الصوت المرتفع والتليفون والفن

الأهرام – العدد ٣٢٦٦٦
١٨ مايو سنة ١٩٧٦
من مفكرة ثروت أباظة

تعوَّد أبناء الريف أن يرفعوا صوتهم إلى أعلى الدرجات حين يتكلمون في التليفون، ولا شك أن هذه العادة قد لازمتهم من أيام تليفونات المركز المتصلة بالعمدة، وهي — بالمناسبة — ما زالت موجودة حتى اليوم، وكان الخفير لا يكاد يسمع مُحدِّثه حتى كان يرفع عقيرته إلى القمة، وأغلب الأمر أنه كان حين تنتهي المكالمة يرتمي إلى أقرب مقعد أو مصطبة مقطوع الأنفاس وكأنه جرى مائة كيلو بغير توقُّف.

وكان المرحوم أحمد عبد الغفار «باشا» فلَّاحًا لم تتخلَّ عنه أخلاق الفلاحين ولا عاداتهم، رغم تعلُّمه في أكسفورد، ورغم كرسي الوزارة الذي تبوأه.

وفي يوم كان أحد الزوار يجلس عند سكرتيره في الوزارة، وكان صوت الوزير عاليًا جدًّا حتى كان الزائر يسمع كلَّ كلمة يقولها صارخة في أذنه، وأحس السكرتير بحرج فنظر إلى الزائر وكأنه يعتذر: أصل الباشا بيكلم تلا.

فرد الضيف بسرعة ذكية: ولماذا لا يكلم الباشا تلا عن طريق التليفون؟

هذا الصوت المرتفع نلتقي به كثيرًا في الأعمال الأدبية، وهو عيب أجمع النقاد على أنه ينال من العمل الفني ويغض من قيمته.

فالعمل الفني بطبيعته همسة تتسلَّل في ذكاء شديد ولباقة إلى أبعد أغوار النفس الإنسانية، وتُرسي فيها ما يشاء أن يرسيه الكاتب من معانٍ.

والصوت المرتفع لغة المقال، وليس لغة العمل الفني، فحين يعلو صوت الفنان في عمل أدبي ينقل عمله من قصة أو رواية إلى مقالة أو خطبة.

ولكننا مع ذلك نجد أعمالًا كثيرة لأدباء يرتفع فيها صوتهم إلى درجة الإزعاج، وتسقط هذه الأعمال وتُمنى بالفشل، والكُتَّاب الذين ترتفع أصواتهم غالبًا ما تكون كتاباتهم بتوجيهات صادرة إليهم، فيرتفع منهم الصوت ليُسمعوا مَن أصدر التعليمات؛ لأن هؤلاء المُصدرين للتوصيات لا يحسنون أن يسمعوا الفن، فصلتهم بالفن مقطوعة، وإلا فكيف يُصدرون الأوامر إلى الفنانين؟

الشعر وحده هو الذي نستطيع أن نسمح له باللغة المباشرة والنغمة العالية؛ لأن الشعر العربي يعتمد في تراثه على المدح والذم والغزل والهجاء وغير ذلك من أبواب الشعر المعروفة، فحين يأتي الشعراء المحدثون ويسيرون على نفس النهج الذي سار عليه الأوائل، فلا جناح عليهم، بل إننا قبلنا هذه النغمة المباشرة في المسرحيات الشعرية التي قدَّمها شوقي ومن بعده عزيز، أباظة فحين يقول:

أسمع الشعب ديون
كيف يوحون إليه
ملأ الجو هتافًا
بحياتَي قاتلَيه
أثر البهتان فيه
وانطلى الزور عليه
يا له من ببغاء
عقله في أذنَيه

يقبل الناس منه هذا الكلام ويُردِّدونه من بعده إلى اليوم، وحين يقول عزيز أباظة في العباسة:

شعور الشعب يا جعفرُ
حق لا هوى فيه
يحس الكُره والبغض
فيجريه على فيه
يميز بوحي فطرته
عداه من محبيه
له من وعيه الساذج
مصباح فيهديه

نقبل منه هذا الكلام ونردِّده من ورائه.

وحين يرتفع صوت الشرقاوي في رواياته، يقبل منه الناس هذا الصوت المرتفع في مسرحياته: الفتى مهران، ووطني عكا، والنسر الأحمر، وغيرها، وينظرون إلى مسرحه في تقدير.

والواقع أن الشعر الحديث في المسرحية يقع في المكان الذي خُلق له؛ لأنه يضفي على الحوار نوعًا من الموسيقى والجرس مع تحرير الشاعر من القافية، وإطلاق يدَيه في تنويع الحوار والسير به إلى حيث تبتغي المشاهد والمواقف.

ولهذا لم يكن عجيبًا أن تنجح مسرحيات الشرقاوي، ويتخلج الشعر الحديث على الطريق ولا يستطيع أن يبلغ من نفوس الناس ما بلغه الشعر.

وعودًا إلى الصوت المرتفع، أعتقد أن القراء أنفسهم يحبون في العمل الفني أن يصلوا إلى خوافي معانيه بشيء من الجهد يبذلون مع الكاتب، حتى إذا أغناهم الكاتب الروائي أو القاصُّ عن هذا الجهد انصرفوا عن العمل جميعًا في غير احتفاء ولا تقدير.

شوقي وحافظ وطه حسين

خطب رئيس وزراء إنجلترا في مرة فقال: إن إنجلترا لا تشرف بشيء قدر شرفها بأن منها شكسبير، وكانت إنجلترا في ذلك الحين الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لم تعتز بعسكرها ولا بهذه الإمبراطورية التي تدور مع الشمس حيث تدور دائمًا، وإنما اعتزت ببضع كلمات قالها شاعر اسمه شكسبير، وقد كان رئيس الوزراء هذا صادقًا في نظرته فقد صفيت الإمبراطورية وغابت عنها الشمس في أغلب أوقات النهار، وغابت شمسها هي أيضًا، وأصبحت دولة من الدرجة الثانية، تعاني الفقر والأزمات المالية والسياسية جميعًا.

وشاء الله لمصر أن يشرق فيها شاعر لقَّبَه شعراء العالم العربي بأمير الشعراء، وهو أميرهم لقَّبوه أو لم، واجتاح شعره بلدان العربية وكان يعرف ذلك عن نفسه وهو يقول:

وحولي فتية غرٌّ صباح
لهم في الفضل آيات وسبقُ
على لهواتهم شعراء لُسنٌ
وفي أعطافهم خطباء شُدقُ
رواة قصائدي فاعجب لشعر
بكل محلة يرويه خلقُ

وكان يعرف ذلك وهو يشكر الذين نصبوه أميرًا للشعر حين يقول:

ربَّ جارٍ تلفَّتت مصر تو
ليه سؤال الكريم عن جيرانه
بعثتني معزيًّا بمآقي
وطني أو مهنئًا بلسانه
كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه

وحدث أن كان الدكتور طه حسين يبدأ حياته الأدبية، وقد حلا له أن يهدم شوقي، وكتب المقالات في مهاجمته، وطبعًا لم يهدم شوقي.

وحاول العقاد والمازني نفس المحاولة، وبقي شوقي، ووقف المازني في ذكرى حافظ إبراهيم يقول لقد حاولنا أن نهدم شوقي وحافظ لنقف على أنقاضهما فلم ننَلْ إلا من الحق ومن أنفسنا.

وفي يوم كنت جالسًا مع أستاذنا العملاق طه حسين وسألته: لماذا هاجمت شوقي وأنت أعظم مَن يعرف فضله؟

قال: لقد هاجمته في أشياء لا تتصل بالشعر، وإنما لأنه كان ينسب آراء أرسطو إلى أفلاطون.

وكأنما رأى العملاق ظِلَّ ابتسامة على وجهي فهو يُكمل حديثه قائلًا: وعلى كل حال أنا ما أسفت على شيء كتبته قدر أسفي على مقالات الهجوم.

وأفاجأ بوزارة التربية والتعليم تقرر على الطلبة في العام الماضي كتاب أستاذنا طه حسين «شوقي وحافظ» وهي بهذا تقدم لتلاميذها عميد الشعر العربي وعميد النثر العربي وشاعرًا من أكبر الشعراء الذين أنجبتهم مصر أسوأ تقديم.

فطه حسين صاحب الكتب الباذخة في الأدب والرواية، لم تجد له وزارة المعارف كتابًا تُقدِّمه له إلا هذا الكتاب الذي كثيرًا ما اعتذر عنه.

وشوقي الخالد لم تجد وزارة التربية وسيلة تُقدِّمه بها إلى تلاميذها إلا من خلال هذا الكتاب.

وحافظ أيضًا بعرضه هذا العرض على أبناء الجيل كارثة.

وفي هذا العام أنظر في كتاب ابني فأجد أنهم قرروا عليه قصيدة شوقي الخالدة:

يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم نبكي لوادينا

وأفرح بهذا وأعجب به، ولكن كيف يتركني جهابذة الأدب العربي أفرح؟

قرأت نقد القصيدة، ويل للعظيم من الصغير، وويل للعمالقة من الأقزام وأشباه الأقزام، ما هذا أيها الأستاذ الناقد؟ مَن قال لك إن الشعر يُصنَع به هذا الذي تصنعه، وأي ذوق سقيم تفرضه على أبنائنا؟

وكيف تفعل بشوقي وشعره هذه الأفاعيل؟ إن الناقد الذواقة المتمكِّن حين يقف أمام نص كهذا وقفَتْ أمامه الأجيال خاشعة مكبرة، عليه فقط أن يبحث عن سر عظمته وخلوده وروعته، وبعدُ فإنني أرجو ألا يقرأ طلبة الثانوية العامة هذا الذي أكتب، فإن عليهم في الغد القريب أن يمحقوا شوقي في ورقة الإجابة أو هم ملاقون من المصحِّحين الويل والثبور وعظائم الأمور، والأمر لله من قبل ومن بعد.

همسة لأعضاء مجلس الشعب

أنتم بعد أشهر قلائل ملاقون ناخبيكم، والناخبون الآن ينبثُّ بينهم المتعلمون من حملة الشهادات العلمية، فهم يبصرونهم بأمور، لعله لا يسركم أن يبصروها.

وأول هذه الأمور وأهمها مسألة الجمع بين وظيفتَين، لا أعتقد أن أحدًا سيغفر لكم أن تجمعوا بين وظيفتَين في الوقت الذي تحرمون فيه ذلك على صغار الموظفين والذين يحتاجون إلى وظيفتَين وثلاثًا وعشرًا إن أمكنتهم الطاقة وأُتيحَت لهم السبل.

ولا أعتقد أحدًا سيقبل منكم أنتم بالذات أن تكونوا أعضاء مجلس شعب ونواب مصر جميعها، والمشرعين والرقباء على جهازها التنفيذي، وتظلون مع هذا موظفين في الجهاز التنفيذي الذي أنتم رقباء عليه.

لا يستطيع أحد أن يتصور أن يكون أحدكم موظفًا في وزارة لها وزير، ويكون في نفس الوقت رقيبًا على هذا الوزير، وقد كان النظام يقضي بأن تُترك للنائب فرصة ثلاثة أشهر يختار بعدها أن يظل في وظيفته أو يصبح عضوًا في المجلس التشريعي.

وأنا أعتقد على أيِّ حال أن استثناءكم أنتم بالذات من قانون الجمع بين وظيفتَين، يجعل القانون غير مُقنِع لمَن يُطبَّق عليه.

وأعتقد أيضًا أنكم لو ذهبتم إلى الناخبين وقد تنازلتم عن هذا الحق الشاذ الذي لا مثيل له في أي دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية في العالم، سيكون منظركم أكثر إشراقًا وجمالًا، ويكون انتخابكم أيضًا أكثر احتمالًا.

ثروت أباظة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤