري الذي يتبنَّاه المؤلف، كما كشفتُ عن الآليات التي اتبعها الراوي في استثماره هذا المنظور وتوسيعه، سواء من خلال طريقة تقديمه للشخصيات أو مِن خلال تدخُّله بالتعليق والشرح. كما كشفتُ عن جوانب التشابُه بين شخصية شفيق الضابط الاستعماري ومؤلِّف الرواية جُرْجي زيدان، وجاء ذلك على نحو يُمكن معه القول إن شفيق الضابط الاستعماري، ومن قبله الراوي، ينطقان بلسان حال المؤلف وأيديولوجيته الاستعمارية الصريحة في هذه الرواية. واتبعتُ في تحليلي للمنظور الثقافي الاستعماري في الرواية ما يسمح به منظور النقد الثقافي من الموالفة بين أدوات تحليلية من نظرية العلامة والسميولوجيا والتفكيك ودراسات ما بعد الاستعمار، ولجأتُ أحيانًا إلى منظور التاريخية الجديدة في تصورها للسرد التاريخي بوصفه نتاج عمليات تأويلية في المقام الأول. وكانت الركيزة الأساسية في كل ذلك ما يُسمى «شبكة العلامات الثقافية»، ومفهوم القراءة بالتوازي.
- الخاتمة: وفيها استعرضتُ المخطط العام لدراستي على نحو ما سلف أعلاه.
١
بخصوص الملامح العامة لهذا السياق الخارجي المضطرب، انظر
المقدمة، القسم ٤.